كيف كفرت العمة خريفية؟

في ٢٠٠٤، شتاء ذلك العام، في صبيحة يوم الجمعة، في سوق النسوان، بنيالا، كانت خريفية تبيع البطاطا والبصل على فراش من خيش الكتان المبتلِّ بالماء، وهو ثلاجتها الطبيعية لحفظ الخضار من أشعة الشمس الشتوية الحارقة، جاءتها امرأة طويلة تسألها ما إذا كانت قد رأت طفلين يمران بالقرب منها، وأخذت تصف لها الطفلين؛ ولدان، يلبسان ملابس العيد، بحركة من يديها كانت تصف لها طول كل واحد منهما، لونه، عينيه، نوع شعره، نعليه، قالت لها: إنهما يحبان اللعب كثيرًا، ولا يسمعان كلامها ونصائحها، لولا ذلك ما استطاع الجنجويد القبض عليهما وأخذهما منها.

شفتيهم؟

كانت خريفية تعرف قصة المرأة والطفلين، تعرفها جيدًا، وبروايات شتى ورواة مختلفين، حتى على مستوى ما يمكن أن يُطلق عليه حقائق، مثلًا عدد الأطفال واسم القرية والمكان والزمان، ولكنها لأول مرة تسمعها عنها شخصيًّا، وبصورة أدق — وذلك لكي نضفي على هذا العمل السردي نوعًا من الجدية المهنية — أول مرة تسمع قليلًا من الحكاية عن صاحبتها شخصيًّا، تلك المرأة الطويلة الحزينة التي تلتهم الطعام بسرعة وهي تنظر بعيدًا في الفراغ، تدفع لها خريفية بالرغيف إلى كفتيها، ظنًّا منها أنها لا ترى شيئًا، حتى إنها لا تنظر إلى صحف الطعام، تدخل أصابعها فيه بدون تمييز أو تركيز، كأنما كانت تطعم الهواء، كانت تأكل بغير شهية، دون أية متعة، بل كانت تأكل بصورة مقرفة وبائسة، يتساقط الفتات من بين شفتيها وأسنانها، فجأة توقفت صائحة: الحمد لله، شبعت.

قدرت خريفية الطعام المتناثر على الأرض بما يساوي ثلثيْ ما قدمت إليها، نهضت المرأة الطويلة النحيفة، تمشَّت قليلًا. عند حائط الاستاد الرياضي القديم، انحنت، ضغطت على بطنها، فتحت فمها واسعًا، وسمعت خريفية صوت تدفق الثلث الأخير من الطعام.

في أواخر فصل الصيف المطير، من نفس العام، عند بيت الشيخ جبريل، في راكوبته الكبيرة، اجتمع ما يمكن تقديره بكل الرجال المقيمين بقرية حجيرات الوادي، ولأن الأمر في غاية الجدية والخطورة تم إبعاد الأطفال، ولكنهم دعوا عددًا كبيرًا من النساء كبيرات السن؛ لأنهم يعرفون أن رأي النساء في حالة الشدة قد يكون أصوب من رأي الرجال؛ لأنهن قد ينظرن للأشياء بزاوية لا يعيرها الرجل اهتمامًا، وقد تكون هي الحجر الذي رفضه البناءون، ولدى الرواة المحليين عشرات القصص التي تبيِّن مقدرة المرأة وسدادة رأيها عند الشدة. بدءوا اجتماعهم بقراءة سورة يس حتى تطمئنَّ القلوب ويستقرَّ الفكر، ودعوا أن يلهمهم الله بالرأي الأصوب. في الحقيقة كانوا جميعًا يعرفون الغرض من الاجتماع، ولكنهم هنا يريدون توحيد الرأي والمشورة، ابتدر الشيخ الحديث باللغة المحلية، وشرح الغرض من الاجتماع، ودار نقاش كثير حول صحة النبأ، ولسوء الحظ كان خبرًا مؤكدًا، قرر الناس إما الاحتماء بالجبل أو الإسراع في هجرة جماعية سريعة إلى مدينة نيالا، والانضام إلى النازحين في معسكر كلمة، وعلى الشباب ومن شاء من الكبار الالتحاق بقوات الثوار ومنذ اللحظة، وتقريبًا أجمع الناس على هذا. لكن رجلًا واحدًا قال إنه سيبقى في القرية، فهو لا يستطيع أن يستغنيَ عن أبقاره؛ لأنه يعرف مصيرها، حيث تستولي عليها قوات الحكومة والجنجويد في الطريق إلى نيالا، وإنه لا يترك أرض أجداده للعرب الغرباء الآتين من النيجر وتشاد ونيجيريا، أو الصحراء الموريتانية. عاتبه الشيخ: لا تكن مثل ابن نوح، وخير لك أن تتبع رأي الجماعة، إنهم سوف لا يرحمونك ولا يرحمون أسرتك. وأنت عارف وشايف.

قال: أفضل له أن يصبح مثل ابن نوح من أن يصبح مثل مخلوق تافه في سفينة نوح، تأكَّد لنا أن هذا الفنان المخبول يرمي بنفسه في التهلكة، وأن تلك النشابات التي تعتمد عليها والحربتين لن تفيدك نفعًا مع السلاح الآلي لدى الجنجويد والجيش الحكومي، بالإضافة لكثرتهم الساحقة وشهيتهم المفتوحة للقتل والتنكيل، طلبوا منه أن يترك ابنيه يهاجران إلى المعسكر ويبقى وحده مع ربابته وسلاحه البائس، ولكني أنا رفضت الفكرة: نموت ونحيا مع أبو عيالي.

كان مغنيًا بارعًا، وصيادًا ماهرًا، وعازفًا بالربابة، وصانعًا للربابات، وسيمًا وشجاعًا، ودع رحيل الحلة كلها بأغنيات ألفها في حينها، غناها على الرابية التي تطل على بيتنا في الطرف الجنوبي من الحلة، حيث الطريق الترابية الوعرة المعروفة بدرب الحمير، إلى مدينة نيالا. بقيت معنا والدتي أيضًا، وهي عجوز حكيمة تسعينية، قال في أغنيات وداعه للحلة الراحلة بلغته المحلية ما يعني:

اذهبوا
هذا ما تريده الحكومة
اذهبوا، اذهبوا
وسيحل مكانكم الجنجويد
وهذا ما تريده الحكومة
اذهبوا، اذهبوا
أنا سوف أبقى في أرضي للأبد، وهذا ما تخاف منه الحكومة
لكن جدودي يحلمون به كل ليلة وصباح
اذهبوا، اذهبوا، اذهبوا.

قالت: كان يعرف مصيره تمامًا، غنَّت لي الأغنية مرارًا، رقصت بألم وجمال وحَزَنٍ غريب. سقط عنها ثوبها الممزق، بقيت بفستانها القديم، بأكمامه القصيرة، عليه بقع العرق والأوساخ، كان أسود اللون، شديد السواد، والله العظيم قد اشتريته أبيض. كان الأطفال قد تجمَّعوا حولها، يصفِّقون، قد حفظ أكثرهم الأغنية، أخذ البعض يرددها وراءها، كان جسده كله يرقص من الغضب، عرفوا أنه سيبقى، ولكنْ وليمة شهية للجنجويد وحرس الحدود وهم جنجويد رسميون. سبقتهم إلى المكان الغبرة الكثيفة التي أثارتها أرجلهم المتعجلة المحشورة في بوت أسود قاسٍ، ثم ضجيج طائرة هليكوبتر ماركة أباتشي بغيضة عبرت فوق رءوس بنايات القش الفارغة، فطارت الأعشاب إثر عاصفة هوائها العنيف، أسقطت قذيفتين عشوائيتين واختفت، كلما اقتربوا، كلما سمعنا هدير سياراتهم تحت أقدامنا، كلما استعدَّ جبريل لهم، مسح حرابه بسم الثعبان، ثقف نصلها، تأكَّد من نشاباته، عدها مرارًا وتكرارًا، كان يغنِّي بصوت خفيض أغنية حرب حفظها عن جده، يتحسَّس تمائمه التي ورثها من أبيه، وهي ضد الطلق الناري والحديد، الطفلان مرعوبان، اختفيا أخيرًا في المخبأ وهما يرتجفان. الساعات الأولى دخل الجنجويد بالمئات، كانوا منشغلين بالغنائم، فيما تركه الناس من أبقار وأغنام وبعض الأغراض الثقيلة التي لم يستطيعوا حملها في عجلتهم تلك، حرقوا البيوت الفقيرة المصنوعة من الأعشاب، هدموا المسجد الوحيد بالقرية، أشعلوا النار في مدرسة القرية المبنية من العشب والمواد المحلية الأخرى، تسابقوا في احتكار الأرض، بل إن بعضهم هدَّد بعضهم باستخدام السلاح لحماية ما وضع عليه يده.

كان بيتنا في أطراف القرية، تحت رابية ترابية صغيرة، كان مخبأ الولدين تحت كومة قصب الخريف المكوم تحت شجرة سدر صغيرة، قمنا بمسح آثارهما تمامًا. أمي قالت إنها لن تختبئ، ستبقى تحت الراكوبة مدعية أن لا أحد يستهدف امرأة عجوزًا في سنها، وأفضل الموت من حياة المذلة. زوجي جبرين حمل نشابه واختفى خلف الرابية، أنا اختبأت في الجهة الأخرى من ملجأ الأطفال، تحت بعض القصب الجاف بجانب شجرة السدر، حيث أستطيع أن أراقب كل ما يدور من هنالك، لم تكن قرية حجيرات الوادي كبيرة. كل البيوت التي بها لا تتعدى المائتي بيت، ليس بها وحدة صحية أو مدرسة أو أي مبنى حكومي أو بناية بالمواد الثابتة، غير جامع القرية المبني من الطوب الأحمر بنته محسنة يقال إنها من دولة عربية غنية لم يحفظ الناس اسمها أو اسم دولتها، ليس بالقرية كهرباء، لكن موقع القرية يعتبر مهمًّا نسبة للبئرين الكبيرين اللذين بها ووقوعها في طريق يربط ما بين نيالا وكاس، وهي مدينة صغيرة يؤمها الثوار الدارفوريون وبعيدة من قبضة الجنجويد، والأهم خصوبة أوديتها التي تمثِّل منابع رئيسية لوادي برلي العظيم؛ أي مراعيَ خصبة لنوق العرب عندما تبرد الواطا ويكون الدارفوريون أصحاب الأرض قد استوطنوا قرى صغيرة نموذجية من الطوب الأحمر، معروشة بالزنك، بها آبار ارتوازية، جوامع جميلة مزخرفة، وحدة صحية صغيرة، وربما مدرسة ابتدائية. قرى ساعدت في بنائها دول عربية شقيقة كريمة وجامعة الدول العربية على تخوم المدن الكبيرة، وسينشغل الدارفوريون في المهن الهامشية بالمدن ويتلاشون كقوميات وكتل بشرية، ويتركون الفلوات الخصبة للجنجويد الرعاة يسرحون ويمرحون، كانوا فرحين ويطلقون الرصاص في الهواء، إلى أن انتهى بهم المطاف إلى بيتنا. اندهش أول من ولج إلى الراكوبة عندما رأى المرأة العجوز — أمي — لدرجة أنه قفز من الرعب، حيث إنهم لم يروا شخصًا حيًّا في القرية كلها طوال يومهم، تحدث إليها بعربي وطنه النيجر، سبَّت أباه وأهله واليوم الذي رأى فيه الشمس بلغتها، قام بسحبها إلى خارج الراكوبة جرًّا على الأرض.

كانت تشتمه وتصفه بالقرد الأبلانج نسبة لبشرته الحمراء مرة ومرة بالكلب، انضم إليه آخران، حالما انشغلا بالبحث عن الغنائم في الداخل وتركاه يحاول أن يستخلص معلومة عن مخابئ الذهب والنقود أو صوامع الغلال الخاصة بالأسرة أو القرية. يدور بينهما حوار طرشان، حيث يصبح حاجز اللغة لعنة الحوار، كان يركلها بقسوة في بطنها، وعندما فشل صفعها في وجهها؛ فعضته في يده ولم تطلقه إلا وجزء من يده في فمها. صرخ في رعب، قرر بسرعة، وفي لحظة أطلق الرصاص عليها في الرأس. في تلك اللحظة — دون شعور مني — صرخت من خلف أكمة القصب، خرج الجنجويدان من الداخل، التفَّ حولي بسرعة عدد كبير منهم، أبدوا ملحوظات حول جسدي، وطلبوا مني أن أخلع ملابسي إذا أردت أن أُترك حية، وإلا أصبح مصيري مصير أمي المضرجة بدمائها التي ارتاحت منهم قبل قليل، قلت لهم: لا، عايزة أموت.

– توا أم نسقوك التراب.

– ادبحوني.

كانوا سكارى ومساطيل وتفوح من أفواههم رائحة العرق والمريسة، وأكدوا لها أنهم يريدونها في نفسها وجميعهم إذا رضيت ذلك، وإذا رفضت فإنهم سيربطون رجليها على ساق الشجرة ويفعلون بها، وشرعوا في ربطها على ساق شجرة النبق، حينما أزاحوا القصب رأوا الطفلين اللذين صرخا في رعب وهما يلتفان حول أمهما، هتف أحد الجنجويد مكبرًا وهو يخرج سكينًا كبيرًا ويمضي نحو الطفلين اللذين أخفيا وجهيهما في جسد أمهما بين أثوابها الممزقة، قبض الأصغر ابن السابعة، سمته أمه أحمد، وحاول ذبحه، قالت له الأم: ما تخاف الله يا راجل؟

رد عليها وهو منشغلٌ بتخليص الطفل من يديْ أمه اللتين تقبضان عليه بشدة: الله؟ منو الله؟ اللي قتلناه في وادي هَور قبل أسبوعين.

وضحك في وحشية، ثم أضاف بأنه إذا لم يقتل هذين الطفلين فإنهما سيكبران ويصبحان متمردين مثل أبيهما.

قالت إنها أحسَّت بأن الأرض تَمِيد تحت رجليها، وكانت تظن أن الله سوف يخسف بالجنجويد الأرض أو يحرقه حيًّا لنطقه بهذا الكفر البيِّن، ولكن الجنجويد في لمح البصر فصل رأس الطفل عن جسده تمامًا، رمى بالرأس بعيدًا وهو يصرخ مكبرًا في هستيريا، بل جنون وقح، وأراد أن يمسك بالآخر الذي انطلق جاريًا كما الريح، أطلقوا خلفه الرصاص ولكنه اختفى، جرى البعض خلفه، لكنهم لم يلحقوا به، وعادوا يعالجونها، فجأة صرخ جنجويد وسقط على الأرض وفي نحره سهم، وارتبك الآخرون، سقط جنجويدان آخران بنفس الطريقة، هرب الآخرون في كل اتجاه يبحثون عن مصدر السهم، وكانوا يصابون واحدًا واحدًا، فجُنَّ جنونهم، وأصبحوا يطلقون الرصاص في كل الاتجاهات عشوائيًّا، إلى أن أشار أحدهم لجهة مصدر السهام، فانطلقوا في جماعة تجاه تل الرمال، ولكن بقي بعض الجنجويد يسعفون الجرحى ويخلصونهم من السهام، بينما أخذ أحدهم يجردها من ملابسها بقطعها بالسكين، ثم بمساعدة آخرين ربط رجلها اليمنى على شجرة النبق والأخرى على وتَدٍ دُقَّ بالأرض، وأخذ يغتصبها وهي تصرخ وتقاوم، تعضُّ وترفس، تقرص بأظافر أناملها الحادة، وتبصق في وجوههم، ثم أخذ مكانه آخر وآخر، عندما عاد الآخرون كانوا في قمة الإحباط، وأراد واحد منهم أن يطلق النار عليها، إلى أن أوقفه أحدهم ممسكًا سلاحه، قائلًا: إن الموت بالنسبة لها راحة، خليها تمشي تعيش في معسكر كلمة بين ميتة وحية، لا زوج لا أطفال لا أم لا أب لا بيت لا قرية لا شرف. أخرج جنجويد من جرابه رأس زوجها، وقال إنه سوف يعلقه في باب بيته، إلى أن يأخذ بثأره، لقد قتل اثنين من إخوته الأشقاء بسهامه المسمومة. أكل قطعة لحم نيئة أخرجها من ذات الجراب، إنها كبد الإمباية، سوف أقتل: ألف ألف ألف ألف ألف إمباية.

وأجهش بالبكاء. كان رجلًا نحيفًا طويلًا ذا جسم ناشف تكاد عظامه تُرى، مثله مثل كل الجنجويد، تفوح منه رائحة وبر الإبل مختلطًا بعرق البلح والمريسة، بالإضافة لإفراز بكتريا الفم، حيث إنه ليس من طبيعته أن يستاك أو ينظف فمه؛ لأن ذلك من سمة النساء وليس من الرجولة بشيء، كان شعره يتكوَّم في رأسه مهملًا كعشب الخريف، عيناه حمراوان صغيرتان غائرتان في محجريهما كجمرتين موقدتين، بصورة عامة كان أقرب للذئب منه إلى الإنسان، على الرغم من أنه يعتبر ممن وفدوا حديثًا، إلا أنه رقي في مراتب الحظوة من قبل القادة الميدانيين بدارفور، بل إنه من القلة القليلة من الجنجويد التي استطاعت أن تجلس وتتبادل الحوار وتستمتع بالشواء اللذيذ مع منسق قوات الجنجويد من الحكومة، وهو سياسي شهير وشخصية مربكة ومرتبكة وشديدة الذكاء والعنف، وما ذلك إلا لصفات يتميز بها هذا الجنجويد.

وهو يُصنَّف من الذين يؤمنون بالقضية ويجندون من أجلها أقرب الأقربين ويطيعون الأوامر، ولا يتردد إطلاقًا في قتل أي شيء كائنًا ما كان، بشرًا أو حيوانًا، ولا ترفُّ له عين أو يرتجف له قلب أو يرق ضمير، وعلى الرغم من ذلك فهو سريع البكاء إذا مات أحد أقاربه أو معارفه أو إذا مرض ولو مرضًا طفيفًا هينًا. كان يخاف من الموت خوفًا غريبًا، والناس يحسون هذا التناقض البيِّن في شخصيته، ولا يجدون تفسيرًا، وبالنسبة لقادته فلا بأس فيه طالما كان يقوم بكل ما يُرجى منه على أتمِّ وجه، وأطلقوا علية لقبًا ما زال لا يدرك أبعاده أو معانيه، ولكنهم قالوا له إنه اسم أحد صحابة الرسول فقبل به: أبو دجانة، واسمه الأصلي الذي أطلقه عليه والده هو جُربيقا.

بكى جربيقا كثيرًا، وحمل بندقيته ومضى، اختفى في الصحراء، سنلتقي بأبى دجانة أو جربيقا جُلباق هذا في أزقة أخرى من الحكاية، وسنحاوره كثيرًا في مدينة نيالا عند وادي برلي تحت شُجيرات الجوافة الحنينة، في مكان لا يبعد كثيرًا عن منزل العمة خريفية، هذا إذا نجى من كمين ماكر ينصبه له المقاتل شارون ورفيقاه عبد الرحمن وشيكيري توتو كوه، بينما كان جربيقا يقود جحافل الجنجويد نحو جبل أم كردوس للقضاء على مسيح دارفور، أو كما يسميه جربيقا بلهجته الخاصة: رسول كِضِب كِضِب.

تركوها مربوطة، بصقوا على وجهها وهم يغادرون بيتها، بعد أن أخذوا كلَّ ما يمكن حمله، حتى قطع الملابس الداخلية والأحذية، وآنية الطعام والعناقريب القديمة المصنوعة من جلد البقر، ونزعوا سن أمها الذهبية وخاتمها الفضي الصغير، وعقد الخرز الذي لا يساوي سوى بعض الجُنيهات، مُصلاية السَّعف وإبريق الطين، كانت جثة طفلها الذبيح مسجاة ليس ببعيد عنها، رأسهُ المتورمة ترقد أبعد قليلًا، تريد أن تلمس رأسه، كأنما سوف تواسيه بذلك أو تقلل ألمه، لم تحس بأنه ميت، بل يرقد برأس مفصولة متورمة عن الجسد، تجمد الدم عليه في مكان العنق، تحس أنه يحتاج إليها، يحتاجها بشدة. أمها مسجية في موتها السعيد يمينها، تتسع ابتسامتها كلما تورمت جثتها، حر الشمس يعجِّل بتعفُّن الجثث، يشوي جسدها العاري، لا تستطيع أن تهش الذباب عن وجهها وعينيها إلا بصعوبة بالغة، كانت صورة طفلها محمد وهو يهرب لا تفارق عينيها، لا أدري هل قضوا عليه أم أنه استطاع أن ينجو، ولكن كيف ينجو؟

وضعت عشرات التصورات لنجاته، ولكنها كلها انتهت إلى نهاية مأساوية؛ فالصحراء تحيط بالمكان، أشجار الوادي الكثيفة لا تخلو من وحش كاسر، ليس طفلها بأسرع من أفراس الجنجويد أو لاندكروزرات جيش الحكومة. رأته يطير عاليًا في السماء يحلق بجناحيه مثل غراب أسطوري كبير، فتبعثره طائرة هليكوبتر عملاقة وتنثر لحمه ودمه مختلطًا برياشه الجميلة السوداء وضجيج مروحياتها، فتسقط عليها الرياش السوداء الناعمة الرقيقة، مغطية عريها وتحجبها من أعين الذئاب الجوعانة.

قضت يومًا طويلًا تحت نير العذاب، إلى أن أتى الليل بأشباحه وموتاه الذين يمشون في كل الأمكنة وكوابيسه المرعبة، لأول مرة بعد عشرين عامًا تسمع عواء الذئاب. لقد قتل زوجها عددًا كبيرًا من الجنجويد، تخيل إليها أنه فوق المائة، أو أنه قتلهم جميعًا كما قال لها في الحلم عند غفوتها الكابوسية القصيرة، لا تدري متى نامت، أو أنها لم تنم، أم أنها ماتت قليلًا أو لم تمت.

في الصباح الباكر جاء الخواجات والأفارقة، كأنهم هبطوا من السماء، أو نبتوا من حيث لا مكان، مريبون مثل اللصوص، يعملون بصمت ونظام، يصورون بسرعة، يشخبطون في كُراساتهم، يتصلون بأجهزتهم، يرطنون بصورة مستمرة. عندما رأوها، تجمعوا بسرعة حولها مثل قطيع من الذئاب أو الملائكة، كان الحزن والأسف باديًا على وجوههم جميعًا وأيضًا الخوف، الخوف من شيء ما، شيء غامض، أكثر غموضًا من الموت، التقطوا لها صورًا عديدة، تم تصويرها بدقة هي وما يحيط بها من جثث بكاميرات فيديو، رطنوا مرارًا وتكرارًا، لكنهم لم يقتربوا منها إطلاقًا كأنما كانوا يخافون من لغم شيطاني جبان سينفجر إذا لمسها أحدهم، كانوا يعملون بسرعة وريبة مثل لصوص غرباء وجدوا كنزًا يحرسه شيطان نائم أو غول سيأتي حالًا، سألوها أسئلة ترجمها لها رجل بلغتها. كانت في شبه إغماء، لم ترد لأي سؤال، كانت تراهم مثل الأشباح حمرًا وصفرًا وسودًا وخضرًا، تريدهم أن يطلقوا سراحها بأسرع ما يمكن، أن يقدموا لها حبة أسبرين؛ لأنها تحس بصداع مؤلم، يكاد رأسها أن ينفجر، كانت تحسُّ بإعياء شديد، ماذا ينتظرون؟ أريد ماءً، هل تعرفون أين ولدي محمد؟

وفجأة اختفوا، تركوها كما هي أو كما لو كانوا أطيافًا أو خيالات من صنع أوهامها، سمعت صوت طائرة مروحية يختفي تدريجيًّا عن المكان. أيقنت أن مصيرها الموت، وما كانت تخافه بل تتمناه كل لحظة، تحوم حولها أطياف أمها وزوجها وطفليها، لكنهم لا يستطيعون أن يهشوا لها الذباب عن عينيها وفمها، وليسوا بقادرين أن يسقوها كوبًا من الماء، ولكنهم كانوا يتحدثون بصوتٍ عالٍ بل يصرخون ويضربون الهواء، ثم مضوا، اختفوا تدريجيًّا، ما عدا طفلها محمد، بقي في مكان ما قربها، إنها لا تراه الآن، ولكنها تحس به، تشمُّ أنفاسه، بل تسمع دقات قلبه كأنها طرقات صفيح.

بعد ما يقارب الساعة من الهذيان والآلام، جاء جند الحكومة، ملئوا المكان ضجيجًا وجلبة، أطلقوا سراحها بسرعة وكأنهم يخشون شيئًا ما، سقوها ماءً مملحًا، لم يجدوا شيئًا يسترون به عُريها، كانوا منزعجين كعراة في ميدان عام، انتبهوا لأنفسهم فجأة، سألوها ما إذا رأت أغرابًا، خواجات مثلًا أو أفارقة، أو أجانب بشكل عام قالت: جنجويد.

نعم، نحن نعرف الجنجويد، ولكن بعد أن ذهب الجنجويد، هنا آثار تدل على أن أشخاصًا آخرين غير الجنجويد كانوا بالمكان، ربما كانوا يحملون آلات تصوير أو ما شابه، يرتدون أزياء عسكرية وفي صحبتهم بعض المدنيين من المواطنين العملاء، يرطنون رطانات غريبة ويترجم لهم العملاء السودانيون، لم تسمع شيئًا مما يقولون، ألم تسمعي ضجيج مروحية؟ تريد أن تعرف أين هرب ولدها محمد، هل استطاع أن ينجو أم أنهم لحقوا به؟ بحثوا في كل البيوت السليمة، لم يجدوا ثوبًا أو لباسًا أو حتى ملاءة يسترون به عريها، اقترح أحدهم أن يتم قتلها ودفنها مع الجثتين؛ بالتالي يكونون قد تخلصوا من المأزق نهائيًّا، إلا أن جنودًا دارفوريين رفضوا الفكرة وتخلص أحدهم من ملابسه العسكرية وألبسها إياها، على أنهم سوف يستبدلونها بملابس نسائية فور دخولهم مدينة نيالا.

دُفِنَ ولدها وجَدَّتُهُ في قبر واحد، حُفِر عند أعلى التل الرملي من حيث قاد زوجها مقاومتنا، وقتل جنجويدنا التسعة بسهامه المسمومة، في قبر جماعي كبير دفنا الشهداء التسعة بعد أن تحرينا شخصياتهم وسجَّلنا المعلومات الأساسية عنهم، كما التقط الفريق الإعلامي صورًا لهم، قمنا كالعادة بتنظيف ميدان المعركة من كل الآثار التي قد تسبِّب إشكالًا أو تثير شهية العملاء، ممن يسمون أنفسهم بالمراقبين الدوليين، ونحن نسميهم كلاب الأمم المتحدة، إنهم يشمون الشبهات شمًّا، ويطلقون الاتهامات جزافًا وبالجملة، يريدون حربًا دون موتى أو مشردين، بذلك يخالفون طبيعة الأشياء، حرقنا المنزل وما تبقى من بيوت لم تُحرق حتى لا يعود إليها ساكنوها مرة أخرى ليثيروا الفتن.

بَقِيَتْ بالمستشفى العسكري زهاء الأسبوعين فيما يشبه حجزًا سياسيًّا إلى أن أفاقت من موتها، كل من تحرى معها كان يسألها عن شيء واحد وتجيبهم هي بذات الإجابة بلغتها، يترجمه لهم جنود من عشيرتها: كنت ميتة لم أَعِ ما كان يدور حولي.

فتأكَّد لنا أن لا خطر من وراء امرأة بذاكرة مشوشة، فأطلقنا سراحها في معسكر كلمة وهو عالمٌ كفيلٌ بأن يجعلها تنسى حتى اسمها، بعد أن وفرنا لها ملابس جديدة نظيفة نقدناها مالًا يكفيها لأسابيع كثيرة، وشرحنا لها بصورة دقيقة وواضحة ومفهومة بلغتها الأم، فضيلة ألا تثرثر مع أحد الأغراب إذا تذكرت شيئًا ذا بال، بل يمكنها الاتصال بنا متى شاءت إذا أرادت المساعدة.

قالت العمة خريفية لنفسها: ما في عدالة، ما في «رجالة»، ما في إنسانية، ما في ما في ما في …؟

كانت المرأة النحيفة الطويلة تتحدث إلى نفسها، أو إلى ملأ من الناس غير محدد أو مرئي، وهي تبتعد عن العمة خريفية، أدارت كما هي عادتها حوارًا آخر وقصة أخرى مع سيدة أخرى أو رجل آخر. كان الأطفال يجرون خلفها ويحكون معها وأحيانًا قبلها تفاصيل قصتها، يحاكون صوت الرصاص وهتاف الجنجويد وصرخاتهم من ويلات وقع السهام في أجسادهم، بل صرخات أطفالها وطريقة جري محمد واختفائه عن أعين الجنجويد، ويمثلون كيف رمى الجنجويد رأس ابنها بعيدًا وهو يهتف الله أكبر، ويرقص في خيلاء الرقصة التي يسمونها «صقرية الرئيس» على موسيقى غير مسموعة أو موقعة بأفواههم وألسنتهم الغضة الصغيرة. كانت أحيانًا تبعدهم عن طريقها برميهم بالحجارة أو الصراخ في أوجههم أو تهديدهم بالضرب، ولكنها في أحيان كثيرة عندما تكون معتدلة المزاج فإنها تتركهم يفعلون ما يشاءون، بل قد تستخدمهم مثل كورس عشوائي أو موسيقى تصويرية لحكاياتها، بل قد تعطيهم من الحلوى التي تحتفظ بها في جيبها من أجل أطفالها الذين سوف تجدهم في مكان ما في يوم ما جوعى أو متشردين.

قد لا يدري أحد — ولا هي — أنها سوف لا تلتقي بطفلها الهارب من المجزرة، إلا عندما تنضم لما يطلق عليه مسيح دارفور والمؤمنون به «الموكب». في ذلك الحين سوف لا يكون في حاجة لحلوتها، ولكن لصدرها الحنون، قد لا يكونان في حاجة لبعضهما البعض؛ فابن الإنسان قد قال: الموكب استعاضة عن كل الذي ذهب وكنزٌ لما سيأتي.

البيت فارغٌ، ومنذ أن غادرها آخر أزواجها ظلت وحيدة، لكنها فكرت كثيرًا في أمر تلك البنت المتشردة مجهولة الأهل والعشيرة، رفات الحروب أو النازحة كما يطلقون عليها، كان لولا اسمها الغريب وتصرفاتها الأكثر غرابة أحيانًا لأتت بها إلى بيتها وتركتها تقيم معها تؤنس وحدتها، تساعدها في خدمة البيت، لكن مثل هؤلاء البنات المطلوقات قد يكنَّ لصات أو داعرات أو يسلكن سلوكًا يسيء إلى سمعتها الطيبة وسط الأهالي، لكن عبد الرحمن ستكون بنتًا مختلفة، ستفيدك كثيرًا وتصبح صديقتك وابنتك، إنك لم تسمعي عنها سوى كل خير وبركة، بل لقد طلبت منك هي بنفسها ذات مرة أن تأخذيها لبيتك لتقضي ليلتها، عندما تأخرت عن العودة إلى معسكر كلمة ذات يوم.

الناس مختلفون؛ فيهم الصالح وفيهم الطالح، لكن الرياح أيضًا لا تأتي كما يشتهيان؛ ففي اليوم الذي قررت فيه خريفية أن تأخذ معها عبد الرحمن لبيتها لكي تقيم معها بصورة دائمة، ظهر في نيالا ما عُرف بين الناس بالبرطابرطا، وهو مخلوق يظهر نهارًا في شكل إنسان، إنسان عادي لا يمكن تمييزه، صفته الوحيدة الغريبة أنه يقضي النهار كله نائمًا، أما بالليل وخاصة في الليالي القمرية، فإنه يتحول إلى حيوان مفترس غريب، له ستة أرجل ومخالبه أشبه بمخالب الدب، له صوف غزير يغطي جسده كله، وصوته أشبه بصوت الكلب، أو أنه ينبح مثل الكلب، رأسه وفكاه أقرب للضبع، يأكل في الليلة الواحدة شخصًا واحدًا، يأكله كله عظمًا ولحمًا ويلعق التراب الذي يسقط عليه دمه، ولا يترك له أثرًا مطلقًا، ولا يمكن قتله بالطلق الناري أو الأسلحة التي يدخل المعدن في صناعتها؛ فقد جُرِّب فيه كل ذلك، فقط يخشى العصا المصنوعة من أفرع وسوق الأشجار، إنها تخيفه ولا تقتله، فأصبح الناس في نيالا يخافون من بعضهم البعض وخاصة الغرباء منهم، حيث إنهم يتجنبونهم بصورة تامة ومطلقة، على الرغم من أن الغرباء أنفسهم يخافون من البرطابرطا إلا أنهم يضطرون لقضاء الليل في العراء؛ لأن لا أحد يقبل أن يستضيفهم. يظلون مستيقظين إلى الفجر حاملين عصيهم متأهبين لضرب البرطابرطا التي قد تخرج لهم في أية لحظة من حيث لا يعلمون؛ بالتالي يغلبهم النعاس نهارًا فينامون أينما اتفق، مما يشكك الناس أكثر في أمرهم ظانين أنهم برطابرطا حقيقيون.

لم يكن من السهل بالنسبة لخريفية أن تستقبل في بيتها ما يُحتمل أن يكون برطابرطا ليأكلها بالليل، لولا ذلك لما تأخرت في أن تأخذ عبد الرحمن معها لبيتها، كانت في أشد الحاجة لمن تحكي لها وتبادلها وجهات النظر في الناس والحياة، فرأسها ملآنة بالحكايات المكبوتة، وهي لا تريد أن تتطفل على الجارات، أو تحكي للناس — عامة الناس — ما تعتبره سرًّا في أحايين كثيرة.

فيما بعد حزمت العمة خريفية أمرها، لم تحاول أن تلحق بعبد الرحمن؛ فإنها تعرف أن عبد الرحمن اختارت الحرب، ومضت في طريقها، ولكنها اتجهت نحو جبل أم كردوس، كان عيسى ابن الإنسان يعَلِّم الكلمة هنالك ويعدُّ الناس للموكب.

نبي يبحثُ عمن يكفر به.

لكي تكتمل حجته، يحتاج النبي لمن يكفر برسالته، تمامًا كما يحتاج لمن يؤمن به، وفي مرحلة ما قد يحتاج لمن يؤذيه بشدة بل لمن يقتله أيضًا، حتى الأنبياء الكذبة يتشوقون لمطرقة العصاة الرحيمة، قال وهو يحملق في عيون الجند المسعورين، في تلك الجمعة التي انتظروها طويلًا: أما أنا فما لي حاجة عند أحد، فلا يفيدني إيمان المؤمن بقدر ما يضرني كفر الكافر بي؛ لأن من يكفر بي إنما يكفر بنفسه، فأنا جميع الخلق، وليس الخالق شيئًا آخر، أقصد أنا أنتم واحدًا واحدًا.

تهامس البعض، بمعنى أنهم لا يفهمون شيئًا: حدثنا بلغة نعرفها، أو دعنا نقتلك بهدوء ونعود إلى وحداتنا، فأنت لست أكثر من دارفوري متبجح.

أضاف وفي فمه ابتسامة كبيرة، وبدا للجند أكثر غموضًا وتناقضًا: مشكلتي الأساسية هي المؤمنون بي، إنني أتوق لمن يكفر بي، هل أنتم الكافرون أم رسل الكافرين؟

كان رجلًا عاديًّا — مثله مثل أي شخص في المكان — يشبه عشرات الأشخاص، يرتدي عراقيًّا كان فيما سبق لونه أبيض، هو الآن يميل إلى لون التربة الطينية الرملية، له أكمام قصيرة، ويُرى من الخلف متموجًا من كثرة الجلوس واللبس المتكرر، تحت العراقي يرتدي سروالًا طويلًا إلى ما دون الركبة، حيث يتحول إلى تموجات من التترون ما قبل الرسغين، ليس برأسه عمامة أو طاقية، ليست له نظارات شمسية، ولا ساعة يد، أصلع الرأس تمامًا كما لو أنه فرغ منه الحلاق للتو، لونه أسود، عيناه كبيرتان بيضاوان تنظران في عمق وبقوة، يمشي حافيًا، وليس بقدميه تشققات. الشجعان الذين استطاعوا أن يبحلقوا فيهما أحسوا بطعم ملح البحر، وأكد أحد الجنود أنه أحس بحالة أشبه بالغرق. فيما بعد قال إبراهيم خضر: لو أن هنالك نبوة أو ألوهية تخص الرجل لكانت عيناه أكبر برهانًا عليها؛ بالتالي كان كل من يلتقي به يؤمن به بدرجة ما؛ لأن الذين لا يستطيعون إمعان النظر في عينيه هم ليسوا بالضرورة من يجهله أكثر، ولكنْ هنالك أسرار أخرى فيه تشغلهم عن عينيه، ليست من مهامنا البحث عن أسراره، ولا حتى تأكيد نبوته أو الكفر بها، مهمتنا الحقيقية هي الإجابة عن الأسئلة التالية: أهو من العرب أم من الدارفوريين؟

هل نبوة هذا الشخص تخدم مهمة السُّلطة في دارفور؟ إلى أي مدى؟

هل نبوته ضد الحكومة المركزية في الخرطوم؟

هل ستخدم المتمردين والأهالي الناقمين علينا؟

أم أنها مجرد ادعاء نبوة والسلام؟! أيْ نوع من الشعوذة والدروشة الصوفية الهلامية التي لا تصب في غير بحر الذات الوهمي الكبير، على حسب تعبير القائد المتفلسف الشاب.

عندما تم اختيار إبراهيم خضر إبراهيم لهذه المهمَّةِ الصعبة، كان في خَلَدِ الذين اختاروه أنه يؤمن بالفكر الجمهوري، وفي رأيهم أن هذا الفكر يقوم على الحجة والجدل أكثر مما يقوم على الوقائع التاريخية والموروث الديني، ومُدَّعُو النبوة هم حاجة أكثر مما هم سلفيون، فما ضرنا أن نرسله له، يمارس هواياته في المحاجة ويخلص إلى حقيقته إن كانت هنالك حقيقةٌ خلف مدعٍ درويش ربما مخبول أو مريض نفسي؟

عندما استطاع الأسرى التخلص من معسكر شارون، استطاعوا — ومعهم بالطبع إبراهيم خضر — أن يجتازوا منطقة الألغام الخطرة إلى ما يُشبه واديًا عملاقًا لا يعرفون اسمًا له، طالما كان جميعهم من خارج دارفور ولم يدخلوها إلا محاربين مجبرين على القتال، أو جنودًا ألزمتهم المعيشة امتهان وظيفة الموت والاقتتال. كانوا يهربون للأمام، بدون أية فكرة واضحة إلى أين تؤدي بهم الطُّرق، كل ما يحاولون الحفاظ عليه هو اتجاه الشرق، واضعين الشمس على ظهورهم، ليست لديهم بوصلة غير الشمس والظل والريح، تقودهم غريزة الحياة نحو نجاة لا يفقهون لها مسلكًا. لم يتنبهوا إلى أنهم لا يحملون طعامًا أو ماءً إلا بعد أن أدركهم الرهق والعطش وهم على مشارف ما بدا لهم قرية قديمة، كالعادة كانت مهجورة بشكل تام، يعرفون أن هنالك مصادر مياه قريبة من القرية؛ فكثير من القرى تنشأ على مصدر مياه، أو أنها تصنعه لاحقًا، ولكن خطورة المياه بالقرى المهجورة نتيجة الحرب، أنها قد تكون مسمومة أو غير صالحة للشرب وفقًا لظروف بيئية.

كان الواحد وعشرون رجلًا، جميعهم بصحة جيدة، ومتفائلين ويمضون للأمام في صمت تتخلله بعض الهمهمات، وهي عبارة عن ملحوظات سريعة عن الطريق والاتجاهات، أو نصائح تخص السلامة، العشرون رجلًا هم في الحقيقية ١٨ رجلًا وطفلان في السادسة والسابعة عشرة من عمريهما، انزلقا في وكر الجندية من الخدمة الوطنية الإلزامية، دخلوا القرية حذرين، ولأنهم لا يمتلكون أي نوع من الأسلحة ولا حتى الشخصية البيضاء، فكانوا يتخذون غاية الحذر والحيطة والانتباه. إبراهيم خضر إبراهيم، والطفلان ورجلان آخران اتجهوا ناحية الخور بحثًا عن الماء، واتَّجه البقية نحو الغرب، حيث بدا للعيان منخفض به بعض الأشجار الخضراء قد يكون علامة على توافر المياه بالموقع، واتفقوا على أن من وجد الماء يعلن الآخرين عن طريق الصفير.

الوقت عصر، الريح الدافئة تمر عبر وجوههم صاعدة نحو الجنوب، لا يسمعون سوى نوس الأشجار التي تنتظر المطر راقصة للريح الخيرة، يحمل الهواء عبق حريق قديم ورماد يحكي مأساة بشر ماتوا وحُرِقوا في المكان، لم يمضِ زمن طويل حينما سمع الطفلان صفيرًا، ونبَّها بقية الرفاق، كانت بئرًا عميقة مظلمة، ولكن الماء الذي يعكس بعض الضوء، الذي يصدر صوتًا حميمًا عندما تلامس سطحه الحجارة التي يرمونها فيه، تؤكد تواجده بوفرة، المشكلة الكبرى في كيفية الوصول إليه، وهم لا يمتلكون دلوًا أو أوعية ولا حبالًا، ولكنهم أيضًا لا يعرفون أهو مسموم أم طيب؟

كان رأي ما يسمونه الرقيب على آدم أن يستعملوا بعض الآنية المحروقة المرمية في فناء الدور الخربة، قد يجدون ماعونًا يمكن أن يحفظ شيئًا من الماء، من ثم يمكن استخدام سُلَّم البئر للهبوط إلى الأسفل، وقاموا برحلة بحث أخرى، كانوا يسيرون في جماعة واحدة؛ لذا شاهدوا معًا وفي ذات اللحظة الرجل والمرأة وهما مشهران أسلحتهما، وقد اخترق نداء الرجل آذان الجميع: ثابت عندك.

كانا في منتصف عمريهما؛ المرأة تلبس ثوبًا ملونًا بلديًّا ورأسها عارية، تبدو في صحة جيدة، الرجل نحيف قصير، بوجهه ذقن كبيرة مهملة وشارب طويل، يرتدي جلبابًا قصيرًا، يضع على رأسه طاقية، يحمل سلاحًا آليًّا تعرَّف عليه الجميع منذ الوهلة الأولى، المرأة تحمل بندقية كلاشنكوف، يقفان على بعد كافٍ من الرجال العشرين في وضعية الاستعداد لإطلاق النار، طلب من الجميع الجلوس على الأرض مع وضع اليدين على الرأس، وأنه سيطلق الرصاص على الجميع إذا حاول أي منهم عصيان أوامره.

طلب منهم أن يحدثه رجل واحد عن هويتهم وماذا يفعلون ومن أين هم قادمون وإلى أين ذاهبون، واختار الرجل بنفسه، وقام الرجل المختار، وهو جندي عجوز حكيم بالتحدث إليه، وأخبره بأنهم أسرى هاربون من معسكر شارون، قالت المرأة: يعني جنجويد وجيش؟

قال لها: إنهم ليسوا بجنجويد ولكنهم كانوا جنودًا نظاميين، والبعض أفراد خدمة وطنية.

يبدو أن المرأة والرجل لم يفهما الفرق بين الجنجويد والجنود النظاميين ومجندي الخدمة والوطنية، أو أنهما لا يريدان أن يفهما؛ لأن الرجل صاح بغضب: «كلكم جنجويد مجرمون كَتَّالين كُتَلا، اتجمعتوا من السودان كله جيتوا تقتلونا، فيكم زول من دارفور؟»

أجابه بريق ناشف: لا.

أضافت المرأة: الليلة يومكم تمَّ هنا، عيال أم طيظ، يا ملك الموت جاك الموت.

عندما خرجت الطلقة الأولى، لم يدر أيٌّ منهم أيهم أصابت، وهم يهربون في كل اتجاه، وصوت الطلق الناري يقعقع خلفهم، سوف لا يعرف أي منهم من هم الذين أصيبوا أو قتلوا؛ لأنهم لم يلقوا بعضهم البعض بعد ذلك مدى الحياة.

إذن ظَنَّ إبراهيم خضر أنه الناجي الوحيد، لم يستطع أن ينظر وراءه، كان يجري بكل ما أوتي من قوة مندفعًا بطاقة الخوف، عبر خيران كثيرة، غابة صغيرة، أرض شوكية ورمال لا حصر لها، إلى أن اختفى صوت الرصاص نهائيًّا، أو خُيل له ذلك. كانت الشمس تغرب ببطء شديد، ترسل أشعتها الدامية نحو الكون، أشعة تذكِّره بمذابح كثيرة مرت به، هنا في دارفور وفي جنوب السودان ومذابح كثيرة نجا منها، لا يدري أيها سيكون من نصيبه، اتجه مرة أخرى نحو الشرق، هو الاتجاه الوحيد الذي سيقوده إلى معسكر ما للجيش السوداني، كما أنه أيضًا قد يقوده لقرية مجهولة يسكنها شبح مسلح كما حدث قبل قليل.

على كلٍّ لقد توجه بكل قلبه وأحساسيه نحو نجاته، التي لا تحدث إلا إذا وجد الجيش السوداني، فلون بشرته الأصفر هو لون الجنجويد وشعره الكث الغزير المهمل، وذقنه الشائكة غير المنتظمة، كل ذلك يجعله شديد الشبه بالجنجويد، ولا ينتظر أحد ليرى ما بداخل قلبه من جمال وحب للإنسان، وليس لدى أحد في هذا الجحيم الوقت الكافي ليستمع إلى قصته، وكيف أنه رُمِيَ به في هذه الحرب رميًا، وأنه لم يطلق النار على أحد، ولا يعرف كيف يستخدم البندقية، وهذه هي سنته العاشرة بالجيش، لا يعرف كيف يدافع عن نفسه بغير الجري، كان يمضي نحو الشرق بسرعة وهمَّة، وجد عودًا يابسًا اتخذه عصًا قد تساعده على المشي وتدفع عنه شر ثعبان أو أي من الهوام قد يصادفه.

كانت الأرض تمتدُّ أمامه إلى ما لا نهاية، شبه صحراء قاحلة، يرى في البعيد بعض الأشجار الخضراء في الأودية، تتناثر أعشاب الفصل المطير الماضي في كل مكان، لونها أصفر فاقع أو بني، الآن بقيت بالأفق آخر أشعة الشمس، وبدا ظل ثقل ثقيل يسيطر على الكون من حوله، يهبط تدريجيًّا، لزجًا وناعمًا مثل الزيت، ظل ليس باستطاعته أن يحبه ولو أنه قد يكفيه شر الأعداء غير المتوقعين، إلا أنه أيضًا يخفي بين إبطيه مخاوف أكثر فظاعة ومفاجأة.

لا يدري كيف استحضر في هذه اللحظات بالذات صورة الأستاذ محمود محمد طه، صورة ابتسامته العميقة الجميلة وهو يتوجه نحو المشنقة، هذا الخليط الثري بين قمة المأساة وقمة الفرح، المزج بين النار والزيت في ذات الإناء بينما يظل الزيت زيتًا والنار نارًا. أعطته الابتسامة شجاعة غير متوقعة، وبدأ الليل يظلم إظلامًا تامًّا، وسوف لا يظهر القمر إلا بعد ساعتين على الأقل، إلى أن آنس ضوءًا صغيرًا بعيدًا جدًّا، ثم أضواءً متفرقة تقترب ببطء أو يقترب هو منها كما يمضي الحالم نحو هدف مجهول، قد تكون مدينة صغيرة، قد تكون قرية منسية من مذبحة ما، ولكنه استبعد أن يكون ذلك معسكرًا للجيوش؛ لأن المعسكرات عادة ما تكون مظلمة، شديدة الإظلام، كلما اقترب من مصدر الضوء كلما ازدادت مخاوفه، قد يصادف إحدى ورديات الحراسة الحكومية، أو الأهلية المتعجلين الذين يقتلون ثم يتحرون من أصل الضحية إذا أثارت في بعضهم غرائز الاستطلاع.

إذن من الأفضل أن يقضي الليل دون أن يَلِجَ المكان، وفي الصباح يتدبَّر حاله، ولكن كيف يَبِيت في العراء ملتحفًا السماء ومتوسدًا الرمال؟ كانت تدور برأسه أفكار شتى، لم يتصل بأسرته منذ سنوات كثيرة ماضية، إنهم لا يدرون أين هو، ربما ظنوا أنه مات وشبع موتًا، آخر رسالة بعثها لهم عن طريق الصليب الأحمر، رسالة طويلة جدًّا، لولا قلة الأوراق لكتب أكثر، كان بإمكانه أن يملأ ألف ألف صفحة، ولكنَّ لأفراد الصليب الأحمر عملًا آخر يقومون به غير رسالته، ولا يمكنهم انتظاره أيامًا ليكمل خطابه لأسرته.

كان يحسُّ أنه يتحدث معهم فردًا فردًا، يشعر بأنفاسهم وتعبير وجوههم، ويسمع نصائحهم له، ويستطيع وهو ممسك بالقلم أن يمسح الدموع الساخنة عن وجه أمه الذي يراه في غاية الحَزَن: أنا هنا أقيم في معسكر آمن، لا تُوجد حرب في هذا المكان، وقريبًا ستطبق اتفاقية السلام ويتم إعادة الأسرى، سأعود مباشرة لكسلا، الطعام كثير ومتوافر جدًّا، ونحن لا نعمل شيئًا سوى النوم ولعب الكوتشينة. أمي، اطمئنِّي ولا تقلقي بشأننا، أريد أن أعرف أخبار أختي أمل، فهي بدون شك تكون قد تخرجت في الجامعة منذ سنوات طويلة ماضية، أبي اكتب لي …

كان يقترب تدريجيًّا من مصدر الضوء، حينما فكر في الألغام البشرية، ما إذا كانت المنطقة شبه عسكرية، على كلٍّ يحتاج لمسيرة ما يزيد عن الساعة لكي يدرك الضوء، ويقدر المسافة بعشر كيلومترات وليس أقل من ذلك، هذا العالم مليء بالشرور، عندما يحسُّ بالقمل يتحرك في ظهره يعرف أنه أصبح حساسًا أكثر مما يجب، وقد بلغ به القلق أشده، تعلم كثيرًا من الحياة في ميدان القتال، تعلم كيف يتعايش مع الأوساخ وأن يبقى في ملابسه دون حمام لشهور كاملات، وأحيانًا إلى أن تتمزق على جسده، وتعلَّم أيضًا فنون النجاة من الموت.

أصبح ثعلبًا ماكرًا في اصطياد الحياة، ما زالت تعلق في ذاكرته اللحظة التي تم صيده فيها على مشارف مدينة الخرطوم، فيما يزيد عن عشرة أعوام، قضاها في ميادين القتال مدنيًّا، يحمل الذخيرة على ظهره، يعالج الجرحى بخبرات تعلَّمها في الميدان من لا أحد. كان يسير كالمنوم مغناطيسيًّا، إنه يتقدم بإصرار، تعرَّف على شيء مهم، وهو أن الضوء يصدر من كشافات كبيرة على أعمدة، مرصوصة بانتظام، عددها عشرون كشافًا. حسنا، هذا ليس مطارًا خلويًّا، ولكنه بدون شك معسكر لقوات الأمم الأفريقية AMIS. إنهم الوحيدون الذين يمتلكون كل تلك الطاقة من الضوء ويشعلونها، وهم الأكثر مخافة من الظلام في دارفور.

لم يرحبوا به، لكنهم لم يطلقوا عليه النار، طلبوا منه أن يبتعد، قال لهم إنه أسير هارب من جيش المتمردين جماعة شارون، قالوا إنه لا يمتلك أدلة تقنعهم، وهم لا يعرفون ما هي الأدلة التي تقنعهم، عليه أن يبتعد، أن يذهب نحو القرية التي تبعد خمسة كيلومترات غربًا وأن يسلم نفسه للشرطة، وأنهم سيعتنون به، لا مكان لدينا هنا للأسرى أو الهاربين من الجيش وغيرهم، نحن قوات مراقبة وكتابة تقارير.

ما اسم هذه القرية؟

البوليس سوف يحدِّثك عن كل شيء ويعطيك المعلومات الضرورية التي تحتاج إليها.

كان المترجم يستخدم نفسه كآلة للكلام لا غير، ولو أنَّ بوجهه انطباعًا لم يرتح له إبراهيم خضر كثيرًا، يعرف أن السبب هي بشرته الصفراء وشعره الكثُّ، لولا لغته لحسبه كل من رآه جنجويدًا؛ فالجنجويد يستخدمون لغة وطنهم وهو عربي النيجر أو ما يسمى «بالضجر»، وغالبًا ما تحتاج إلى مترجم يفسر معانيها بلهجة عربي السودان، ولكن إبراهيم خضر يتحدث عربي وسط السودان بلكنة الشرق. كانوا يقفون على مبعدة عنه، يشهرون سلاحهم في خوف ورعب واضحين.

عليك أن تبتعد، أن تذهب نحو القرية إنها قريبة جدًّا وبها نقطة شرطة تعمل ٢٤ ساعة.

كان مرهقًا وجائعًا وعطشان، كان الشرطيون أكثر رحمة، حيث إنهم أعطوه ماءً، وبقية عشاء كانوا قد أطعموا معظمه، تحروا معه، ولكنهم أدخلوه الحبس إلى أن يتأكَّدوا من صحة المعلومات في الصباح الباكر، يمكنك أن تنام، قدموا له بُرشًا من السعف وبطانية عسكرية قديمة ونصيحة غالية: أوعك تحاول الهروب، كل من هرب من الحبس مات.

لم يحلم بشيء؛ لأنه حلم بالعالم كله، حلم بأنه قد نجى أخيرًا وعاد إلى مدينة كسلا مسقط رأسه، لأمه وأبيه وأخته وجيرانه. كانت المدينة كلها هنالك ترحب بعودته، تستقبله منذ بوابتها عند الطريق العام، أطفالها ونساؤها، عمالها، موظفوها، البجا بشعورهم الكثة وصدرياتهم الجميلة السوداء والزرقاء والبيضاء، الجنود النظاميون يقفون صفًّا واحدًا طويلًا تتقدمهم موسيقى القرب، الأستاذ يقف تحت شجرة نيم عملاقة، في وجهه ابتسامة عريضة، يحمل كتابًا بيده اليمنى، كان يلبس جلبابًا أبيض ويلتحف ثوبًا جميلًا من التوتال، المدينة كلها على ظهر سفينة عملاقة، كأنها سفينة نوح، بها مخلوقات غريبة وكبيرة جدًّا، يحملها الموج بعيدًا في السماء، تبحر خفيفة كمركب من ورق كان يصنعها وهو طفلٌ بالروضة، ثم دقَّت الأجراس، دقت الأجراس الكبيرة، صليلها تردده الدنيا كلها. كان الشرطي يفتح باب الحبس وفي صحبته رجل من الاستخبارات العسكرية، عندما سمع اسمه، استيقظ، كان رجل الاستخبارات يضحك بصورة هستيرية وهو يُنْهِضُ إبراهيم مستخدمًا كلتا يديه: قوم يا كلب.

كان هذا صديقه الحميم قدورة إسحاق، لقد عملا معًا في الفاشر، وهربا من الأسر أيضا ذات مرة من جيش العدل والمساواة، وإن إبراهيم عالجه مرتين من جروح خطيرة بميدان القتال.

قال لقائد المنطقة العسكرية العميد الشاب، إنه يريد فقط أن يعود لأسرته، ها هي سنته العاشرة التي قضاها في ميدان القتال، وتعرض للموت أكثر من عشرين مرة، أُسر مرتين، وكاد أن يقتله الشبحان بالأمس، وإنه يريد أن يرى أمه وأباه، يريد أن يتزوَّج وينجب أطفالًا مثله مثل الآخرين، فأنا لست مقاتلًا ولست عدوًّا لأحد، ولا أرغب في أي عمل بطولي، بل قال له صراحة، إنه لا قضية له يحارب من أجلها، إنه لا يريد أن يصبح شهيدًا أو بطلًا، وكأن لسان حاله يقول: توجني جبانًا وأعدني لأسرتي.

أكد له القائد الطيب أنه متعاطف معه قلبًا وقالبًا، ولكن لا توجد وسيلة لنقله لمدينة نيالا ولا أية مدينة أخرى، وأنهم شبه محاصرين، وأن الطائرات ترمي لهم بالطعام من السماء ولا يمكنها أن تهبط، وطلب منه أن ينتظر قليلًا ربما تفرج، أنا متأكد أنها ستفرح قريبًا، هنالك اتفاقية سلام تلوح في الأفق، تقودها دبي، والصين وروسيا يضغطان على المتمردين ويدعمان الحكومة.

هذه الحكاية لا تحدث أية فرق بالنسبة له، يعرف أن اتفاقيات السلام ما هي إلا هدنات لحروبات أكثر شراسة، كان محبطًا جدًّا، على الرغم من أنه يلبس الآن ملابس جديدة ونظيفة، وقد استحمَّ أكثر من مرتين، ورمى بكل هدومه الأخرى بقملها وبراغيثها في المزبلة، أشعل عليها النار، وأخذ يرقبها، إلى أن أصبحت رمادًا، كان يعرف أن القائد يتعاطف معه، ولكنه أيضًا يعرف أن هنالك حروبات تلوح في الأفق، وهي المعارك التي تسبق اتفاقيات السلام، حيث يريد كل طرف أن يدخل الاتفاقية من موقع القوة، وأن يضغط الطرف الآخر نفسيًّا ومعنويًّا وماليًّا — رشاوى — وعسكريًّا في ميدان القتال، حتى يستطيع أن يفرض وجهة نظره ويحصل على أكبر مكاسب ممكنة: هذه هي الحرب، كما خبرها خلال عشر سنوات، وفكر فعليًّا في الهرب، ولكن إلى أين؟

أُلحِقَ بالمستشفى الميداني كممرض أو طبيب مساعد أو أية وظيفة رحيمة أخرى، طالما كان لا يرغب في حمل السلاح، لكن عندما أتت البرقية المستعجلة، دعاه القائد بعد اجتماع مقفول مع القادة الميدانيين، وحدثه بأن عليه أن يذهب في مهمة عاجلة. لقد ادَّعى أحدهم النبوة، وقال إنه السيد المسيح، أو المسيح الدجال، أو أي شيء من ذلك القبيل، ولا يعرف في حياته شخصًا يمكن أن يُرسل لمحاجة مدعي النُّبوة أكثر من شخص جمهوري، الذي هو: أنت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤