الخاتمة: مستقبل دراسة الأسطورة

كانت نظريات الأسطورة في القرن التاسع عشر، إذا جاز التعميم من خلال نظريات تايلور وفريزر، ترى أن الأسطورة تدور بالكامل حول العالم المادي. وكان يُفترض في الأسطورة أنها جزء من الدين، الذي كان من المُفترض النظير البدائي للعلم، الذي كان بدوره يُفترض كونه حديثًا بالكامل. لكن في القرن العشرين، جرى استبعاد نظريات تايلور وفريزر لوضعهما الأسطورة في مقارنة مع العلم ومن ثم استبعاد الأساطير التقليدية، ولإدراجهما الأسطورة تحت الدين ومن ثم استبعاد الأساطير العلمانية، ولاعتبارهما أن موضوع الأسطورة هو العالم المادي، ولاعتبارهما أن وظيفة الأسطورة تفسيرية، ولاعتبارهما أن الأسطورة زائفة.

تمثل الرد الأبرز في القرن العشرين على تايلور وفريزر في إنكار أن الأسطورة لا بد أن تختفي عندما يحل العلم. فسعت نظريات القرن العشرين بتحدٍّ إلى الحفاظ على الأسطورة بالرغم من وجود العلم. في المقابل، لم يجرِ ذلك من خلال رفض العلم باعتباره التفسير المهيمن للعالم المادي. ولم تتخذ نظريات القرن العشرين هذه الطرق السهلة مثل «نسبنة العلم»، أو «جعله اجتماعيًّا»، أو «إضفاء الطابع الخرافي» عليه. بدلًا من كل ذلك، أعادت تلك النظريات توصيف «الأسطورة». فهي لا تعتبر تفسيرًا، بينما لا تزال تدور حول العالم، وفي هذه الحالة تختلف وظيفتها عن وظيفة العلم (مالينوفسكي، إلياد)، أو أن الأسطورة، بتفسيرها رمزيًّا، لا تدور حول العالم المادي (بولتمان، يوناس، كامو)، أو كلا الأمرين (فرويد، رانك، يونج، كامبل). وفي القرن العشرين، جرى التوفيق بين الأسطورة والعلم من خلال إعادة صياغة الأسطورة، وليس من خلال إعادة صياغة العلم. ومع نهاية القرن العشرين فقط، مع صعود ما بعد الحداثة، تم التشكيك في التسليم بالعلم.

بقدر ما لم تتحدَّ نظريات القرن العشرين سيادة العلم، لماذا يعبأ المرء بالتوفيق بين الأسطورة والعلم؟ لماذا لا يقبل المرء ببساطة رؤية القرن التاسع عشر ويتخلص من الأسطورة لصالح العلم؟ تمثلت إجابة القرن العشرين في أن اختزال الأسطورة في التفسير الحرفي (تايلور) أو الوصف الرمزي (فريزر) للأحداث المادية، يؤدي إلى الفشل في تفسير عدد من «الوظائف» و«المعاني» الأخرى التي تنطوي عليها الأسطورة. ويتمثل الدليل الدامغ على وجود هذه الوظائف والمعاني الأخرى في أن الأسطورة لا تزال موجودة. فإذا كان تايلور وفريزر على صواب، لتلاشت الأسطورة منذ زمن طويل.

دي دبليو وينيكوت

في القرن الحادي والعشرين، يتمثل السؤال الرئيس فيما إذا كان يمكن إعادة الأسطورة إلى العالم الخارجي مجددًا، دون استبعاد سلطة العلم ببساطة. أقترحُ لتحقيق ذلك إخضاع الأسطورة لتحليل اللعب الذي قام به المعالج والمحلل النفسي للأطفال إنجليزي الجنسية دي دبليو وينيكوت (١٨٩٦–١٩٧١).

يرى وينيكوت أن اللعب «مُعترف» به على أنه شيء مغاير للواقع: إذ يسلم الأطفال بأنهم يلعبون وحسب. ويمنح اللعب نفسه الحق في اعتبار الملعقة قطارًا، ولا يُسمح لأحد الأبوين بالسؤال عما إذا كانت الملعقة تعتبر قطارًا بالفعل أم لا. في المقابل، يتعدى اللعب حدود الخيال والهروب. فهو بناء لواقع له معنى شخصي. يأخذ اللعب شيئًا من العالم اليومي — ملعقة — ويحوله إلى ما هو أكثر، قطار.

وبتوسيع نطاق اللعب من جانب البالغين، يشير وينيكوت، كما هو معهود عند الإنجليز، إلى البستنة والطهي؛ المجالين اللذين يخلق فيهما المرء عالمًا له معنى شخصي من عناصر موجودة في العالم الخارجي. ويشير وينيكوت أيضًا إلى الفن والدين اللذين يبني المرء فيهما عالمًا له معنى أعمق:

من المفترض هنا ألا تكتمل مهمة قبول الواقع أبدًا، وألا يتحرر البشر من قيود الصلة المعقودة بين الواقع الداخلي والخارجي، وأن يحدث التحرر من هذه الصلة عن طريق منطقة وسيطة من التعايش مع الواقع دون رفضه (الفنون، الدين، إلخ). هذه المنطقة الوسيطة إنما هي في اتصال مباشر مع منطقة اللعب للطفل الصغير الذي «ينسى» نفسه أثناء اللعب.

(وينيكوت، «الأشياء والظواهر الانتقالية»، ص١٣)

باستخدام مصطلحات وينيكوت، يعتبر اللعب نشاطًا «انتقاليًّا»، إذ يوفر انتقالًا من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضوج، من العالم الداخلي للخيال إلى الواقع الخارجي، ومن العالم الخارجي المعروف إلى العالم الخارجي المجهول. ومثلما يتعلق الطفل بشيء مادي — دمية — لخلق عالم آمن يمكنه لاحقًا من استكشاف العالم الخارجي بثقة، يتعلق الشخص الناضج بشيء داخلي — هواية، مجال اهتمام، قيمة، أو أسطورة — يمكنه لاحقًا من التعامل مع عالم أكثر اتساعًا. مثلما يعرف الطفل أن الدمية ليست أمه لكنه لا يزال يتعلق بها كما لو كانت كذلك، يدرك الشخص البالغ أن الأسطورة لا تعتبر واقعًا لكنه لا يزال يتمسك بها كما لو كانت كذلك. وبذلك تعتبر الأسطورة «تخيلًا».

مما لا شك فيه أن الأساطير لا يجري التعامل معها جميعًا على أنها تخيلات؛ إذ يمكن اعتبار بعض الأساطير حقائق لا مراء فيها، مثل الأساطير التي تدور حول النهاية الوشيكة للعالم. ويمكن بالتأكيد النظر إلى الأساطير بالطريقتين معًا، مثل الإيمان بالتقدم، والأيديولوجيات، ورؤى العالم مثل الماركسية. وباعتبارها تخيلًا، تعمل هذه الأساطير بمنزلة «المرشد» في العالم أكثر من «تقديم الوصف له».

تنتمي أسطورة «من الأسمال إلى الثروة» إلى هذا النوع من الأساطير — إذا جاز وضع مجرد معتقَد في مصاف الأساطير. ومما لا شك فيه، يمكن اعتبار المعتقد رأيًا متحجرًا — ومن قبيل المفارقة أنه يُعد كذلك في جميع أنحاء العالم كما في أمريكا نفسها — وبذلك يمكن أن يؤدي المعتقد إلى الإحباط والاتهام المضاد إن لم يثمر عن نتائج طيبة. في المقابل، يمكن الاعتقاد في الأسطورة باعتبارها «تخيلًا»؛ لا كتوصيف زائف للحياة الأمريكية بل كتوصيف مأمول لها. ويُنظر إلى أمريكا هنا «كأنها» ملاذ للفرص. ويتمثل المثال المعاصر على هذه الأسطورة في أنتوني روبنز، وهو نموذج لأنجح رجل مبيعات. تتمثل خرافته في قصة؛ قصة صعوده من الفشل إلى النجاح. فما الذي يمنع الآخرين من النجاح، في رأي روبنز؟ عدم المحاولة.

لا مراء، لا تزال أسطورة روبنز تدور حول العالم الاجتماعي وليس العالم المادي. الأفضل، إذن، هي السير الذاتية لأولئك الذين يتمتعون بقدرات تشبه قدرات الآلهة؛ أي المشاهير. فهم من يقود الحملات للقضاء على الفقر والعنصرية والآفات الاجتماعية الأخرى، وليس ذلك فقط؛ بل للقضاء على التلوث، والحد من ظاهرة الاحترار العالمي، وإنقاذ الأنواع البيولوجية. فيستطيع المشاهير القيام بأشياء فشلت أمم بأسرها، بل فشلت الأمم المتحدة، في تحقيقها.

يعتبر نجوم هوليوود هم أعلى المشاهير مقامًا. وعلى غرار المفهوم الشائع للإله الموجود في هوميروس والكتاب المقدس العبري، لا يرى أحد نجوم هوليوود شخصيًّا، وعندما يُنظر إليهم عبر الشاشة، فإن حجمهم يكون كبيرًا للغاية، ويستطيعون فعل أي شيء، والتخفي، كما يجري تخليدهم في أفلامهم. ويمتلك نجوم هوليوود صفات مثيرة جدًّا تصل لحد اعتبارها خارقة: فهم لا يتميزون بالشجاعة فحسب بل لا يخافون، ولا يتميزون بالعطف فحسب بل يصلون لمرتبة القداسة، ولا يتميزون بالقوة فحسب بل بالمقدرة، ولا يتميزون بالحكمة فقط بل بالعلم بكل شيء.

وربما يعترض أحد المتشككين بقول إن الآلهة تعتبر آلهة في السر والعلن، وبأن نجوم الأفلام ليسوا سوى نجوم على الشاشة فقط وليسوا سوى بشر خارجها. في المقابل، لا يميز معظم المعجبين بين أي من ذلك؛ إذ يتوقع المعجبون توفر الصفات في الشاشة وخارجها. في حقيقة الأمر، يُفترض أن يمثِّل نجوم الأفلام أنفسهم على الشاشة، «يمثلون» ما سيفعلونه في المواقف التي هم فيها. ولكن يشعر المعجبون بالإحباط عندما يعلمون بأن «الحياة الحقيقية» لممثليهم المفضلين تبعد كثيرًا عن أدوارهم، وهو ما ينطبق حرفيًّا على ميل جيبسون الذي لا يتميز في الواقع بالطول الفارع. وذات مرة اضطر روبرت ميتشوم أن يحذر معجبيه بألا يتوقعون منه وضع أي استراتيجية عسكرية. واضطرت جريتا جاربو إلى الانعزال بعيدًا بعد الكِبر للاحتفاظ بصورتها الشابة في أذهان المعجبين. ولا يستطيع الممثلون المثليون في هوليوود الإعلان عن هويتهم الجنسية، خوفًا من ألا يجري الاستعانة بهم في أدوار غير مثلية؛ كما أن توم كروز ملزمٌ من الناحية المهنية بمقاضاة كل من يصفه بأنه مثلي.

ربما يُقال إنه حيثما تولد الآلهة، تُصنع نجوم الأفلام. غير أنه من المعروف كيف يصبح الأمر خاضعًا لتقلبات المزاج ليصبح المرء نجم أفلام. في المقابل، يعتقد معظم المعجبين مما لا يدع مجالًا للشك أن نجوم الأفلام يولدون، لا يُصنعون. فعندما رؤيت لانا تيرنر تشرب لبنًا مخفوقًا في صيدلية شواب في شارع هوليوود بوليفارد، اكتُشفت، ولم تُخترع.

وربما يُقال أيضًا إن نجوم الأفلام لا يستطيعون فعل ما يريدون، على عكس الآلهة. في المقابل، يفترض معظم المعجبين أن النجوم محصنون ضد القوانين التي تنطبق على الجميع؛ بناءً عليه، يشعر المعجبون بالصدمة عندما يتعرض نجومهم المفضلون للقبض عليهم لتناولهم المخدرات (روبرت داوني الابن)، أو السرقة من المتاجر (وينونا رايدر)، أو ممارسة الجنس مع الأطفال (مايكل جاكسون).

ومن دارج القول أن نجوم الأفلام المعاصرين ينتمون إلى طيف أوسع من أنواع الشخصيات هذه، وأنهم أضداد أبطال قدر كونهم أبطالًا. ولا يزال نجوم الشباك — رجالًا أم نساءً على حد سواء — يظهرون على الشاشة على نحو مناسب للدور الذي يؤدونه؛ وبذلك فإن المظهر، لا القدرة على التمثيل، هو الذي يضع النجوم في مرتبة نجوم الشباك.

إن المصطلحات المستخدمة للتعبير عن إعجاب الناس بالنجوم تعبر عما نطرحه، مثل «تأليه» النجوم و«عبادتهم». ويُطلق على أعظم الممثلين «آلهة». ولأنهم «نجوم»، يلمعون في سماء عالية بعيدة عنا، وبذلك «يُتيم» المعجبون بهم.

في مقابل طرحي بأن نجوم الأفلام يعتبرون آلهة حديثة، ثمة طرح مناقض ذو معقولية يقضي بأنه لا يصدق أحد اليوم هذه المبالغة، ولا يعتقد أحد أن نجوم هوليوود يختلفون عني وعنك. وبينما قد يكون لهؤلاء النجوم دخل أعلى، فإنهم يواجهون العقبات والمصاعب نفسها مثلنا جميعًا. فماذا يمكن أن يحقق أرباحًا أكثر من نسخة «غير مصرح بها» لسيرة أحد النجوم، سيرة تنزل بالنجم من عليائه؟ إن أفضل ما يفعله الكشف عن التباين — حال تمييزه بلطف — بين روك هدسون على الشاشة، النموذج المثالي للرجل الجذاب السوي، وروك هدسون، الذي يذبل جراء مرض الإيدز؛ هو استيضاح الفرق بين الشخصية على الشاشة والواقع خارجها.

في المقابل، تعتبر هذه النظرة الواقعية العنيدة إلى معجبي هذه الأيام نظرة ساذجة. فلا يزال المعجبون «يؤلهون» و«يعبدون» النجوم، لا عن جهل بعيوب نجومهم بل تحديًا لها. فيتم إنكار العيوب أو التقليل من شأنها. وليس الأمر أن المعجبين لا يعلمون بوجودها بل إنهم لا يريدون أن يعرفوها، أو لا يَعبَئون بها. في المقابل، إن إخلاصهم للنجوم لا يعوزه التفكير؛ فهم يبرزونه عن وعي. يعني ذلك أن إخلاصهم يقع في نطاق التخيل — وفق وينيكوت — وليس في نطاق السذاجة. وهذا الإخلاص يتطلب منهم رفض السماح للأدلة المضادة بتغيير وجهة نظرهم عنهم.

يحث الذهاب إلى السينما على تأليه نجوم الأفلام؛ إذ تحجب السينما العالم الخارجي وتستبدل به عالمًا خاصًّا بها. وكلما كان الفيلم أعلى جودة، تناسى الجمهور أين هم وازداد تخيلهم لأنفسهم في الزمان والمكان المعروض على الشاشة. ففي الأفلام يتم السماح بأشياء لا تحدث أبدًا في «العالم الواقعي» المعروف. وفي الأفلام، مثلما في السماء، كل شيء ممكن. وتعبر عبارة «فقط في الأفلام» عن هذه الفكرة. فيمثل الذهاب للسينما تعليقًا لإنكار الأشياء، ويعتبر موافقة على «الاشتراك في التمثيل». وتتمثل الفائدة النهائية من الذهاب إلى السينما في مقابلة الممثلين أنفسهم، حتى وإن كان ذلك على الشاشة. فيشبه الذهاب إلى السينما الذهاب إلى الكنيسة: إلى مكان محدد قائم بذاته يجد المرء فيه الإله على الأرجح. ويمزج الذهاب إلى السينما بين الأسطورة والطقس ويعود بالآلهة — ومن ثم الأساطير — إلى العالم، وهو ما يحدث دون ازدراء العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤