نور القمر

١

تَجرِبةٌ جنونية، انتشر نبضها في زمان الوداع، وانغرست جذورها في طمي النيل، تحت ظلال النخيل واللبلاب والجازورينا، مُهومة في الحي الرنَّان ذي الإيحاءات اللانهائية، روض الفرج. اهتدائي إليه مصيرٌ حتمي؛ فهو مصيف من يبهظه الرحيل إلى الإسكندرية أو رأس البر. وهناك وجدت مقلدًا لكشكش بيه، وآخر لبربري مصر الوحيد، ثم قادتني قدماي — من باب العلم بالشيء — إلى كازينو «الواق الواق» فقضيت سهرة سماع لصوت «نور القمر».

لعله أصغر المسارح، يقع في نهاية الخط، مرسوم على هيئة سفينة، تُطوِّق جانبَيه أشجارُ الياسمين والحنَّاء واللبلاب، ومقاصير أهل الخلوة، وتشغل وسطَه صفوفُ الكراسي الخيزران. يُقدِّم أول ما يُقدِّم تواشيح عريقة، فرقصة شرقية، ثم يُرفَع الستار عن «نور القمر» وتختها المُكوَّن من القانون والعُود والكمان والرق وأربعة من السنِّيدة العجائز.

رفعت إلى المطربة عينَين فاترتين، شيء أرعشني كجرس تنبيه، انحصر وعيي كله في النظر، لم أسمع من الغناء إلا أصداءً مُتلاشية، انسحب مني الماضي وذاب، واتَّجهت بدفعة من المجهول نحو قبلة جديدة، منذ تلك اللحظة أمسى «الواق الواق» مقصدي كل ليلة طوالَ فصل الصيف، لم أهجره ولكنه هجرني بانتهاء المصيف وإغلاق المسارح والكازينوهات، وتحول روض الفرج إلى مرفأ لسفن الغلال.

٢

من هي «نور القمر»؟

امرأةٌ ناضجة، تتألق بأبَّهة الأنوثة الكاملة؛ لعلها في الثلاثين، تختلف الآراء في تقدير سنها بحسب الأهواء، لا تجد عند أحد معلومةً شافية عنها. قوًى مجهولة تعزلها عن الناس في موسم العمل ثم سرعان ما تختفي بقية العام. جميع السكارى يتكاشفون بعذوبة جمالها، ولكنني — فيما بدا لي — خُصصت بالهيام بها لحد الجنون. ماذا جرى؟ إنهم مُنهمِكون في الأكل والشرب والضحك والطرب، وإعجابهم بها عابر، على حين سلبت مني — بشراهة — الروح والجسد. ويقول من يدَّعون الخبرة: صوتها رقيقٌ محبوب.

فأقول: ولكنها لا تُغنِّي إلا الأغاني القديمة، وفي اعتقادي أن أي مُلحِّن معاصر يسرُّه أن يُلحِّن لها.

– ولمَ تدفن نفسها في روض الفرج؟

– من يدري؟

من يدري حقًّا؟ إنها سرٌّ مُغلَق. عِلمي بها — كالآخرين — محدود جدًّا، أما هيامي فلا حدود له. على أي حال لم أعرف في حياتي الانطواء أو السلبية.

٣

ولكن من أنا؟

من ذوي المعاشات، في الخمسين من العمر، أعزب، ليس بيني وبين المرآة التي تعكس صورتي أي ضيق أو اعتراض. أحب الطعام الجيد، أكول، أُحسنُ طهي ألوان من الطعام كأمهر الطهاة، ضحوك، صافي السريرة غير أن عزوبتي ركَّزت اهتمامي في ذاتي فعَلِقت بي أنانيةٌ طفولية. كنت ضابطًا بالجيش، أدركني المعاش وأنا صاغٍ في الخامسة والأربعين من عمري. خدمت في السودان والصعيد والسلوم. وكنت طوال عمري جامح الأهواء، مُغرَمًا بالنساء، سيِّئ السمعة. في صِباي وشبابي خيَّبت أمل والديَّ رغم أني كنت وحيدهما. بذلا جهدًا طموحًا ليجعلا مني طبيبًا أو وكيل نيابة، ولكنني لم أظفر بالابتدائية إلا بطلوع الروح وقد جاوزت الخامسة عشرة. لذت بالمدرسة الحربية كآخر معقل للأمل كي تجعل مني شيئًا ما، وكنت بدينًا مُفرِطًا في البدانة. رمقني ناظر المدرسة الإنجليزي بدهشة كأنه يتساءل عما جاء بي، ولكني أظهرت من البراعة في السباحة والعَدْو ما سرَّه وفتح قلبه لي، فقَبِلني أو أصرَّ على قَبولي وهو الأصح. كان الفشل هو ما يدفعنا إلى المدرسة الحربية، لا الوطنية ولا الروح العسكرية، غير أن الروح تتولد بطريقةٍ ما. أما الوطنية فقد تكفَّلت بها ثورة ١٩١٩. وقد اشتركت في مظاهرة المدرسة الحربية المشهورة، وأصابني جندي إنجليزي بالسونكي في وركي، ولولا العفو العامُّ لفُصلت من المدرسة وخابَ آخر رجاء في وظيفة محترمة نوعًا ما. وتخرَّجت مُلازمًا ثانيًا في نهاية أربعة أعوام دراسية، منها عام عقوبة لاشتراكي في المظاهرة. وفي الترام سمعت أحدهم يهمس: كل هذا البدن ومُلازم ثانٍ فقط؟!

فهمس آخر: إنه في وزن لواء.

وكان اللواءات في تلك الأيام ذوي كروش وبدانة، تحسبهم قصَّابين لا عسكريين. ومات والداي، وامتدَّت خدمتي خمسة وعشرين عامًا، ثم أدركني المعاش فوجدت نفسي ضخمًا وحيدًا ضائعًا يعيش في زنزانة انفرادية في صورة شقة. رسمت خطة لإنقاص وزني فصِرت مقبولًا، وفترت بهجة الطعام والنساء، وكان الشِّعر يستهويني فقرَّرت أن أتَّخذ من حافظ إبراهيم مثالًا على نحوٍ ما، وشغلت وقت وحدتي بالقراءة في شتى المعارف الدنيوية والدينية، وبتُّ من رُوَّاد قهوة المالية — قهوة أصحاب المعاشات — ألعب النرد والدومينو، وأتكلَّم في السياسة وأعلق على الأحداث، أُفلسفها مُستعينًا بثقافتي المُتنامية، ثم أنضمُّ لكثيرين لأداء صلاة الجمعة. ورحم كثيرون وحدتي فاقترحوا عليَّ أن أتزوَّج.

– الخمسون مقبولة، صحتك جيدة، لم تشب شعرةٌ واحدة في رأسك بعد، والجنس يعيش في مثل هذه الظروف حتى آخر العمر.

فكَّرت في ذلك باهتمامٍ فاق تصوُّري، ولكن ثبَّط هِمَّتي أن ظروفي لن تُرشِّحني إلا لامرأةٍ يائسة، وقد أبَيت ذلك. الحق أني اعتدلت في شهواتي؛ ربما كردِّ فِعل لما سبق، وقنعت أكثر الوقت بمراقبة الهوانم من موقعي في القهوة، ونادرًا ما وجدت الدافع القويَّ لمطاردة إحداهن. أصبح لهن في قلبي أكثر من مُنافس كالكتاب والمسرح والسينما والأصحاب المدنيين، حتى اقتادني مصيري المحتوم إلى «الواق الواق».

٤

عرفتُ الحب لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تسمع عنه كل حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريسته، يَسلبُه أيَّ قوة دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنون في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي. تلاشى شخصي القديم تمامًا وحلَّ محلَّه آخرُ بلا تراث ولا مبادئ، ينقضُّ على مصيره بعينَين معصوبتين.

وجعلت أتساءل: «كيف الوصول إلى نور القمر؟»

إنها تُغنِّي وصلتَين ثم تختفي حتى مساء اليوم التالي، لا تُرى إلا فوق المسرح. لم تذهب إلى مقصورةٍ قط. الراقصة وجوقتها يفعلن ذلك، ويسعين إليه، أما هي فما إن تفرغ من الغناء حتى تتلاشى في الكون. وإني رجل في الخمسين، محدود الدخل، لا جاه ولا مركز، لا قدرة لي على حيازتها، ولا أدري إن كانت تقبل علاقةً عابرة، أما ابتغاء الرضا والحب فما أبعده عن تصور من كان في مثل سنِّي وحالي، وأما الزواج فماذا يعني لها إن لم يعنِ الأبهة والرفاهية؟!

أشار عليَّ العقل بأن أقتلع فِكرتها من نفسي المُعذَّبة، ولكن ليس للعقل صوت يُسمَع في ضجة أهازيج الهوى، وصخب أمواجه العاتية، وأزيز أعاصيره الهوج.

وأعجب من ذلك كله أن يتحول خبير الأطعمة المُتقَنة، زير النساء، إلى مجنونٍ مُلهَم، يهيم في دنيا الحب المُترَعة بالأسرار، يُخاطب بأنينه المجهول، ويجدُّ في البحث عن لا شيء في كل شيء، في ضياء الشمس، بهاء القمر، وهج النجوم، ثراء السُّحب، أريج الأزهار، سلاسة الماء؛ فقد غطَّت نور القمر على حياتي وحياة الكون من حولي.

٥

وفي بوتقة الهجران يُبعَث القلب ويتطهَّر ولو كان في الأصل غليظًا مُشبعًا بالإثم. وقد خبرت الضحك والسخرية والشهوات فآن لي أن أعرف الشجى وأترنَّم بألحان الأسى.

مضيت أنسحب برفق من جو أصحاب المعاش، من الثرثرة والمقامرة والشراب والخوف من الموت. ملأتْ نور القمر وجداني واستأثرت بوعيي. أبَيت الاستسلام للقهر والهزيمة. جعلت أشجِّع نفسي وأضرب لها الأمثال من ماضيَّ؛ استهتاري الفائق، ومغامراتي الجريئة، واقتحاماتي المُذهلة. عبدت دائمًا ما أهوى وأريد، واستهنت دائمًا بالتقاليد والسمعة والقيل والقال. وموقفي يوم المظاهرة المشهورة هل يُنسى؟ لقد أضربنا وذهبنا إلى مدرسة الشرطة، هتفنا بالإضراب. ولما وجدنا ترددًا أطلقت رصاصة في الهواء، وتحدَّيت بدانتي فكنت أعدو بسرعة الريح كأني برميل بخاري. مُحالٌ أن أتقاعس يا نور القمر.

٦

وصمَّمت ذات ليلة، سمعت الوصلة الأولى وكانت:

كادني الهوى وصبحت عليل.

ثم غادرت مجلسي ماضيًا إلى الباب الخلفي للكازينو. اعترضني البوَّاب فقلت بكبرياء: أعرف طريقي.

سرعان ما جاءني الجرسون حمُّودة مُبتسمًا مُتسائلًا: أي خدمة يا بيه؟

– حمودة، أرغب في مقابلة نور القمر لأُهديَها إعجابي.

– الجميع يُعلِنون الإعجاب بالتصفيق.

– ولكني أريد أن أُقدِّمه بنفسي.

– ممنوع.

فتساءلت بحدة: من صاحب هذا الأمر السخيف؟

– أصحاب الشأن في الكازينو، ما أنا إلا عبدٌ مأمور.

– ولكن لماذا؟

– لا أدري يا سيدي، جميع الزبائن يعرفون ذلك.

فقلت بعجرفة: ولكنني سأدخل.

فقال بتوسل يليق بزبون دائم مثلي: أرجوك يا بيه.

– على مسئوليَّتي.

– هناك سنجة الترام.

أفقت من غضبي. سنجة الترام هو فتوة المحل وحاميه. لا قِبَل لي به فضلًا عن أنني في الخمسين من العمر، تراجعت مُتسائلًا في استنكار: لهذا الحد؟

– أنت بيه محترم ولا يليق بك الشغب.

تنهَّدت لأُروِّح عن غيظي وقلت له: إذَن فعليك أن تُبلِّغها إعجابي.

فقال بأسف: ولا هذا.

– أمرٌ غريب حقًّا.

– ما باليد حيلة.

– لماذا لا تفعل كما تفعل الراقصة وجوقتها؟

فقال وهو يحني رأسه: الراقصة وجوقتها تحت أمرك.

٧

إن هي إلا جولةٌ خاسرة، ولكنها ليست كل شيء. الطريق طويل والزمن طويل. ها هو صوتك الحنون يتسرَّب إلى أعماقي مُعطَّرًا بالفتنة وليس بيني وبينك إلا خطوات. لو كان لي أنف كلب لشممت أنفاسك. لو كان لكِ قلب لركزت بصرك على عابدك. ولو أعيَتني السُّبل المادية في الوصول إليك فثَمَّة قوة الحب ستصنع معجزةً فائقة للعقل في الوصول إليك هازئةً بأعيُن الحراس. في تلك الليلة تعمَّدت التأخير حتى استقللت الترام الأخير، واخترت مجلسي إلى جانب الجرسون حمُّودة، دفعت عنه ثمن التذكرة فاستعدَّ الرجل للحديث المُتوقَّع. ولما غاص الترام في الظلام شاقًّا طريقه بين الحقول تساءلت: ما معنى هذا يا حمودة؟

– تسأل عن نور القمر؟ .. هذا هو الواقع.

– أهي سيدةٌ مَصُونة حقًّا؟

– هي كذلك فيما نرى.

– وما السر؟

– لا عِلم لي به.

– يوجد سر ولا شك.

– عِلمي عِلمك.

– إنك تعرف السر ولكنك تمكر بي.

– صدِّقني، ليس عندي أكثر مما قلت.

– هل تؤمن بالخرافات؟

– إنها حقيقة لا خرافة.

– هل تُصدِّقها؟

– فلْنُسلم بأنها شاذَّة، ما الفائدة؟

– عندك تفسير لها؟

– لا أشغل نفسي بالتفكير في ذلك.

– وراءك أشياء ولا شك.

– أبدًا، صدِّقني.

– هل تذهب نور القمر عقب العمل وحدها؟

– كما ترى فإني أذهب قبل ذلك حتى لا يفوتني الترام الأخير.

– بأي وسيلة تذهب هي؟

– ربما تاكسي، حنطور المدير موسى القبلي، فورد صاحب الكازينو حفني داود، من يدري؟

– الآن فهمت.

– ماذا فهمتَ يا سيدي؟

– إنها عشيقة أحد الرَّجلَين!

– الله وحده يعلم.

– ألا يعرف أحد شيئًا عن سيرتها الخاصة؟!

– نحن نتجنَّب الفضول حفظًا على رزقنا.

– أين تسكن المرأة؟

– لا أدري.

فتنهَّدت وقلت بنبرة اعتراف: حمودة، أنت تدرك ولا شك ما وراء أسئلتي المُلحَّة.

– أجل يا بيه.

– والعمل؟

– ما باليد حيلة .. النساء كثيرات .. وكلهن في النهاية طعامٌ واحد.

أهديت إليه سيجارة، غمزته ببريزة، ولكنه قال: إني لا أخدعك، وليس عندي مُقابل.

– حمودة!

– صدِّقني، لقد وقع في هواها عمدة صعيدي واسع الثراء، ولكن ماذا أفاد؟

فهتفت بغيظ: إن ملكة مصر أيسر منالًا من ذلك.

– هذا هو الواقع.

وتفكَّرت مليًّا ثم سألته: سنجة الترام رجلٌ قوي، هل يمكن الاستعانة به؟

– لا أدري، جرِّب إن شئت.

حقًّا إن مجرد الاتصال به مهانةٌ ما بعدها مهانة، ولكن ما الحيلة؟ سألته: هل تُساعدني في ذلك؟

– إنه صاحب غرزة تبدأ عقب التشطيب.

ازددت امتعاضًا وأنا أسأل: أين؟

– قارب شراعي …

– ممكن تُمهِّد لي السبيل باعتباري من أصحاب المزاج؟

– هذا ممكن.

٨

لم أكُن يومًا من أصحاب المزاج. إني من أصحاب الأمزجة الفوَّارة التي لا تتلاءم مع المُخدِّرات. وقد دخَّنت مرةً البانجو في السودان، وسرعان ما غشيَني النوم فتوكَّد نفوري من المُخدِّرات. وفي مثل الحال التي أنا مُقبِل عليها بوسعي أن أُمثِّل وأن أتجنَّب التدخين الحقيقي. ما العمل وجنوني يستفحل؟ لقد ضاعت مني نفسي. جعلت أنظر إليها — كغريب — بعين الرثاء والأسى، وهان عليَّ أن أسعى لمصادقة سنجة الترام. وهو ربعةٌ متين البنيان ضخم الرأس والوجه، في جبينه ثلاث ندبات وفي أنفه اعوجاج، واسع الأشداق كأنه من أكَلة الأحجار. وسرعان ما حسبت تكاليف السهرة فوجدتها — مع الإكرام — تستهلك خمسين قرشًا، وهو قدر لا يُستهان به، مع الاستمرار الذي يقتضيه توثيق العلاقة.

تسلَّلت إلى القارب فصافَحني على ضوء شعلة عربة ترمس وتمتم: أهلًا.

فشددت على اليد الغليظة وأنا أقول: مساء الخير يا معلم سنجة.

وانغرست على جانب وسط تكتُّل من الأوباش، وانساب القارب فوق الماء الرزين واهبًا ذاته المُتأرجحة لظلامٍ دامس تُشعشعه أضواء النجوم كالهمسات. لعلهم من تجار الغلال والبصل، يُنكِّتون ويُقهقهون بفظاظة. ودارت علينا الجوزة لدى امتلاء الشراع بالهواء، ولاطَفتنا نسائم مُعطَّرة برائحة النيل. ورغم حذري ثَقُل رأسي، وناء قلبي بالحزن. ومن حسن الحظ أن أحدًا لم يهتمَّ بأحد؛ فلم أُضطرَّ إلى الخروج من صمتي وأفكاري. وعند الورَّاق غادرَنا البعض، وانفضَّ السامر عند الفجر.

٩

وُثِّقت المساهرة بيني وبين سنجة الترام؛ مساء الخير يا معلم سنجة، مساء الخير يا أنور بيه. دعوته للغداء عند الدهَّان فدعاني للغداء في المذبح. وجدتني أندمج في أوساط البلطجية وتجار المُخدِّرات. أرهقني الخزي والحزن، عجبت لتدهوري، وكيف ساقني إليه أنقى وأصدق عاطفة شدا بها قلبي. أجل طالما تحدَّيت التقاليد والحرص على السمعة الطيبة، ولكن عربدة العشاق شيء ومخالطة الأوباش شيءٌ آخر. ولم أعد أختلف إلى المقهى إلا في النادر. وخمَّن الصحاب أن في الأمر امرأة ولكنهم لم يتصوروا أي امرأة تكون، ولا أي تدهور دُفعت إليه بيد حبها الناعمة، وطبعًا كتمت سِري حتى لا أكون حديث الجاد والساخر. كذلك ندر الوقت الموهوب للقراءة، غير أن بعض الشِّعر الذي سبقت لي معاشرته امتلأ بحياةٍ جديدة وتبدَّى بحسنٍ جديد وتفجَّر عن قوًى جديدة، فأدركت أن جمال الشعر لا يكمن في ألفاظه وموسيقاه وصوره، ولكنه يكمن قبل كل شيء في القلب البشري.

وفي تلك الفترة من حياتي زارتني عمَّتي نظيمة، أرملة في الستين، بكريُّها مهندس مقاول قدُّ الدنيا، وشقيقه موظف دبلوماسي في سفارتنا بالحبشة. قالت: انقطعت عني منذ مدة ولكني لا أنساك.

فلثمت خدها النحيل مُمتنًّا، وجعلت تتفحَّصني باهتمامٍ أثار قلقي، ثم تساءلت: حتى متى ترضى بهذه الحياة المُقفِرة؟

أدركت أنها تعود إلى موضوعها المُفضَّل وهو «الزواج»، فقلت: اعتدت يا عمتي العزوبة.

فقالت بحرارة: عادةٌ سيئة، ضد مشيئة الله.

– كل شيء بمشيئة الله يا عمتي.

احتست الشاي وهي تفكر، ثم قالت بنبراتٍ جديدة تمامًا: أنور .. حدَّثني حمدي حديثًا لا يُصدَّق.

حمدي مأمور شرطة وزوج ابنتها الوحيدة، وقد اضطرب قلبي وتساءلت: ماذا؟

– قال إنك تُصاحب قومًا ليسوا من أصلك ولا مستواك.

فزعت، هل تتفشَّى الأسرار بهذه القوة؟ قلت مُدافعًا: كلنا أولاد حواء وآدم.

– ولكنهما أنجبا قابيل كما أنجبا هابيل.

وقرأتْ في وجهي ولا شك تحرُّجي وضيقي، فقالت برقة: أردت أن أحذِّرك فسامِحْني.

١٠

تألَّمت ولكني لم أُبالِ. عزمت على مزيد من الخطوات المُسدَّدة. ها هو سنجة الترام يتردد على شقَّتي في المنيرة رافعًا الكُلفة. يتناول الطعام أحيانًا، وأحيانًا يضطجع نائمًا، ومرَّات أودَعَ عندي حشيشه بعيدًا عن أي مظنَّة. أصبح البيت بيته ابن القديمة، وحُمتُ حوله مُتحيِّنًا الفرص. آنَس إليَّ فروى لي قصة حياته منذ نشأته في سوق الزلط؛ معاركه، سجنه، بلاءه في ثورة ١٩١٩، حتى اختير فتوة لكازينو «الواق الواق».

– موسى القبلي هو الذي اتفق معي.

– المدير؟

– نعم.

فقلت بمكر: يُقال إنه قريب لنور القمر.

– كلامٌ فارغ.

– بذلك يُفسِّرون عُزلتها الغريبة.

– سكارى وأغبياء.

– أصل عزلتها تُثير القيل والقال.

– إنها حرةٌ تفعل ما تشاء.

– تعني أنها هي التي ترفض المؤانسة؟

– عِلمي عِلمك، ما يهمُّني أنني مُكلَّف بإبعاد من تُحدِّثه نفسه بالاقتراب منها.

– بلا علم بسبب ذلك؟

– ليكُن ما يكون. هَبْها امرأةً مصونة، أو رجلًا مُتنكرًا في صورة امرأة، أو عشيقة للمدير أو صاحب الكازينو، ماذا يهم؟ من حسن الحظ أنني لا أرغب فيها.

وضحكنا طويلًا، ثم سألته: ماذا كنت تفعل؟

– كنت أقتحم الحارس والمحروس.

فقلت بدهاء: ظننت أن الأسرار لا تغيب عن رجلٍ مِثلك؟

– الأسرار التي تهمُّني فقط.

– ألستَ صديق المدير وصاحب الكازينو؟

– لك أن تعتبرني صديق الجميع، ولك أن تعتبرني بلا أصدقاء.

وكنت عرفت من طبعه أنه لا يُطيق سماع ثناء على أحد، فقلت: يبدو أن المدير رجلٌ محترم.

فقال ساخرًا: ما هو إلا قوَّاد.

– قوَّاد؟!

– صاحب بيت دعارة.

انبهر رأسي بضوء فوسفوري مُباغِت. هل يستغلُّ نور القمر بطريقةٍ مُحنَّكة؟ يا لخيبة الأمل إذا لم تكُن المرأة إلا مُومسًا؟! ولكن حتى هذا الفرض لم يُطفئ لمعة الوجد في قلبي، بل لعله أرَّثها بفتح باب يسير للوصول. وصبرت حتى دار رأس سنجة ورقص الانسجام في مخايله فسألته: ما رأيك في سهرة في بيت موسى القبلي؟

فقال بازدراء: أعوذ بالله.

– من باب العلم بالشيء؟

– ولكنك كهلٌ محترم وأب.

فقلت ضاحكًا: لست إلا أعزب.

– أعوذ بالله.

ثم مُستدركًا: وكيف تعيش بنصف دين؟

فقلت لنفسي بأسًى: «حقًّا ينقصني النصف الآخر.»

١١

قلت للجرسون حمودة وأنا أغمزه ببريزة: دُلَّني على بيت موسى القبلي.

ابتسم الرجل ابتسامةً عريضة، غمز بعينَيه، قال: بريزة أخرى.

فأثنيت في سِري على صدق فِراستي.

١٢

البيت في أول شارع مهران السندي المُتفرِّع من شارع دوبريه، شقة أنيقة صامتة، الأبواب مُغلَقة، كأنها خالية. قدَّمني حمودة إلى موسى القبلي فتلقَّاني بوجهٍ ودود غير الوجه الذي يُدير به الكازينو. وقلت لنفسي من بلطجي إلى قوَّاد يا قلبي لا تحزن. أما هو فقال بلا حياء: جنيهان من فضلك.

دفعتهما بلا تردد فقال: آخر حجرة في الدهليز، هل تريد شرابًا؟ .. زجاجة الأوتار بجنيه واحد.

اللص .. إنها في السوق بثلاثين قرشًا. قلت مُعتذرًا: ربما في المرة القادمة.

فقال بشيء من الفتور: الهدوء هنا مهم جدًّا.

١٣

كم لعب الأمل بقلبي أن أجدها عقب فتح الباب، ولكن المعجزة لا تقع بمثل هذه السهولة. ها هي امرأةٌ أخرى لا رغبة لي فيها، تنضمُّ إلى سلسلة المغامرات العقيمة المُتلاشية في العدم واللامُبالاة. وقرَّرت أن أحُوز ثقة موسى القبلي ورضاه، كما فعلت مع حمودة وسنجة الترام. وسطاء سوء ولكن بيد أحدهم مِفتاح الكنز. مثل هذا العناء تُكابده الشجرة حتى يتمخَّض ليلها الطويل عن زهرةٍ ضاحكة.

واقترحت عليه — موسى القبلي — في المرَّات التالية أن أُشاربه في حجرته الخاصة قبل الذهاب إلى حجرتي المقسومة. انبسط واعتبر ذلك تحيةً فريدة. وذات ليلة قال لي: علمت أنك من زبائن «الواق الواق»؟

– ألم تقع عيناك عليَّ؟ .. طالما رأيتك وأُعجبت بإدارتك.

– الأمر مختلفٌ غير أن وجهك بدا لي غير غريب وأنت تُطالعني هنا لأول مرة.

شجَّعته على الشراب وقلت: إني أشرب في اعتدال لأسبابٍ صحية.

– لكنها مفيدة للصحة.

فقلت ضاحكًا: الأمر مختلف.

– موظف؟

– على المعاش.

– لكنك ما زلت في طور الرجولة؟

– الضابط يُحال على المعاش في أي سن.

– كنت ضابط جيش؟

– كنت.

فضحك عاليًا وقال: حلمت في صغري بأن أكون ضابط شرطة.

– مصيرنا في الحياة لا تتحكم فيه رغباتنا.

وهو يضحك مرةً أخرى: على أي حال فعملي ذو علاقة وثيقة بالشرطة.

– فال الله ولا فالك.

– مُتزوج؟

– كلا.

– يندر أن يجيء أحد في سنك.

فقلت ساخرًا: الحياة دائمة التقدم.

– وكيف عرفتَ بيتي؟

– صاحب الحاجة مُستكشِف.

– حمودة؟

– نعم.

– رجلٌ غاية في الفطنة.

فرميت سهمي الأخير قائلًا: وقف مصادفةً على سر شغفي بنور القمر.

رفع حاجبَيه الخفيفين وقال: أنت من عُشَّاقها؟

فحنيت رأسي لبلوغي آخر الأبواب وانتظرت الفرج غير أنه قال: لولا عُزلتها ما أثارت شغف أحد.

– ولكن الشغف سبق اكتشاف عزلتها.

– لا تهتمَّ بالمُمتنع، عندي من هنَّ خير منها.

يا للداهية .. هل خاب المسعى أيضًا؟! .. وانطفأت الجمرات تحت كثافة الرماد.

١٤

وسألني سنجة الترام: كيف تُطيق هذه الوحدة؟

كان قد فرغ من قدح الشاي الرابع فاسترخيت جفونه من السطول، أجبته: العادة أقوى من الوحدة.

– وهل يليق بمثلك التردد على بيت دعارة؟

فلم أُحِر جوابًا، أما هو فقال: اعتزمت على أن أكمل لك نصف دينك.

فضحكت وقلت: إني الأعزب الأبدي يا معلم سنجة.

فقال بصراحةٍ مُخيفة: عندي بنتٌ مُطلَّقة.

لطمني قوله كنذير حريق، أما هو فواصَل: بنت ممتازة، هدية، أوقعها سوء الحظ في رجل لا قيمة له.

ما توقَّعت أن أتعرَّض لغضبه قط. لعنت في سِري الزمان والمكان. قلت: يلزمني تفكيرٌ طويل؛ فالتخلِّي عن عادةٍ مُزمِنة كالعزوبة ليس بالأمر الهيِّن.

١٥

بات الخطر تحتي تمامًا مِثل ظل منتصف النهار. انسحِب من التجرِبة كلها قبل أن يدهمك القضاء. هكذا حاوَرني عقلي، ولكني كنت أحلم بالنجاة وأنا أتدحرج نحو الهاوية. لم تعد قوةٌ بقادرة على صدِّي. الحب المستبدُّ الذي لا قاهر له، ذلك الغول الذي تُغْنيه فريسته عن المطاردة. الحُلم الذي يُزري بكافة الأحلام ويُحوِّلها إلى نُفاية. لم أنقطع عن موسى القبلي جريًا وراء المزيد من الأمل والعرفان. ولما ثمل وانبعث من قلبه الخيال قال: بيتي محترم، ليس بين زبائنه زبون واحد من الرعاع.

ابتسمت مُوافقًا فتساءل: ما رأيك في فتياتنا؟

فقلت بإصرار: اعترفت لك بأني مشغوف بالغناء.

– نور القمر؟

– هو الحق.

– أنت رجلٌ غريب.

– ألم تُحبَّها أنت؟

– كلَّا .. والحمد لله.

– الحمد لله؟!

– لو بدرت مني حركةٌ واحدة تنمُّ عن ميل لفقدت عملي في الحال.

– إذَن فهو حفني داود صاحب الكازينو!

– ماذا تعني؟

– هو العاشق الغيور.

– إنه عجوزٌ ذو وجه قرد.

– ذلك أدعى للغَيرة.

– صدِّقني إنني أتجاهل الأمر كله.

– ولكن عندك أفكار ولا شك.

– ليكُن عاشقها أو أباها .. من يدري؟!

– هل …

– هل …

– هل يعجز مثلك عن مساعدتي؟

– ولمَ أُكدِّر صفوي ومستقبلي بسببك؟

– كصديق.

ولكنه قاطَعني بجفاء: ما أنت إلا مُغرِض.

– لا تسئ بي الظن.

– لا تُحاول إقحامي في هذا الأمر، لا تكن أنانيًّا، غامر بنفسك إذا شئت وإلا فاصرف النظر.

فقلت بحرارة: أقدم لك الأسف والاعتذار!

مضيت أُشاربه دافنًا همِّي في الصمت، ومضى يذوب في النشوة وينفض عن نفسه الكدر، ثم سألني: هل أغضبتك؟

– الحق لا يُغضِب، ولكن كيف عرفت حفني داود؟

– كان ناظر مدرسة أهلية، وكنت كاتب حسابات عنده، وتحت ضغط مراقبة وزارة المعارف ومحاسبتها اضطُرَّ إلى تصفية المشروع، وبعد حين قدم مشروع «الواق الواق» وضمَّني إليه مُديرًا.

– ومتى عملت نور القمر عنده؟

– من أول ليلة، لعله لم يَقُم بالمشروع إلا من أجلها.

– وهو الذي فرض عليها العزلة؟

– على الأقل هو الذي أصدر الأوامر إلينا.

– أتصوَّر أنها تجيء معه وتذهب معه؟

– في الفورد.

– لا شك أنه أصبح ذا مال؟

– أعتقد ذلك.

لم أُهدر الوقت سدًى كما توهَّمت، لقد أثريت بمعلوماتٍ مُفيدة، وتحدَّد سبيلي كما لم يتحدد من قبل. ولن أقطع صلتي بموسى القبلي مُداراةً لنواياي الحقيقية.

١٦

واقتحمني سنجة الترام بزيارة توقَّعتها وخشيتها. وكنت قد تجنَّبت الانفراد به لعله يدرك موقفي من اقتراحه، ولكنه كان مُدمِن بلطجة، مُعتادًا للأخذ دون مُقابل. ورغم المجاملات ران الفتور على اللقاء، وبتخلِّي البشاشة عن قسماته أسفرت عن دمامتها وندرها. تساءل: ماذا جرى؟

إنه يتساءل عن سِر تباعدي رغم وضوحه فيَضطرُّني إلى اختلاق المعاذير. قلت: ليس المزاج على ما يُرام.

فقال بقحة: هذه عاقبة التردد على بيت قوَّاد.

فقلت باستياء: ليس الأمر كذلك.

فسأل ببرود: متى تفي بوعدك؟

– أي وعد يا معلم؟

– ألم نقرأ الفاتحة؟

حملقت فيه بذهول فقال: قُرئت بالقلب، أم وجدتنا دون المقام؟!

– أستغفر الله، المسألة بالنسبة لي قفزةٌ خطيرة.

فقال وهو ينهض: أم وجدتنا دون المقام!

غادرني مُضطربًا. كلا. لم أعرف الجبن في حياتي، ولا كنت ممن تُعرقلهم الخشية على حسن السمعة، لكني شعرت بأنني مُقبِل على عاصفة أو أن عاصفةً مُقبِلة عليَّ. وحتى هذه اللحظة فالنجاة ممكنة. ممكنٌ أن أُسدِل بيدي ستارًا على روض الفرج وبيت موسى القبلي وقارب سنجة، ثم أرجع إلى روتين حياتي السابق بين معاشرة الكتب وسمر قهوة المالية. هذا ممكن نظريًّا، ولكنه مُستحيل في الواقع. الواقع أنني فريسة جنون طاغٍ يلفظ كافة قيم الحياة، ويتركَّز في هدفٍ واحد. ذاك يدفع بي في شبكة من العلاقات المُذهِلة والأخطار المُحدِقة، ويفتح لي طريقًا واحدًا إلى مصيرٍ محتوم.

١٧

تبادلنا الأنخاب، أنا وموسى القبلي. قال وهو يتفحَّصني: لعلك شُفيت من حبك؟

فهززت رأسي نفيًا. قال: إنه أمرٌ مُضحِك وعجيب.

– هل عندك نصيحة؟

– أأنت غني؟

– كلا.

– هذا يعني ضياع ٩٠٪ من الأمل.

– لا مؤهلات من مال أو شباب.

فقال بدهاء: ثَمة وسيلة للشفاء؛ أن تُكثِر من زيارتنا.

– يُخيَّل إليَّ أنك لم تعرف الحب يا موسى؟

– هذا حق.

ثم مُواصِلًا بقحة: الحق أنني لا أحب النساء؛ لذلك أتعامل معهن بمهارةٍ فائقة.

تفكَّرت مليًّا في معنى قوله، ثم سألته: أترى حالي ميئوسًا منها؟

– حدِّثني أولًا عن حبك؟

– ماذا أقول؟ إنها تفرض ذاتها على وجداني وخيالي، أقوى وأعز من الحياة نفسها، لا غنى عنها كما أنه لا غنى للحياة عن أشعة الشمس.

فضحك على رغمه وقال: ما أعجب هذا الكلام يخرج من فم ضابط مُتقاعد خبير بالناس والحياة.

– نحن نعرف معنى الأَسر أكثر من غيرنا.

فضحك مرةً أخرى وقال وقد ثمل: منظرك ضخم لا يُثير الرثاء أبدًا.

فغضبت وقلت له مُوبِّخًا: سكرت عليك اللعنة.

وقبل أن يفتح فاه دق جرس الباب الخارجي.

خفَّ مُسرِعًا مُغادرًا الحجرة. ترامت إليَّ ضجةٌ مُريبة، قمت إلى باب الحجرة وأخرجت رأسي إلى الدهليز. رأيت مجموعة تتدفق من رجال الشرطة والمخبرين.

١٨

لم أشعر — من قبل — بمثل الذعر الذي اجتاحني، تجسَّد لي وجه سنجة الترام وراء الكبسة. انقضَّ عليَّ مخبر فقبض على أعلى الجاكتة، صكَّني بكوعه في صدري وهو يقذفني بوابل من الشتائم. اجتيحت الحجرات، سيق الرجال والنساء عرايا أو شبه عرايا. من حسن الحظ أنني لم أُضبَط مُتلبِّسًا، ولكن أي حسن حظ؟ حاولت أن أهمس بهُويَّتي في أذن الضابط ولكن المخبر أرجعني بلكمة في عنقي. انغمست في العار حتى القمة. دُفعنا إلى السيارة كخراف تُشَد إلى الذبح.

وصلنا إلى القسم وقد استُلَّ مني الإحساس والفكر. وكان تحقيق مهين؛ حُجزت النساء وموسى القبلي، وحُرِّرت المحاضر للرجال ثم أُفرجَ عنهم. غصصت بذروة الألم وأنا أعلن هُويَّتي. غادرت القسم شخصًا جديدًا عاريًا تمامًا.

١٩

ذُكرت الحادثة في صفحة الحوادث الصباحية. لم تُعلَن أسماء — عدا موسى القبلي — وقيل عني: «وضابط جيش مُتقاعد في الخمسين من عمره.» خُيِّل إليَّ أنه إعلان كافٍ لفضحي في محيط الأسرة وفي قهوة المالية. انزويت في شقتي بالمنيرة غارقًا في القرف. طالت لحيتي وأهملت نفسي تمامًا. على تلك الحال زارتني عمتي، وأكَّد لي قلبي بأن صهرها أخبرها بكل شيء. أقنعتني — ما وسعها ذلك — بأن زيارتها عادية. سأصبح حديث الأسرة المحترمة. أبناء عمتي وعمي وخالي أناسٌ محترمون حقًّا، وطالما تبادلنا الازدراء الصامت. لا يُحبُّني في أسرتي أحد إلا عمتي. ها هي تعود إلى حديثها المُفضَّل؛ «الزواج».

– لا تكن عنيدًا.

حدجتها بارتياب فقالت: أهملت نفسك أكثر مما يتصور العقل.

فضحكت ضحكةُ مُتكلَّفة وتساءلت: ماذا عندك من أخبار؟

فضحكت ضحكةً عصبية وتمتمت: تصور.

ثم اغرورقت عيناها وقالت: إنك صورةٌ طبق الأصل من أبيك، لك منزلة في قلبي لا نظير لها، ليتك تعمل بنصيحتي!

٢٠

لم أُفِد من الدرس ما يتوقَّعه العقلاء. قلت إن الجنون حقًّا هو الرجوع بعد ما كان. تخفَّفت من البقية الباقية من الحياء فمزَّقت أثوابي. من الآن وإلى الأبد سأنتمي إلى عالمٍ غير عالم الناس، سأفتح ذراعي للجنون والسفه وخمر النزق المُعتَّقة. الحياة لا تتكرر، والحب أغلى جوهرة في تاجها. وفي سبيل الجنون المُقدَّس تُستحلُّ كل حماقة. اقتلعت نفسي من مجرى الحياة المألوف المحفوف بالعقل والحكم. خفَّ وزني تمامًا وبتُّ قادرًا على الطيران والشيطنة، وليأخذ بزمامي نبض القلب الثمل بالبهجة والأسى.

وهداني الصوت الخفي إلى خاطرةٍ مُبتكَرة وجريئة، فقلت لحمودة الجرسون: سيُسجَن موسى القبلي، فهل يمضي الكازينو بلا مُدير؟

فقال وهو يرمقني بانتباه: هذا ما يشغل حفني بيه في هذا الوقت.

فقلت بهدوء: إني أرحِّب بهذا العمل.

– أنت؟!

– نعم أنا، لمَ لا؟

فتردَّد مُتفكرًا فقلت: قدِّم ما يسعك من معاونة وأنت مطمئن.

فقال حمودة بارتياب: إني أخمِّن الدافع وراء ذلك.

– إني أعرف الأصول.

– لدى أي خطأ تتورَّط فيه فسأُعتبر بالتبعية مُتورطًا فيه ومسئولًا عنه وأخسر رزقي.

– لا تخشَ شيئًا من هذه الناحية.

– ألا تُحاول الاستحواذ على المرأة؟

– كلا.

– إذَن لماذا ترغب في هذا العمل؟

فقلت باسمًا في ثقة وإخلاص: ربما لأعمل في رحابها.

٢١

دعاني حمودة ذات ليلة لمقابلة حفني داود صاحب كازينو «الواق الواق». وجدته وراء مكتب صغير وأنيق في حجرة تُطلُّ بنافذة على النيل، استقبلني بوجهٍ مُحايِد وراح يتفحَّص هيكلي الضخم بلا انفعال. كان عجوزًا في السبعين أو فوقها، ضئيل الجسم، له سحنة قرد لانحدار جبهته وغور عينَيه وبُروز ذقنه. شعره الفضي مفروق ومُمشَّط بعناية، كذلك شاربه. أشار إليَّ فجلست على أحد مقعدَين جلديين مُتقابلين أمام المكتب. تبادلنا النظر في صمت مليًّا ثم سألني: اسمك؟

– أنور عزمي.

– أأنت ضابط جيش مُتقاعد حقًّا؟

– أجل.

– وترغب في العمل مُديرًا للكازينو؟

– نعم.

– ما الذي دفعك إلى ذلك؟

قلت ضابطًا مشاعري تمامًا: الفراغ فتَّاك، ثم إنني محدود المعاش.

– أتراه عملًا مُناسبًا؟

– لمَ لا؟ .. وهناك سببٌ آخر أن أحتفظ به لموسى القبلي لحين خروجه من السجن.

– صديقه؟

– نعم.

– ولكن العمل يحتاج إلى خبرةٍ خاصة.

– أكثر مدة خدمتي في الجيش انقضت في الفروع الإدارية؛ فأنا ذو خبرة بالإدارة والحسابات.

– العمل عندنا يتنافر مع الروح العسكرية.

– لا تنقصني اللباقة.

وساد الصمت مرةً أخرى ثم قال: لا بأس من تَجرِبتك، ولكن اعلم أن أهمَّ واجباتك أن تمنع المُتطفِّلين عن نور القمر.

– عليَّ الإقناع وعلى سنجة القوة عند اللزوم.

– عظيم.

ونادى سنجة الترام فجاء وقد دهش لمرآي، فقال له حفني داود مُشيرًا إليَّ: أنور عزمي المدير الجديد، تعاوَنْ معه كما تعاونت مع موسى القبلي.

٢٢

لي مجلس خاصٌّ بمحاذاة المسرح. وإلى جانب النسبة المئوية التي تُشكِّل مكافأتي عليَّ امتياز وهو أن أطلب من المشارب ما أشاء. عملي الأساسي المحافظة على النظام، مراجعة دفتر التذاكر، التصدِّي لأي خلاف ينشب بين زبون وزبون، زبون وجرسون، زبون وامرأة من نساء جوقة الراقصة، إلى المهمة المقدمة على غيرها، وهي صد المُتطفِّلين عن نور القمر.

ولكن ماذا فعلت بنفسي؟

أظن يحسن بي أن أدفن هذا السؤال وأمثاله. عملي أشرف من غشيان غرزة سنجة، أو التردد على بيت موسى القبلي، أو موقفي في القسم. فلتَدُر أسئلتي حول الحب نفسه؛ فهو السر الجدير بالبحث والفهم حقًّا. على أي حال فأنا لم أقع في هوى امرأة عادية، جمالها الفائق مُعترَف به من الجميع، وهي تتبدَّى في هالة من الغموض المُثير للفضول، تحدق بها العزلة والحراسة المُغْريتان بالجذب والضلال، ولكن هل اقتربت منها حقًّا؟ الجواب بالإيجاب بالحساب المادي؛ فها أنا أعمل لحساب حارسها الأخير، أقابله يوميًّا، أتلقَّى تعليماته، أُقدِّم له الحساب. إني أتحرَّك على بعد خطوات من استراحتها الخاصة. سألتقي بها ذات مرة، في حجرة حفني داود أو في الممشى وراء الكواليس، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث بعد، لم يحدث لقاء ولا تعارف ولا تلامس، كأني بذلت ما بذلت وضحَّيت بما ضحَّيت لأصِل في النهاية إلى القرد العجوز. وإلى هذا كله جعلت أرقب سنجة الترام بحذر، وأخاف جانبه. وقد أعطاني حقي وزيادة، بل سألني مرةً: ألم تحنَّ من جديد إلى قاربنا الشراعي؟

فشكرته بقلبٍ يفيض بمقته وقلت: ستجمعنا الأيام بإذن الله.

لا شك أنه كان وراء الكبسة، ولكن لم يخطر بباله أن يجدني — نتيجةً لها — مُديرًا عليه، ولا خطر ببالي أن عملي الجديد سيُبعدني عن نور القمر خطوة بدلًا من أن يُقرِّبني منها خطوات. كنت وأنا زبون أراها من مقدمة الصفوف وفي مواجهتها، أتملَّى طلعتها البهية طيلة الوصلتَين، وأسبح في تيَّار أنغامها المُنسرِب، أما الآن فلا أراها إلا من زاويةٍ جانبية، ويشغلني العمل كثيرًا عن التركيز في عذوبة الصوت، وأسير أحيانًا في الممشى الفاصل بين جانبَي الصالة كأنما لأتفقَّد النظام. وفي الحقيقة لأملأ عينيَّ منها، وبأمل أن ألفت عينَيها إلى عابدها المُعذَّب، ولكنها كانت تهيم في النعمة ولا ترى السامعين. وبات عزائي الوحيد أنني أنتمي إلى العالم الغامض المُنوَّر بنور القمر.

٢٣

ثَمة علاقةٌ عجيبة بين حفني داود ونور القمر، ما هي؟ هو الذي يُسيطر على ظهورها واختفائها، ويرسم الحدود التي لا يجوز تخطِّيها، وهي تجيء وتذهب، تُغنِّي وتسكت، تنزوي وتصمت، بإملائه وتوجيهه، فأي قوة خفية يملكها هذا العجوز القرد؟! وإلى هذا كله فهي تتبدَّى هادئةً وسعيدة، لمَ لا؟ ما دام لا تبدُر منها بادرة غضب أو تمرُّد، وهو ليس أباها؛ فالقرد لا يُنجب ملاكًا، وليس زوجها وإلا لعُرِف ذلك على أوسع نطاق، ولا يُتصوَّر أن يكون عشيقها بقبحه وعجزه؛ فما سر هذه العلاقة العجيبة؟! وهَبْه ثريًّا فما قناعته بهذا المسرح الصيفي؟ لمَ لم يجعل منها نجمة من نجوم عماد الدين؟! ومهما يكن من أمر سيطرته عليها ألا يُشكِّل هذا الوجه الآخر لسيطرتها هي عليه؟! هذا مُؤكَّد فيما أرى، لا شك أنها القوة الحقيقية في هذه العلاقة الغامضة، وما جنيت حتى الآن من مغامرتي إلا زيادة في اضطرام عواطفي وهياج أحلامي وحوماني بجنون حول الخطوة التالية. إني أقبع في مجلسي، رفيقي قدح من البيرة مُكلَّل بالزبد، أُناجي طيلة الوقت أحلامًا طائشة. أتصوَّر أنها علمت بالمدير الجديد، عرفت اسمه وهُويَّته، لمحته مرةً أو أكثر، راقها مَنظره، لمَ لا؟ حدست السر وراء سعيه، وحتمًا سيُصاب حفني داود مرةً بوعكة تمنعه من المجيء، أو سينقضي أجله، أو أجد حيلة للتخلص منه، عند ذاك تنسرب أضواء الأمل في هذا الليل البهيم، وينفسح المجال أمام الحب ليصنع معجزاته، إني أتمزَّز البيرة، وأحلم، وأتذوَّق النشوة، أُعاني العذاب المُقدَّس، ومن ناحية تُلاطفني نسمةٌ مُفعَمة بأريج الياسمين.

٢٤

الظاهر أنني شغلت بال حفني داود كما شغل بالي، فعقب المحاسبة والتشطيب في ذات ليلة قال لي: لا تذهب.

فلبثت في مقعدي الجلدي لعبةً بيد الاحتمالات المُتناقضة، ونهض قائلًا: تعالَ.

خرج من الباب الخلفي وأنا ظله. رأيت الفورد قابعةً في الظلام المُتفشِّي عقب التشطيب وإطفاء الأنوار. فتح الباب الخلفي قائلًا: تفضَّل.

واتخذ مجلسه في المقعد الأمامي أمام عجلة القيادة. سرعان ما تبيَّنت وجودها إلى جانبه فكاد قلبي يثب من صدري. هكذا جاءت الخطوة التالية بلا سعي مني أو تدبُّر، جاءت كضحكة الشروق مُسربلةً ببهجةٍ سماوية، واندفعت تلقائيًّا إلى تحيَّتها فقلت: مساء الخير يا هانم.

فغمغمت بردٍّ غامض، وخِفت عواقب خرقي للتقاليد. ركَّزت بصري عليها لائذًا بالظلمة. تملَّيت رسم خلفية رأسها وأعلى منكبَيها، ميَّزت قبَّعتها العريضة وشَمْلتها المُطرَّزة بالترتر، وثملت بعطرها الفوَّاح. شبران هما ما يفصلان بيني وبينها. انسابت السيارة في الظلام مُمزِّقةً هدوء الحقول بأزيز مُحرِّكها. انسبت معها في بحر الهيام بأمواجه المُتلاطِمة وحواره الشجي. وددت أن أسمع صوتها وهي تُحادِثه أو أن تمتدَّ الرحلة إلى الأبد.

وجدت السيارة تدخل حي المنيرة؛ الحي الذي وُلدت وما زلت أقيم فيه. ودارت إلى شارع أصلان فوقفت أمام فيلا صغيرة مُكوَّنة من حديقة ودور واحد تقع خلف العمارة التي أسكن فيها مباشرة. لم أتمالك أن قلت بدهشة: إني أسكن العمارة خلف الفيلا مباشرةً.

فأجاب حفني بصوتٍ مُحايد أطفأ حماسي: عظيم.

أُدخلت إلى حجرةٍ أنيقة مُؤثَّثة على الطراز العربي. جلست على ديوان رانيًا إلى القنديل بإعجاب، مُناديًا إرادتي لجمع شتات فكري والسيطرة على هوج انفعالاتي. لبثت وحدي عشر دقائق، استقرَّ بقلبي خلالها إحساسٌ مُطمئن بالانتماء.

وجاء حفني داود في روبٍ صيفي مُزركَش مثل جدران الحجرة يحمل مِدفأة مُشتعلة الجمرات وجوزة. رمقتها باعتبارها أدوات صداقة وأُلفة. أتقع المعجزة وتهلُّ نور القمر بطلعتها السنية؟!

ذهب إلى الباب فأغلقه ثم اتخذ مجلسه بادئًا النشاط المعهود. خاب الأمل. صمتت بلابل السرور. ما الذي دعاه إلى استصحابي معه؟ رغم طعونه في السن فهو مُدخِّن شَرِه. جارَيته رغم نفوري الطبيعي من المُخدِّر. مهما يكن من عبثية الرحلة فقد اهتديت إلى المقام وأمسيت جليسًا لصاحبه. وإذا به يقول: لا شك أنك تتساءل عن سر الدعوة ولك حق، اعلم أني رجلٌ صريح وواضح، وأنت بدورك رجلٌ عسكري لا يُناسبه اللف والدوران.

فرنوت إليه مُتسائلًا فقال: المسألة تتلخص في الآتي؛ سفر إلى السويس، نزول في فندق الفردوس، يدخل عليك صباحًا خادم بالفطور، يترك في الحجرة لفةً مُعيَّنة، يذهب، تضع اللفة في حقيبتك، ترجع بالسلامة، توتة توتة فرغت الحدوتة.

إزاء كل عبارة تقهقرت ميلًا مُنغمِسًا في مُستنقَع الخيبة. تمتمت: تهريب؟!

– سَمِّه ما تشاء من الأسماء، أربع مرَّات في الشهر، مائة جنيه مكافأة عن كل مرة.

– لكنه تهريب.

– الشك لا يمكن أن يرتقيَ إلى شخصٍ محترم مِثلك.

– عندك ولا شك من يقوم بذلك خيرًا مني.

– أنت خير من يقوم به حتى يخرج صديقك من السجن.

فقلت باستياء: لن أكون مُهرِّبًا.

– ألا يُغْريك الثراء؟

– بلى ولكن الوسيلة يجب أن تكون شريفة.

– أنت حر طبعًا، ولكن العمل لا مساس فيه للشرف.

– هو كذلك في نظري.

– لعله الخوف؟!

فقلت بحدة: لست جبانًا.

– أنت حر يا أنور بيه.

وخطرت لي فكرةٌ ماكرة فسألته: أنت رجل محترم فلِمَ لا تقوم بالمهمة بنفسك؟

– وقتي لا يسمح بذلك.

فقلت بإصرار: لا أُحبُّ الأعمال المخالفة للقانون.

– أنا لا أعترف إلا بالقانون الإلهي.

– آسف جدًّا يا حفني بيه.

صمت. رجعنا إلى التدخين المُتواصل. تنهَّد أخيرًا وقال: على أي حال لنفترق أصدقاء.

ظننته يُطالبني بالانصراف فهممت بالقيام، ولكنه قال بسرعة: لا أعني هذا، أعني أنه عليَّ أن أختار مُديرًا جديدًا.

وقفت مادًّا يدي، صافَحني وهو يقول: فكِّر، إني مُنتظرٌ جوابك النهائيَّ غدًا.

٢٥

نجح في أن يُبقيَني صاحبًا حتى صباح اليوم التالي. إني مفقود بحسب التعبير العسكري. وقلت بصوتٍ مُرتفع في حجرة الجلوس بشقَّتي: لا .. لا .. لا.

إن يكن القرب نارًا فالبعد موت. ومهما يكن الثمن فلن أرتضيَ هجر «الواق الواق». فيمَ التردد وقد انتهى أنور عزمي من زمان؟! لقد هجر الأقارب والأصدقاء، تخطَّى العُرف والتقاليد، تمرَّغ في السمعة السيئة، حُمِل في سيارة الشرطة بين المومسات، يعمل في وظيفة بينها وبين القوادة نصف خطوة. فيمَ التردد؟ لمَ اللغو بمنطق العقلاء وأنت مجنون؟! حقًّا إني أتدهور إلى غير ما حد، ولكن ما أحوجني إلى رحمتك يا إله المُعذَّبين!

ومضيت إلى حجرة حفني فرمقني ببرود وتساءل: يبدو أنك اتخذت قرارًا؟

فحنيت رأسي في تسليم، فسألني: تُرى كيف تغيَّر رأيك؟

فقلت غاضًّا بصري: الثراء، أليس هو بالإغراء الكافي؟!

ورجعت إلى مجلسي بخاطرةٍ جديدة من الشك. هل فطن الرجل إلى غرامي بنور القمر؟ العاشق تفضحه أحواله. وهناك أيضًا حمودة المطَّلِع على سِري، وكان موسى القبلي كذلك قبله. ولعل العجوز لم يقبلني مُديرًا إلا لعلمه بحالي واعتزامه استغلالي إلى أقصى حد. لو صحَّت ظنوني فعليَّ أن أتوقَّع البطش بي لدى أول بادرة تهديد من ناحيتي، ولكن لعلها مجرد ظنون ووساوس لا أساس لها.

٢٦

ذهبت وجئت وقبضت. لأول مرة يمتلئ جيبي ويصير لي حساب في البنك، من أعماق الظلمات التي أتردَّى فيها صَعِد إليَّ شعورٌ مليء بالثقة والنشوة، ينتشر مثل الشذا الطيب، أملى عليَّ بأنني أسير في الطريق الصحيح وأنني بالغ شجرة طوبى؛ شعورٌ داخلي كنشوة الخمر، ذو قوة تتفتَّت حيالها صخورُ الواقع المُتحدِّية. ولم يكن مجرد شعور باطني فحسب؛ فالمنطق آزَره بطريقته الخاصة مُعتبرًا ما تردَّيت فيه من درجات السقوط مما لا يمكن أن يضيع عبثًا، ولكنه الثمن الفادح يؤدى مُقدَّمًا، وإن حسن الختام آتٍ لا ريب فيه. هكذا علَّلت نفسي بالأماني لأتزوَّد بالصبر وأُلطِّف من نذالة الجو. وحسبي الآن أنني أمكث في هالتها كل ليلة في الفورد مقدار نصف ساعة تُضاف إلى رصيد الوصلتين ﺑ «الواق الواق»، وحسبي أيضًا أني صِرت عضوًا خارجيًّا في الأسرة وجليسًا دائمًا في الحجرة العربية ومُغامرًا يحمل إليها كل أسبوع كنز نعيمها الوفير، ولديَّ بعد ذلك عزاء الإنسان — أحلامه المُتهوِّرة — التي تُحلِّق به في الفضاء بلا أجنحة.

وفي إحدى سهرات الليالي الزرقاء بالحجرة العربية سألته: لمَ تقنع بفصل نشاط محدود في ملهًى ثانوي بروض الفرج؟!

فأجاب باقتضاب: فيه ما يكفي.

– ولكنَّ ثَمة مُلحِّنين مُعاصِرين مُتفوِّقين وألحانًا جديدة جميلة وملاهي عامرة بعماد الدين؟

فثقبني بنظرةٍ كريهة وسألني: ماذا يهمُّك من ذلك؟

فرجف قلبي غير أنني ضحكت قائلًا: يبدو أنني أصبحت من رجال الأعمال.

فقال ببرود: كلا أنت موظف يا جنرال.

تضاعف حنَقي عليه، تمنَّيت تحطيم جمجمته، تساءلت: ألا تحب الذيوع والتوسع والشهرة؟

فأجاب بصوتٍ أبرد من الأول: كلا.

المسألة أنك أناني وجبان، حريص على حبس العصفور المُغرِّد في القفص، تخاف عليها من المُلحِّنين ومن الجمهور الحقيقي، ولكن لماذا لا تُحكِم قبضتك المعروقة المدبوغة فتُبقيها في الفيلا مثل جواري الحريم؟!

٢٧

الحياة تمضي في طريقها لا أجني منها إلا أمرَّ الثمرات، أحترق مثل الشمعة فيترسَّب ذوبي في ماءٍ آسن، وأُسرِّي عن نفسي فأقول لها إني خليفته، لا خليفة له غيري، ولكن هل أقنع بالصبر كالعجائز؟ ألا يجدر بي أنا المُغامِر بالتهريب أن أُغامر بالاقتحام؟! ولكن كيف وهو مُتصدٍّ لي مثل كلب الحراسة؟! حقًّا إني لمجنون، أسيرُ قوًى غامضة تترامى خيوطها حتى تتشابك بمدارات الأفلاك أو تنعقد في مركز الأرض. ويؤكد جنوني وأسري الحفيفُ والنسمة والخوار والضجة والتغريد والألوان والضوء وكل شيء.

وتتوقَّف الحياة فجأةً عندما تدقُّ الساعة الثامنة مساءً فلا يجيء الفورد كعادته كل ليلة .. انتظرت مُتابعًا عقارب الساعة. اقترب ميعاد الغناء فاتصلت بالفيلا بالتليفون. رد عليَّ صوتها: آلو.

– أنور عزمي .. ماذا أخَّركم؟

– لن نأتي الليلة.

– ولكن الجمهور مُنتظِر.

– تصرَّفْ .. مع السلامة.

قطعت الخط. وجدتني في دوَّامة من الابتهاج والانفعال والحيرة. إنه أول حوار يدور بيني وبينها وإن لم تُمازِجه نبرة طيِّبة أو كلمة مجاملة. أين حفني داود؟ لمَ لم يُبلِّغني بالأمر؟ لمَ لم يردَّ بنفسه؟

وكان عليَّ أن أُواجه الجمهور مُعتذِرًا عن غياب نور القمر.

٢٨

عند منتصف الليل وقفت أمام الفيلا بشارع أصلان؛ نائمة مُغلَّفة بالظلام ولا بصيص نور في الداخل. إنها تطرد الزائر بصرامةٍ مُوحِشة. مضيت إلى شقَّتي فلم يَطرُق عينيَّ نومٌ حتى الصباح. تُرى هل جاءت المعجزة؟ عمَّ ينكشف الستار الأسود؟!

ورجعت إليها حوالَي التاسعة صباحًا. سألت البوَّاب: حفني بيه موجود؟

أجاب الرجل: البيه مريض.

تصرَّفت كفرد من الأسرة فدخلت بثبات. وجدت في المدخل ممرضة فقلت لها: إني مدير أعمال حفني بيه .. كف حاله؟

– لعله أحسن.

– ماذا به؟

– تعب في القلب.

– هل أستطيع رؤيته؟

غابت دقيقة ثم رجعت وهي تُشير إليَّ بالدخول. رأيته راقدًا لا يبدو من الغطاء إلا وجهه. لمحت مخايل الموت في نظرة عينَيه الغائمة الخالية من نبض الحياة وهمومها. الحجرة خالية بخلاف ما توقَّعت.

– لا بأس عليك، شد حيلك.

أجاب بصوتٍ خافت: شكرًا.

– لن أُرهقك بالحديث.

– لا أهمية لذلك .. إنها النهاية.

أشار إليَّ بالجلوس على مقعدٍ قريب من الفِراش وقال: لم أتوقَّع حضورك.

فتساءلت في دهشة: كيف؟ .. لقد جئتك عند منتصف ليلة أمس، ولكني وجدت البيت نائمًا تمامًا.

قال باقتضاب: ذهبَت.

جفل قلبي، تساءلت: من؟

– لم تُضيِّع لحظة .. هربَت.

– نور القمر؟

– المُتوحِّشة.

فترت انفعالاتي كلها كشعلةٍ ضئيلة رُدمت بكوم تراب فلم أدرِ ماذا أقول، أما هو فقد تحطَّمت مُغالَبته وتدفَّق الاعتراف بلا ضابط.

– إنها عذراء، إنه الحب، إنه الجنون، أنت تفهم معنى ما أقول.

حدجته بنظرةٍ مُحرجة وبائسة فقال: توهَّمت وقتًا أنه أنت.

– أنا؟!

– إنك بريء، وأحمق مثلي، إنها ابنة المرحومة زوجتي، شبَّت تُناديني بالأبوَّة، ماتت أمها وهي عروس في السادسة عشرة، حاولت محاولةً يائسة ثم قرَّرت الاحتفاظ بها مهما كلَّفني جنوني، بسببها خسرت مشروع مدرسة أهلية كانت تُدرُّ عليَّ رزقًا لا بأس به.

وعيت كل كلمة، ولكن ما الفائدة؟ .. سألته: أين تظنُّها ذهبت؟

تجاهل سؤالي وواصل اعترافه: حصلت على المال بأي ثمن كما تعلم لأُوفِّر لها أسباب السعادة، أنشأت مشروع روض الفرج لأُشبع رغبتها في الغناء والفن، تجرَّعت العذاب ليلةً بعد أخرى، فعلت المستحيل.

تساءلت بِحيرة: ألم يكن بوسعها أن تتمرَّد عليك؟

– كلا.

– لمَ؟

وهو يتنهَّد: موهبة إذا شئت.

– أي موهبة؟

– في عيني، لا تفسير لذلك.

أيخرف الرجل؟ .. أيؤمن بالسحر؟ .. هل يتمتع بقوةٍ تسلطية خاصة؟

– بمجرد أن اقتحمني المرض طارت.

– متى؟ .. لقد ردَّت على مكالمةٍ تليفونية في منتصف التاسعة من أمس.

– لم تنتظر النهار .. ربما عند منتصف الليل أو عقب ذلك.

كان من الممكن أن أُصادِفها في موقف أمام الفيلا .. يا للحسرة المُعذِّبة .. وعُدتُ أتساءل: أين تظنُّها ذهبت؟

فتمتم: يا له من سؤالٍ أحمق!

٢٩

مات حفني داود في نهاية الأسبوع. أغلق «الواق الواق» أبوابه ولمَّا ينتهِ الموسم. توارت عن عينيَّ الحياة الجديدة بأضوائها وأُناسها فوجدتني منبوذًا خارج الأسوار؛ أنا وحبي الشهيد. هل خدعني الشعور الباطني الملهم كما خدعني المنطق؟! هل أرضى من الغنيمة بالإياب سالمًا من قبضة الشرطة؟ الحياة قفراء لدرجة الرعب. لا شيء ولا معنى ولا طعم، وهذا الإحساس المُتغلغِل في الأعماق بالإحباط والحزن وخيبة الأمل. هل أستطيع أن أُواصل الحياة بخواءٍ شامل وقلبٍ مُعذَّب؟ وإني لأتحرَّى كلما وجدت إلى التحري سبيلًا. أستجوب بوَّاب الفيلا وحمودة وسنجة الترام. أغشى الملاهي ملهًى بعد ملهًى. أمشي في الأسواق والشوارع كالمُخبِرين. فعلت أكثر من ذلك. قصدت قسم المنيرة. ادَّعيت أن لي دينًا في عنق الفتاة المختفية. أعطيت أوصافها وما لديَّ من معلوماتٍ قليلة عنها، طالبت بمعاونتي في العثور عليها. اندفعت في كل سبيل بقوة جنوني وألمي.

ولما بلغ بي الألم حده الأعلى قرَّرت أن أُقاوم ما دمت أرفض فكرة الانتحار. تجنَّبت زنزانتي ما وسعني ذلك، ولكن قهوة المالية لم تشغل إلا بعض وقتي ولم تُجدِ كثيرًا في تسليتي. خطر لي أن أقامر؛ فالقمار يُنسي الإنسان النوم والطعام؛ فلعله يُبرئه من الحب. وجدت فيه مهربًا محمومًا، ولكنه لم يستطِع أن يستغرقني، وأساء إلى أعصابي إساءةً حملتني على إعادة التفكير. والتمست الشفاء في الكتب الروحية، ولا أُنكر أنها فتحت لي باب أمل، ولكنه لا يؤتي ثمرته بلقاء المحبوبة إلا بعد الموت، ويجعل من الحياة فترة تسهيد وتعذيب وانتظار. وخطوت خطوةً جديدة تمامًا فاستشرت طبيبًا نفسيًّا، قصصت عليه قصتي، رأيته يُصغي بعناية وحدب. ولما وجدته يرمق هيكلي الضخم قلت له مُردِّدًا قولًا قديمًا: منظري لا يُثير الرثاء.

فقال بجدية: إنك إنسانٌ مُعذَّب.

ثم واصَل بعد هُنَيهة: لا أعتقد أنك مريض إلا إذا اعتبرنا الحب مرضًا.

فسألته بتوسل: ألا يوجد علاج لحالي؟ .. أعني عقاقير مفيدة مثلًا.

– العقاقير مفيدة ولكني لا أنصح بها إلا عند اليأس.

– أظن أن حالي ميئوس منها تمامًا.

– ليس الأمر كما تصور .. إنك سجين ذاتك، وعلاجك في أن تخرج منها.

ارتبكت أمام أقواله فصمتُّ مُبتهلًا، فقال بوضوح: أنصحك أولًا بالزواج، أنصحك ثانيًا بالاندماج في نشاطٍ اجتماعي أو سياسي، إذا لم يُجدِ معك فلدينا آخر وسيلة وهي العقاقير.

بقدر ما أُعاني من ألم بقدر ما أُصمِّم على المقاومة، أزمتي تكشف لي عن جوانب ظلَّت خافية في نفسي بلا استغلال. زرت عمَّتي نظيمة وعالَنتُها برغبتي في الزواج. صادفتنا عراقيل غير يسيرة؛ السن مثلًا والمعاش المحدود وأجزاء من سيرتي الماضية، ولكن ثَمة نساءً فُضليات يُعانين ظروفًا سيئة ويُرحِّبن بالزواج بقلبٍ مُتسامِح وعقلٍ مُتفتِّح. وجدت بينهن أرملة في الحلقة الرابعة، أمًّا لفتاةٍ مُتزوجة، متوسطة الحال والمنشأ والتعليم، تُدعى فائزة. جدَّدت شقَّتي بالترميم والتجديد والطلاء ثم استقبلت بها عروسي. الأمر بالنسبة لي علاج، في نظر عمَّتي رغبة في الاستقرار والإنجاب. ليس زواج حب، ولكنه زواج للشفاء من الحب أو تخفيف حدة جنونه، عناصره الأساسية الطِّيبة والمودة والتعاون والحياة النظيفة المطمئنَّة. سرعان ما لمحت مخايل الأبوة، تلقَّيتها بقلق وحب استطلاع ونوع من السرور، ولكن أسير الحب ما زال يرزح تحت أغلاله الصلبة. ثَمة شعور بالذنب كدَّرني أني في الحياة الأخرى سأُطلِّق زوجتي المُخلِصة لأتزوَّج من الأخرى. من يدري؟ فلعل زوجتي ترجع وقتذاك إلى زوجها المتوفى أو إلى من يروق لها من الأرواح الخالدة.

ثم خضتُ تَجرِبة الانتماء السياسي؛ تجربة مُثيرة للعب عندما يشرع فيها إنسان جاوَز الخمسين من عمره بلا انتماء حقيقي، غير أنني لم أكُن بلا انتماء؛ ألم يتقرَّر لي ميلٌ مُحدَّد مذ اشتركت في المظاهرة وأطلقت الرَّصاصة في فِناء مدرسة الشرطة؟ ولكن الوطن يموج بتيَّاراتٍ جديدة أيضًا؛ تيار ديني عنيف، تيار يساري مُتطرف، تيار فاشستي حاد. تحيَّرت طويلًا بين المبادئ. في كل واحد على حدة وجدت عنصر جذب وعنصر رفض، وبدافع من ميولي القديمة اتجهت نحو الوفد، وبخاصة نحو جناحه اليساري. فيه يطمئنُّ إيماني الراسخ بالله وحماسي العقلي الجديد للعدالة الاجتماعية، وهو محطة تأمُّل حتى أكتسب مزيدًا من الخبرة والضوء وأُفيد في الوقت نفسه من نفوذ الحزب الشعبي. سرعان ما انضممت إلى لجنة الوفد بالمنيرة. انغمست في الزوجية والسياسة. رغم ذلك ظل الأسير الكامن فيَّ يُناضِل سلاسله. طالبت بترشيحي في الانتخابات، ولكن مطالبتي رُفضت لحداثة عهدي الرسمي بالوفدية. رشَّحت نفسي على مبادئ الوفد. وجدتني أُنافس مُرشَّح الوفد الرسمي ومُرشَّحًا آخر من الإخوان. وعند احتدام المعركة وُزِّعت منشوراتٌ غريبة استهدفت نسفي تمامًا، فيها كلام عن محضر الشرطة إثر القبض عليَّ في بيت موسى القبلي، وكلام عن وظيفتي كمُدير ﻟ «الواق الواق»، وتعليقات ساخرة وجارحة. وخسرت التأمين، ولكني كعادتي توثَّبت بكل قوتي لمواصلة المعركة السياسية؛ خطبت، حرَّرت في الصحف، وثَّقت علاقتي بالزعماء، تبرَّعت من مدَّخَرات التهريب للجهاد. مضى الأسير على مضيِّ الأعوام يتخفَّف من آلامه ويتحول ألمه إلى أسًى مُقدَّس وهادئ لا يموت ولا يحيا بعنف وعربدة.

•••

وفي صيف أحد الأعوام سافرت ضِمن وفد برلماني إلى مؤتمر البرلمانات العربية ببيروت. وفي ذات ليلة، في رحاب الجبل الأخضر والينابيع العذبة، وجدتني أمام نور القمر. كنت وبعض أعضاء الوفد في جلسة سمَر تضمُّ صحفيًّا لبنانيًّا عائدًا لتوِّه من باريس. تحدَّث بحماس عن مُغنِّية من أصل مصري، تشدو بأغاني «فرانكو أراب» وتُحقِّق نجاحًا مُتواصلًا تنبَّأ له بالعالمية، تُدعى نور القمر.

زُلزِل قلبي لدى ذكر الاسم بعنف يقظة كاسحة. اندفعت في مجال التذكر والاستجواب مُتحررًا من الجاذبية. انقلبت طفلًا يلهو باللعب العقيمة والأحلام المُتهوِّرة ويُناجي مرةً أخرى المستحيل. وعلمت من الصحفي أيضًا أن مدير أعمالها يرسم خطة لرحلة فنية لها، لزيارة القارة الأوروبية كخطوة أولى، فبادرت — في الفندق — إلى تحرير رسالة لها، قلت:

«عزيزتي الفنَّانة الكبيرة نور القمر،

هل تَذكُرين أنور عزمي مدير «الواق الواق»؟ .. لقد جاءتني أنباء نجاحك في مكان لم تخطر لي من قبلُ زيارته، وعند رجل لم أتصوَّر أن أعرفه يومًا أو أن يمدَّني عنك بخبر، وقد سعدت بنجاحك سعادةً يعجز القلم عن وصفها، سعادة موصولة بتراث قديم من الإعجاب والحب لك في قلبي. أملي أيتها الفنَّانة الكبيرة أن تضعي مصر في أعز مكان من رحلتك الفنية المُقبِلة؛ فهي الأصل، وفيها أول قلب نبض بحبك.»

وفي مصر تلقَّيت الرد على عنواني باللجنة. الحق أنه لم يكن ردًّا بالمعنى المفهوم، كان كارت بوستال تتألَّق فيه صورتها الخالدة، وعلى ظهره دُوِّن بخط اليد:

تحية شكر وتقدير.

نور القمر

جعلت أقرأ المُدوَّن بعناية. كلا لم أسعد به السعادة المُتوقَّعة. ليست رسالةً شخصية من أي نوع كان. إنه أكلشيه للرد على المُعجَبين. لعلها أمرت بإرساله دون الاطلاع عليه ولا حتى إمضائه، إنه يدفعني إلى عالم الأرقام والتجريد ويتجاهل عواطفي وآلامي المقدسة، ولكن ها هي صورة لنور القمر بين يدَي، بكل بهائها وعذوبتها، بين يديَّ رغم انشغالها الواضح بمجدها ورغم حيادها القاسي إزاء المُعجَبين.

سأحتفظ بالصورة ما حييت. ومن يدري؟ .. فربما رجعت صاحبتها ذات يوم إلى مصر للزيارة أو الإقامة. ماذا يعني هذا بالنسبة لي؟ لا أدري أيضًا، ولا أحب أن أحسم الموضوع بفكرةٍ مُحدَّدة لن أجنيَ من ورائها إلا العذاب. وإذا داخَلني شكٌّ ذات يوم في حقيقة مغامرتي العجيبة فما عليَّ إلا أن أستخرج الصورة من حافظتي، وعند ذاك تنطرح أمامي الحياة بكل ألوانها المتضاربة، وما يندُّ عن مفاتنها من جنون مُقدَّس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤