سمارة الأمير

١

تبدو ضئيلة جدًّا، لا لضآلة في تكوينها، فهي بشهادة الجميع أنضج من سنها، ولكنها لا تكاد تُرى في الحجرات الواسعة والأبهاء المُترامية، أما في الحديقة الفوَّاحة الشامخة فتلوح مثل عصفورة حائرة في وثباتها المتتابعة فوق مَمشى الفُسيفساء. في أوقات الفراغ، العصاري المزخرفة بالظلال، تقف مُستندةً إلى ضلفة الباب الكبير ترنو بعين إلى أشجار البلخ المُظلَّة لشارع سبينالي، وتلحظ بعينٍ الأريكةَ يجلس عليها البوَّاب وسوَّاق السيارة علي جلال. يُعجبها منظر علي جلال ببدلته الرسمية، وقامته الطويلة مثل جذع النخلة، ولونه الغامق، ونظرته الحادَّة. إنه يلي في التأثير الباشا الذي لا يُضارعه شيء، وهي يُروِّعها كل شيء في السراي وما حولها، قلبها الغض يجود بالإعجاب لكل شيء، وهي تحب كل شيء، ولم تعد تذكر من الكوخ الذي آواها في طفولتها برشيد إلا طيفًا ذائبًا في ماضٍ مضى وانقضى. حتى والداها سرعان ما نسيتهما ولم يبقَ من صورتَيهما إلا النمط الشائع. جاء أبوها بها إلى سراي عصمت باشا خورشيد، وهي ابنة ثمانية منذ سبعة أعوام، وعقب عامَين جاءت أمها حاملةً نبأ وفاته، ثم أُبلغت بعد عامَين آخرين نبأ وفاة أمها، فلم يبقَ من الشجرة إلا أقارب مجهولون لا يحفلون بها ولا تذكرهم. وعند كل نبأ أسوَد كانت تجهش في البكاء وتُحاط بعطفٍ ما، ثم يُطيِّب الخادمات الثلاث اللاتي يُشاركنها حجرة البدروم خاطرها، ويُحذِّرنها من الاسترسال في الحزن. التصقت بالسرايا باعتبارها دنياها الوحيدة. إنها قلعةٌ شاهقة ذات أبراج الزينة وحديقة مُترامية، تتوسَّط شارع سبينالي بلوران بالإسكندرية، وربة الدار الهانم تأنس إليها لإشراق وجهها وطيبة قلبها فتخصُّها بالقرب وتختارها دون غيرها لتدليك قدمَيها وساقيها. تعطف عليها لطيبة قلبها وسذاجتها، ونقائها من المكر؛ فكانت الوحيدة في السراي التي يتهيَّأ لها فرصة الوجود أحيانًا في اجتماع الباشا بحرمه، وتسمع أحيانًا ما يدور بينهما من حديث، بل وما يتبادلان أحيانًا من نقار أو شجار. ويسألنها — الخادمات الثلاث — عما تسمع فتشعر بأهميتها وتمضي في حكي الحكايات. وكان الباشا وحرمه عجوزَين وحيدين؛ فكريمتهما مُتزوجة من قنصل يعمل في الخارج، وابنهما يعمل كذلك في سفارة، ولكن الرجل كان رائعًا وقورًا، يمضي في شيخوخته وأناقته كتمثال أو يجلس في روبه آية في الجاذبية. وكانت حرمه جميلةً رغم طعونها في السن، وكم أُعجبت شلبية بلون بشرتها الأبيض وزرقة عينَيها. ويقول الباشا لحرمه في غضبه: «أنت ظالمة .. أنت عمياء.» فتقول له: «ما أنت إلا ثور، ألا تقرأ ما يُكتب عنك؟!» عندما تثور عاصفة تنكمش في ذاتها، تود أن تختفي، تُنكِّس رأسها، وقد تدمع عيناها. ومرةً سألته الهانم بحدة: «لماذا أفلتت منك الوزارة هذه المرة؟» فيقول لها: «حتى السراي لا تخلو من عدو لي.» فتقول له: «بل أفعالك الشائنة هي عدوك الأول.» فيتساءل: «أفعالي الشائنة؟!» فتصرخ: «نعم .. ما زلت تحلم بمباذل الشباب يا عجوز .. متى منعت الأفعال الشائنة من الوزارة؟ إني أفكر في الإقامة مع ابني في الخارج.»

ولا يَحُول ذلك دون خروجهما في المساء نفسه لقضاء سهرة معًا كزوجَين سعيدين.

ألِفت شلبية هذه الحياة الأنيقة، كادت تُخَص بخدمة الهانم، ولكنها كانت تخدم عن طِيب خاطر النسوة الثلاث اللاتي يُشاركنها في البدروم، تُنظف الحجرة، تغسل الملابس، تبتاع لهن الدخان وأوراق البفرة، وتتطوع بدافعٍ خاص للفِّ السجائر. وعن لسان الهانم أدركت أنها أنضج من سنها، وأنها «شيخة» لطيبتها وسذاجتها، أما في الطريق وعند البدَّال فمضت تُدرك أنها جميلة فتسعد بهذا الامتياز وتتعامل في تحفظ وبدلال مع المُعجَبين. وكانت أخلاقها فطرية لا تكاد تتجاوز الحياء. حدَّثتها أمها عن الجنة والنار، وحذَّرتها الخادمات من الهفوات اللاتي تقضي على مستقبل البنت. مستقبل البنت؟ إذَن فحياة السراي غير دائمة، ما هي إلا دار انتقال. المستقبل الحقيقي يقع في الخارج، ربما في كوخ كالذي جاءت منه، لكن ما كان يكفي هذا لتوفير تربية أخلاقية حقيقية. كانت طيبة، سمحة القلب والعاطفة، وهَّابة للإعجاب والحب، ذات قشرة رقيقة من الدين والخلق. ألِفت الحياة الأنيقة، ومعاشرة علاقة زوجية حافلة بأسباب الهناء والصراع، كما ألِفت جو الإسكندرية المُتقلب بإشراقه وعذوبته ونواته الضارية، وتجمعت أنفاس المراهقة في برعم قلبها فامتلأ برحيق الحياة الساخن.

٢

من عالم الرجال، العذب المُخيف الغامض، يُطلُّ وجه علي جلال مثل المنارة. ليست بدلته الكحلية هي المُثيرة وحدها، ولكن قامته أيضًا، وبصفةٍ خاصة نظرة عينَيه الوهَّاجة، في العواصف التي تسجد لها الأشجار الشامخة يقف مُستهترًا، مُقطِّبًا وباسمًا في آنٍ، ولا يتراجع إلى حجرة البوَّاب حتى ينهمر المطر ويُشرِق أديم الأرض السنجابي. له نظرةٌ يودعها أحيانًا النسمة الباردة المُضمَّخة بشذا البحر، مثل قرصة مُلاطفة لخدٍّ مُورَّد، حادَّة وناعمة، لغتها غامضة مُتحرِّشة، تُهيِّج الشعور بالأهمية، تُداعب السرور الخفي، تُغطي القلق بغلالة من إيحاءٍ وردي.

وذات أصيل كانت تُطارد ضفدعًا في جدولٍ محفوف بالشوك. كان الوقت خريفًا، والرذاذ يجيء قليلًا ويغيب قليلًا. شعرت بنداء يدعوها للنظر إلى الوراء. رأت علي جلال يقف تحت شجرة ليمون رانيًا إليها بنظرةٍ ثملة، بسمت بارتباك ووثبت فوق الجدول. في الجو سرٌّ خفي وكأن أوراق الأكاسيا تتهامس به. عكست عيناها السوداوان بهجة وحذرًا. ترنَّحت فوق حافة مغامرة مجهولة بلا مقاومة تُذكَر. دنا منها صامتًا مُربدَّ الوجه. تناوَل يدها ومضى بها إلى الجراج في نهاية ممشًى مُسفلَت. لم تُقاوِم ولكنها تساءلت: ماذا تريد؟

ضمَّها إلى صدره وغمرها بقبلاتٍ شرهة. وقفت مُستسلِمةً لا تُشارك ولا تُقاوم. تمنَّت ألا يجاوز ذلك الحد، ولكنه لم يجترح خطوة إلا كتمهيد لأخرى جديدة. وسألته: ألا تخاف النار؟

ثم تساءلت ووجهها يتقلص بالألم: ما هذا؟!

٣

الواقع دون الحلم، ولكن شخصه أهمُّ من فعله، باتا شريكَين في حدثٍ خطير، وكاتمَين لسرٍّ هام. استولى على قلبها وخيالها، أحبَّته أكثر مما تصوَّر، تصوَّرت العلاقة أقوى من صلب البوَّابة وأنقى من ماء المطر. هو فارس قلبها، وقلبها مَطيَّته الأمينة. ليست السراي بالمكان المأمون لهذه الأفعال، ولكن حتَّامَ يبقى السر سرًّا؟ ضايَقها أن يتجاهلها بحكم الحذر، طمحت إلى معاملةٍ أرقَّ وأطيب صراحة. وقال لها مرة: تجنَّبي النظر نحوي، أنت مجنونة؟

فسألته بحنق: لماذا تخاف؟

– أنت مجنونة؟

– أنت المجنون، أنسيت فعلك؟

– من الخير أن تتركي السراي …

– حقًّا؟ .. إلى أين؟

– أنت مستعدة؟

– نعم.

فتفكَّر قليلًا ثم قال: انتظري مساءً عند نافورة الميدان واحذري أن ينتبه إليك أحد.

٤

انتهى عهد السراي كما انتهى عهد الكوخ من قبل. في حجرة علي جلال الوحيدة بفراشها السفري وصوانها القديم المُقشَّر وحصيرتها المُتهرِّئة شعرت بأنها في بيتها. لأول مرة تشعر بأنها تنتمي إلى وطن، وأنها ست بيت مثل حرم عصمت باشا خورشید، ومضت تعرف نفسها وتخبر الحياة والرجل والحب. وكان للعلاقة شهر عسل أيضًا، ولكنه في الواقع أقل من شهر. تجلَّى علي جلال عاشقًا نحو أسبوع ثم خرج من جلده رجلٌ جديد. اختفى المُجامل الباسم العطوف، وحلَّ محلَّه رجلٌ فظٌّ ضيِّق الصدر مُتوثِّب دائمًا للزجر والردع. عجبَت لتغيُّره، فزعت من معاملته، وكانت تزداد به تعلقًا وارتباطًا. إنها لا تُطالبه بشيء، تخدمه بولاء، تهبه ما تملك بلا مقابل. لم تكن تذوق اللحم إلا مرةً واحدة في الأسبوع بلا تذمُّر. آيست من فكرة الزواج فتجنَّبتها وقنعت بحالها. ورغم حزنها شعر بأنه ملكها وبأنه لا غنى له عنها. ومرةً سألته: لماذا تُعاملني بخشونة؟ .. هل بدرَ مني ما يُسيئك؟

فقال: إنك تتوهَّمين ذلك لأنك دلوعة.

فقالت برجاء: أحسنْ معاملتي. ألا ترى أني يتيمةٌ وحيدة مقطوعة من شجرة ولا أحد لي في هذه الدنيا سِواك؟

فقال بسخرية: إني مثلك تمامًا، وكنت مثلك دائمًا، لم أعرف لي شجرة. وعلى حين نشأت أنت في سراي باشا نشأت أنا في إصلاحية، ورغم ذلك اعتبرت الشكوى خنوثة.

– ولكني أتألم.

– الحياة خشنة وتُطالبنا بالخشونة.

– ألا تزال تُحبُّني؟

– أظن هذا واضحًا.

فقالت بعذوبة وبراءة: إني لا أشكو إلا معاملتك.

– هكذا خُلقت. ماذا ينقصك؟!

أحقًّا لا يُدرك كم تتحمَّل من شظف العيش حرصًا عليه؟! وتنهَّدت قائلةً: ربنا موجود.

فسألها بحدة: ماذا تعرفين عنه؟

فقالت باستسلام: إنه موجود، ألا يكفي هذا؟!

ولكنها كانت تغوص في صميم الحياة، وتزدهر رغم حِرمانها من طيبات الحياة التي ألِفتها في السراي، ويتألق جمالها وشبابها في الجلباب الشعبي، وتنعم بالحب.

٥

وكان يقول لها أحيانًا وهو يُدخِّن ويحلم: لا دوام لحال.

فترمقه بسؤالٍ حائر في عينَيها الجميلتين فيقول: ولما كنت في الحضيض فسيصير الحال إلى الأحسن.

– حقًّا؟! .. ولكني لا أصلح لشيء.

ويبتسم، ويبرم طرَفَي شاربه، ويصمت فتقول: بوسعي أن أخدم في أي بيت، ولكني سأنقطع عن بيتي.

فيضحك ويقول: هروبك أثار في السراي زوبعة.

فقطَّبت ولم تجد ما تقوله .. فيُواصل: ظنُّوا في بادئ الأمر أنك سرقت شيئًا ثمينًا، ولما وجدوا كل شيء في محله أدركوا الحقيقة.

– الحقيقة!

– قالوا إنها هربت مع رجلٍ غواها، أليست هذه هي الحقيقة؟

– ولكنهم لم يعرفوا الرجل؟

– طبعًا.

ثم يقول بثقة: لا دوام لحال.

٦

وذات مساء جاء معه برجلٍ قصير بدين قمحيِّ اللون صامت الملامح، جلس إلى جانب علي على الكنبة على حين وقفت هي مُستندة إلى السرير غائصة في ارتباكها. ولما طال الصمت والنظر قالت مُتهرِّبةً: أصنع لكما الشاي.

فقال الغريب بصوتٍ غليظ: شكرًا .. لا أريد شيئًا.

وقال علي جلال: إنها لائقة، وإلا فإنني لا أعرف شيئًا.

فابتسم الرجل ولم يُعلق وواصل النظر، فقال علي: إنها لائقة.

فسأله الرجل ببرود: ماذا تعني؟

– من ناحية الشكل؟

فتساءلت بحدة: عمَّ تتكلمان؟

فأشار لها علي إشارةً آمرة بالصمت على حين قال الرجل: وما أهمية الشكل؟

– إنه الأساس.

– أعندك فكرة عما تحتاجه من تعليم؟

– إنه اليسير إذا توفَّر الشكل.

– ما اسمها؟

فقال علي مُستقبلًا وثبة من الأمل: شلبية الأمير.

فابتسم الرجل مُتمتمًا: الأمير دفعة واحدة! .. ولكن أعوذ بالله من شلبية.

فهتف علي بتحدٍّ: إنك مُوافق ولا داعي للمناورة.

قام الرجل، حنى رأسه تحيةً لشلبية، ذهب وعلي في أثره يُودِّعه.

٧

رجع علي بعد دقائق مُمتلئًا حيوية واستبشارًا.

سألته: من الرجل؟

– مأمون الفرماني صاحب ملهى الفلير دامور بالشاطبي.

– لماذا جئت به؟ .. وما معنى حديثكما؟

– الصبر مِفتاح الفرج.

وقف ينظر إليها باهتمام ثم قال: غنِّي .. غنِّي أي أغنية.

فذُهلت ولاذت بالصمت، فعاد يتساءل: ألم تُغنِّي من قبل؟ .. في الحقل؟ .. في الحمام؟

– أبدًا لم يُشجعني صوتي قط.

– يا للأسف .. ولكن جسمك صالح للرقص.

فهتفت: الرقص!

– ليس عندك إلا الشكوى والصراخ، إني أعرض عليك خاتم سليمان.

– أنا أرقص؟!

– بعد تهذيب وتعليم ثم تتفتَّح لك أبواب الرزق.

– أمام الناس؟!

– طبعًا.

– إخص .. يا للعيب!

فابتسم برقةٍ مُصطنَعة وقال: إنه مهنةٌ شريفة، شرفك من شرفي، افهميني جيدًا، لست أنا الذي أدفع بك إلى السقوط.

– أنا مستعدة أعمل أي شيء آخر.

– ألا تريدين غذاءً أوفر وكساءً أجمل وحياةً أفضل؟ .. سنُغيِّر حياتنا بالعمل والشرف .. جرِّبي ولا تخافي، سيربط الرقص بيننا برباطٍ متين، أما الحياة كما هي الآن فلن تُحسَّن أكثر من ذلك.

انقبض قلبها، رمقته بتوسل، اغرورقت عيناها.

٨

كان صباح داكن، تجيش سماؤه بسُحبٍ مُلبَّدة، والريح تزأر مُطلقةً الأمواج المُزبدة إلى أديم الكورنيش. جلست إلى جانبه في شيفروليه عصمت باشا خورشيد، واندفع بها نحو الشاطبي وهو يقول: من يدري؟ قد تمتلكين يومًا سيارة كهذه.

استقبلهما مأمون الفرماني في شقته فوق الملهى مباشرةً بعمارةٍ مُكوَّنة من عشرة أدوار مُطلَّة على البحر الثائر، تجاهل احمرار عينَيها من أثر البكاء وقال: أهلًا بالتلميذة .. ستضحكين غدًا.

وقدَّم لها الشاي والكعك ومضى يقول: انسي شلبية، اخترت لك اسم «سمارة»، سمارة الأمير، تركت لك الأمير فهو مُناسب جدًّا، هل نتوقَّع إزعاجًا من أهلك؟

فأجاب علي عنها قائلًا: كلا.

– عظيم، نحن في أوائل الشتاء، الشتاء فصلٌ ميت، ولكن يجب أن تُعدِّي كما يجب قبل الصيف، ممَّ تخافين؟

– إنها بنتٌ شريفة كما تعلم.

– ونحن أيضًا شرفاء، لن يضطرَّك أحد إلى شيءٍ تأبينه، ولا تُصدقي غير ذلك.

ثم بعد فترة صمت وتأمُّل: ولكن التعليم لا مزاح فيه، ستتعهَّدك امرأةٌ خبيرة، ولكن كل شيء يتوقف على إرادتك.

٩

وسرعان ما بدأ التدريب، ووفَّر لها الرجل أيضًا كساءً مُناسبًا وغذاءً صحيًّا. وكان التدريب يشمل آداب المائدة واللبس والزينة، وكلما وجد مأمون الفرماني إهمالًا أو تكاسلًا استعان بعلي جلال حتى اضطُرَّ الرجل مرة إلى توجيه لطمة إليها. يومها رجعا إلى حجرتهما وهي صامتةٌ غارقة في حزنٍ أبدي، وغيَّر هناك من لهجته المألوفة فقال لها بنبرة المُعتذِر: ما من رجل إلا وضرب محبوبته عند الضرورة.

أصرَّت على الصمت والعبوس، فداعَب بإبهامه خدَّها وقال: العمل عمل، لا مزاح فيه، وهو لمصلحتك.

فقالت بحنق: بل لمصلحتك أنت.

– لمصلحتنا المشتركة إذا شئت، ما نحن إلا شخصٌ واحد.

فصاحت به: لقد سلَّمتني إلى رجلٍ غريب.

– إنه رجل أعمال، وليس له في النسوان.

– لو كنت تحبُّني حقًّا ما فعلت ذلك.

– ما فعلت ذلك إلا لأني أحبك.

فقالت بتحدٍّ: أنت! لم أسمع منك كلمة حب واحدة.

– ولكني أفعل ذلك.

– أريد حياةً معقولة، هل في ذلك من بأس؟!

وساد صمتٌ ثقيل حتى قطعه قائلًا: كنت ذات يوم تلميذًا، انقطعت عن التعليم بسبب الفقر واليتم، تُرِكت شِبهَ أميٍّ وانطحنت في الإصلاحية .. ها أنا أهيئ لك سبيلًا أجمل. ماذا في ذلك من عيب؟! .. انظري إلى الراقصات وحظهن في الحياة.

لقد احتملت الحياة حرصًا عليه، ولأنها شعرت في أعماقها الحية المُلهمة أنه يُحبُّها.

١٠

الفلير دامور ملهًى صغير وأنيق، لا تُفتَح نوافذه الأمامية شتاءً، تسفعه العواصف وهو صامد بجدرانه الأرجوانية، مُربَّع الشكل، مسرحه صغير يعلو على الأرض بمتر واحد، في جوانبه مقاصير من خشب الزان، وصفوفه موائد، يُغالب نعاسه طيلة الشتاء والخريف، قلة تختلف إليه كحانةٍ نظيفة تمتاز بمزَّتها الغنية، وفرقة موسيقية تعزف ألحانًا شرقية وغربية، ومغني درجة ثالثة يترنم بأغانٍ كلاسيكية، به أيضًا مُهرِّج يُقدِّم نمرًا فردية هزلية وساحر، وبطانة المطرب مُكوَّنة من فتياتٍ أربع يُدعون أحيانًا لمشاربة الزبائن ملتزمات بأدب يُناسب رُوَّاده الممتازين من المصريين والأجانب.

دُفعت سمارة للرقص فوق مسرحه في أول الربيع، كانت فرصةً فريدة للممارسة والتدريب العملي أمام رُوَّاد معدودين غير مُبالين. كانت كمن يُلقي بنفسه في الماء وهو جاهز لفن السباحة، رقصت على أي حال ونالت تصفيقًا من أيدٍ محدودة، عطفًا من ناحية وانجذابًا إلى جمالها من ناحيةٍ أخرى. الرقص يُقدَّم لأول مرة في الفلير دامور، وسمارة وجهٌ ممتاز وجسدٌ ممتاز أيضًا.

في الحجرة الخلفية وجدت مأمون الفرماني وعلي جلال في انتظارها. قال الفرماني: التصفيق للمرأة لا للراقصة.

فقال علي جلال: في المرة القادمة سيكون للراقصة والمرأة معًا.

فقالت بحرارة: إذا كنت لا أصلح فلأنصرف بسلام.

فتساءل الفرماني ببرود: عندك فكرة عما كلَّفني تدريبك وكساؤك وتغذيتك؟

فعبست وصمتت. وكان المتفَق عليه أن تعمل حتى نهاية الصيف بلا مُقابل نظير التكاليف، على أن تُكافأ في الصيف بعد ذلك بجنيه في الليلة، وثلاثين قرشًا بقية العام. وتساءل علي جلال بمكر: ألا تُعطي شيئًا على الحساب؟

فقال الرجل بحزم: لم أعتَدْ أن أغيِّر حرفًا في اتفاق.

ثم مُستدركًا: لا تنسَ تحيات الزبائن.

١١

سألت علي جلال وهما عائدان مشيًا على الأقدام إلى الإبراهيمية: ماذا يعني بتحيات الزبائن؟

– سيدعوكِ بعض الأكابر حتمًا للمجالسة والمشاربة، في تلك الحال يُحسَب الكأس بضعف ثمنه وتأخذين نسبةً محترمة.

فهالها الأمر وقالت بحدة: ليس هذا ما تم الاتفاق عليه بيننا.

– لا خوف من ذلك، وهو رزقٌ شريف.

– لكنني لا أشرب.

– يملأ كأسك عادة بالشاي، هذا تقليدٌ مُعترَف به.

فقالت بأسًى محدثةً نفسها: أُجالس رجالًا؟!

– قد يدعوك بعضهم للذهاب معه ولك أن ترفضي.

– يا له من موقف!

– بسيط، لا تُعقِّدي الأمور.

– ربما تدخَّل مأمون الفرماني؟!

– إنه يعرف سلفًا أني أدقُّ عنقه لو فعل.

شدَّت على ذراعه بامتنان وهما يخوضان النسائم العذبة تحت بصيص النجوم، فقال: لا أريد لك الابتذال الرخيص.

١٢

اعتادت الرقص ومضت خطوات في طريق إتقانه، اعتادت كذلك المجالسة والمشاربة والاعتذار عند اللزوم. اكتسبت مكانةً سامية بفضل أنوثتها، وانقضى الربيع والصيف وهي تتألق كنجمة في الملهى الصغير. لم تأنس إلى أحد كما أنست إلى سعداوي بيَّاع الفستق؛ فهو فلَّاح مثلها صبوح الوجه، يرمقها باحترام وعطف، يرمقها بأكثر من ذلك، حتى قالت لنفسها إنها لو كانت حرة بلا رجل لما تردَّد في طلب يدها. وقد مالت إليه ميلًا صافيًا؛ لأنها كانت سليبة القلب، مُكبَّلة بحب علي جلال.

وذات ليلة، عقب انتهاء الموسم وحلول الخريف جاءها سعداوي وقال لها: المقصورة رقم واحد.

مضت إلى المقصورة فوجدت في استقبالها شابًّا أنيقًا وجيهًا ذا جاذبية واضحة، صافحته بَسِمة كالعادة، فقال بصوتٍ أضخم كثيرًا من عوده النحيل: أهلًا .. مروان أمين المُعجَب بفنِّك وجمالك.

فتمتمت وهي تجلس قبالته تحت أغصان الياسمين المُعشَّق في أعواد الزان: تشرَّفنا.

وجاء الجرسون كظلها، فقال مروان أمين بنبرةٍ مُترفعة: اثنين ويسكي.

عيناه نجلاوان، وسيم القسمات، مبروم الشارب، عذب الابتسامة. تأمَّلها بإعجاب وقال: يُخيَّل إليَّ أنك وُلدت لتكوني راقصة، ومجيئك إلى الفلير دامور أضفى عليه حيوية لم ينعم بها من قبل.

– أشكرك جدًّا.

وشرب نخبها ثم قال: اطلبي ما تشائين، لا تتقيَّدي بي؛ فإني لا أشرب عادةً أكثر من كأسَين.

فحنَت رأسها مُمتنَّةً وسألته: حضرتك من الإسكندرية؟

– نعم، أنا وأجدادي، إنها مدينةٌ عالمية كما ترين.

– نِصف زبائننا من الخواجات.

لزم أدبه طيلة الوقت، لم تبدر منه كلمةٌ نابية، ولا ملاحظة ماكرة، ولا حركة مستهجنة. واتَّسم بوقار لا يُناسب سنه حتى تساءلت في نفسها عما جاء به، وجعل يحثُّها على الشرب حتى شربت ست كاسات من الشاي المُثلَّج.

وعند منتصف الليل نهض وهو يقول: ليلة سعيدة، أرجو أن تتكرر كثيرًا.

١٣

رجعت تلك الليلة بصحبة علي جلال وفي جيبها مائة وخمسون قرشًا، ولما دسَّتها في يده تهلَّل وجهه الندي بنسائم الخريف المُشعشعة بأضواء النجوم، وقال: الحظ يبتسم، ما رأيك في مروان أمين؟

فقالت بحماسٍ بريء: مُهذَّب للغاية، فوق ما تتصور.

– الفلير دامور مكانٌ محترم!

– هل سمعت عنه .. مروان أمين؟

– يقول عنه مأمون الفرماني إنه صاحب جريدة «الصوت»، أذكر أنه جالَس مرةً عصمت باشا خورشيد في بدرو.

ولكنه أقلقها بحماسه الزائد وهو يتساءل: متى يُتاح لنا أن نؤجر شقةً صغيرة وجميلة؟!

١٤

واظَب مروان أمين على الذهاب إلى الفلير دامور مساء كل أحد، وجعل يطلبها إلى مجلسه في كل زيارة. نشأت بينهما مودةٌ حميمة وألِفته بأريحية وعذوبة. ومرةً قال لها: جمالك فريد، وهو مصريٌّ صميم.

فقالت ضاحكة: ولكنك لست مصريًّا صميمًا.

فرفع حاجبَيه الكثيفين وهتف: كيف؟!

– عيناك.

– هذه الزرقة؟ .. أوه .. كانت جدتي جركسية، ولكنني مصري مائة في المائة .. المصري من يحب مصر.

– ولكن مستر فاولز يؤكد حبه لمصر.

فضحك ضحكةً عالية وقال: رجل البورصة الإنجليزي؟! .. ذاك حبٌّ مُغرِض، الحب أنواع كما ترين.

فتساءلت باهتمام: حبٌّ مُغرِض؟

– كما نحب البقرة لنستغلها.

فوجمت، وكان وجهها مرآةً صافية صادقة، فسألها: ما لك؟

– لا شيء.

– لا يجوز أن تتكدَّري هذه الليلة بالذات.

– لماذا هذه الليلة بالذات؟

– نويت أن أدعوك للعشاء في بيتي.

وبلا تردُّد أعادت الأسطوانة المعتادة أمام هذا النوع من الدعوات: معذرةً .. أنا لا أفعل ذلك.

فدهش، صمت قليلًا، ثم قال مُرتبكًا لأول مرة: إنه لأمرٌ مؤسف لي جدًّا، ولكنك رائعة.

وجاء مأمون الفرماني عند انتهاء السهرة ليُودِّعه، فقال الشاب: كل شيء طيب ولكن …

وضحك ضحكةً عالية يُداري بها ارتباكه، ثم واصَل: ولكن من المؤسف أن سمارة الحلوة لا تُلبِّي طلبات المنازل.

١٥

سار علي جلال طوال الطريق صامتًا فتوقَّعت شرًّا.

وفي الحجرة نفخ وهو يخلع بدلته وقال: غير معقول أن ترفضي النعمة.

فهتفت بحدة: نعمة؟!

– طبعًا.

– إنه الابتذال الرخيص كما سمَّيته.

– بل هو ثمين وغالٍ.

– أنت تدفعني إلى ذلك يا علي؟

– لصالحك، لصالحنا.

– أأنت تحبُّني حقًّا؟

– طبعًا.

– إنه حبٌّ مُغرِض.

فدهش علي وقال: يا لها من كلمة!

– كما نحب البقرة لنستغلها.

فما تمالك أن ضحك، ثم قال: حديث السكارى! عليك أن تفهمي الحياة خيرًا من ذلك، الحب في القلب، لا أهمية للجسد، الأغنياء يرون في الحب أنواعًا، أما الفقراء فلا وقت لديهم لذلك، إنهم يُحاربون العناء بكل وسيلة.

فقالت وعيناها تغرورقان: إني أرفض.

فقال بإصرار: كلا يا سمارة. شلبية ترفض نعم، وتحفظ قلبها لي، أما سمارة فتخوض إلى جانبي معركةً واحدة.

١٦

انسابت بها الفورد في الطريق المحفوف بالمزارع، في السماء غيمٌ كثير، والريح تنقضُّ بعنف، ولكن الطقس مُعتدلٌ لطيف. دخلا بيتًا خلويًّا صغيرًا في «أبو قير». بدا مروان أمين طيلة الوقت نشيطًا سعيدًا. مضى بها إلى فراندا وهو يقول: لو كانت ليلةً مُقمِرة لسبحنا معًا.

– الحمد لله على أنها غير مُقمِرة.

– تخافين البحر؟ .. ألست إسكندرية؟

– كلا، من رشيد.

– بلدة ذات تاريخ مجيد، إني سعيد بوجودك.

– وأنا سعيدة.

فرمقها بشيء من الريبة ثم تساءل: لكن الظاهر أنني لم أحظَ بإعجابك؟

– أبدًا، المسألة أنني أفعل ذلك لأول مرة.

فقال بصدق: إني أصدقك، البراءة لا تكذب، ولكن هل ساءك ذلك؟

فقالت وهي تغضُّ بصرها: إني سعيدة.

١٧

في رحاب مروان أمين ظفرت بحنان واحترام ومعاملة رفيعة ونقود وفيرة. إنه أفضل من علي جلال بما لا يُقاس، فلماذا يتعلق قلبها بعلي وحده؟ لا سبب معقولًا واحدًا يدعوها إلى حبه، ولكنها أسيرةُ هواه، وفي سبيله تُضحِّي بكل غالٍ، وهو أيضًا يحبها ما في ذلك من شك، على طريقته أي نعم، ويُشاركها الوحدة والعناء. ولن تنسى قوله ساعة رجوعها من عند مروان أمين أول مرة «أنا لا أستغلك ولكنَّ كلينا يُسلم للاستغلال». وهو أيضًا الوحيد الذي يُناديها باسمها «شلبية»، فتشعر بين يدَيه بأنها هي هي وليست شخصًا آخر. أما مروان فقد احتلَّ من نفسها مكانةً سامية واحترامًا ومودة، وهو بلا شك يعشق جمالها ويهيم بمفاتنها، ويُغدق عليها بسخاء، ويحترمها بطريقة جعلتها تشعر بإنسانيتها لأول مرة. وقال لها مرة: إنك طيبةٌ أكثر من اللازم يا سمارة.

فقالت ببساطة: الله مع الطيبين.

فجفل قليلًا وتمتم: الدنيا مُتوحِّشة، وقد خُلقنا لنُقاتل.

فقالت بدهشة: كيف أقاتل وأنا امرأة ولا أهل لي؟

فتهجَّم وجهه وفتر حماسه، ثم سألها: ماذا جاء بك إلى الفلير دامور؟

فأعادت أسطوانةً حفظتها عن ظهر قلب: سِرتُ من يتم إلى زواجٍ فاشل إلى طلاق، ثم دعاني الفرماني.

فقال لها وهو يتنهَّد: ادَّخري كل مليم؛ فلا سبيل إلى النجاة في هذه الغابة إلا بالنقود. أما الإيمان فلا ينقصك.

١٨

وتوثَّب علي جلال للتجديد بلا توانٍ، اكترى شقةً صغيرة في كامب شيزار بعمارة جديدة، وتبدَّى في مظهر أنيق فلم يبقَ من ابتذاله القديم إلا نظرة عينَيه البرَّاقة المُتحدية. وقال لها: تركت خدمة الباشا.

فسألته باهتمام: ألم تتسرَّع؟

– كلا، إني أفكر في مشاركة الفرماني.

– دفعةً واحدة؟

– كل شيء يتوقف على اجتهادك.

فسألته بأسًى: وتستمر الحياة هكذا؟

– سنبدأ يومًا حياةً جديدة.

– متى؟

– عندما نطمئنُّ على مستقبلنا.

وابتسم إليها واستطرد: ثم نتزوَّج؟!

وثبَت مُتهللةً فتعلَّقت بعنقه وهتفت: آه .. متى يحدث ذلك؟!

١٩

منذ حديثها الأخير مع مروان أمين لم يُواصِل الشاب ممارسة غرامه معها. قنع بالمجالسة والمؤانسة، وتبادل الاحترام والعواطف الرقيقة، ولكنه لم يضنَّ عليها بجوده وهداياه. ورغم كل شيء لاحظت عليه تغيرًا غير يسير وفتورًا حتى قالت له: لست كسابق عهدك.

فقال وهو يبتسم: إني مريض.

– كفى الله الشر.

– أحتاج إلى جِراحة، سأُجريها في الخارج.

– يا لسوء الحظ!

– إنني لم أعرف الراحة في حياتي.

– ولكنك غني والحمد الله.

– ليست مشكلة المال.

– عملك شاق؟

– جدًّا.

– سأدعو لك دائمًا بالسلامة.

– دعاء مُبارَك من قلبٍ طاهر.

ثم أخرج من علبة سوارًا ذهبيًّا مُطعَّمًا بفصوصٍ ماسية، أهداه إليها قائلًا: هدية لك لمناسبة السفر.

فقالت بتأثر شديد: أنت شابٌّ نبيل، لو كان الناس مثلك ما عرف أحد الشقاء أبدًا.

٢٠

وقال لها علي جلال وهو يتفحَّص السوار باهتمام: لقد أنهى العلاقة بينكما بلباقة وبلا كسر خاطر.

فقالت مُعترضةً: لا تُسئ به الظن فإنه لا يكذب.

فقال علي بازدراء: الصدق مُحرِج ومُهلِك.

أما سمارة فقد حزنت لفراقه، وتمنَّت لو دام لها ليُجنِّبها على الأقل التورط في علاقةٍ جديدة مجهولة. أدركت أن علي — وقد جنى من العلاقة القديمة ما جنى — سيُلقي بها بلا رحمة بين يدَي ذراعَين واعدتين. ومضت تُكوِّن لها شخصيةً فنية مؤثرة وتتوكَّد شهرتها وسِحرها. وهلَّ الصيف برطوبته ورُوَّاده وضجيجه، وازدحم الفلير دامور بالزبائن الجدد، وتكرَّرت المجالسات كل ليلة، والاعتذارات عما عدا ذلك. وطبعًا كان علي يُوافِق على ذلك مُترفعًا عن العشاق «المفلسين» عشاق الليلة الواحدة! واقترح علي أن يدخل شريكًا في الملهى ولكن الفرماني رفض، وفي الوقت نفسه استرضاه فعيَّنه مديرًا للملهى بجنيه يومية في الصيف، ونصف جنيه في سائر العام. وفي أواخر الصيف الثري جاءت أنباء حزينة من وراء البحار تنعى الصحفيَّ الشاب مروان أمين. واهتزَّ قلب سمارة، وغشيها حزنٌ صادق، فتوارت في حجرتها وبكت طويلًا. وفي أوائل الخريف رجع مستر فاولز إلى الفلير دامور، وإذا به يدعو سمارة للعشاء في بيته. وكالعادة اعتذرت. وسعد بذلك سعداوي بيَّاع الفستق، وهمس في أذنها: إنهم أنجاس.

غير أن مأمون الفرماني احتدَّ بشدة وقال: كيف ترفضين إنجليزيًّا؟!

وسأله علي: أظنه مُقتصدًا كسائر تجار البورصة؟!

– إنه يُقدِّم هدايا أثمن من النقود.

فقال علي مُخاطبًا سمارة: إنه على أي حال عجوزٌ ولن يُضايقك.

٢١

مستر فاولز يقترب من الستين، رَبعةٌ ضخم الرأس والوجه، غليظ اليدَين، متين البنيان. يشرب كثيرًا ونادرًا ما يسكر، يعرف كلمات معدودات من العربية يستعين بها على توضيح إشاراته وقت السَّمر أو يمضي الوقت صامتًا. كانت تؤانسه ليالي كثيرة في الفلير دامور، ولكنه لا يدعوها إلى بيته إلا مرة أو مرتين في الشهر. وكان يُقيم في الدور الأول من بيتٍ أنيق يقوم على هضبة فيكتوريا. أرمل وحيد، أولاده في أستراليا، يخدمه نوبيٌّ ومُساعِده، وقد ولع بسمارة، ولانقطاع التفاهم بينهما ظل حيالها رمزًا مجهولًا. وجدت معاملةً لطيفة وأهداها قُرطًا ثمينًا، ولكنها شعرت نحوه بشبه نفور وخوف، ولم تأنس من وجهه الضخم الحاد شعاعَ جاذبية واحدًا. أُعجبت فقط بعمق زرقة عينَيه، وتذكَّرت بلونهما مروان أمين وأيامه الحُلوة. في الصباح ترى البقعة خالية ومُترامية، رقعة منها صحراوية، ورقعة يتناثر فيها النخيل وتُغطِّيها الحشائش. ويقوم البيت الأنيق وحيدًا فوق الهضبة يُصعَد إليه بدرجات منحوتة في الصخر، وهو مُكوَّن من دورَين، يُقيم فاولز في الأرضي المغروس وسط حديقة، أما الثاني فلا يجيء منه صوت، ومرةً رأت في شُرفته عجوزًا مهيبًا فأسرعت في مشيتها كأنما تفر. البيت جميل تحت هامات السُّحب ولكن كأنه ملجأ للعجائز، أما النخيل الفارع المُثقَل بالبلح الأحمر فذكَّرها برشيد، فنسمت على قلبها ذكرى مُبهَمة مُبتلَّة بالدمع.

٢٢

وذات ليلة وجدت في مقصورة مستر فاولز آخَر يُجالسه، قدَّمه لها بنبرته الإنجليزية قائلًا: جاري مهدي باشا جلال.

آه، إنه العجوز الذي لمحته في الشرفة، حيَّاها بابتسامة جذَّابة. إنه طويل ضخم الهيكل رغم رقة لحمه، فِضي الشعر والشارب، مُشعُّ العينَين ذو أنف غليظ، وله وقارٌ نفَّاذ. من أول نظرة أنست إليه وشُغفت بأبوَّته الكامنة، يبدو أكبر من فاولز ولكنه مُمتلئ حيويةً وابتسامًا. شرب بكثرةٍ مثل فاولز وتتابعت ضحكاته، حادَث فاولز بلسانه، وحادَثها — طبعًا — بلسانها. صوته عذب أيضًا. قال لها: رقصك جميلٌ مثل وجهك.

وفي آخر السهرة تقدَّمها بسيَّارته حتى البيت الوحيد، ثم مضى إلى شقته العليا، فتمنَّت أن يجيء كل ليلة.

٢٣

قالت لعلي جلال وهي تُحدِّثه عن الباشا: لقبه جلال مثلك.

فقال باسمًا: إنه أكبر مُحامٍ في الإسكندرية، محترم بين أولاد العرب والخواجات، على علاقة وثيقة بعصمت باشا وخورشيد، كما كان صديقًا للمرحوم مروان أمين رغم فارق السن، غني لدرجة كبيرة، أرمل وبلا ذرية.

– إنه جار مستر فاولز، ويعيش وحيدًا مثله.

وصمتت قليلًا ثم قالت بدعابة: لقد وقعت في هواه.

فقال لها باهتمام: المهم أن يقع هو في هواك.

٢٤

في الليلة التالية مباشرةً شرَّف مهدي باشا جلال، ولم تكن من الليالي التي يسهر فيها فاولز. ودعا سمارة إلى مقصورته فجاءت مُمتنَّةً وسعيدة. رشف من كأسه، ولما رفعت كأسها أوقف يدها برقَّة وهو يقول مازحًا: الشاي مُنهِك للأعصاب.

فضحكت، وأدركت من توِّها أنه دائر وابن سوق، فقال: اطلبي ما تشائين، ولكن لا تشربي إلا القدر المناسب.

فقالت بصراحة وبراءة: إني سعيدة بالجلوس معك.

– مثلك وأكثر، ولكن ما رأيك في فاولز؟

– شخصٌ غريب.

– شيطان.

– حسبته صديقك.

– صديق عمل ليس إلا .. ماذا لو علم بأنك سعيدة بالجلوس معي؟

– لا أدري.

– على أي حال فأنت حرة، أليس كذلك؟

فقالت ضاحكة: لم يشترِني بعد.

– عظيم، ما جوابك لو دعوتك إلى بيتي؟

– إنه نفس البيت.

– لمَ لا؟

وبسرور، وقبل مشاورة علي هذه المرة، قالت بجرأة جديدة: إني أقبل.

٢٥

أحبَّت المسكن، وأدهشتها فخامته. قهقه الباشا وهو يقول مشيرًا إلى أسفل: لا يتصور الحيوان أنك هنا.

وشرب كعادته، ونشطت شهيَّتها فأكلت بلذة. ولما ثمل سألها: هل تُغنِّين؟

– كلا للأسف.

فوضع في الحاكي أسطوانة وهو يقول: إذَن نسمع «يوم الهناء».

وراح يُفرقع بأصابعه مُزيحًا وقاره جانبًا ويقول: كل ما يخفق القلب له عبادة.

– هل تُغنِّي أنت؟

– أحيانًا.

– إذَن فأسمعني صوتك.

– كلا .. أودُّ أن أعطيك خير ما عندي.

فضحكت وقالت: أنت رجل ظريف.

– أنت ساحرة يا سمارة.

فتساءلت وقلبها يمتلئ بحب بريء صافٍ: متى ماتت زوجتك؟

– إنك تتحرِّين عني. حسن، حسن. منذ عشرين عامًا.

– ولمَ لم تتزوَّج؟

– حزنًا عليها، وعلى نفسي لأن الله لم يكتب لي الإنجاب.

– كنت تودُّ أن يكون لك ولد؟

– إني أُسلِّم بمشيئة الله.

فبعد تردُّد قالت: تتحدث عن الله وأنت …

فضحك عاليًا، وسلَّط عليها شعاع عينَيه مليًّا، ثم قال: أرجو أن تجيء هدايتي على يدَيك.

فوضعت راحتها على يده وقالت: أنا أغضبتك؟!

– مُحال يا سمارة، ألا ترَين أني أحبك؟!

٢٦

كان سخيًّا فوق الوصف، وأعلن حبه بطريقةٍ صارخة ودون مُبالاة، فكان يأخذها في سيارته إلى بدرو وأثنيوس وحديقة أنطونيادس. وإذا بمستر فاولز يقتحم عليهما الشقة ذات ليلة. أما هي فركبها الخوف، وأما مهدي باشا فقد ضحك وهتف به: هالُّو فاولز.

ولكن الآخر وقف مُتجهِّم الوجه غيورًا حانقًا. رطنا بما لا تفهمه ولكنها توقَّعت شرًّا. بدأ الحوار بدرجة مُنخفضة ومضى يعلو ويشتد. تصلَّبا مُتواجِهَين في تحدٍّ. عجوزان يتطاحنان على امرأة. وإذا بفاولز يُوجِّه لطمةً إلى صدغ الباشا، وإذا بالباشا ينهال عليه باللطمات. وصرخت سمارة. وتراجع فاولز فثبت الباشا في موضعه. ذهب الرجل وجعل مهدي جلال يلهث، فأخذته سمارة من ذراعه إلى ديوان وأجهشت في البكاء.

٢٧

صارت له وحده في حياتها الأخرى. تمنَّت أن يبقى إلى جانبها حتى آخر العمر؛ ذلك الأب الذي جادت به عليها السماء. وسألها مرةً كما فعل مروان أمين من قبل: ماذا جاء بك إلى الفلير دامور؟

فقصَّت عليه القصة المحفوظة، فقال بحنان: لا داعي للخيال.

– ألا تُصدِّقني؟

– لعن الله من لقَّنك الكذب.

فغلبها الحياء وسكتت، فقال: عرفت حكاية سراي عصمت خورشيد، وعلي جلال.

ازدادت صمتًا وحياءً، فاستطرد: إنه يستغلك بدناءة.

– كلا .. إنه يُحبُّني.

– وأنت، أتُحبِّينه؟

فلاذت بالصمت، فقال: إنه لا يستحق حبك.

– الحب وحده لا يكفي.

– أنت مشكلة يا شلبية.

– إنك تعرف كل شيء.

– إني مُحامٍ عجوز.

– إني أحبك أيضًا.

– وكانت أمي اسمها شلبية.

– أنت فلَّاح؟

– طبعًا، ليس كل باشا بعصمت خورشيد.

– إني وحيدة.

– أنت؟! كلا، إنك أقوى مني، وأقوى من فاولز، أقوى من أي عاشق. العاشق ضعيف، أما المعشوق فقوي، ولكن ما جدوى الحب إذا لم أردَّ إليك كرامتك يا زينة النساء؟!

٢٨

وذات ليلة وهو ثملٌ لثم عنقها وتساءل: هل تُوافقين على الزواج مني؟

ذُهلت. سحرتها الكلمة المقدسة. طرب قلبها حتى السحر، ثم سرعان ما ورث الأسى كافة مشاعرها.

راقبها صامتًا ثم تساءل: علي جلال؟!

فلم تنبس، فرنا إليها واجمًا حتى تمتمت: إنك أجمل ما في حياتي.

– إني شيخٌ فانٍ وهو رجل شابٌّ، ولكن لا تُسلِّمي باستغلاله لك كأنه قضاء وقدر.

– إني أتمنَّى السعادة ولا يهمُّني المال.

– لا أدري كيف أكافئك على ما وهبتني من سعادة، والحق أنني ما أردت الزواج منك إلا لترثي تركتي التي لا وريث لها.

فقالت بإخلاص: حياتك عندي أغلى من التركة.

– فقال بأسًى: إني أحترم الحب وأقدِّس الإخلاص؛ فلا بأس عليك، ولعلي أجد طريقةً أخرى لمكافأتك يا شلبية.

٢٩

أسعد أيام حياتها. تمتَّعت بالاحترام والحب ما شاء لها التمتع، وضاعفت العلاقة — مقرونةً بما نشب حولها من عراك بين الباشا وفاولز — من شهرتها الفنية، وأضفت عليها احترامًا لم تعرفه من قبل. وكان علي جلال يستحثُّها دومًا على انتهاز الفرصة والإفادة من العلاقة ما وسعتها الحيلة، ولكنها كانت تأبى ذلك، وفي الوقت نفسه لم يُقصِّر الرجل في إغداقه. وكثيرًا ما قال لها علي: ألا تُدركين أنه يترنَّح على حافة القبر؟

فكانت تغضب وتحتدُّ وتدعو له بطول العمر، وتقول: ما عرفت أبًا قبله.

ولكن الحب مهما بلغ من قوته وصفائه لا يستطيع أن يدفع الحتم؛ فقد مضت صحة الباشا في التدهور حتى اضطُرَّ إلى اتخاذ قرار نهائي بتصفية عمله والإقامة في الريف. وكان وداعٌ مؤثر، أهداها هديةً ثمينة عقدًا من الذهب ذا فصوص ماسية، وقال بتسليم: اليوم أو غدًا، لا مفرَّ من النهاية، وسيكون لك في وصيَّتي ما أستطيع أن أوصي به، وعليك أن تحتفظي بها لنفسك حتى تملكي استقلالك، وتضمني حياة حرة كريمة.

ودَّعته وهي لا تراه من فيض الدمع الصادق.

٣٠

وأصرَّ علي جلال على مشاركة مأمون الفرماني، وخشي الرجل أن يُنفِّذ علي تهديده بفسخ عقد سمارة فقَبِله شريكًا بثمن العقد، وفي الحال تجدَّد الملهى، فدُعم بمطبخ شرقي وغربي وكافيتيريا، وطُلِي من جديد، كما تجدَّد أثاثه. سُجِّل عقد المشاركة باسم علي جلال، وظلَّت هي لا تملك شيئًا إلا الحب، أو لا تملك إلا ما أتقنته من هز البطن والصدر والرقبة.

وسألت علي جلال: أما آن لنا أن نتزوج؟

فداعَب خدَّها برشاقة وقال: ما زلنا في أول الطريق، الملهى لا يعمل بكامل قوته إلا ثلاثة أشهُر، أما بقية العام فهو مثل سفينة في مهب العواصف والأمطار لا يأوي إليها إلا طلاب الدفء والستر.

– وما ضرر الزواج؟

– إنك ساذجة، لو حازك وجيه وأنت على ذمَّتي لأمكن أن أتعرَّض لتهمة خطيرة تزجُّ بي إلى السجن.

– لم نعد في حاجة إلى هذه العلاقة.

– ما زلنا في أول الطريق، هل شيَّدت عمارة مثل أمينة الفنجري؟!

– يا خبر! .. إنه طريق بلا نهاية.

– بل له نهاية، وهي قريبة، ولكنها تُطالبنا بالصبر والعمل.

٣١

وتجلَّت في سماء الفلير دامور سحابةٌ سوداء؛ فذات يوم غزا الملهى عمرو عبد القوي مُفتِّش الضرائب. شابٌّ في الثلاثين جادُّ المظهر قويُّ الجسم، يهزُّ منظره المُتهربين من أعماقهم. راح يفحص المستندات ويُقيِّد ملاحظاته ثم ذهب. غاص قلب علي جلال في صدره، ولكن مأمون الفرماني قال له: لا تخَف، كل إنسان وله ثمن.

وتحرَّى عن المفتش الجديد عند بعض رجال الأعمال في الحي، رجع عصرًا وهو يقول: الولد نزيه، سنلقى متاعب لا شك فيها.

فقال علي جلال: لاحظت أنه نظر إلى سمارة بإعجاب.

فقال الفرماني: هذا هو الأمل الأخير.

٣٢

وجاء عمرو عبد القوي ليتلقَّى الإقرار. جلس في مقصورة ليُطالعه، وبإشارة من علي جلال جلست سمارة على مقربة من المسرح بحيث يراها المُفتش. ولما كرَّر النظر نحوها ابتسمت في حياء، ثم مضت إليه وهي تقول: أتريد شيئًا في أثناء عملك؟

فابتسم عن فمٍ عريض مُتمتمًا: خطوة عزيزة.

فجلست قائلة: نحن أصحاب المكان وعلينا إكرام الضيوف.

– مُفتش الضرائب ليس بضيف.

– نحن نُحبُّ الناس كما ترى.

– ولو كانوا من رجال الضرائب؟!

– ولو كانوا …

فواصَل مطالعته وهو يُتمتم: عذرت الآن فقط مهدي باشا جلال.

فقالت مُحتجَّةً ولكن بعذوبة: عفا الله عن الناس، كان لي أبًا ولكن الناس لا يرحمون.

فارتسمت في عينَيه اللوزيَّتين ابتسامةٌ ماكرة وتساءل: أب؟

– صدِّقني.

– لقد عرف كيف يختار ابنة فريدة.

فقالت بتواضع: لست إلا فلَّاحة من رشيد.

فتجلَّى الاهتمام في عينَيه، وهتف: رشيد؟! أنا أيضًا من رشيد. أسرة من؟

– لا .. لا .. على باب الله.

فقال مُقهقهًا: أنا من نفس الأسرة.

ثم انهمك في عمله، واستدعى مأمون الفرماني وقال: المغالطات كثيرة، ولكن لا مفر.

عند ذاك قالت سمارة: أي معاملة بين أفراد الأسرة الواحدة؟!

فحدجها بنظرة قوية وقال: العمل مُقدَّس مثل الصلاة.

٣٣

تمَّت المحاسبة في جو شديد التوتر، عمل الفرماني المستحيل ليتملَّص من قبضته ولكنه لم يُفلِح. قال له عمرو بحزم: عندك محكمة الضرائب إذا شئت.

ومُنِي الملهى بخسارة فادحة على حد قول علي جلال. وبكل جرأة جاء عمرو ليسهر سهرةً شتوية هادئة. كانت ليلةً مُعتدلة صافية جاءت في أعقاب نوة عاصفة أغرقت المدينة وأغلقت البوغاز. وكلما آنس من الوجوه تجهمًا مرح ودندن واندمج في المشاهدة، ثم بلغ القمة عندما طلب سمارة للمجالسة. وقال لها سعداوي المُحبُّ الأبدي: اذهبي، إنه واجبك.

وذهبت مُتحديةً، جلست وهي تقول: تقتل القتيل وتمشي في جنازته.

فقال بسرور: إني مُعجَب بك يا رشيدية.

– إنك مُرعِب.

– على المُتهربين.

تأخذون أموال الناس! .. بأي حق؟!

فتجاهل نقاشها وقال بحرارة: لا أحب الطرق المُلتوية، فلنقصد الهدف رأسًا، إني أدعوك للعشاء في شقَّتي المُتواضعة بكامب شيزار.

– أنت في كامب شيزار أيضًا؟!

– مسكنك هناك؟! عظيم، من رشيد إلى كامب شيزار. أصبحت الموافقة حتمية.

– ولكني لا أقبل الدعوات الخاصة، ألم تسمع عني؟

– سمعت عن مروان أمين وفاولز ومهدي جلال.

– أنت مُخبِر؟!

– إنك ترفضين الموظفين الصغار وبخاصة إن كانوا نزيهين.

فقالت برجاء: لك جانبٌ دمث وآخر خشن، وقد جئت لمجالسة الدمث.

٣٤

وتفكر علي جلال وقال: إنه لا يُساوي شيئًا، إني أعرف مدَّعي الشرف أكثر مما يعرفون أنفسهم.

وجاء عمرو في نهاية الأسبوع. كانت الليلة صامتة ولكنها شديدة البرودة. ارتاحت لمجيئه ارتياحًا أدفأ أعماقها. أدركت أنها تهبه شعورًا جديدًا لم تشعر به نحو مروان أمين النبيل المُتباعد المُترفع، ولا نحو مهدي جلال لطعونه في السن، إنه شعورٌ جديد، وهو أول مُنافس حقيقي لعلي جلال. عجبت لذلك فماج قلبها خوفًا مُبطَّنًا بسرورٍ خفي. عمرو قريب جدًّا وأليف جدًّا، ينبض في جذورها الرشيدية، وهو يُصرُّ على المجيء مُتحديًا الجفاء المحيط من أجلها هي، وهو مُثير للإعجاب بقوته وتحدِّيه. وهمس علي جلال في أذنها: لا تُلبِّي إذا طلب.

هل استشعر باطنه خوفًا؟! ماذا عليها أن تفعل هي التي لم تُخالِف له أمرًا؟ إنها تُضمِر العصيان لأول مرة في حياتها. وتذكَّرت كلمات مهدي باشا عن الاستقلال والكرامة. ماذا يريد علي منها أكثر مما أخذ؟ ها هي لأول مرة أيضًا تُحاسبه. وحلَّت اللحظة الحرجة، فجاء الجرسون يُبلغها الدعوة. لاحظت أن سعداوي يُراقبها بقلق؛ ذلك المحب القديم الصامت، دنا منها وهمس: لا تذهبي.

فتساءلت: لماذا؟ .. ألم تقل إنه واجبي؟

– ولكن سيقع شرٌّ لا مفرَّ منه.

وذهبَت بلا تردد، وجلست وهي تشعر بأنها تستقبل حياةً جديدة، وإذا بعلي جلال يقتحم المقصورة ويأمرها قائلًا بفظاظة: اذهبي.

حدجه عمرو بنظرة قاسية وقال: عليك أنت أن تذهب.

فلم يُبالِه، وكرَّر أمره لسمارة: اذهبي.

– ولما لم تتحرك هوى بكفه على وجهها.

وثب عمرو فوجَّه إليه لكمةً صادقة، سرعان ما اشتبكا في صراع مُخيف كنمرَين. وجاء مأمون الفرماني وسعداوي والجرسونات. لم يُفلِح أحد في الفصل بين المُتعاركين حتى تهاوي علي جلال على الأرض؛ فعند ذاك رفع سعداوي كرسيًّا ليضرب به الشاب، غير أن سمارة صاحت به: ارمِ الكرسي من يدك يا سعداوي.

وقف سعداوي ينظر إلى عمرو ولا يقول شيئًا وقد اصفرَّ وجهه من شدة الغضب.

وقبض عمرو على يدها وهو يلهث ثم قال: لا يجوز أن تبقي هنا بعد الآن.

٣٥

كانت غاضبة وحزينة فمضت معه كأنها في حلم .. تترك الفلير دامور وتهجر الرقص؟! هل يمكن أن تتغير الحياة في غمضة عين؟ لم تُحبَّ حياتها الماضية، ولكنها لم تُبغضها أيضًا لما أملتها في تحقيق الحياة المستقرة التي تهيم بها. خرجت منها كما دخلتها فقيرة لا تملك مليمًا. استقرَّت في شقة صغيرة مُتواضعة على مَبعدة دقائق من شقتها الأولى. ولأول مرة تحكي قصتها بلا أكاذيب. وقال عمرو أول ما قال: لم تخسري بمجيئك شيئًا؛ فقد كنت طيلة الوقت منهوبة.

فقالت بصدق: ما اهتممت أبدًا بالنقود، وما تطلَّعت إلا للحب والاحترام.

فقال ضاحكًا: عندي منهما الكثير، ولكن لا مال لي إلا مُرتَّبي المحدود.

– لا أهمية لذلك عندي.

فقال بحرارة: وبالصدق والأمانة أُصارحك بأني أحبك.

ومضت الحياة عذبة، غير أن علي جلال قابَل رئيس المصلحة وادَّعى أن عمرو طالَب برشوة، ولما رفض سعيه افتعل مشاجرة ثم خطف راقصة الملهى.

٣٦

لم يُسفِر التحقيق عن شيء، ولكنه أساء إلى سمعة عمرو عبد القوي حتى اضطُرَّ إلى أن يعلن رئيسه بأنه أخذ الراقصة حقًّا ولكن ليتزوَّج منها. وبالفعل عرض الاقتراح على سمارة وتم عقد القران. ورغم ذلك صدر قرار بنقله إلى الصعيد، فثار عناده وقدَّم استقالته. إنها لخطوة جنونية، ولكنه وجد عملًا في مكتب محاسبة حتى يمكنه الاستقلال بالعمل. سمارة كانت السعيدة الفائزة، لقد تحقَّق حلمها الأبدي في الزواج، وسعدت سعادة لا مثيل لها، غير أنها سألته: هل تورَّطت يا عمرو في الزواج مني؟

فقال بقوة: أبدًا .. الظروف سبقت، هذا كل ما هنالك، ولكن نيتي كانت صادقة.

وازدهرت سمارة كالوردة المُتفتِّحة.

٣٧

وتتابعت الأيام مُتألقةً بالبهجة، ومع أنه كان شتاءً قاسيًا كثير العواصف والمطر إلا أنها سعدت به وهي تُشاهده لأول مرة من وراء الزجاج دون اضطرار إلى الخروج اليومي والسهر. أصبحت بمأمن من عواصف الحياة وأمطارها، واستوت العاصفة والأمطار في وعيها رمزًا للجود والبهاء. وفي ذلك الشتاء انتقل مهدي باشا جلال إلى جوار ربه، وقد أوصى لها بمبلغ عشرة آلاف من الجنيهات. هبطت الثروة من السماء وقد بكت الراحل طويلًا، ولكنها تمالكت نفسها لدى عودة عمرو، وقالت له: صِرنا أغنياء يا عمرو.

ولكنه عبس وقال: كيف فعل ذلك لامرأةٍ مُتزوِّجة؟!

– من أين له أن يعلم بزواجي؟

فقال بازدراء: ولو!

قالت بصدق وحرارة: كان أبي يا عمرو، صدِّقني.

– كانت سمعته الخاصة سيئة.

– رعاني وهو في السبعين.

– ولو .. كان رجلًا سيئ السمعة.

فاغرورقت عيناها وقالت: لو عرفته بنفسك لكان لك فيه رأيٌ آخر.

فقال بحدة: أني أكره هذه الدموع.

– أتريد أن أرفض النعمة؟! .. إنك فقير، وفي بطني جنين.

فغادَر الحجرة وهو يُدمدم، لكنه لم يُدلِ برأي حاسم. لو أراد الرفض لجهر بذلك وهو لا ينقصه الصراحة. هكذا احتفظت بالمال الموهوب.

٣٨

سعدت سمارة بزوج يحبها حقًّا، زوج مُفعَم بالرجولة والفحولة والشهامة والعطف. ولم يُكدِّر صفوَها شيءٌ من العادات البالية؛ إذ كان بلا أهلٍ مثلها. ولا شك أنه كان نشيطًا في عمله، فما لبث أن فاق دخله مُرتَّبه السابق، غير أن الأيام كشفت لها عن عيب أو عيبَين جوهريين فيه؛ إنه شديد الغضب، وغير مُتسامح. وإذا غضب أفصح عن غضبته بالكلمة والفعل. في مرة، عند خروجها من سينما رويال لمح شابًّا يُغازِل فتاةً بقحة، فما كان منه إلا أن لطمه، ثم فعل به ما سبق أن فعل بعلي جلال. ارتعبت وقتها وقالت له: بالغت في العنف، وكان القليل يكفي.

فقال لها بانفعال: إنها اللغة الوحيدة المُجدية.

– لقد كنت على حق، ورغم ذلك فقدت عطف الناس.

– لا يهمُّني الناس.

ولكن ثَمة عيب آخر بدا خطيرًا فتَّاكًا؛ ذلك ولعه بالقمار. ما إن انقضى شهر العسل حتى كُشِف سره. كان يُقامر في شقة بالإبراهيمية، يسهر حتى منتصف الليل، ويمتدُّ السهر أحيانًا للفجر. قالت له برجاء: صحتك ومالك.

فقال بأسًى: لكل إنسان عيبُه.

– ولكن هذا العيب قد يخرب بيتنا.

فقبَّلها وهو يقول: لا تُبالغي، ثم إني محظوظ.

ولكنه كان يخسر أيضًا، ومرةً رجع مدينًا بمبلغ جسيم أخلَّ بميزانه، فقالت له: عليك أن تُسدِّد الدين مهما كلَّفنا ذلك.

وأعطته من هبة مهدي باشا جلال، فتقبَّلها بوجهٍ واجم ونفسٍ مُنكسِرة حتى أثار عطفها.

وواصَل اللعب، وانقلب عليه الحظ حتى أتى على التركة كلها، واسودَّ وجه الحياة.

ووُلد أحمد في ذلك الجو المُتجهِّم.

٣٩

وقال لها ليلةً عقب عودته من الإبراهيمية: مصادفة سيئة جدًّا.

– ليحفظنا الله.

– انضمَّ إلى مائدتنا علي جلال.

فانقبض قلبها وتساءلت بقلق: مصادفة؟!

– طبعًا.

– وهل ذهب إلى هناك كل ليلة؟

– يبدو ذلك.

– قلبي غير مطمئن.

– المائدة تجمع بين خير الناس وأسافلهم.

– إنه سبب كافٍ لكي تُقلِع عن هذا الداء الوبيل.

فلاذت بالصمت. وتوكَّد لديها أن ما تتمنَّاه حُلمٌ بعيد المنال، فتنهَّدت قائلةً: طالما حسبت نفسي أسعد امرأة في الوجود.

فقهقه قائلًا: وإنك لكذلك يا جاحدة.

فقالت بنبرة باكية: إني تعيسة يا عمرو.

٤٠

ومضت الأيام في قلق وتوتر حتى صدقت مخاوف قلبها، بل جاءت الأحداث أسرع مما قدرت؛ ففي ليلة احتدم التناحر ما بين عمرو وعلي فانتهى إلى غايته المحتومة وهي الشجار، وتراجع علي جلال أمام ضربات لا قِبل له بها، فاستلَّ مِطواة طعن بها قلب خصمه فتهاوى فاقد الحياة.

هكذا اختفى الرجلان اللذان أحبَّتهما في ليلةٍ واحدة، ذهب أحدهما إلى القبر والآخر إلى الليمان.

وجُنَّت المرأة من الحزن. وجدت نفسها وابنها في دنيا خالية. فقدت الحب والأمان. ناءت تحت عبء مسئوليَّتها الكاملة عن وليدها ونفسها، وخاصةً وليدها، ابن الرجل الذي أحبَّته، الذي قرصته حشرة فقوَّضت بنيانه.

٤١

وانشقَّت الظلمات — ذات يوم — عن وجه سعداوي بيَّاع الفستق. أثار في قلبها مكامن ذكريات جميلة وأخرى مُحزِنة، ولكنها وجدت نحوه امتنانًا لا شك فيه، وتلقَّت مواساته الصادقة بمودة وأسًى، ثم وضح أنه جاء من أجل هدف أدلَّ على صدق عواطفه من المواساة وحدها. قال: مأمون الفرماني على أتم استعداد لاستقبالك.

ولكنها قالت بوضوح: لن أرجع إلى تلك الحياة يا سعداوي.

فقال الرجل بحماس: وعدٌ عليه حق؛ ألَّا يُطالبك بما لا ترتضينه.

فقالت بإصرار: أصبحت اليوم أمًّا، وعليَّ أن أصون سمعة ابني من الآن فصاعدًا، ومن حسن الحظ أنني أخفيت هديةً ثمينة أهدانيها المرحوم مهدي باشا جلال، وبها يمكن أن أبدأ بدايةً جديدة تُمكنِّني من تربية ابني كما أريد.

ارتسم الترحيب في وجه سعداوي وتمتم: ليَكُن، إنه أفضل على أي حال، وستجدينني في خدمتك على الدوام.

جلس الرجل يرنو إليها ولا يزيد، ولكن نظرة عينَيه باحت بأكثر مما قال، كأنما تبتهل إليها أن تؤمن بأنها ستجد دائمًا من يتذكرها عند الشدة، ومن يحبها حبًّا صادقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤