صاحب الصورة

اختفى شيخون محرَّم.

كان اختفاؤه حدثًا هزَّ المجتمع هزةً عنيفة. كان رجلًا مرموقًا، ذا نشاط مالي عريض، وله في السياسة وجودٌ راسخ وأثر، وفي دنيا الإحسان والخير أيادٍ بيضاء، إلى سمعة طيبة ذات رائحة زكية.

غادَر سراياه في أصيل يوم قاصدًا النادي، ثم اكتشفت أسرته — المُكوَّنة من حرمه سريرة هانم ووحيده عيسى — أنه لم يعد. انزعجت الأسرة أيَّما انزعاج؛ إذ لم يسبق أن شذ الرجل عن جدول مواعيده بلا إخطار. اتصلت الهانم برفقائه في النادي، فأجمعوا على أنه لبث بينهم ساعةً واحدة ثم انصرف ليزور — على حد قوله — شقيقه محمود محرم في سراياه بالزمالك. وفي الحال اتصلت الهانم بمحمود محرم، ولكن زوجته أجابتها بأن زوجها في رحلة في البحر الأحمر يرجع منها مساء اليوم، وأن شيخون لم يزُرهم منذ أكثر من أسبوع. وشهد سائق السيارة بأن الرجل غادَر النادي، أمره بالانتظار في موقفه ثم مضى مشيًا على الأقدام، وأنه لزم موقفه حتى شقشق الصبح.

وبدأ بحثٌ شاقٌّ ملهوف على شيخون في جميع مظانه؛ عند جميع الأصدقاء والزملاء، في الإسكندرية وفي العزبة، فارتطم دائمًا بخيبةٍ مُرة، فاشتعلت الأفئدة بالقلق والوجل، وتجمَّعت سُحبُ الظنون.

ووفد على سراياه الأهل، وفي مقدمتهم شقيقه محمود محرم، والأصدقاء والمعارف، وتداولوا الأفكار والحلول، وقالت سريرة هانم: لو كان بخير لاتَّصل بنا.

واستقرَّ الرأي على إبلاغ الجهات الرسمية. عند ذاك اتخذ البحث مجرًى جديدًا فشمل الأقسام والمستشفيات، وازداد اللغز انبهامًا، والتشاؤم استفحالًا، وكأن الرجل رائحة وتلاشت في الكون.

وتلاحقت الأيام .. فتجسَّد الاختفاء صخرةً سوداء لا تتزحزح، يتحطم عليها الأمل. لقد اختفى شيخون محرم كأنه لم يكن.

وجاء دور التحقيق والتحريات، ولكنه لم يُسفِر عن جديد أيضًا، فلا عداوة ولا سرقة ولا شبهة سبب ما قد يُفضي إلى جريمة.

وخلَت سريرة هانم إلى ابنها عيسى وهي في غاية من اليأس، وقالت له: لم أُدلِ بكل ما عندي في التحقيق.

فرنا إليها الشاب ذاهلًا وتساءل: أعندك مزيد؟

– قلتِ إني لا أعرف لأبيك عدوًّا.

– هذا حقيقي.

– كلا.

ثم مُواصلةً حديثها بعناد: عمك.

– لا .. لا .. المسألة أنك دائمًا تُسيئين به الظن .. ليس لديك دليل واحد.

– لديَّ قلبي.

– لا يكفي. إنك تكرهينه.

– لا لشيء إلا لأنه كره أباك.

– لا أُوافقك على ذلك، كانت العلاقة بينهما دائمًا مثالية.

– في الظاهر فقط، وعمك مُجرِم، ألم تسمع بما يُقال عن ضحاياه في الريف؟

– ذاك أمرٌ آخر.

– إنه مطبوع على الإجرام.

– كان يحب أبي وأبي يحبه.

– قلبي لا يكذبني. كنت أقرأ في عينَيه أحيانًا ما يُخيفني، إنه ينفس على أبيك نجاحه وثراءه.

– عمي ليس بالفقير.

– هنالك سر لا تعرفه، لقد واجهت عمَّك خسارةٌ أوشك أن يبيع بسببها أرضه لولا أن أسعفه أبوك، أسعفه بلا عقد. أنت تعرف شهامة أبيك، ولكن الدين ثقيل ولا حجة عليه.

فتأفَّف الشاب وقال: المسألة أنك سيئة الظن بعمي.

– المسألة أنك مُصرٌّ على حسن الظن به.

– هذا هو الأصل.

– آخر ما سمعنا عن أبيك أنه ذهب للقاء عمك.

– ثم ثبت أن عمي كان في رحلة مع صحبه.

– طالما قتل عمك الأبرياء وهو بعيد عن موقع الجريمة.

– أساطير لا دليل عليها .. لماذا تكرهينه؟

– قلبي، ألا تؤمن بحديث القلب؟

– كلا، لا أومن إلا بالمحسوس.

– هذا يعني أنك لا تؤمن بشيء.

– هل فاتحت أبي بظنونك؟

– لم يُصدِّق لصفاء سريرته.

– أرأيت؟

– ولكنه اعترف لي بخلافٍ نشب بينهما قديمًا.

– هذا حال الناس جميعًا.

وكانت الأم أصلب مما تصوَّر ابنها، فأفضت بظنونها إلى المُحقِّق. وكان خَطبٌ وفضيحة، وجرى تحقيقٌ دقيق مع محمود محرم، ولكنه لم يُسفِر عن شيء. تزعزع الأساس الذي يستند إليه فرعا الأسرة الواحدة، وطالبت سريرة بالقرض الذي اقترضه من زوجها، فكان جواب العم أنه سدَّده، وأنه لم يكن بينه وبين شقيقه تعامل رسمي. وزاد ذلك من سوء ظن المرأة، ولكن العجيب أن محمود محرم بقي على ولائه لذكرى شقيقه، بل إنه استدعى عيسى إلى مقابلةٍ خاصة في النادي وقال له: أسباب الغضب متوافرة لديَّ، ولكني مُصرٌّ على الإبقاء على أواصر القربى، فتذكَّرْ دائمًا أنني عمك، كما أتذكَّر دائمًا أنك ابن أخي.

وتواصلت الأيام، ولحقت بها الأشهُر ثم الأعوام، انتهى شيخون محرم! غير أنه عاش ذكرى حية في ضمير سريرة هانم، ذكرى حية لا تموت. لم تتعزَّ أبدًا، لم يفتر حبها له، لم تيئَس من أن يستقيم عود العدالة المعوجُّ ذات يوم. وكثيرًا ما كانت تقول لابنها: أبوك يُطالبنا بالعدل ونحن عنه لاهون.

وكان عيسى قد حل محل أبيه في الإدارة، فشغله العمل عن كل شيء، وشغلته الحياة أيضًا بمسرَّاتها اليومية، فكان يتجنَّب مناقشاتها ما وسعه ذلك. ويُثيرها بُروده فتهتف: ألا ترى أني لم أذرف حتى الآن دمعةً واحدة؟!

فيقول برقَّةٍ ما أمكنه ذلك: ما هكذا يلقى العقلاء النوائب.

– أتراني مجنونة؟

– أمي.

فتقول بأسًى: لم ترث إلا أملاكه.

وحلَّت الكارثة الكبرى عندما قال لها يومًا: أمي افتحي لي صدرك.

فرمقته مُتوجسةً، فقال: قرَّرت أن أتزوَّج من سميحة.

بُهتت المرأة. اصفرَّ وجهها. ارتعشت أطرافها. قال بضيق شديد: الأمر بسيط جدًّا لولا ظنون لا أساس لها.

فقالت بفزع: طالما توقَّعت ذلك، طالما توقَّعته كأنه الموت المحتوم.

فابتسم في امتعاض شديد دون أن ينبس، فتمتمت بمرارة: ابنة قاتل أبيك؟

فقال برقة: ابنة عمي.

تقوَّست المرأة في جلستها من شدة الألم، ثم قالت بحدة صارمة: إنه الفراق الأبدي بيني وبينك.

وهاجرت من المدينة إلى القرية، عاشت في السراي الصغيرة في وحدة عميقة، وتركَّزت طيلة الوقت في هواجسها. وكان صوتها يُسمَع وهي تُحاوِر نفسها بلا انقطاع. غرقت في الضياع الذي ذاب فيه زوجها المحبوب.

وتزوَّج عيسى من سميحة. أصرَّ عمه على أن يذهبوا جميعًا إلى القرية ليُقدِّموا فروض الود ويستوهبوا الرضا، ولكنها أبَت أن تلقى أحدًا منهم، ومضت تُردد: ها هو ذا القاتل يُحقق هدفه ويصبُّ ثروة ضحيته في ذريته.

واستفحل العذاب بالأم حتى مزَّق وحدتها. وفي مِحنتها الطاغية أخذت ترى المأساة خلال أبعاد جديدة وافدة من المجهول. تألَّق في باطنها إلهامٌ مُتوثِّب بأن الأشياء تُخلَق من جديد، وطرَق أُذنَيها همسٌ مُضيء دعاها إلى تلبية نداء خفي. تلاشى إيمانها بالجريمة فتبخَّر اليأس وزال، وإذا بها تخرج من عذابها إلى الناس، تمضي في وقارٍ ظاهري وبيدها صورة شيخون. وكلما صادَفها شخصٌ عرضتها عليه مُتسائلةً وهي تنتظر أن يجيئها الجواب الشافي في يوم من الأيام. لم تسأم من تَكرار السؤال، ولم يُثبِّط همتها النفي، وترامت أخبارها إلى عيسى ففكَّر في اتخاذ إجراء حاسم، ولكنه اكتفى بعد تدبُّر ومراجعة بتكليف أحد أتباعه في القرية بحراستها من بعيد. وتتابعت خطوات الزمان وهي مُصرَّة على بحثها العقيم، وتقدَّم بها العمر فلم تهمد ولم تخمد.

•••

وبعد دهر فريد.

كان عيسى يجلس في السلاملك ذات أصيل عندما رأى عجوزًا يتسلل إلى السراي مُتوكئًا على عصاه، رنا إليه مُقطِّبًا بادئ الأمر، ثم اجتاحه الارتياع والذهول فوثب نحوه وهو يهتف: أبي!

حمل ما بقي منه بين يدَيه ومضى به إلى فراش، وسُرعان ما استدعى الطبيب. لم يكن به مرض، ولكن أنهكته الشيخوخة والضعف. وما إن استلقى فوق الفراش حتى تخلَّت عنه قُوى المقاومة فتبدَّل شخصًا آخر. ولما استيقظ من نوم عميق ظنَّ عيسى أنه استردَّ عافيته، فسأله بشغف: أين كنت يا أبي؟ .. ماذا غيَّبك ذلك الدهر الطويل؟

ولكنه لم يُجِب، بل كأنه لم يسمع، وهوَّم في آفاقٍ بعيدة، ورجع عيسى يسأل من جديد، ولكن الأب لم يُبالِه، وتمتم كأنما يُخاطِب نفسه: الجبال الخضراء.

فسأله باهتمام: أكنت في الخارج؟

فمضى العجوز في حديثه الباطني: والبحيرات الزرقاء.

– أين يا أبي؟

فهمس مُتنهدًا: وعش الحب والعناء؟

فهتف عيسى في أسًى: لقد فقدت أمي عقلها.

فعاود الهمس مُتمتمًا: عش الحب والعناء!

•••

ويئس عيسى من الاتصال به، ولكنه قرَّر أن يجمع بين أبيه وأمه، وأمل من وراء ذلك في الشفاء.

وجيء بالأم رغم إرادتها حتى بكت، ولما أجلسوها أمام الراقد فوق الفراش كفَّت عن البكاء. خفق قلب عيسى بالترقب .. ولكن لم يحدث شيءٌ ذو بال. لم يتبادل الزوجان نظرة عتاب أو فرح أو حزن. ترامقا كأنها ينظران في فراغ. غاص كلٌّ منهما في دنيا لا علاقة لها بدنيا الآخر، كأنه لم يعرفها وكأنها لم تعرفه. تفشَّى في الجو توجُّس وأسًى عميق. شعر عيسى بأنه مجهول الأبوَين.

وقامت الأم كأنما ضاقت بالجلوس. اقتربت من الفراش حتى لامسته، ثم بسطت الصورة أمام عينَي العجوز، وطرحت سؤالها الخالد: هل تستطيع أن تدلَّني على صاحب هذه الصورة؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤