الحوادث المُثيرة

١

سأذكُر ما حييت حوادث حي الخليفة المُثيرة المُفزِعة. الحق أنها لم تكن كلها مُفزِعة؛ فمنها حكايات تناقلها الناس عن هبات مجهولة من النقود تتسلل بليل إلى بيوت الفقراء، ولكن منها أيضًا حالات التسمم بالجملة، والحرائق، وأكثر من ذلك تَكرارها على وتيرة واحدة مما أشار إلى فاعل واحد. وبثثنا العيون والحراس، وقمنا بدوريات ليلية مُنتظمة. وقلت لرئيسي: المجرم مجنون ولا شك.

فقال لي بحدة: المهم أن نقبض عليه.

وتقضَّت أيام البحث وأنا في غاية من التعاسة؛ فلا نتيجة ولا أثر ولا توقُّف للحوادث، حتى جاءنا خطابٌ غُفْل من الإمضاء، به سطرٌ واحد:

«مُجرم حوادث الخليفة هو مكرم عبد القيوم المقيم بالشقة ٣ بعمارة الفردوس.»

فقرَّرنا بلا تردُّد مراقبته، ولكن سرعان ما انكشف لنا أنه أخلى شقته منذ يومين، وبادرت إلى التحري عنه في العمارة، فقابلت مالكها وهو ساكن بها أيضًا، وقلت له: أريد ما عندك من معلومات عن مكرم عبد القيوم الذي كان يسكن الشقة رقم ٣.

فأجاب الرجل: لقد أخلاها منذ يومين.

– أعرف ذلك، ولكن إلى أين انتقل؟

– لا علم لي بذلك .. لعلك تعرف محل نقل الأثاث الذي حمل أثاثه؟

– إنها شقة مفروشة، وقد حمل حقائبه في تاكسي ومضى.

– أتعرف التاكسي أو سائقه؟

– كلا.

– ما عمره؟

– يصعب تحديده لقوته وصحته، محتمل أن يكون في الثلاثين أو في الأربعين.

– وما عمله؟

– من الأعيان، ولكنه كان موفور النشاط، يُغادِر العمارة في الصباح الباكر، ويرجع في أول الليل، ولكني لم أتابع خط سيره إلا كلما اتفق لي ذلك.

– وأسرته؟

– إنه وحيد، لم يزُره أحد فيما أعلم.

– معاملته؟

– من وجهة نظري في غاية الكمال، يؤدي الأجرة — مائتَي جنيه — في أول يوم للشهر، ولم أجد منه متاعب على الإطلاق.

– وسلوكه الشخصي؟

– لا غبار عليه فيما أعلم، إنه يحترم نفسه بكل معاني الكلمة.

– ألم تعرفه عن قرب؟

– كلا، مرةً عند تحرير العقد، ومرةً عند فسخه.

– عندك فكرة عن حالته المالية؟

– كلا، ولكنه وجيه المنظر، ثم إنه يدفع إيجارًا لسكنه فقط مائتَي جنيه.

– ألم يترك في نفسك انطباعًا بالشذوذ أو الإجرام؟

– إنه أبعد ما يكون عن ذلك.

– أعطِني فكرة عن منظره؟

– طوله فارع، ضخم، قوي، قمحي اللون، ذو قسمات واضحة وقوية وبارزة، أنيق جدًّا.

– له علامةٌ مميزة؟

– رغم سُمرته فهو ذهبي الشعر والشارب.

– كيف أجَّر الشقة؟

– بوساطة السمسار عزُّوز بأول شارعنا.

٢

لم أجد في أقوال صاحب العمارة أية إشارة ضوئية، فقرَّرت أن أُثنِّي بالبوَّاب. وكان كالمألوف نوبيًّا، ولكنه كان طاعنًا في السن. قلت: أودُّ أن أتحدَّث عن مكرم عبد القيوم.

فقال بحرارة: ربنا يحفظه!

– إنك تحبه فيما يبدو؟

– كيف لا؟ إنه أطيب خلق الله.

وسألته أول ما سألته عن التاكسي الذي حمل حقائبه، فأجاب: وجه السائق غير غريب عني.

فدوَّنت ذلك في مذكرة خاصة، ثم تساءلت: قلت إنه أطيب خلق الله؟

– أجل، ما كلَّفني مرة بعمل إلا نفحني مكافأة، غير المواسم والأعياد، دائمًا بسَّام، يُحيِّيني في الذهاب وفي الإياب، يسأل عن حالي، لا أنسى مساعدته لي عندما كنت أقوم بتجهيز ابنتي، إنه حلم المحروم، ودواء الجريح.

– أعتقد أنه أخبرك عن المكان الذي انتقل إليه؟

– كلا .. ولكنه وكَّد لي أنه سيمرُّ بي كثيرًا.

– يعني زيارة خاصة لك؟

– ربما عند زيارته للحي لدى سبب من الأسباب.

– تُرى لماذا غيَّر مسكنه؟

– عندما سألته عن ذلك أجاب بأنه يحب التنقل.

– ماذا تعرف عن صفاته؟

– إنه قوي ومهيب وجميل، وهو أيضًا رقيق العواطف لدرجة لا تتناسب مع قوة مظهره. سمع مرةً صراخًا على ميت في عمارتنا فاغرورقت عيناه بالدموع، وكان يهبني نقودًا لأبتاع خبزًا للقطط الضالَّة التي تحوم حول العمارة، وبلغت به الرقة أنه كان يرمي بحبَّات من الفول السوداني عند بئر السلَّم غذاءً لفأر كان يلمحه كثيرًا.

– جميل هذا كله، ولكنك لا شك تعرف أشياء لا يعرفها أحد عن سلوكه الشخصي؛ فرَجلٌ وحيد لا يستأجر شقة مفروشة لوجه الله.

– لم يدخل شقته أحدٌ قط، هذا الجانب لا يمكن أن يفوتني.

– ولا أصحاب ولا أقارب؟

– ولا أصحاب ولا أقارب.

– وكان يغيب طيلة النهار في الخارج؟

– في بعض الأحيان كان يتغدى في شقته، فيطلب غداءه من أحد المطاعم.

– ألم يلفت نظرَك شيءٌ داخل شقته؟

– لم أدخلها قط.

– ماذا تعرف عن مواعيد رجوعه ليلًا؟

– كان يرجع عادة حوالَي العاشرة، وقد يتأخَّر به السهر إلى منتصف الليل أو حتى إلى مطلع الفجر.

– كيف تُرى لو ثبت لك يومًا أن ذلك الرجل سمَّم أبرياء وأشعل حرائق؟

فأخذ الرجل وقال: يكون نذيرًا بقيام القيامة.

٣

جمَعْنا سائقي التاكسي العاملين في الحي، عرضناهم على البوَّاب فتعرَّف على أحدهم، ويُدعى يونس، باعتباره صاحب التاكسي الذي حمل حقائب مكرم عبد القيوم. ولم يجد السائق صعوبة في تذكُّر الرجل، وقال إنه أوصله إلى سميراميس. وانطلقت إلى الفندق مصحوبًا ببعض المُعاونين، وهناك توكَّد لي أن الرجل بات في الفندق ليلةً واحدة ثم غادَره في الصباح الباكر. رجعت أسال عن هُويَّة التاكسي الذي حمله، لكن الشيَّال وكَّد لي أنه نقل الحقائب إلى سيارة ملاكي مرسيدس بيضاء، وأن البك الضخم الأسمر ذا الشعر الذهبي ساقها بنفسه، أما رقم السيارة فلم يلحظه أحد.

أهو صاحب السيارة؟ لمَ لم يستعملها طوال إقامته في العمارة؟ .. هل امتلكها أمس فقط؟ كلما أحدق الغموض بتصرفاته رسخت تهمة الاتهام في نفسي .. فتوثَّبت غرائز البحث والتحدي في أعماقي.

٤

قصدت بعد ذلك جيرانه المُقيمين معه في نفس الطابق. أولهم مهندس معماري يُدعى رءوف، وما سمعني أردِّد اسمه «مكرم عبد القيوم» حتى تقبَّض وجهه تقززًا، فقلت: يبدو أنك لا تستلطفه؟

– عليه اللعنة! رجل غريب، مُنطوٍ على نفسه لحد الشذوذ، ولا أشك في أنه يمقت البشر.

– للبوَّاب رأيٌ آخر فيه؟

– لا تأخذ بأقوال البوَّاب؛ فإن شلنًا يُدير رأسه، لا أنسى مرةً تلاقينا فيها في مدخل العمارة، بدأته بتحية فردَّ عليَّ بإيماءة مُتكبرة هبط لها قلبي وغلى دمي، إنه وقح وقليل الأدب.

– جديد عليَّ ما تقول.

– أتحدَّى أن تعثر على ساكن واحد من سكان العمارة قد تبادل معه تحية، إنه مُتعجرف بغيض، أما قسوته …

– تقول قسوته؟

– حكت لي زوجتي أنها رأته يركل قطة بحذائه، صادفته أمام باب شقته، فارتطمت بعنف في الجدار ثم سقطت بين الحياة والموت.

– عجيب هذا.

– في مآتم العمارة يتجاهل الواجب الإنساني بلا مُبالاة، يمرُّ أمام السرادق بلا اكتراث ولا حياء.

– وسلوكه الشخصي؟ .. أعني الشقة المفروشة؟

– لا .. لا .. لم يزُره أحد فيما نعلم، أمثاله يُعانون نقصًا خفيًّا يُدارونه بالعجرفة وأبَّهة المظهر.

– ولكنه ثريٌّ فيما يبدو؟

– لمَ لا؟ .. ما أكثر الأثرياء الأوغاد!

٥

ليست شبهة ولكنها تهمةٌ حقيقية. والبوَّاب صادق كما أن المهندس رءوف صادق. وتُوكِّد ظنوني معرفتي الوثيقة لتاريخ الجريمة. من غيرُ مكرم عبد القيوم يرمي بالنقود إلى شرفات الفقراء ويدسُّ السم في الشوكولاتة للأبرياء؟ .. أليس هو الذي يهب النقود لتغذية القطط الضالة ثم يركل واحدة منها حتى الموت؟!

وذهبت إلى الجار الثاني، مُدرس لغة عربية يُدعى عبد الرحمن. قال: الرجل وحيد حقًّا، ولكنه ليس مُتعجرفًا، والمسألة أن المهندس رءوف كرهه من رد تحيَّته بجفاء، ولعله كان وقتها مُكدَّر البال.

– فماذا تراه أنت؟

– أشهد له بالتقوى، طالما تقابلنا في الجامع عند صلاة الجمعة!

– حقًّا؟

– وماشَيْته مرةً عقب الصلاة فوجدته لطيفًا، دعاني إلى الغداء في مطعم الكورسال، وألحَّ عليَّ فلم أجد بدًّا من الاستجابة، وأعلن لي عن حبه التراث، ورغب في الاستعانة بي للاستزادة منه.

– لعله لم يتعلم؟

– كلا .. لم يكن مُتبحرًا في التراث .. ولكنه تخرَّج في الجامعة بكلية الحقوق، ودرس في السربون القانون والتاريخ.

– لعلك الوحيد الذي خالَطه؟

– لعلِّي، كنا نتقابل في مشرب مينا هاوس، وهناك وضَّح لي أنه كثير الأصحاب، مصريين وأجانب، وكان يُدعى إلى التليفون مرَّاتٍ عديدة حتى خُيِّل إليَّ أنه من رجال الأعمال.

– ألم يخطر لك أن تسأله عن عمله؟

– مرةً سألته بلباقة عما يفعل بوقته، فأجاب بأنه يحب أشياء لا حصر لها، ولكنه غير مُلتزم بعمل مُحدَّد، بمعنًى آخر هو من الأعيان.

– ما مصدر ثروته؟

– أرض، أسهُم وسندات وهلمَّ جرًّا .. ولكن ميزته الأولى في نظري أنه واسع الاطلاع .. وقد طالبته مرةً بأن يؤلف في التاريخ، فابتسم وسألني: «أتُصدِّق حقًّا أنه يوجد شيءٌ اسمه تاريخ؟ فاعتبرت تساؤله دعابة، ولكنه استدرك قائلًا: «يمكن الاستغناء عن التاريخ ببابَي المديح والهجاء في الشعر.»

– طبعًا لم تعرف لماذا تجنَّب الزواج؟

– مرةً شكوت إليه تمرُّد أحد أبنائي، فقال لي بأسًى لم ألمسه فيه من قبل: «إن تمرُّد ابن خليقٌ بأن يُشكِّل مأساة بلا نهاية.» .. ولرنين الأسى في نبرته شيء قال لي إنه ذلك الابن أو إنه الأب المُبتلى، وبشيء من الدهاء قلت له: «لقد أرحت نفسك من ذلك كله.» فنظر إليَّ وابتسم .. ولكنه لم يشفِ غليلي.

– لمَ لم تستوضح تلك النقطة؟

– كنت أُعاشره وأهابه، وأخشى أن أثقل عليه فأخسره.

– طبعًا أخبرك بنية ذَهابه؟

– أبدًا .. فوجئت برحيله .. ولكنني حتمًا سألقاه يوم الخميس في مينا هاوس.

– لا أظن، ومع ذلك سنرى.

– لماذا قلت لا أظن؟

– ألا تدري أن ثَمة شبهة في أنه مُرتكِب حوادث حيِّنا المُثيرة؟!

فاتسعت عينا الرجل في ذهول وقال غير مُصدِّق، بل مُحتجًّا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

٦

تجهَّم الغموض فانقلب ظلامًا، ولكنَّ شعوري — شعور الخبرة والسنين — صار يقينًا أو كاد، وأوشكت على الاكتفاء بما استخلصت من معلومات لأُسرع في المطاردة، ولكني لم أجد بأسًا من لقاء الجار الثالث المُلاصق بابه لباب مكرم عبد القيوم — وهو مُفتِّش الضرائب بكر الهمذاني — ما إن سمع اسمه حتى هتف: المجنون!

– مجنون؟!

– طبعًا، طالما بلغني صوته وهو يُدوِّي كالطبل في صمت الليل، تُرى أيتحدَّث في التليفون؟ .. يُحدِّث نفسه؟ .. يتعارك مع خيال؟ ولا عزيف الريح وجعجعة الرعد، وكان هنالك ما هو أدعى إلى الدهشة.

– حقًّا؟

– كان يُغنِّي ويلعب بأوتار العود.

– شيءٌ جديد تمامًا.

– الحق أن صوته قوي وجميل، ولكنه يُغنِّي أحيانًا أغنيات في غاية الوقار، مثل «يا ما انت واحشني»، أو يُغنِّي أغنيات في غاية الابتذال، مثل «أنا أبله كنت هبلة»، أو تصوَّر ذلك الرجل الضخم الوقور وهو يُغنِّي «يوم ما عضتني العضة»، ولكنه رجلٌ عربيد.

– عربيد؟

– كنت مرةً راجعًا من سهرة مسرحية، فرأيته خارجًا من حانة فلاديمير وهو يترنَّح من شدة السكر .. ويقول بلسانٍ مُلعثَم: «أنا جدع.»

– ما أعجب هذا!

– بل يوجد ما هو أعجب، رجعت مرة من سهرة فرأيته يسبقني بخطوات، دخل شقته ومِلت نحو شقتي، ولسببٍ ما وجدنا شرَّاعة بابه مفتوحة. لاحت مني نظرة فرأيت في نهاية الدهليز حجرةً مُضيئة، ولعلها حجرة جلوس، فتسمَّرت في مكاني لغرابة ما رأيت .. رأيت خليطًا من عجائب مُتنافرة، على الجدار المُواجِه لي ثُبِّتت أقنعةٌ غريبة، جميلة وبشعة، ورءوس حيوانات مُحنَّطة، وأسلحة من مُختلِف العصور، وأدوات موسيقية، وفي وسط الحجرة ما يُشبِه المعمل الكيماوي .. بل معمل كيماوي بالفعل.

– معمل كيماوي؟!

– أجل .. مائدة طويلة صُفَّت فوقها أوعيةٌ زجاجية مليئة بسوائل مختلفة الألوان، وأنابيب طويلة مُركَّبة على قوائم معدنية، وبوتقات، ومولدات الطاقة.

– مُدهِش .. مُدهِش.

– ذهبت إلى شقَّتي ذاهلًا .. أيقظت زوجتي .. أخبرتها بما رأيت .. اتَّهمتني بالسكر .. تحدَّيتها أن تخرج معي لترى بنفسها .. كان منظرًا مُذهلًا.

– ألم تتبادل معه تحية أو كلامًا؟

– أبدًا .. أُصارحك بأنني كنت أخافه، وقد تشهَّدت حين سمعت برحيله.

٧

في نفس اليوم ذهبت إلى السمسار، لم أكُن في حاجة إلى مزيد من المعلومات عن شخصية «المتهَم»، ولكني أملت أن أجد عنده خيطًا يُوصِّلني إليه، ووجدته مُتذكرًا تمامًا للمعاملة التي جرَت بينهما رغم انقضاء ما يُقارِب العام عليها، بل إنه قال: ذلك يوم لا يمكن أن يُنسى.

– لماذا؟

– تمَّت المساومة في دقيقة، بل لم تكن ثَمة مساومة على الإطلاق، وكان أكرم مما يتصور العقل، ولكني اكتشفت فَقْد حافظة نقودي في ذلك اليوم أيضًا؛ ولذلك فهو لا يمكن أن يُنسى.

– كيف حدث ذلك؟

– سلَّمني النقود فوضعتها على المكتب ثم انصرف، شُغلت دقائق بمكالمة تليفونية، ثم تناولت النقود لأودعها الحافظة فلم أجد للحافظة أثرًا.

– ماذا دار بخلدك؟

– كانت الحافظة معي، لم يدخل دكَّاني إلا مكرم عبد القيوم ومسَّاح الأحذية، وفي الحال شككت في مسَّاح الأحذية، استدعيته، استجوبته، عنَّفت به حتى صرخ، ولكنه أقسم بأغلظ الأيمان وبكى.

– طبعًا لم تشكَّ في الآخر؟

– كلا، الحق كانت تُساوِرني شكوك أحيانًا ولكنها كانت تعزُّ على التصديق، وقد حرقني فقدُ أكثر من مائتَي جنيه، ولكن كيف أُوجِّه تهمة إلى رجل مثله بدا لي أنه من أصحاب النفوذ بلا أدنى شك؟ .. وما جدوى الاتهام إلا أن يُعرِّضني لبطشه؟!

– وسلَّمتَ أمرك لله؟

– كما يحصل في أغلب حوادث النشل. وكنت أراه أحيانًا وهو ماضٍ في الصباح فأُتبعه عينيَّ بِحيرة وأُتمتم: «ربنا عزيز ذو انتقام.»

٨

واجتمعت برئيسي في مساء اليوم نفسه، وعرضت عليه التقارير التي سجَّلتها بعناية تامَّة. راح يقرأ وهو يسند رأسه إلى راحته حتى فرغ منها، ثم طالَعني بوجه مُتجهِّم وقال: علينا أن نستعيد الصورة، توجد حوادث مُثيرة، بعض الفقراء يجدون في شرفات منازلهم صررًا مليئة بالنقود هبطت من مصدر مجهول، آخرون يجدون عُلَب حلوى سليمة، أناسٌ يجدون عُلَب حلوى مسمومة مات بسببها أبرياء، اختفاء أطفال، حرائق تشبُّ في الحوانيت. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى يجيء جواب من مجهول يُوجِّه الاتهام إلى المدعو مكرم عبد القيوم، وتتحرَّى أنت عن الرجل فتجيئني بمجموعة من التناقضات تُماثِل في غرابتها تناقضات الحوادث. ما رأيك؟

قلت: أصبحت على يقين من أنه المجرم.

– يقين؟!

– إنه شعورٌ داخلي.

– ما يهمُّني هو الدليل القاطع أو الاعتراف.

– لا تنسَ يا صاحب السعادة أن الحوادث توقَّفت منذ رحيله.

– الفترة قصيرة جدًّا ولا تعني شيئًا.

– لا تنسَ أننا أصبحنا مضغة للأفواه.

– سيخونه حِرصه عاجلًا أو آجلًا .. فهو بلا شكٍّ مجنون.

– مجنون؟! محتمل. ومحتمل أيضًا أن يكون عاقلًا وداهية وذا أغراض خفية.

٩

اندفعت في المطاردة بقوة مُتحدِّية، ضاعفت الدوريات والعيون، أبلغت الأوصاف إلى جميع الأقسام، ورسمت خطةً شاملة للمُرشِدين ولأهل الخبرة بأوساط المُجرِمين. لم يخفَ عني أنه تحدٍّ لشخصي ومستقبلي وواجبي، وسيطر الموضوع على يقظتي ومنامي، وفكرت وفكرت ثم قرَّرت تأجيل الاستعانة بالصحف والإذاعة.

١٠

وفيما نحن مُنهمِكون في المطاردة انقضَّت علينا صاعقة، طلعت علينا الصحف بأنباء حوادث مُماثلة لما وقع في حيِّنا، ولكن في طنطا هذه المرة. انطلقت إلى طنطا بلا استئذان، وضعت معلوماتي تحت تصرف المسئولين هناك.

وفيما نحن نرسم خطة جديدة مُعتمِدين أولًا على الاستفادة من التجربة السابقة، طلعت الصحف بأنباء حوادث تقع في أسيوط، وفي الحال سافرت إلى أسيوط وأنا أشعر بأن الجريمة استحالت فضيحةً قومية. وهناك تَلفنتُ إلى رئيسي أُخبره بمقرِّي فإذا به يصيح: أين أنت؟! .. ما هذا التصرف المشين؟!

هممت بشرح الأمر ولكنه صاح بي: احضر حالًا .. لقد عادت الحوادث إلى حيِّنا.

۱۱

وخطر لي أن أستدعيَ رسَّامًا مشهورًا، جمعت بينه وبين الشهود، وطالبته برسم صورة دقيقة للرجل المجهول من واقع شهادتهم، وقلت له: لا تتركها حتى يُقرُّوا بأنها طبق الأصل.

ونشرت الصورة في الصحف مُطالبًا من يعرف صاحبها بأن يدلَّنا عليه، ودلَّنا مُواطِنون على أكثر من شخص؛ عمدة، تاجر أسماك، تاجر شنطة، بل انطبقت الصورة على مسئول في الدولة له شأن، فاستفحلت الفضيحة حتى انقلبنا سخرية الساخرين ونادرة المُعلِّقين.

وصاح بي رئيسي: لقد أشعلت النار في الإدارة.

فقلت بإصرار: لا غبار على الخطة.

– ها قد جاءنا من لا نبحث عنه، وغاب عنا من نبحث عنه.

– لعله تعمَّد الاختفاء أو التنكر.

– واضحٌ أن الحوادث المُتفشية في جميع الأنحاء ليست من صنع رجل واحد.

– لعله رئيس عصابة.

فهتف بيأس: لقد أشعلت النار في الإدارة.

رجعت إلى حجرتي أعمى تمامًا من الغضب. عند الباب سمعت حوارًا حادًّا بين الحاجب وآخر يريد الدخول لمقابلتي. قلت بحزم: لا وقت عندي الآن لأحد.

فقال الآخر بصوتٍ جَهوَري متَّزِن: أنا مكرم عبد القيوم.

١٢

تأبَّطت ذراعه، دخلنا الحجرة، وقفنا مُتواجِهَين وأنا ألهث، تساءل بهدوءٍ غاضب: ما معنى المنشور في الجرائد؟

فسألته وأنا أمتحنه بعينيَّ: لمَ لم تحضر مباشرةً عقب النشر؟

– كنت في البحر الأحمر بعيدًا عن الجرائد وغيرها.

وفصل بيننا صمتٌ متَّقِد حتى عاد يتساءل: ما معنى هذه التهمة السخيفة؟

فقلت بحنق: سنرى.

وقرَّرت إجراء التحقيق في حجرة رئيسي وتحت إشرافه.

١٣

– ماذا أقول؟ .. أجاب الرجل عن كل سؤال فورًا وفي بساطة وثقة، لم نجد دليلًا واحدًا يدينه، عرضناه على أهل الضحايا والمخبرين المبثوثين في أنحاء الحي فلم يشهد أحد بأنه رآه في ليل أو نهار. أذَعْنا رسالة مُوجَّهة للمجهول صاحب الرسالة أن يُنوِّرنا بمعلومات إن كانت لديه فلم يردَّ علينا أحد. وهكذا غادرَنا مكرم عبد القيوم مرفوع الرأس وقد أصابني بضربة قاضية. والعجيب بعد ذلك أن شعوري الباطني باتهامه لم يتزعزع.

١٤

كان لا بد من كبش فداء، فقرَّرت الداخلية نقلي إلى الديوان، وأحلَّت محلِّي من رأته أعظم أهليةً للعمل. وتلقَّيت الأمر بغضب وتحدٍّ، فقدَّمت استقالتي مُعتزمًا الاشتغال بالمحاماة، وظللت أُتابع أنباء الحوادث والتحقيق وأنا مُشفِق من أن ينجح من حلَّ محلي في القبض على المجرم. إنه شعورٌ مُخجِل، ولكنه مُتوافِق مع الطبيعة البشرية. وما أدري ذات يوم إلا ومكرم عبد القيوم يقتحم عليَّ مكتبي. رمقته بدهشة، فجلس أمام مكتبي وهو يقول: جئتك لأعرض عليك أن تتولَّى إدارة أعمالي وقضاياي.

وكان العرض مُغْريًا لدرجة يتعذَّر معها رفضه، ولكنني سألته: لمَ أنا بالذات ولم أعمل في المُحاماة إلا عامَين؟

– ولكنك ذو خبرة كبيرة، ثم إنني أعدُّ نفسي مسئولًا بعض الشيء عن استقالتك.

فسألته بحذر: نوع من الشماتة؟

فهتف بصدق: معاذ الله، ما ورائي إلا شعور طيب .. لمَ لا؟

هكذا أصبحت مستخدمًا في دائرة الوجيه مكرم عبد القيوم.

١٥

وأشهد لقد وجدته وجيهًا بكل معنى الكلمة، وقورًا عالمًا، عذب الحديث، طيِّب المعاشرة، كريمًا ودودًا. وربما فتر حماسي أحيانًا فأتساءل: «ألا يُفاجئني مرةً بتناقض من تناقضاته؟ .. ألا يحسُن بي أن ألتزم جانب الحذر؟» ولكنه خيَّب وساوسي، وقرص ضميري بإصراره على كل ما هو طيب.

وذات صباح — وعقب مراجعته لما عرضته عليه — رجع بمقعده الهزَّاز إلى الوراء وقال: أخيرًا قيَّدوا القضية ضد مجهول.

فقلت بشماتة: لتكن هذه اللطمة ردًّا على اللطمة التي تلقَّيتها.

فقال بهدوء عذب: كلا .. لقد أخطأت.

– ولكن …

وسرعان ما قاطَعني قائلًا: كان من الخطأ أن تُركِّز الاتهام فيَّ بسبب رسالة سخيفة غُفْل من الإمضاء.

فقلت مُدافعًا: ليس بسبب الرسالة، ولكن بإغراء التحريات غير العادية.

– وبتركيزك الاتهام فيَّ تركت المجرم الحقيقي يفلت من يدَيك.

– لم يكن معقولًا أن أربط بين أقوال الشهود وغرابة الحوادث؟!

– يا أستاذ، هل يخلو مخلوق من تناقضات؟ .. ثم ما الغرابة في أن أطعم القطط وأن أركل قطة مريضة هاجمتني؟ .. ما العجب في أن أتوادَّ مع رجل … وأُجافي آخَر لسوء خلقه؟ .. وما الجديد في أن أمضي وقورًا حينًا وأترنَّح من السكر حينًا آخر؟ أيعني هذا أن أُسمِّم الأطفال وأشعل الحرائق؟!

لُذتُ بالصمت مُتفكرًا وحذرًا في نفس الوقت، أما هو فواصَل: بنفس المنطق يا عزيزي يمكن أن تُوجِّه التهمة إليك أنت.

فندَّت مني ضحكة وتمتمت: أنا؟!

– لمَ لا؟ .. لقد استمرَّت الجرائم رغم تشديد الحراسة وبثِّ المُخبِرين. كيف اخترق المجرم سبيله في حي مُلغَّم؟ .. لا شك أنه كان مُطمئنًّا إلى أن أحدًا من رجال الأمن لن يشكَّ فيه، عظيم .. فمن يكون هذا إن لم يكن الرئيس المكلف بالمراقبة؟ .. أو بمعنًى آخر إن لم يكن أنت؟!

فضحكت عاليًا وقلت: وجرائم طنطا؟

– لقد وقعت حوادث طنطا، وثبت أنك سافرت إلى طنطا، أمَّا أن سفرك لحق بالحوادث أو سبقها فلا نعرف عنه شيئًا.

فقلت وما زلت أضحك: عظيم، ولكن ما الدافع وراء الجرائم؟

– هو الدافع الكامن في أعماق المجرم الذي أعياك البحث عنه؟

– في اعتقادي أنه مجنون.

– وغير مُستحيل أن تكون مجنونًا؟!

– هل تجد في عملي معك شبهة جنون؟

– الجنون أنواع، والمجنون آخر من يعلم.

وضحكت مُتظاهرًا بالاستهانة، ولكن حديثه ساءني، وساءني أكثر الجد الذي تناوَل به حديثه حتى خُيِّل إليَّ لحظةً أنه يُوجِّه إليَّ اتهامًا حقيقيًّا، بل إنه يصبُّ اتهامه على الناس جميعًا، ثم تبسَّم فعاد الإشراق إلى وجهه الكبير، وقال بنبرة جديدة: حسنًا، ولنُواصل العمل.

وقلت لنفسي: يا له من رجل مُحيِّر! .. لا شك أن العمل في دائرته فوزٌ مرموق، وأن شخصيته تتعالى عن الاتهام، ولكن ما بال شعوري الباطني باتهامه لا يُفارقني؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤