السكان والمجتمع في النظام القديم ١٦٤٠–١٧٧٠م١

بقلم: هربرت موللر

تغيَّر المناخ الخُلقي والاجتماعي لأوروبا تغيُّرًا حاسمًا مع انحسار الحروب الدينية والأهلية. وتميَّزت الأعوام الأولى لمنتصف القرن السابع عشر حتى عشية الثورة الفرنسية بأنها فترة استقرارٍ اجتماعي لحكوماتٍ قوية ومطلَقة. وسادت فيها الأخلاقيات المهذبة بين الطبقات الراقية كما كانت فترة تنويرٍ لعقول المثقفين. وأصبح التسامح الديني والسلام والاتجاهات الإنسانية هي القيم المسلَّم بها على نطاقٍ واسعٍ. ويتناول المقال التالي الوقائع الاجتماعية والاقتصادية التي كان يرتكز عليها — إلى حدٍّ كبيرٍ — نظام الدولة القديم وثقافته المستنيرة، ويرجع إلى الوضع الديموجرافي المعاصر.

١

فوجئ الإداريون العسكريون في العَقْد الأخير من حرب الثلاثين بموقفٍ أفسد عليهم كلَّ استعدادتهم للمعركة؛ إذ وجدوا أنفسهم عاجزين إزاء النقص في القوى البشرية. فقد كان من المستطاع، حتى عام ١٦٤٠م تقريبًا استئجار الجنود المرتزقة أو طردهم حسب مقتضيات الأمور، وابتداء من القرن الخامس عشر إلى أوائل القرن السابع عشر كان هناك احتياطي كبير من فائض القوى البشرية في كثير من بلدان أوروبا وبخاصة ألمانيا والمناطق المحيطة ببلدان الأراضي الواطئة وسويسرا وبوهيميا. وكان يوجد دائمًا كثيرٌ من المغامرين ممن كانوا على استعدادٍ للاتفاق عن طِيب خاطر على العمل مع ضباط التعبئة دون اعتبارٍ لولاءٍ ديني أو سياسي. ويُعتبَر كلٌّ من فالنشتين (١٥٨٣–١٦٣٤م) وبرنار أوف ساكس فيمار (١٦٠٤–١٦٣٩م) آخر قائدَين من قواد فِرق المرتزقة.؛ إذ إنه بعد وفاتهما لم يعُد ثمة جدوى من الطريقة القديمة في استئجار جنودٍ لآجال قصيرة، ثم الإلقاء بهم إلى عرْض الطريق عندما لا تكون ثمة حاجة إليهم.

وتتضح لنا خطورة الموقف الجديد للقوى البشرية من خلال استخدام الدول — جميعها دون استثناء — لأساليب جديدة في الحرب، وهي الأساليب التي ظلت سائدة طيلة قرن ونصف من الزمان حتى عشية الثورة الفرنسية وحروب نابليون. إذ تغيرت الاستراتيجية، واستُبدِلَت بمناوراتٍ فابية، فبدأ القادة الآن يحرصون على الاحتفاظ بجنودهم بدلًا من التفريط في القوى البشرية، ومن ثَم فإن الفترة الواقعة ما بين عامَي ١٦٤٠م و١٧٨٩م تُعرَف بسيادة استراتيجية النَّفَس الطويل، بهدف استنفاد قدرة العدو على المقاومة تدريجيًّا، وذلك عن طريق المناوشات البسيطة والكر والفر والتهديد بشنِّ معركة ثم التوقف عن ذلك أو الاحتفاظ بمواقع متميزة مع الاستعانة بتحصينات قوية. واستفاد كل رجال الاستراتيجية ابتداءً من مونتيكوتشيلي إلى مارلبورو وفردريك الثاني في بروسيا من أسلوب الحرب الدفاعية تحت ظروفٍ متباينة.

وثمة عدد قليل من البلدان، خاصة بروسيا والروسيا، اعتادت أن تسحب جزءًا من الفلاحين الأرقَّاء للعمل في الخدمة العسكرية، ولكن حتى في بروسيا نفسها فإن فردريك الثاني كان يأمل أن يشكِّل نصف جيشه الكبير على الأقل من جنود مرتزقة غير بروسيين أو من الفارِّين من الجيوش الأخرى أو الأجانب المخطوفين والمجرمين والحرفيين المتجولين وأسرى الحرب. ولقد كانت كل جيوش أوروبا تضم أعدادًا غفيرة من الجنود الذين كانوا يؤدُّون خدمة عسكرية إجبارية. وكان جانب من قوات الأسطول في إنجلترا تتولَّى تجهيزه عصابات التجنيد المرخَّص لها باختطاف المجندين، أو قُطَّاع الطرق الذين يقومون بهذا العمل دون ترخيص لهم بذلك، فكانوا يحتالون على الناس، أو يهددونهم إلى غير ذلك من أساليب أخرى غير مشروعة لاختطاف الشباب من لندن أو المدن الساحلية. لهذا كان الفِرار من الجيش عادة مألوفة رغم العقوبات القاسية التي كانت تُوقَع على الفارِّين.

ويحسُن بنا أن نفهم هذه الحقائق المعروفة من التاريخ العسكري على ضوء علاقتها بسوق العمل المعاصر. فالنقص في الجنود شاهِد على ارتفاع مستوى الدخل لدرجة كبيرة، كما وأنه دليل على حالة الإشباع بين العمَّال المهرة أو نصف المهرة والشبان من عمَّال الزراعة، وهم الفئة التي يُجَنَّد من بينها غالبية الجنود. وقد قال جوستي وهو اقتصادي بروسي وكاتب له دراساته عن الشئون العامة ورحَّالة كتب عدة تقارير عن بافاريا: «كان في وسع العامل الذي يحصل على أقل نسبة من الأجر اليومي أن يحيا حياة أفضل من حياتهم؛ بل إن أفقر صبي من الفلاحين يرى في استدعائه للجيش النظامي بمقاطعته عقوبة كبيرة.»

وكانت القوات البرية في إنجلترا، قبل الحرب الأهلية وبعدها قليلة العدد، وكانت كلما احتاجت البلاد إلى أعدادٍ إضافية من الجنود تبرز أمامها أزمة القوى البشرية مثلما حدث في عامَي ١٧٠٣-١٧٠٤م، عندما بدأت السلطات تستحث المتطوعين أو الكونستبلات بمغرياتٍ خاصة للقبض على «أبناء السبيل» وإرسالهم إلى الجيش. ويشير ديمو إلى هذا بملاحظته التالية:

«إن الفقر هو الذي يجعل من الرجال جنودًا، ويزج بالجموع إلى صفوف الجيش. وإذا كانت ثمة صعوبات تواجه انخراط الإنجليز ضمن صفوف الجيش فذلك لأنهم يعيشون في رخاء وبحبوحة من العيش؛ وكل مَن يستطيع أن يحصل على عشرين شلنًا أسبوعيًّا نظير عملٍ سهل ودائم لا بد وأن يكون ثملًا أو مجنونًا إذا ما انخرط في سلك الجندية لكي يتلقَّى ضربات على رأسه مقابل ثلاثة شلنات وستة بنسات في الأسبوع. ولكن إذا لم يكن ثمة عمل على الإطلاق … فإن آلافًا من الشبان الشجعان سوف يندفعون إلى بايك وموسكيت، ويؤْثرون الموت رجالًا في مواجهة العدو على أن يقيموا داخل بيوتهم يعانون الفاقة ويُهلَكون مع الفقر والأسى.»٢
وكانت أكثر الحكومات ثراء تضمن لنفسها الحصول على الجنود من الدويلات الفقيرة، وذلك لكي تُبقي هي على سكانها المنتِجين. فكانت إنجلترا طوال القرن الثامن عشر تستأجر فِرق الجنود الألمانية كما كانت فرنسا، ابتداء من مطلع القرن السابع عشر حتى الثورة، تشكِّل فرقًا مسلَّحة من الجنود المرتزقة السويسريين إلى أن أصبحت هذه القوات تشكِّل سدس القوات المسلحة المَلكية. وفي بروسيا، أيام حكم فريدريك وليم الأول، كان ثلث القوات المسلحة وافدين من الخارج. وفي ظل حكم خلَفه بلغ تعداد الأجانب في بعض السنين أكثر من نصف تعداد الجيش. ولا شك أن السبب القهري الذي حال دون تجنيد المواطنين من أهل البلد ضمن القوات المسلحة هو الحاجة إلى عمَّال في الزراعة والصناعة؛ إذ كانت الحكومات تدرك — بعمقٍ — المخاطر التي قد تلحق بقدرة المواطنين على دفع الضرائب إذا ما امتصت القوات المسلحة جانبًا كبيرًا من القوة البشرية. وأجازت الحكومة البروسية للموظفين العسكريين الارتباط بأي نوعٍ من المهن والتفرغ لها جزئيًّا؛ وسارت على نظام الإجازات الذي يسمح بالتفرغ الكامل للالتحاق — مؤقتًا — بعملٍ ما، وسنَّت النمسا وبعض الدول الأخرى نُظمًا مماثلة.٣
وشهدت كل الدول التي كان لديها قوات مسلحة برية أو بحرية منافسة صريحة بين العسكريين والمدنيين للحصول على القوى البشرية. ففي عام ١٧٤١م اتهم سِير روبرت والبول — صراحة — التجار الإنجليز فيما وراء البحار بأنهم يعرقلون مدَّ الأسطول بما يحتاج إليه من رجالٍ في وقتٍ تعيش فيه البلاد في حالة طوارئ. وقال في البرلمان إنهم «يغرِّرون بالبحَّارة ليعقدوا معهم عقودًا شخصية، ثم يخفونهم داخل حجرات في أعالي المنازل يستأجرونها لهذا الغرض حتى تتم إجراءات الشحن أو يزول الخطر، وبذلك يضمنون المحافظة على أعمالهم الخاصة على حساب المصلحة العامة، ويعرقلون عمليات الإعداد للحرب التي ألحُّوا هم وحدهم عليها ولا أحد سواهم.» وعندما استُدعيَ للجيش عاملٌ في مصنع تبييض الصوف في زنيبروكين في الإمارة الجرمانية عجز مدير المصنع عن تدبير بديل له، «وتلَفَت — لهذا السبب — أقمشة كثيرة، وواجهت المصانع صعوبات في طريق تسليم البضائع.»٤ وكانت الشكاوى المُرة تعم كل أنحاء أوروبا بسبب نشاط (جاويشية) التجنيد وعصاباته والخسائر الناجمة عن نقص الأيدي العاملة في الأقاليم والمدن. ولكن ينبغي علينا — مع ذلك — أن ننظر إلى العجز في القوى البشرية باعتباره جانبًا واحدًا من الموقف الديموجرافي العام الذي سنبدأ في عرضه إجمالًا.

٢

كان معدل النمو السكاني في أوروبا خلال القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر بطيئًا نسبيًّا. وحدث هذا التخلف الديموجرافي في عصر الاستكشافات الجغرافية؛ حيث تم احتلال مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الجديدة، والاستيلاء على مصادر جديدة للمواد الخام، واتسع مجال التجارة والتسهيلات الائتمانية ونمت المعرفة العلمية نموًّا سريعًا، وتقدمت المهارات التكنيكية فضلًا عن التطور الزراعي الذي كان يسير بخطًى ثابتة وإن كانت بطيئة. وعرف هذا العصر حكومات أكثر فاعلية ومجتمعًا ينمو فيه — باطرادٍ — قطاع من السكان له تطلعاته المتزايدة وطموحه وحوافزه. وأشار أكثر المشاهدين في هذا العصر إلى أن الزيادة الكبيرة في السكان كانت أمرًا مرغوبًا فيه بشدة خلال هذه الفترة أو على الأقل في الفترة الواقعة بين عامَي ١٦٥٠م و١٧٧٠م (هذا باستثناء إيطاليا التي كانت تعاني من الركود الاقتصادي). وكان لدى كثير من المؤلفين انطباع بأن النمو السكاني لم يكن كافيًا حتى ليحتفظ بتعداده الأصلي. وأكد مونتسكيو في كتابه «رسائل فارسية» أن «تعداد السكان في أوروبا لا يتجاوز عُشر ما كان عليه قديمًا.»٥

وكان الكُتَّاب من أصحاب المذاهب التجارية، وكذلك رجال الدولة يعرفون — بكل تأكيد — الظروف العامة لعصرهم بأقل مما هو معروف لدينا الآن. ولكن ربما كانوا على صوابٍ في زعمهم أن العالم الغربي كان يعاني من النقص النسبي في عدد السكان، بمعنى أن عددًا أكبر من القادرين على العمل كان بإمكانه أن يزيد من الرفاهية العامة. والحقيقة أن تعداد السكان، كما هو معروف، قد نقص فقط بشكلٍ مؤقتٍ في مناطق معينة، بينما كانت الكثافة السكانية في أوروبا ككل في زيادة مستمرة؛ ومع ذلك فقد نقص معدل الزيادة لدرجة كبيرة، قياسًا بالفترة السابقة.

وحدث في وسط غرب أوروبا وضعٌ ديموجرافي مخالف لذلك تمامًا، وهي المنطقة التي تضم كلًّا من ألمانيا ومناطق الحدود الشرقية من فرنسا، خاصة مناطق شامبين واللورين وفرانس كومتيه وبرجوندي. فقد كانت هذه المنطقة تتميز بكثافة سكانية عالية جدًّا منذ الفترة السابقة على عهد الإصلاح. بيد أن كارثة سكانية لحقت بها في الربع الثاني من القرن السابع عشر. وقد حسم جونتر فرانز الجدل القديم الذي دار حول مدى ما ألحقته حرب الثلاثين من دمارٍ، وذلك في بحثه الذي ذكر فيه أنه على الرغم من ضآلة عدد قتلى الحرب — نسبيًّا — إلا أن حالات الفرار وضياع الملكية والجوع أنهكت الناس؛ بحيث تمكَّنت الأوبئة من أن تفتك بهم. وكان سكان الأقاليم يفرُّون إلى المدن هربًا من الجندية، وتفشَّت الأوبئة في الأماكن المزدحمة، وتسبَّبت في ارتفاع نسبة وفيات الأطفال ارتفاعًا كبيرًا. ولكن وطأة الحرب على الأقاليم المختلفة لم تكن بنسبة واحدة؛ فثمة مدن — مثل هامبورج ولوبيك — لم تتأثر بالحرب على الإطلاق، وسجلت زيادة في تعداد السكان. ومناطق أخرى مثل سويسرا وغيرها من مناطق جبال الألب تكاد الحرب لم تمسها تقريبًا، وكانت ملاذًا لعديدٍ من اللاجئين. بينما بعض المناطق مثل ميكلينبورج وبوميرانيا وهيس والإمارة الجرمانية وفورتيمبرج كانت الخسائر فيها تتراوح ما بين ٥٠ و٧٠٪، بل كانت أعلى من ذلك في مناطق أخرى. وقدَّر فرانز الخسارة الإجمالية للسكان في ألمانيا نتيجة الحرب والآثار التي ترتبت عليها بما يساوي ٤٠٪. ويبدو أن فورتيمبرج هي المنطقة الكبيرة الوحيدة التي يوجد لها سجلات إحصائية تقريبية عن خسائرها من السكان بسبب وفيات الحرب والهجرة ثم ما تلا ذلك من تعويضٍ لهذه الخسارة؛ إذ كان هناك:

  • في ١٦٢٠م: ٤٥٠٠٠٠ نسمة.

  • في ١٦٣٩م: ١٠٠٠٠٠ نسمة.

  • في ١٦٤٥م: ١٢١٠٠٠ نسمة.

  • في ١٦٥٢م: ١٦٦٠٠٠ نسمة.

  • في ١٦٧٩م: ٢٦٤٠٠٠ نسمة.

  • في ١٧٣٣م: ٤٢٨٠٠٠ نسمة.

  • في ١٧٥٠م: ٤٦٧٠٠٠ نسمة.

وتعرَّض شرق فرنسا لما يشبه الكارثة التي أبادت جانبًا كبيرًا من سكان هذه المنطقة بسبب توالي الحروب والدمار وفرار السكان وتدهور الإنتاج والمرض.٦
ومع ذلك فإن الأوبئة وحدها — دون الحروب — هي التي كبحت جماح كثافة السكان في مناطق كثيرة من أوروبا. وقدَّم لنا عديد من المؤرخين، كان يعمل كلٌّ منهم على انفرادٍ، الدليلَ على أن الظروف المناخية في القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر كانت أقل ملاءمة لصحة الإنسان عنها في الفترات السابقة أو اللاحقة لذلك. ففيما بين عامَي ١٦٢٠–١٧٢٠م كانت الأوبئة الفتاكة عاملًا جوهريًّا في تحديد ديموجرافية جنوب أوروبا، بما في ذلك قطاع كبير من فرنسا وبلدان اسكنديناوه والبلطيق. وكانت أسوأ أعوام مرَّت بإسبانيا هي أعوام ١٦٢٩–١٦٣١م، وكذلك الأعوام من ١٦٣٠م إلى ١٦٥٧م في إيطاليا، وأصابت هذه الأوبئة أيضًا كلًّا من إنجلترا وشمال ألمانيا.٧

وإذا عرفنا أن حجم الأسرة كان صغيرًا فإننا ندرك مدى خطورة هذه الخسائر في الأرواح؛ إذ إن الضغط السكاني خَلَق عُرفًا اجتماعيًّا مسلَّمًا به على نطاقٍ واسعٍ بين الفقراء من الناس، فكان كل خدم المنازل والصبية وعمَّال اليومية وأطفال الفلاحين الحرفيين ممن يُولَدون بعد الابن البكر كانوا جميعًا إما يعزفون عن الزواج أو يتزوجون في سنٍّ متأخرة، والزواج المتأخر يعني تكوين أسر صغيرة الحجم. وارتفاع نسبة وفيات الأطفال في القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر كان عاملًا هامًّا في تخلُّف النمو السكاني. وعلاوة على صِغر حجم الأسرة والظروف المناخية غير الملائمة وكوارث الحروب، كانت الهجرة عاملًا آخر أثَّر — إلى حدٍّ كبير — في التخلخل النسبي للسكان خلال القرنَين السابع عشر والثامن عشر. بل يمكن اعتبار الهجرة — وحدها — عاملًا كافيًا بالنسبة لبعض البلدان، خاصة البرتغال وإسبانيا وروسيا وبولندا، ومع ذلك فقد تأثرت كل بلدان أوروبا بالهجرة إلى حدٍّ ما.

وأدَّى «التوسع الأوروبي» غربًا أو إلى ما وراء البحار إلى سُكنى مواطنين جدد لقارتين شاسعتين. فكان هناك تيار مستمر من السكان يتدفق من البرتغال وإسبانيا ثم أخيرًا من إنجلترا، وبنسبة أقل من فرنسا وهولندا وألمانيا الغربية، ويصب في العالم الجديد وجِهات أخرى فيما وراء البحار مثل سواحل أفريقيا وجنوب شرق آسيا. وهذه الهجرات معروف أمرها — تمامًا — بحيث إنها لا تحتاج منا إلى أي تفصيل، وفي نفس الوقت شرع السلاف في شرق أوروبا في دخول مناطق الإستبس وسيبيريا، وقد كانت من الناحية العملية مناطق خالية من السكان.

وبدأ هذان التياران المتباينان للهجرة في الأراضي المتاخمة «للعالم المسيحي» القديم يفيضان إلى الخارج، أحدهما عبر البحار من شبه جزيرة أيبريا، والثاني يبدأ من شرق أوروبا ويتحرك شرقًا وجنوبًا. وكانت الشخصيات المحورية في المرحلة الأولية هي هنري الملاح (ت. ١٤٦٠م)، وإيفان الثالث (١٤٦٢–١٥٠٥م)، وهو الدُّوق الأعظم الذي حرَّر موسكو من سيطرة التتار. وفي القرن السادس عشر — والنصف الثاني منه بوجه خاص — أصبحت الهجرة إلى خارج البلاد بمثابة حركاتٍ جماهيرية في شبه جزيرة أيبريا وشرق أوروبا. وكان تعداد سكان البرتغال في نهاية هذا القرن يُقَدَّر بحوالي مليون نسمة، أو ما يزيد على ذلك قليلًا، أي أن تعداد سكانها — آنذاك — يعادل سكان بناما اليوم أو ليبيا؛ ومن ثَم فإن فقدان بضعة آلاف قليلة فقط من السكان بسبب الهجرة لا بد وأن يؤثر على البلد الأم. وقيل إن البرازيل البرتغالية كان يسكنها حتى عام ١٥٨٥م حوالي ٢٥٠٠٠ مستوطن من البيض، واستمرت الهجرة بعد ذلك طوال القرنَين السابع عشر والثامن عشر. أما بالنسبة لأولئك الذين نزحوا من أجل الحياة في جنوب شرق أفريقيا والهند ومنطقة آزور والمستعمرات الأفريقية الأخرى على الساحل ربما كان عددهم لا يزيد كثيرًا على عشرة آلاف نسمة. ولكنهم نزحوا عادة وهم شبان في مستهل حياتهم الاقتصادية المجدية، وأصبحت الهجرة في إسبانيا في عهد فيليب الثاني بمثابة بالوعة تستنزف السكان. وفضلًا عن الأعباء الإدارية والعسكرية الثقيلة في أوروبا، كان هناك التوسع الشاسع للعالم الجديد، والذي كان يستهوي المستوطنين الإسبان منذ بداية القرن السادس عشر. ومع عام ١٥٧٤م كان عدد أرباب الأسر في أمريكا الإسبانية يُقَدَّر بحوالي ١٦٠٠٠٠ نسمة.

وحتى منتصف القرن السادس عشر كان قد استوطن الفلبين، التي تم الاستيلاء عليها عام ١٥٤٢م، ما يربو على ١٠٠٠٠ من السكان الإسبان.٨ وفي الشرق لم يبدأ الروس في التوسع إلا بعد بضع عشرات من السنين من تاريخ توسُّع إسبانيا والبرتغال. وكان عام ١٥٦٢م هو العام الحاسم، عندما دحر إيفان الرابع إمارة التتار في كازان؛ وبذلك فتح أراضي التربة السوداء في وسط الفولجا أمام الاستعمار الروسي. وبعد أربع سنوات فقط تم دحْر إمارة استراخان، وضُمَّت إلى الأراضي الروسية عام ١٥٦٦م. وفي أقصى الشمال عجز سكان القرم وموردافيا ممن يتكلمون اللغة الفنلندية دون مساعدة التتار، عن مقاومة الروس الذين توغَّلوا داخل بلادهم. وفي عام ١٥٨١م، أي قبل أن يبدأ سير والتر راليج بسنواتٍ قليلة محاولاته المشئومة لتأسيس مستعمرة إنجليزية فوق أراضي جزيرة روانوك، في تلك السنة عبرَ يرماك وأتباعه من القوزاق جبال الأورال، وبذلك خطا الخطوة الأولى في طريق احتلال سيبيريا واستيطانها. ثم بدأت عملية التقدم الثالثة، وهي أشقها وأكثرها اضطرابًا، ولكنها كانت في نهاية الأمر أجداها وأفضلها جزاءً، وهي العملية التي توغَّل فيها الروس والبولنديون داخل أوكرانيا. وفي عام ١٦٨٩م عندما جلس بطرس الأكبر على العرش، كانت مساحة الأراضي الروسية تعادل أحد عشر أو اثنَي عشر أمثالها في بداية القرن السادس عشر؛ وأصبحت المناطق القديمة التي كان يستوطنها الروس تعاني من النقص الشديد في السكان.٩

ونتيجة لهذا التوسع الواضح في مساحات جديدة من الأراضي فيما وراء الحدود القديمة «للعالم المسيحي» التقليدي، نشأت كما هو واضح، فراغات ديموجرافية في المناطق المتاخمة، وأصبح لها تأثيرها كمناطق جذب للسكان المجاورين لها، ومن ثَم أدَّت إلى حدوث عددٍ لا حصر له من الهجرات الصغيرة في اتجاه المناطق غير المأهولة، أو التي يسكنها عدد قليل جدًّا من السكان. وفي أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر وعندما أصبح شمال غرب الروسيا منطقة قليلة السكان، بدأت السويد تتوسع عبر البلطيق في إستونيا وليفونيا. وسرعان ما شيدت إمبراطورية تضم منطقة البلطيق، رغم أنها لم تكن آنذاك تتعدى مليونًا من السكان. وفي هذه الفترة تقريبًا هاجر ما يقرب من ٢٥ إلى ٣٠ ألفًا من الكارليين من السويد وفنلندا إلى الأراضي الروسية. وبدأت بولندا تتوسع شرقًا أثناء عصر الاضطرابات. ونزح كثير من الروسيين إلى جهة الشرق تاركين المناطق التي احتلها البولنديون، وقد هاجر القطاع الرئيسي من الفلاحين البولنديين إلى غرب أوكرانيا.

وبينما كانت عملية الانتشار على نطاقٍ واسع، وبقوتها الجاذبة تتم في الأطراف الشرقية والغربية لأوروبا، كانت المناطق التي تحتل قلب العالم الغربي — إنجلترا وفرنسا وهولندا، وبوجه خاص ألمانيا وسويسرا وإيطاليا — لا تزال تعاني، وبدرجات متفاوتة، من الضغط السكاني. وكانت الصراعات الداخلية المعروفة ﺑ «الحروب الدينية» والاضطهادات الدينية لها تأثيرها الطارد والمدمر على الأوضاع السكانية. ففي حرب الثلاثين فرَّت جماعات كبيرة من اللاجئين، بل ومجتمعات بأكملها أحيانًا، إلى سويسرا وبولندا اللتين كانتا تعيشان في سلامٍ آنذاك. بيد أن بولندا كانت بحاجة ماسَّة إلى سكان بسبب نزوح البولنديين إلى الشرق والشرق الجنوبي، ونتيجة لذلك فبينما نجد أكثر اللاجئين إلى هولندا قد عادوا إلى ألمانيا بعد الحرب، فإن أولئك الذين مكثوا في بولندا وفد إليهم المزيد من المهاجرين الألمان. وفي أوائل القرن السابع عشر كان عامة الناس لا يزالون يتكلمون اللغة البولندية في أكثر مناطق سيليزيا، وهي المنطقة التي استوطنها كثير من الألمان إبان هذا القرن. وكانت مدينة دانزج بالمثل حتى عام ١٦٥٠م نصف بولندية ونصف ألمانية من حيث لغة الكلام، ثم أصبحت تتكلم الألمانية فقط بعد ذلك.

واستمرت الهجرة الألمانية إلى بولندا في عهد أسرة الساكسون بعد عام ١٦٩٧م.

وتضاعفت مرة أخرى مع تقسيم بولندا الأول مرة عام ١٧٧٢م حين نزح إليها مباشرة حوالي (١٢–١٥ ألفًا) من الألمان في جماعاتٍ صغيرة. وفي عام ١٧٨٠م جلبت حكومة النمسا ما يقرب من ١٣٠٠٠ من جنوب ألمانيا إلى جاليسيا. وبعد طرد الأتراك من المجر وترانسلفانيا في نهاية القرن السابع عشر واجهت بلدان هايسبورج مشكلة ضخمة، تمثَّلت في إعادة تأهيل البلاد بالسكان؛ إذ كانت الحاجة ماسَّة إلى زيادة السكان لكي تصبح الحياة في هذه البلاد ممكنة ومقبولة. كذلك فقد عملت الحكومة على رعاية وتشجيع الهجرة من مناطق الرون العليا والوسطى واللورين علاوة على الألمان الذين كانوا يفدون من جنوب ألمانيا والألزاس، وسرعان ما أصبح تعداد المجريين الأصليين لا يتجاوز ٢٠٪ من سكان المجر آنذاك حسب تقدير البعض.

وهكذا نجد قارة أوروبا مقسَّمة إلى نصفَين، أحدهما تتجه هجرته شرقًا والآخر غربًا. وكان الخط الفاصل، وهو خط تقسيم المياه آنذاك، مجموعة من الأراضي في الشمال والجنوب نزحت منها أعداد هائلة من المهاجرين سارت في أحد الاتجاهين، رغم أن أحد هذين الاتجاهين كان يستهوي المهاجرين أكثر من الآخر. مثل ذلك أن الاسكتلنديين في أوائل القرن السابع عشر كانوا ينزحون بالآلاف إلى بولندا وبوميرانيا وشرق بروسيا. وفي أثناء حرب الثلاثين كان كثير منهم يعمل في الخدمة العسكرية في جيش جوستافوس أدولنوس. إلا أنهم توقفوا بعد ذلك عن الاتجاه شرقًا، وبدءوا ينزحون إما إلى إنجلترا أو غربًا إلى أيرلندا وأمريكا. وخرج من هولندا مهاجرون إلى كلتا الوجهتين رغم أن أكثر مَن رحلوا إلى أمريكا كانوا من البلجيكيين لا الهولنديين، وعلى أية حال فإن الهجرة الهولندية إلى أمريكا كانت قد استنفدت أغراضها حتى عام ١٦٤٠م — وذلك على النقيض تمامًا من وضع الهجرة الاسكتلندية — بينما عادت حركة الهجرة في اتجاه الشرق من جديدٍ إلى شمال وشرق ألمانيا، وإلى بولندا بعد نهاية حرب الثلاثين. وكان القطاع الأكبر من فرنسا يدخل بالفعل ضمن منطقة خط تقسيم المياه. ولم تعرف فرنسا الهجرة الواسعة في أوائل العصر الحديث، وكان من المقدَّر أن هناك ١٢٠٠٠٠ فرنسي يعيشون في إسبانيا في منتصف القرن السابع عشر، ويبدو أن أغلبهم عاد إلى بلاده. وكذلك فإن الهجرة الفرنسية إلى ما وراء البحار قد فترت فجأة رغم ما كان للإقامة في شمال وجنوب أمريكا من مغريات متعددة.

وفي أوائل القرن السابع عشر تغيَّرت وجهة الهجرة الفرنسية، مثلما حدث في هولندا إلى الشرق بدلًا من الغرب، وخرجت من فرنسا هجرات واسعة متجهة إلى الشرق في اللورين والمناطق المجاورة لها، وقد كانت مناطق خرِبة قليلة السكان. وبدا أثر الهجرة الفرنسية تجاه الشرق في ضَعف إمبراطوريتها فيما وراء البحار، ثم في خسارتها لهذه الإمبراطورية أخيرًا، كما تمثَّلت في عدوانها السياسي ضد هولندا ومناطق الراين والألزاس. وكانت سويسرا تتبع خط تقسيم المياه مثلما كان الوضع بالنسبة لمنطقة الراين التابعة لألمانيا. وكان هذا هو الوضع — على أقل تقدير — في القرن الثامن عشر عندما نزح ما يقرب من ١٣٠٠٠ نسمة إلى إنجلترا، وما يقرب من ٦٥٠٠٠ إلى بنسلفانيا.

وخلاصة القول أننا لو نظرنا إلى الهجرة في أبعادها الحقيقية فإننا سنجدها — في نهاية الأمر — في شكل حركات خارجة من المناطق التي تحتل قلب القارة إلى الأطراف الشرقية والغربية للحضارة الغربية. وتبدأ هذه الحركة من مناطق القلب بطيئة في النصف الأول من القرن السابع عشر، رغم أنه من السهولة بمكان أن نعثر على عديدٍ من الاستثناءات لهذه الاتجاهات ناحية الشرق والغرب. فقد حدث بالفعل، على سبيل المثال، أن كان عدد المهاجرين من نيو إنجلند إلى إنجلترا أكبر من العائدين، وأنه في فترة تالية أيضًا عاد كثيرون إلى «الوطن» أي إلى إنجلترا.١٠ بيد أن هذه الاستثناءات كانت غير ذات قيمة لو نظرنا إليها من الناحية الكمية أو على المدى الطويل.

ورغم أن عدد الناس الذين شملتهم حركات الهجرة هذه غير معروف لنا ولو على وجه التقريب، إلا أنه — دون شك — بلغ عدة ملايين؛ إذ إن أوكرانيا زادت خلال خمسين عامًا من ٥٠٠٠٠ حوالي عام ١٥٥٠م إلى ٥٠٠٠٠٠ عام ١٦٠٠م. واستمرت عملية التدفق البشري لقرنَين آخرين من الزمان، وكان من المقدَّر أن ما يقرب من ٧٥٠٠٠٠ نسمة قد هاجروا إلى أراضي الولايات المتحدة فيما بين عامَي ١٦٠٠م و١٧٧٥م. ونزح إلى بروسيا ما يقرب من ٣٠٠٠٠٠ أثناء حكم فردريك الثاني، أي فيما بين عامَي ١٧٤٠–١٧٨٦م. هذا بالإضافة إلى «الأجانب» في الجيش البروسي، وكان يُقدَّر عددهم في عام ١٧٥١م بما يقرب من ٨٠٠٠٠. وهاجر من فرنسا ما لا يقل عن ٢٠٠٠٠٠ من الهيجنوت، وقد يصل عددهم إلى ٣٠٠٠٠٠ فيما قبل عام ١٦٨٥م وما بعده.

هذه بعض الأمثلة للهجرات التي تمَّت عبر مسافات بعيدة، وكان ثمة عديد من حركات الهجرة إلى مسافات متوسطة أيضًا، مثل حركات الاستيطان الجماعي للفلاحين الفرنسيين في منطقة اللورين، والهجرة المستمرة من سويسرا. وزيادة على ذلك، فمن الأهمية بمكان أن نشير، بالنسبة للنتائج الاجتماعية لهذه الهجرات، أن الغالبية العظمى من المهاجرين كانوا من الشبان في مطلع حياتهم الاقتصادية الموفَّقة أو في أوجها، وأن المهاجرين الذكور كانوا أكثر من الإناث.١١

وكان التركيب المهني لهذه الحركات يتباين تباينًا شاسعًا، فثمة عبارة مثل «حرفيين وفلاحين» تطالعنا بشكلٍ منتظمٍ في التقارير الخاصة بالهجرات الجماعية. ولكن الفلاح قد يكون أي شيء ابتداء من الفلاح الثري إلى العبد الشارد. والحِرفي قد يكون إسكافيًّا في بلدة صغيرة أو عاملًا على مستوى كبيرٍ من المهارة أمكن إغواؤه للسفر إلى بلدٍ جديدٍ عن طريق منحه امتيازاتٍ خاصة، بل إن فئة الجنود المرتزقة كانت تبدأ من الفتية السويسريين المحترمين ممن كان إدراج أسمائهم ضمن سلك الخدمة العسكرية في فرنسا يتم تنظيمه على نحوٍ طيبٍ، وتنتهي بالفارِّين من العدالة الذين كانوا يتطوعون للخدمة تحت راية أي بلدٍ هربًا من المقصلة في بلدٍ آخر. ولقد كانت القدرة على الحركة الحرة من مكانٍ لآخر مرتبطة، كما هو الحال اليوم، بالقدرة الكبيرة على الحركة الاجتماعية أو الاقتصادية.

وكان هذا هو ما ينطبق — إلى حدٍّ كبير — على المهاجرين من ذوي اليسار، كما كان يصدق كذلك على الخدم الذين كانوا يتعاقدون على العمل في جزر الهند الغربية، أو الصبية الذين كانوا يعملون في صناعة الأدوات القاطعة، ويفدون من المناطق الريفية إلى شفيلد وإنجلند. وربما كانت الأنماط القيادية والمثقفين من المهاجرين هم أهم من يعنينا هنا لاعتباراتٍ شخصية، رغم أنهم من الناحية الديموجرافية أقل شأنًا، ومن هؤلاء أصحاب الأعمال من الهيجنوت في براندنبرج وأساتذة الجامعات الألمان في جامعة موسكو التي تأسست حديثًا، والقادة العسكريون الإيطاليون التابعون لقوات هابسبورج، ورجال الدين الإنجليز الذين أصبحوا — فيما بعد — قادة فكريين وروحيين في نيو إنجلند وغير هؤلاء كثيرون.

٣

كان العجز في الأيدي العاملة هو أول مظهر من المظاهر الاقتصادية المعبِّرة عن الموقف الديموجرافي. والجدير بالذكر أن النقص في القوى البشرية كان ملموسًا بالنسبة للجيوش إلى درجة أن الجهات العسكرية وأصحاب الأعمال كانوا، كما سبق أن أشرنا، يتنافسون فيما بينهم للحصول على القوى البشرية. ونظرًا لأن عامة الجنود كانوا عادة رجالًا على حظٍّ قليلٍ من التدريب المهني، أو غير مدرَّبين على الإطلاق، فقد ترتب على ذلك أن امتد النقص في الأيدي العاملة ليشمل العمال غير الفنيين أو نصف الفنيين، أي إلى تلك الفئة التي يتأثر أبناؤها — دائمًا — بالاهتزازات الكبيرة في مجال العمالة والدخل. فلو كانت هناك بطالة على نطاقٍ واسعٍ فإن العمال غير المهرة هم أول من يعانون منها أكثر من غيرهم، وفي الوقت نفسه فإنهم هم الذين يستفيدون مباشرة إذا ما ظهرت — من جديدٍ — حاجة إلى عملٍ غير متخصصٍ.

وكانت كلما تغيَّرت ظروف سوق العمل، وحيثما كان هذا التغيُّر، يبدأ أصحاب الأعمال يجأرون بالشكوى من الصعوبات التي تواجههم بالنسبة إلى استئجار الأيدي العاملة وتمرد العمال وتماديهم في طلباتهم الخاصة بالأجور. وثمة شاهد في عديد من البلدان يدل على اتجاه الأجور الحقيقية إلى الارتفاع بعد عام ١٦٣٠م أو ١٦٤٠م عندما بدأت تجتاح أوروبا — في نفس الوقت — أزمة زراعية بسبب نقص الطلب على المواد الغذائية. وأتت فترة أخرى انخفضت فيها أسعار المواد الغذائية انخفاضًا غير عادي فيما بين عامَي ١٧٣٠–١٧٥٠م نظرًا لوفرة المحاصيل لفتراتٍ طويلة متعاقبة، ومع ذلك فقد كان السبب الأساسي في ارتفاع الأجور هو نقص الأيدي العاملة.١٢
وكان معظم الكُتَّاب المعاصرين مقتنعين بأن مستوى معيشة الطبقات العاملة كان مرتفعًا لدرجة غير معقولة، وأن الأجور المرتفعة كانت تعرقل النمو الاقتصادي، وتعوق التجارة الخارجية.١٣ وفي عام ١٦٥٦م قال أحد الكُتاب: «إننا أقرب ما نكون إلى حالة من العوز لا الوفرة في الخدم؛ إذ تحسَّنت أجورهم، وارتفعت ارتفاعًا غير طبيعي حتى كادوا يصبحون هم السادة، ويصبح سادتهم خدمًا.» وفي منتصف القرن الثامن عشر كان جوزيا توكاز ينوح ويبكي لأن العمَّال الإنجليز ساءوا لدرجة تجِل عن الوصف، وأصبحوا أكثر فسادًا وأكثر عوَزًا وتراخيًا بالقياس إلى ارتفاع أجورهم.١٤ وفي عام ١٧٧١م انفجر آرثر يونج، وهو الخبير الزراعي الشرير، وقال في وضوحٍ وحسمٍ: «أصبح كل إنسان الآن على يقين، فيما عدا الأبله وحده، من أن الطبقات الدنيا يجب أن تظل فقيرة كما هي، وإلا فإنهم لن يكونوا أبدًا عناصر منتِجة.»١٥
ولو كانت ظروف سوق العمل مواتية تمامًا بالنسبة للعمال الأُجراء فإن من حقنا أن نتساءل: لماذا إذن لم ترتفع الأجور الحقيقية إلى أكثر مما كانت عليه؟ ذلك لأن من المسلَّم به أن مستوى معيشة الطبقة العاملة لم يرتفع إلا بنسبة ضئيلة، رغم الشكاوى المُرة من جانب أصحاب الأعمال.١٦ ويتمثَّل جانب من الإجابة على هذا السؤال فيما يلي: كان النظام الاقتصادي نظامًا متخلفًا من حيث مستوى الميكنة ورأس المال؛ لذلك فقد فرض هذا الوضع قيودًا محدِّدة للغاية على انطلاق العمل. وفي نظامٍ كهذا يُعتبر الجهد البدني هو أهم عامل في الإنتاج، وتشكِّل تكاليف العمل جانبًا هامًّا جدًّا من تكاليف الإنتاج أكثر مما هو الحال في ظل صناعة أرقى منها من حيث مستوى الميكنة، حيث يكون العمل أكثر كفاءة من الناحية الإنتاجية. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت الإنتاجية محدودة جدًّا بحيث لا تسمح برفع مستوى الطبقات العاملة إلى مستوى مرتفع قليلًا عن الحياة المريحة إلى حدٍّ ما. وكان أي ارتفاعٍ بسيطٍ في تكاليف العمل من شأنه أن يرفع تكاليف الإنتاج بنسبة كبيرة، ويقلل من الأرباح. يُضاف إلى ذلك أنه في إزاء الظروف التي كانت سائدة في القرنَين السابع عشر والثامن عشر أدَّى الطلب غير المنتظِم على العمل إلى نوعٍ من البطالة المقنَّعة، والتي كان يمكن تعويضها جزئيًّا عن طريق نظام الصناعة المنزلية.١٧
وكشف التدهور المريع للأجور في إيطاليا عن الأهمية الحاسمة لعامل الأجور؛ إذ كانت إيطاليا في عصر النهضة تعتمد — اقتصاديًّا — على التصدير، ولها فيه خبرة قديمة، وخاصة تصدير المنسوجات. ولكن أوضاع التجارة في إيطاليا تعرضت في القرن السادس عشر للأخطار بسبب تحوُّل الطريق التجاري وزيادة المنافسة مع إنجلترا وغيرها من البلدان. وعندما تخلخل الوضع السكاني في إيطاليا بسبب الأوبئة الرهيبة في القرن السابع عشر أصبح العمل نادرًا، وارتفعت الأجور إلى درجة أن أصبح من الأمور المستحيلة على صناعة التصدير الإيطالية أن تتحمَّل هذه التكاليف الإضافية، ومن ثَم انهار كل البناء الصناعي في إيطاليا. وظلَّت الأجور حتى منتصف القرن الثامن عشر مرتفعة جدًّا؛ بحيث لا تسمح للنظام الاقتصادي أن يستعيد وضعه السابق. هذا رغم أن تلك الأجور المرتفعة يمكن أن تُعتبَر — يقينًا — أجورًا منخفضة تمامًا، حتى لو نظرنا إليها بمقاييس أجور القرن التاسع عشر.١٨ وحكمة «الكسل الممتع» التي كانت سائدة بين الطبقات الإيطالية الدنيا إنما كانت تعني أن الأرباح العالية التي يحققها العمل لم تكن تتمثل في شكل استهلاك مرتفع، بل على هيئة وقت فراغ. وواجهت إسبانيا مصيرًا آخر مماثلًا لمصير إيطاليا؛ حيث أصبح سكانها «كسالى» تطبيقًا للحكمة السابقة. وساد في كل البلدان إغراء الأجور المرتفعة على شكل وقت فراغ، وهي البلدان التي كانت بحاجة إلى أن تواجه النقص في العمل قبل أن تحقق اقتصادًا صناعيًّا ناضجًا.
وكانت العبارة التالية تبدو صادقة بالنسبة لإيطاليا، وكذلك بالنسبة لإنجلترا في ظل ظروف مرحلة التصنيع الأولى، حيث كان الإنتاج الضخم والأسواق الكبرى لا تزال في مهدها: «لدينا الآلاف ممن يعيشون في فقرٍ مدقعٍ، ولكنهم مع ذلك لن يعملوا طبقًا لهذه الشروط المتواضعة التي يحاول أن يفرضها عليهم أصحاب الأعمال ويهللون لها.»١٩ ولقد كانت الصناعة الإنجليزية، بالقياس إلى الصناعة في إيطاليا، تتميز بقدرتها الحيوية. ولكن ثمة حقيقة أخرى وهي أن صناعة النسيج في إنجلترا واسكتلندا كانت كثيرًا ما تعاني من العجز في خيوط الغزل لأنه لم يكن هناك العدد الكافي من الغزَّالين. وعندما كانت التجارة نشطة لم يستطع النسَّاجون مع ذلك أن يوفوا بالطلبات التي تُقَدَّم لهم للحصول على إنتاجهم. بيد أنه عندما أُنْشِئَت أول مدرسة لتعليم الغزل أحسَّ صاحبها أن من واجبه أن يدافع عن مؤسسته ضد الاعتراض القائل بأنها ستسبِّب عجزًا في الأيدي العاملة، وفسر موقفه بقوله إن الغلمان سيحضرون إلى المدرسة:
«إلى أن يصبحوا لائقين للعمل كصبية في المصانع، أو للقيام بأي عمل آخر، وستبقى البنات بالمدرسة حتى يصبحن صالحات للعمل في خدمة المنازل، ثم لا يذهبن إلى المدرسة بعد ذلك. وتعم الشكوى البلاد بسبب النقص الشديد في الخدم بعد أن دخلت أعداد كبيرة منذ عهدٍ قريب ميدان تجارة الغزل، ويعيشون الآن على كدِّهم. وأصبح من العسير — تمامًا — الحصول على أحدهم إلا وفقًا لشروطٍ أفضل بكثيرٍ مما كانت عليه قبْلًا … ولقد عنيتُ عناية خاصة ألا يعمل عندي أي شخص يكون صالحًا للعمل في مجال الخدمة أو للعمل كصبي في المصنع.»٢٠

ولقد كان للحرفيين ممن هم على مستوى رفيع من المهارة أو الإخصائيين وضع مُواتٍ للغاية يعطيهم فرصة للمساومة؛ إذ كان الإقبال شديدًا عليهم في كل أنحاء أوروبا، كما كانت الحكومات وكذلك أصحاب المشروعات يحاولون استمالتهم. واستطاع أصحاب الأعمال إقناع السلطات المسئولة بالعمل على تحديد مدة الخدمة العسكرية. وصدرت في كل البلدان قرارات لا حصر لها تحدِّد الأجور، بهدف وضع حدٍّ أقصى للأجور بينما كانت السلطات الحاكمة تعنى — فيما قبل — بتحديد الحد الأدنى للأجور، بأن تضمن للفقراء من الناس رزقهم. إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل كلما كان الهدف منها هو وضع حدٍّ مصطنَع لمستوى الأجور. واعتاد أصحاب المصانع، الذين خالفوا الأوامر، ولم يستخدموا الماكينات، أن يخرقوا هذه الحدود التي وُضِعَت للأجور، وكذلك فَعل مثلهم المزارعون أثناء موسم الحصاد.

وكان لفرنسا نصيبها الكامل من الحروب والمجاعات والأوبئة، ومن ثَم ظهرت نتيجة لذلك، في أواخر القرن السابع عشر، مساحات واسعة تتميز بقلة سكانها، وتستلزم العمل على زراعتها من جديد.٢١ وكانت فرنسا — في نظر سكانها من الفلاحين — بلدًا مغريًا بمزارعها العائلية الصغيرة. ويبدو أنها كانت مغرية جدًّا إلى حد أن الفلاحين الفرنسيين آثروا في القرن الثامن عشر أن يلجئُوا إلى نظام تحديد الأسرة بدلًا من الهجرة. ومن ثَم فقد انخفض النمو الديموجرافي رغم أنه لم يهبط إلى المستوى الذي يسمح بتجنب الزيادة الخطيرة في السكان في الثلث الأخير من هذا القرن. وفي مجال الصناعة طالب كبار أصحاب المصانع السلطات المسئولة أن تمدَّ لهم يدَ العون لمواجهة النقص في الأيدي العاملة، وذلك بوضع العقبات في طريق العمال إذا شاءوا أن يتركوا أصحاب الأعمال الذين يعملون لديهم، وإجبار الصبية على العمل دون الالتزام بشروطهم، وإعطاء أصحاب الأعمال حقَّ القبض على العمال الفارِّين من مصانعهم. وأصبحت مخاوف أصحاب الأعمال من أن يفقدوا عمَّالهم، والعمَّال المهرة منهم بوجه خاص، مسألة هامة استحقت اهتمامًا بالغًا في عهد كولبرت؛ فقد صدر العديد من القرارات التي تُحرم إغواء العمال واجتذابهم من المجال الأخرى. وكان أحد أصحاب الأعمال في بورج يشكو من أن ١٤٠ بنتًا فقط بَقين للعمل في مصنعه من بين ٩٠٠ بنتٍ درَّبهن على العمل، بينما استأجر الباقيات أصحاب أعمال آخرين. واستخدم كولبرت المال بسخاءٍ لاستيراد العمال المهرة من البلدان الأجنبية، وكان، على حد قول أحد الباحثين «قادرًا على أن يكفل لمشاريعه الجديدة جيوشًا حقيقية من العمال الأجانب.» وفي عهد كولبرت ولويس الخامس عشر كان العمال المهرة يُعفون أحيانًا من الضرائب. وفُتِحَت مدارس التدريب الصناعي لزيادة عدد العمَّال المهرة، كما كانت الجوائز تُوَزَّع في المناسبات لتشويق العمال وترغيبهم في التدريب على صناعات معينة.٢٢
ووردت العبارة التالية كما هي بنفسها على لسان عامل حرفي في إحدى قرى شمال غرب ألمانيا، وتبدو هذه العبارة وكأنها على لسان واحد ممن هاجروا لاستعمار أمريكا: «كنا نعيش أول الأمر على الماء والخبز بيد أننا كنا سعداء أصحاء إلى أن أكرمنا الله أخيرًا بالأطفال، وزاد رزقي اليومي معهم.»٢٣
وكان على أصحاب الأعمال في كل البلدان أن يواجهوا مشكلة الأجور المرتفعة للعمَّال وسلوكهم المتمرد، واكتشفوا من خلال هذا الوضع فائدة تشغيل الأطفال، وأقبلوا على ذلك بحماسٍ غريبٍ. وبدأ الناس من أمثال دانيل ديفون وماريا تيريزا يتغنَّون بمزايا تشغيل الأطفال. وحدث أن عانى أحد أصحاب مصانع المخمل في بوتسدام من بعض المشاكل التي أثارها عمَّاله فطلب السماح له بتشغيل الأطفال ممن يعيشون في ملجأ الأيتام في بوتسدام، وأُجيبَ إلى طلبه. وبعد سنوات قليلة أصدر فردريك الثاني أمرًا يقضي بتحويل الأطفال من نفس المؤسسة إلى صاحب أعمال آخر استخدمهم في صناعة لف الحرير. واستخدم أحد مصانع الموسلين في زفيبروكين بالإمارة الجرمانية ما يزيد على أربعة أخماس عمَّله من الأطفال، وكان عدد عمَّاله يُقَدَّر بمائتين وخمسين عاملًا. واستخدمت هولندا الأطفال في أعمال الإنتاج منذ أوائل القرن السابع عشر، وظن الرأي العام أن الدافع إلى تشغيل الأطفال، وخاصة الأيتام منهم، إنما هو دافع إنساني خالص. وفي عام ١٧١٤م عبَّر رجال الدولة في مؤتمر السلام المنعقد في راشتات عن عرفانهم بالجميل للمدينة المضيفة بأن أقاموا بها مدرسة لتعليم الغزل للأطفال.٢٤ ونظرًا لأن أجور الأطفال كانت دائمًا أقل بكثيرٍ من أجور الكبار فقد استمر تشغيل الأطفال في القرن التاسع عشر إلى أن تقدم الأسلوب الميكانيكي في المصانع، وتحققت بعض الاعتبارات الإنسانية.
وتجلَّت في ألمانيا كلُّ أوجه النقص في العمل، بل وربما برز فيها هذا النقص على نحوٍ أقوى مما كان عليه في فرنسا، بل واستمر — بكل تأكيدٍ — فترة أطول. وتحوَّلت المناطق الغربية في ألمانيا — تدريجيًّا — خلال القرن الثامن عشر إلى مناطق بها فائض من القوى البشرية، بينما استمرت الحاجة إلى مزيدٍ من المستوطنين في كثيرٍ من أراضي هابسبورج وبروسيا، وهي البلد الوحيد الذي صدر به سجلٌ شاملٌ عن نقص الأيدي العاملة.٢٥

ويمكن أن يُقال — بكل تأكيد — عن بلدان أوروبا الغربية وشمال الألب والبرانس ما قاله توكر عن إنجلترا عام ١٧٥٥م:

«إن أفقر إنسان الآن يمكنه — إذا كان عاملًا منتجًا — أن يأكل وينام ويلبس أفضل من ذي قبل (هكذا)، ويحصل على سلعٍ منزلية أفضل؛ ومن ثَم يمكنه أن يصبح أفضل مما كان عليه أصحاب الثراء المتوسط في الأيام الخالية، ولقد زادت الثروة النسبية لهذا البلد بنفس هذا القدر.»٢٦

بيد أن هذا التعميم لا ينطبق على الأطراف البعيدة لمنطقة الحضارة الغربية — الأمريكتين في الغرب والمنطقة الأوروبية الواقعة شرق نهر الألب — فإذا كان النقص في الأيدي العاملة قد خلق ظروفًا مواتية لغالبية العامة من الناس في أوروبا الغربية فإن هذه الحالة ذاتها والتي كانت تعاني منها المناطق الشاسعة هي التي نشأ عنها عبء العبودية الثقيل المتزايد الذي كانت تعاني منه أعدادٌ كبيرة، ففي أمريكا كان ضحايا هذه الأوضاع الهنود الأمريكيين أولًا ثم الملونين الأفريقيين الذين تم نقلهم إلى هناك. وفي أوروبا الشرقية كان ما يقرب من نصف الفلاحين أو يزيد من سكان هذه البلاد هم أول من حُرِموا من أرضهم، ثم أصبحوا تابعين لها، وأخيرًا خضعوا لإرادة مُلاك الأراضي التي يعملون فيها إلى درجة أنه لم يعد هناك أي فارق بين رقيق شرق أوروبا والعبيد من الزنوج الأمريكيين بعد أن بلغ هذا التطور ذروته في القرن الثامن عشر. وكانت الشروط الأساسية التي هيَّأت الظروف لظهور هذه العبودية الحديثة هي المساحات الشاسعة من الأراضي التي تتميز بقلة سكانها، ثم الطلب العالمي المتزايد على السلع التجارية التي لم يكن من المستطاع إنتاجها على نطاقٍ واسعٍ إلا في هذه المناطق.

وترجع مقدمات الرق الشرقي إلى القرنَين الخامس عشر والسادس عشر وقتما كان السكان يتزايدون بسرعة في أوروبا الغربية؛ ومن ثَم نشأ عن ذلك زيادة في الطلب على الإنتاج من الحبوب فكانت إسبانيا والبرتغال، ابتداءً من النصف الثاني للقرن الخامس عشر، تعتمدان — إلى حدٍّ كبير — على وارداتهما من حبوب منطقة البلطيق، بل إن إيطاليا كانت تستهلك بعض إنتاج منطقة بحر البلطيق. وبدأت إنجلترا في أواخر القرن السادس عشر، أي من عهد إليزابيث الأولى، تستورد الحبوب من منطقة بحر البلطيق بكمياتٍ لم يسبق لها مثيل، وكذلك فعلت هولندا. وكانت ألمانيا الغريبة والوسطى تحصلان على السلع الشرقية عن طريق النقل البري. وسرعان ما أصبحت بولندا وشرق ألمانيا وكذلك ليفونيا والدانيمرك مناطق التموين للمنتجات الزراعية ومنتجات الغابات. وعَمَل أمراء الشرق على توسيع ضِياعهم وذلك أولًا: عن طريق الاستيلاء على الأراضي البور، أو افتداء الفلاحين، وأخيرًا عن طريق الاستيلاء عنوة على أراضي الفلاحين. وفي القرن السادس عشر ربح كثير من الفلاحين الشرقيين من فرص التسويق الجديدة، ولم يقاوموا التطورات التي أثقلت — آنذاك — كاهل بعضهم فقط بتحمُّل زيادة طفيفة في خدمات العمل. وسرعان ما أصبح الأمراء هم أصحاب السطوة الاقتصادية والسياسية، وخُنِقَت التجارة والصناعة في المدن. وبذلك أصبحت أوروبا الشرقية بمثابة مؤخرة ريفية للغرب الذي تحضَّر وتم تصنيعه. وتكررت عملية مماثلة لهذه — على نحوٍ مستقلٍّ — في المناطق الوسطى من الروسيا. ففي الوقت الذي تزايد فيه السكان في القرنَين الخامس عشر اتسعت المدن القديمة، وظهرت مدن جديدة، ونشأت فرص جديدة للإنتاج الزراعي المربح. وبدأ صغار النبلاء — ممن منحهم أمراء موسكو أراضي وفلاحين مقابل تعضيدهم لهم، وما يقدمونه لهم من خدمات — يطالبون الفلاحين بالمزيد من الضرائب المالية والخدمات في مجال العمل، وبخاصة في القرن السابع عشر عندما بدأت الروسيا تزوِّد السوق الغربي بما يحتاج إليه.

وعندما أصبح الكثيرون من فلاحي أوروبا ممن يقطنون شرق الألب يعيشون في هذا الوضع الذليل، ظهرت فرصٌ لم يسبق لها مثيل في النصف الثاني من القرن السادس عشر وخلال القرنَين التاليين، تُشجع على الهجرة إلى الأراضي التي فُتِحَت حديثًا. ونزح مئات الآلاف من الفلاحين، وكان الكثيرون منهم لا يطمعون في أكثر من تحسين وضعهم الاقتصادي، والبعض الآخر يبغي الاستقلال. وسرعان ما لحق بهم السادة، وأصبحت الأراضي الجديدة — أيضًا — تحت إمرة أصحاب الأراضي المستغلين. ومع ذلك فقد نقص عدد الفلاحين نتيجة هذا الانتشار الجغرافي على نطاقٍ واسعٍ، وبعد أن أفنت الحروب والأوبئة الكثيرين منهم، وأصبحت أوروبا الشرقية كلها بعد عام ١٥٥٠م أو ١٥٨٠م منطقة مختلفة السكان تعيش على أرضها الواسعة. ويفسر لنا هذا الوضع الإجراء المدمِّر الثاني الذي أدى إلى استرقاق نصف الفلاحين الشرقيين أو ما يزيد على ذلك؛ إذ عندما واجه الأمراء مُلاك الأراضي في شرق أوروبا هذا التدهور المستمر في عدد الفلاحين المحليين ورغبتهم المستمرة في الرحيل بدءوا يعملون على المحافظة على أنفسهم كطبقة، وذلك بأن فرضوا على عبيدهم — قسرًا — نظام الرق الوراثي دون أن يكون لهم أي حق في الالتجاء إلى محكمة أو مَلك. وأصبح هذا الوضع العبودي — آنذاك — هو قانون الأرض علاوة على التعاون القائم بين أمرائهم الذين يتبعونهم، ابتداءً من القياصرة في روسيا إلى الأمير الأعظم في بروسيا.٢٧

٤

أثرت قلة السكان النسبية التي تميز بها العالم الغربي — من حدود أمريكا إلى سيبيريا — على حياته الاجتماعية والثقافية أكثر مما أثرت على المجال الاقتصادي. ويتفق الموقف في سوق العمل الذي عرضناه في الفصل السابق مع المحاولات التي قامت بها السلطات للحد من الهجرة إلى الخارج، بل ولتشجيع الهجرة إلى داخل البلاد. ويسَّر هذا — إلى حدٍّ كبير — عملية النزوح والاستيطان في أي بلدٍ آخر. ونتيجة لذلك انتهى عصر الطرد بالجملة، والتحول الديني عنوة. وعنيت الحكومات بحماية الأقليات والمهاجرين من الأعمال العدائية التي يواجههم بها رعاياها المتعصبون. وكانت لا تزال هناك حالات فردية لضحايا التعصب الديني، ولكن عمليات الطرد الجماعية أصبحت نادرة. وكان الاستثناء الوحيد لذلك عمليات الإزعاج التي كانت تلحق بالهيجنوت، ولكن من الأمور التي لها دلالتها بالنسبة لهذا الموقف المتغير أن أولئك الهيجنوتيين الذين هاجروا من بلادهم ليتجنَّبوا إجبارهم على التحوُّل عن عقيدتهم قسرًا كانت أمامهم فرصة النزوح إلى عديدٍ من البلدان حيثما شاءوا أن يتجهوا، وكان أهل هذه البلاد يستقبلونهم استقبالًا طيبًا للغاية. ومن ناحية أخرى فإن الرأي العام، عدا استثناءات قليلة، لم يكن ينظر إلى سياسة لويس الرابع عشر المعادية للكالفنية على أنها فقط سياسة قاسية لا داعي لها، بل أيضًا على أنها سياسة قصيرة النظر. أما بالنسبة للاجئين عام ١٧٣١م الذين لجئوا من سالزبورج فلم تكن ظروف رحيلهم سهلة إلى حدٍّ كبيرٍ، إلا أن أغلبهم واصل إقامته في بروسيا. وإذا قارنَّا هذا بالمحاولات الكثيرة والأسلوب القاسي في دفع الأفراد والجماعات — قسرًا — لترك أوطانهم في الفترة السابقة يمكن القول بأن عصرًا جديدًا للتسامح قد أشرق فجره على البلاد. ويبدو أن الاهتمام الكبير بالوافدين الجدد، ممن يعودون على البلاد بالنفع، أسهم في الكشف عن فضائل التسامح والعون بصورة أوضح.

وثمة مجال آخر ظهر فيه اتجاه إنساني جديد في ظل النظام القديم، وأفاد الشرائح الدنيا من المجتمع، وهو نظام العقوبات الجنائية. ففي القرنَين الخامس عشر والسادس عشر ازدادت حالات القصاص عن طريق العقوبات القاسية زيادة كبيرة في كل أنحاء أوروبا. فقد كانت هناك، إلى جانب عمليات الإعدام والتعذيب، عمليات التشويه البدني التي كانت تُستخدَم بشكلٍ منتظمٍ وتُخلِّف الناس عجَزة أو مشوَّهين بالحروق وعاجزين تمامًا عن السعي من أجل رزقهم. وحدث في إنجلترا في القرن السابع عشر تغيُّر كان له دوي هائل؛ إذ أمعن التشريع هناك في قسوته إلى حد أن أصبحت عقوبة الموت جزاءً للكثير من الجرائم. بيد أن القضاة والمحلَّفين، وهذه هي الحقيقة؛ كانوا يتحايلون على القانون بحيث انخفض عدد من قُدِّموا لساحة الإعدام من ٨٠٠ شخص في السنة في نهاية القرن السادس عشر إلى ٢٠٠ في نهاية القرن الثامن عشر، رغم أن عدد السكان بلغ في هذه الفترة ثلاثة أمثال ما كان عليه من قبل. وبعد عام ١٦٤٠م لم تعد تُطبَّق عقوبات التشويه والحرق بينما زادت عمليات التعذيب باسم القانون في القرن السادس عشر، مثال ذلك ما اقترحه هنري الثامن بإلقاء مَن يرتكبون جريمة التسميم في ماء مغلي وهم أحياء.٢٨
وفي النظام القديم طُبِّقَت — على نطاقٍ واسع — فكرة إنشاء مؤسسة لتشغيل المذنبين على أمل أنها فكرة مفيدة اقتصاديًّا، رغم أنها فكرة قديمة. ونحن نعرف حالات عديدة أُنشِئَت فيها مثل هذه المؤسسات لتشغيل الجانحين كانت تعمل بهدف الربح. وحدث أن التمست السلطات المحلية لإحدى المدن من سلطات مدينة أخرى أن تسدي إليها خدمة وترسل إليها بعض المجرمين ممن ثبتت إدانتهم لتشغيلهم في مؤسستها الجديدة، ولكن حتى وإن لم تستطع مؤسسات كثيرة أن تفي باحتياجاتها ذاتيًّا فقد ظهر أن عمليات القتل والتشويه إنما هي أعمال طائشة للغاية لدرجة أن تجارب الأشغال الشاقة في هذه المؤسسات تكررت مرارًا، وأدَّت أخيرًا إلى استبدال السجن بالعقوبة البدنية.٢٩

والفكرة الإصلاحية الثانية في مجال العقوبات الجنائية، كانت النفي إلى المناطق التي في مسيس الحاجة للناس، حتى أصبح الناس غير المرغوب فيهم هم المرغوبون. ففي القرن الثامن عشر نفت حكومة هابسبورج إلى ترانسلفانيا كلَّ المجرمين والمشتغلين بالدعارة والخصوم البروتستانتيين وأسرى الحرب البروسية. وأرسلت البرتغال كلَّ السكان غير المرغوب فيهم إلى البرازيل، كما أرسلتهم الروسيا إلى سيبيريا وأرسلتهم إنجلترا إلى مريلاند. ومن المعروف أن بعض هؤلاء — على الأقل ممن كان مقدَّرًا لهم الموت في ظل أوضاع القرنَين الخامس عشر والسادس عشر — قد رُدَّ إليهم اعتبارهم.

ويبدو أن اهتمام الرأي العام بالأشخاص الذين يعودون على المجتمع بالنفع الاقتصادي كعمَّال أغرى الناس بأن يتبعوا نصيحة أصحاب الاتجاه الإنساني الحقيقيين. وظهر اتجاه جديد نحو التعليم العام، وتركَّز أساسًا في «المدارس التي كان يتعلم فيها أبناء الطبقة العاملة أوَّليات مبادئ التعليم الثلاثة». وكان هؤلاء يحصلون في نفس الوقت على أجرٍ يعادل كل أو بعض تكاليف الإدارة المدرسية. وكانت لهذه المدارس فائدة إضافية، وهي غرس عادات صحية عن العمل في نفوس الأطفال. وفي عام ١٦٨١م كتب توماس فيرمين تقريرًا عن مدرسته تكاد حروفه تتقد نارًا، يقول فيه:

«ستضم مدرستي أطفالًا تتراوح أعمارهم ما بين الثالثة والعاشرة … ولقد أثبتت لي الخبرة أن هذا الطريق هو الطريق الصحيح تمامًا الذي يؤدي بالفقراء وبأطفالهم إلى السعادة. فقد كان في ورشتي عديد من الأطفال الفقراء تعلَّموا القراءة، وتعلموا بالإضافة إلى ذلك صناعة الغزل على عجلة واحدة أو عجلتين، وفي إمكانهم أن يحصلوا على أجرٍ يتراوح ما بين بنسيْن وستة بنسات يوميًّا.»٣٠
واقترح جون لوك أن «نجلد بقسوة» الغلمان والبنات ممن هم دون الرابعة عشرة من العمر الذين يتسوَّلون في الطرقات. واقترح في مذكرته التي قدمها إلى الغرفة التجارية عام ١٦٩٧م أن يلتزم كلُّ مجتمع بجمع الأطفال المعدَمين، ممن تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة والرابعة عشرة، ويرسلهم إلى المدارس الصناعية. وكان قد تم تنظيم مدارس صناعية من هذا النوع بشكلٍ منسَّق في ألمانيا.٣١ وإذا لم يكن ثمة شك في أن تلاميذ المدارس الصناعية من الأحداث إنما كانوا فريسة الاستغلال في أغلب الأحيان، إلا أن الجانب الإيجابي في ذلك هو التأكيد على التعليم الواقعي وفق الاتجاه الذي حدَّده آموس كومنيوس ومؤسِّسو ملجأ الأيتام الشهير في هال من أتباع مذهب التقوى.

ولم تتجه حركة المدارس الصناعية ضد التقليد الإنساني المتزمت في التعليم فقط، بل اتجهت — بالمثل — ضد ما يُسمَّى «بمدارس الصدقة» بكل اتجاهها الديني المتطرف. وأوضح أحد الإخصائيين في مدارس الأيتام الصناعية الفارق بين النوعَين ببساطة، عندما طالب بأن تنقص عدد التراتيل التي يتغنَّى بها الأيتام، حتى لا يكون في ذلك مضيعة للوقت.

«إن ملجأ الأيتام من النوع العادي الذي يرتل فيه الأطفال ٤٠٠٠ ترتيلة إذا ما قارنَّاه بملجأ آخر لا يرتل فيه الأطفال سوى ٧٣٠ ترتيلة فقط لتبيَّن أن الأول يخسر بذلك كل عام ٥٥ يومًا وساعتين، وفي سبع سنوات تكون جملة خسارته ٣٨٦ يومًا؛ حقًّا إنه لوقت ضائع لا سبيل إلى تعويضه بغيره، ما دام وأن اليتامى ليس من المفروض أنهم يتدربون ليعملوا مستقبلًا متسولين ومغنيين، وإنما ليكونوا عمَّالًا ومواطنين صالحين في الدولة.»٣٢

ولو نظرنا إلى الموضوع على مستوى تأمُّلي — نظرًا لأنه ليس من اليسير تدعيمه بأية أسانيد سوى التطابق الزمني — فإننا نرى أن ثمة تغيُّرًا في عقلية الجماهير يتطابق زمنيًّا مع التغيُّر في الموقف السكاني. فمنذ نهاية القرن الخامس عشر حتى مطلع القرن السابع عشر صدرت عن أوروبا حركات دينية عميقة الانفعال تكشف عن حالة من الاستياء. وقد صاغ هذه الحركات عددٌ من قادة الفكر يختلف بعضهم عن البعض اختلافًا بيِّنًا ابتداءً من سافونا رولا إلى ليلبورن ممن كانوا يمقتون المجتمع الدنيوي الذي يعيشون فيه. وكانت بين هذه الحركات اتجاهات عديدة، وكان من الواضح أنها حركات تعنى بالآخرة وحدها. وتم نضج كل هذه الحركات تحت الشعار الذي ذاع بين الناس، ويدعوهم إلى إنكار التعميد. ويبدو الآن أن المسألة هي أكثر من أن تكون مجرد توافقٍ عرَضي بحيث إن الدعوة الملحَّة إلى الاعتقاد بأن كل شيء في طريقه إلى الزوال قد فترت بعد منتصف القرن السابع عشر. كما اختفى من على المسرح الاجتماعي الاعتقاد بقرب نزول المسيح ليحكم العالم في عهدنا. وفوجئ المثقفون والمستنيرون وغيرهم بموقف اللامبالاة من جانب الرجل العادي الذي لم يكشف عن أي مشاعر قومية أو وعي طبقي أو اهتمامات سياسية من أي نوعٍ. وأشار فردريك الثاني ملك بروسيا إلى أن «أسلوب الثورات قد انتهى في عصرنا، كما لم يعُد هناك حماس شعبي للحروب.» وكان الناس يؤمنون بالخرافات، ولكن لم يكن إيمانًا عميقًا، ولم يعد اليهود موضع اتهام بأنهم دنَّسوا القربان المقدس أو سمَّموا الآبار، وانتهى أسلوب إحراق السحرة.

وسرعان ما تغيَّر هذا المناخ الاجتماعي الذي يتسم بالاستقرار والثبات حوالي عام ١٧٧٠م، وانتشرت بين القطاعات الوسطى من المجتمع الأفكار الديموقراطية والكراهية لنظام النبلاء. وازداد الشغب من جانب الطبقات العاملة، وبدءوا بحماسٍ زائدٍ ينظمون أنفسهم في نقابات، وظهر أول القادة من العمال في هذا العصر الذي تميز بالمشاكل الاقتصادية الحادة. وأهم من هذا كله أنه ظهر اتجاه قومي جديد يتسم بالحماس والغيرة مزَّق أوصال الوحدة الثقافية التي كان يحس بها الناس في الحضارة الغربية خلال نظام الحكم القديم وفي عصر التنوير.

٥

إن الهزَّات العقلية التي تعرَّض لها الفكر الاجتماعي — وأصبحت واضحة بجلاء حوالي عام ١٧٧٠م — إنما حدثت استجابة لتغيُّرات أساسية طرأت على البناء الاجتماعي والاقتصادي. ولقد أسهمت التطورات الديموجرافية إسهامًا حاسمًا في هذا التغيُّر.

فقد كان كل كُتَّاب الشئون الاجتماعية — تقريبًا — في ظل النظام القديم يؤيدون النمو السكاني السريع، واتخذت الحكومات في ذلك الوقت خطوات تكفل زيادة «أهم سلعة أساسية وأخطرها وأعزها» وهي الإنسان،٣٣ وكان كولبيرت يمنح الجوائز، ويعفي من الضرائب أرباب الأسر الكبيرة. وبحثت حكومات كثيرة الوسائل الكفيلة بتحسين مهارات القابلات، والتي تحُول دون عمليات الإجهاض أو قتل الأطفال بوسائل تبدو في ظاهرها وكأنها حوادث عرَضية؛ إذ كانت هذه الحوادث، وعلى ما يبدو، تتكرر كثيرًا جدًّا. بل كان هناك ما هو أكثر من ذلك حيث خصصت بعض الحكومات اعتمادات مالية لتقدم منها صَداقًا متواضعًا بهدف تيسير الزواج للبنات المعدَمات، وشن هجوم كبير ومنظَّم على العرف الشعبي الذي يضخم العار على الأمهات غير المتزوجات، أو يحرم الأشخاص ممن وُلِدوا سفاحًا من العمل كصبية في كثيرٍ من المهن، أو أن يشغلوا وظائف معينة. وكانت الأبرشيات في إنجلترا تقدم هبات أسبوعية للأمهات غير المتزوجات. وكانت هذه الهبات على حد تعبير آل ويب، بمثابة جائزة مباشرة، تُدفَع للسيدات مقابل أن يفقدن عفتهن.٣٤ وكان كُتَّاب القرن الثامن عشر على نطاق القارة كلها يتحدثون عن «عزة الأمومة غير الشرعية». وكشفت السلطات المسئولة عن جزعها بالنسبة لحالة اللقطاء؛ حيث كان مصيرهم إما أن يُترَكوا للحياة مع زوجات الفلاحين في الأقاليم، أو أن ينشئُوا في مؤسسات خاصة باللقطاء. وثمة دليل إحصائي على الزيادة الملحوظة في نسبة الولادات غير الشرعية خلال القرن الثامن عشر، ويدل هذا — إلى حدٍّ كبير — على أن أخلاقيات الناس الخاصة بالجنس أصابتها حالة من الاسترخاء، وهذه حقيقة كانت معروفة لفترة طويلة من المصادر العلمية الخاصة بالطبقات صاحبة السيادة في النظام القديم.
وثمة احتمال بأن الناس كانوا — بشكلٍ عام — يتزوجون في سن مبكرة، وإن كان لا يوجد، على ما يبدو لنا، بيانات موثوق بها عن متوسط سن الزواج. ومن المحتمَل أن نسبة الزيجات قد زادت مع بداية القرن الثامن عشر، بمعنى أن عدد حالات العزوبة التي كانت تستمر طوال الحياة قد نقصت. وترجِّح الأبحاث المعاصرة أن نسبة المواليد قد زادت في أوائل القرن الثامن عشر أو في منتصفه على الرغم من أن انخفاض نسبة الوفيات كان لا يزال على ما يبدو هو السبب القوي الكامن وراء النمو السكاني.٣٥ وعلى أية حال فأيًّا كان السبب فقد زاد عدد السكان في أوروبا منذ عام ١٧٤٠م تقريبًا بمعدل تجاوز كلَّ المعدلات السابقة في التاريخ. ورغم استمرار التوسع الاقتصادي في أكثر أنحاء أوروبا إلا أن النقص في قوة العمل كان يقل تدريجيًّا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

وارتفعت أسعار المواد الغذائية التجارية ارتفاعًا حادًّا ابتداءً من ١٧٦٥م حتى نهاية القرن. وهكذا بدأت تنتهي الحياة الرغدة وطوال الثلث الأخير من هذا القرن كانت الأجور ترتفع بمعدل أقل من ارتفاع الأسعار، وكانت أعوام الجفاف الكثيرة التي تميزت بقلة محاصيلها فيما بين عامَي ١٧٨٠م و١٧٩٠م فترة معاناة قاسية إلى حدٍّ كبيرٍ بالنسبة للأجراء وأسرهم. ويبدو أن فرنسا كانت أول بلدٍ عانى من أثر هذا الوضع الجديد. ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية دخلت صناعة النبيذ، ابتداء من عام ١٧٧٨م، فترة كساد استهلاكي، وأسهمت بذلك في البطالة الموجودة في الريف. وازداد عدد المتسولين والمتشردين في كل أنحاء البلاد، وتضاعف الاستياء الشعبي، وارتفعت في إنجلترا — تدريجيًّا — نفقات الإعالة التي تُمنَح للفقراء. وازدحمت الورش التي أُنشِئَت للمعدَمين. وتعددت حوادث الشغب فيما بين عامَي ١٧٩٠م و١٨١٢م. وأصبح الفقر مشكلة كذلك في كلٍّ من إسبانيا وإيطاليا وهولندا وألمانيا، وإن لم يكن بعد قد أصبح مشكلة في شرق أوروبا.

وبدأت الأجور الحقيقية تنخفض بشكلٍ ثابتٍ فيما بعد عام ١٧٥٠م ثم انخفضت بشكلٍ أكثر وضوحًا بعد عام ١٧٧٠م. وتضاعفت أرباح رجال الأعمال وكبار المزارعين وأصبحوا أكثر ثراءً. وقيل في معرض الحديث عن هذا الوضع إن كميات أكبر من رأس المال تم ادخارها نتيجة لذلك، وأُعيدَ استثمارها بحيث استطاعت عملية التصنيع أن تسير بخطواتٍ أسرع مما كانت عليه في الفترة السابقة. وهكذا نشأت «الثورة الصناعية» ثم زادت الطاقة الإنتاجية بحيث أصبحت قادرة على الوفاء باحتياجات هذا العدد المتزايد من السكان زيادة كبيرة وسريعة في القرن التاسع عشر.٣٦ ودخل العالم الغربي بذلك فترة تاريخية جديدة وأكثر دينامية.
١  نسخة طبق الأصل، ١٩٦٤م، بقلم هربرت موللر.
٢  دانيل دينو: «صدقات عن غير محبة»، ١٧٠٤م.
٣  فورتيسكو، «تاريخ الجيش البريطاني» ٢، ١–٥٤، ٥٦٢–٥٩٣؛ كيرت هنز، «المشكلة العمالية في براندنبرج بروسيا منذ بدء الرأسمالية» ١٩٢٧م، ص١٧١–١٨٠؛ كارل بريبرام، «تاريخ السياسة التجارية في النمسا من ١٧٤٠م إلى ١٨٦٠م» مجلد ١٩٠٧، ص١٥٨.
٤  بازيل ويليامز، «سيادة الأحرار: ١٧٤٠–١٧٦٠»، (١٩٣٩م)، ص٢١١؛ ألفريد رويتر: «المعاملات التجارية في دوقية بفالتس تسناي بريكين» (١٩٣١م)، ص٢٩، وواجه جوتيه مشكلة مماثِلة بالنسبة لمشروع التعدين في ساكس ثيمار، انظر مقاله عن تقدُّم التعدين في النشرة الإعلامية الرابعة، وكذلك هنتس في نفس المرجع ص٣٥–١٧١.
٥  س. أ. ستينجلاند، «المذاهب السكانية قبل مالنوس» ١٩٠٤م؛ د. د. كوزينسكي، «آراء علماء السكان في بريطانيا عن الخصوبة فيما بين عامَي ١٦٦٠–۱۷۷٠»؛ «حوليات علم تحسين النسل»، العدد الرابع، ١٩٣٤-۱۹۳٥م، ص ۱۳۹–۱۷۱؛ أ. فاج، «المذاهب السكانية عند رجال الموسوعة»، مادة سكان باريس، مجلد ٤، ١٩٥١م، ص٦٠۹–٦٢٤؛ أ. ب. مومييرث، «وجهات نظر عن النقص في السكان خلال القرنَين السابع عشر والثامن عشر، حوليات الاقتصاد القومي وإحصائيات»، ۱۹۳۱م.
٦  جينتر فرانتس «الحرب الثلاثينية والشعب الألماني» ١٩٤٢م؛ أ. كريستمان، «إزالة القرى وإعادة بنائها خلال القرن السابع عشر» مع ٢٠٠٠ قائمة للسكان، ١٩٦٠م؛ جاستون روبنيل، «المدينة والقرية في القرن السابع عشر»، ١٩٢٢م، ص٣–١٠٣.
٧  ت. س. آشتون: «تاريخ إنجلترا الاقتصادي في القرن الثامن عشر»، ١٩٥٥م، ص٤-٥؛ ج. أوتير ستروم، «التذبذبات المناخية والمشاكل المناخية في مطلع التاريخ الحديث»، مجلة التاريخ الاقتصادي في اسكندنافيا، العدد الثالث، ١٩٥٥م، ص٣–٤٦؛ ج. نادال وأ. جيرولت، «سكان كتالونيا من ١٥٥٣ إلى ١٧١٧» (١٩٦٠م)؛ ك. ف. هيليز، «منظمة جديدة إلى الثورة الحيوية»، مجلة العلوم السياسية والاقتصادية الكندية، ٢٣، ١٩٥١م.
٨  أ. مارتينو ول. ماي، «لوحة عن التوسع الأوروبي عبر العالم ابتداءً من نهاية القرن الثاني عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر»، ١٩٣٥م، ص٦٥.
٩  بوريس نولد، «تكوين الإمبراطورية الروسية»، مجلدان، ١٩٥٣م؛ أ. كوليتشر، «الحروب والهجرات: التاريخ العام للحركات السكانية في العالم»، ١٩٣٢م، ص٩٨–١٢٣؛ ف. أ. كلوتشيفسكي، «تاريخ روسيا»، مجلد ٣، ١٩١١م–١٩٣١م.
١٠  وليام ل. ساشز، «هجرة سكان نيو إنجلند إلى إنجلترا من ١٦٤٠ إلى ١٦٦٠»، مجلة التاريخ الأمريكي (١٩٤٧-١٩٤٨م)، ص٢٥١–٢٧٨؛ والاستعماري الأمريكي في بريطانيا، ١٩٥٦م.
١١  هربرت موللر، «التركيب الجنسي والأنماط الثقافية المترابطة في المستعمرة الأمريكية»، وليام وماري كوارترلي، ٢، (١٩٤٥)، ص١١٣–١٥٣. إن أهم استثناء هنا هو حركة الهجرة قصيرة المدى التي كان يغلب عليها الطابع النسائي من الخدم والعجائز من الأقاليم إلى المدن.
١٢  إيرل. ج. هاميلتون، «الحرب والأسعار في إسبانيا من ١٦٥١ إلى ١٨٠٠»، ١٩٤٧م.
ج. أنوين، «التنظيم الصناعي في القرنَين السادس عشر والسابع عشر»، ١٩٠٤م، الباب الثامن.
ج. أ. مينجاي، «الكساد الزراعي»، مجلة التاريخ الاقتصادي، ١٩٥٥-١٩٥٦م.
وبالنسبة لفرنسا:
ب. رافو، «مقال عن الموقف الاقتصادي والحالة الاجتماعية في منطقة بواتو في القرن السادس عشر»، ١٩٣١م، ص١٠١.
م. ج. ألزاس، «فذلكة تاريخية عن الأسعار والأجور في ألمانيا خلال الفترة منذ العصور الوسطى حتى بداية القرن التاسع عشر»، جزآن، ١٩٣٦م، ٤٩؛ الفصل الثامن تأليف ج. ف. شتيفن، «دراسات عن تاريخ أجر العامل الإنجليزي»، جزآن، ١٩٠١م.
ف. آبل، «أزمات الأرض والموقف الاقتصادي في وسط أوروبا منذ القرن الثالث عشر حتى التاسع عشر»، ١٩٣٥م.
١٣  أدجار س. فورنيس في كتابه «وضع العامل في نظام القومية»، ١٩٢٠م، قدم دراسة خاصة عن الفكرة الحانقة المعادية للعمل والتي سادت الفترة الواقعة فيما بين الحرب الأهلية في إنجلترا حتى عام ١٧٧٠م تقريبًا.
١٤  جوزيا توكر، «مقال موجز» (الطبعة الثانية، ١٧٥٠م) ص٣٧، وهي عبارة اقتبسها فورنيس ص١٣٣، نفس المرجع.
١٥  آرثر يونج، «رحلة فلاح إلى شرق إنجلترا»، ١٧٧١م، الجزء الرابع، ٣٦١.
١٦  أكد بعض المؤرخين أن الطبقات العاملة كانت تعيش في فقرٍ مدقع خلال هذه الفترة، ونظرًا لضيق المكان فإننا لن نتمكَّن من مناقشة هذه الخلافات في الرأي. وثمة جانب آخر من الموضوع لم نذكره هنا، وهو الذبذبات القصيرة المدى التي كانت تنجم عن تفاوت المحاصيل ودورات الإنتاج. وأدى حذف هذا كله وغيره إلى جعل وصفنا هنا لسوق العمل في النظام القديم بمثابة «نموذج» أكثر منه محاولة لعرض الحقيقة التاريخية كاملة.
١٧  يجد القارئ توضيحًا مستنيرًا لهذه المشاكل في كتاب د. س. كولمان عن «العمل في الاقتصاد الإنجليزي أثناء القرن السابع عشر»، مجلة التاريخ الاقتصادي، مجلد ٨، (١٩٥٥-١٩٥٦م)، ص٢٨٠–٢٩٥.
١٨  س. م. شيبولا، «تدهور إيطاليا» مجلة التاريخ الاقتصادي، مجلد ٥ (١٩٥٢-١٩٥٣م)، ص١٧٨–١٨٧.
١٩  توماس مانلي، «الربا بنسبة ٦٪»، (١٦٩٩م).
٢٠  توماس فيرين، «بعض المقترحات الخاصة بتشغيل الفقراء»، ١٦٨١م، وأُعيدَ طبعه تحت عنوان «مجموعة من الكتيبات عن الفقراء» ت. جيلبرت، ١٧٨٧م، ص١٩.
٢١  م. ر. رينارد، وأ. أرمينجوا، «التاريخ العام للسكان في العالم»، ١٩٦١م، ص١٢٢–١٣١.
ل. شون، «تاريخ السكان في فرنسا»، ١٨٩٣م، ص١٣٥–١٦٩، ٢١٠ والباب العاشر.
٢٢  شارلي و. كول، «كولبرت وفرن من السياسة التجارية الفرنسية» مجلدان، ١٩٣٩م، الأول ص١٣٨-١٣٩، ١٥٨-١٥٩، ٢٣٦–٢٤٠، ٤٥٢، الثاني ١٣٨-١٣٩، ١٨٩، ٣٢٦–٢٥٢، ٢٧٢، ٢٨٤، ٢٩٦، ٢٩٨؛ ج. مارتن، «الصناعة الكبرى في عهد لويس الخامس عشر» (١٩٠٠م)، ص١٩٠–١٩٤، ٢٦٠-٢٦١، ٢٨٠-٢٨١، ٢٨٩–٢٩٣؛ ٢٩٦.
٢٣  جوستوس موزير، «المؤلفات الكاملة»، طبعه أبيكين، الطبعة الثانية ١٨٥٨م، الجزء الأول ص١٥٥، وقيلت العبارة عام ١٧٦٧م.
٢٤  جوزيف كوليتشر؛ «تاريخ الاقتصاد العام»، مجلد ٢، ١٩٢٩م، ص١٨٧–١٩٠؛ أوجست جانز «الدافع الاقتصادي في التربية البروسية أثناء القرن ١٨» (١٩٣٠م) ص١٨، ٧٠–٧٧؛ أرنست باتش، «تاريخ الاقتصاد الهولندي»، (١٩٢٧م) ص١٥٥–١٥٧.
٢٥  كيرت هينتس، «المشكلة العمَّالية في براندنبرج-بروسيا منذ بدء الرأسمالية الحديثة»، ١٩٢٧م.
٢٦  جوزيا توكر، «عناصر التجارة ونظرية الضرائب» ١٧٥٥م، وأُعيدَ طبعها ضمن «مختارات من كتاباته الاقتصادية والسياسية» أشرف على إصدارها ر. ل. شويلر، ١٩٣١م، ص١٠١.
٢٧  م. مالوويست، «التطور الاقتصادي والاجتماعي لدول بحر البلطيق ابتداءً من القرن الخامس عشر حتى السابع عشر»، مجلة التاريخ الاقتصادي، (١٩٥٩–١٩٦٠م) ص١٧٧–١٨٩.
جيروم بوم، «نشأة العبودية في شرق أوروبا»، مجلة التاريخ الأمريكي، ١٩٥٦-١٩٥٧م، ص٨٠٧–٨٣٧؛ وكتاب، «السيد والفلاح في روسيا من القرن التاسع حتى القرن التاسع عشر»، ١٩٦١م؛ هانز روزنبرج، «ظهور البانكرز في براندنبرج-بروسيا من ١٤١٠ إلى ١٦٥٣»، (١٩٤٣–١٩٤٤م)، ص١–٢٢، ٢٢٨–٢٤٢.
٢٨  ج. ل. باركر، «القانون والسياسة» الحضارة الأوروبية، أ. آبر، الطبعة الخامسة، (١٩٣٧م)، ص٩٥١–٩٦١، ٩٨١. وظلَّت العقوبات البدنية التي تُوقَع على العبيد والأرقاء لمنعهم من الهروب عقوبات قاسية في المناطق التي تعاني من النقص الشديد في السكان، ومع ذلك فإن الجلد بالسياط وتقطيع آذان الفارِّين لم يؤثر على كفاءة العمل.
ت. ج. درتينبيكر، «الأمريكيون الأوائل من ١٦٠٧–١٦٩٠»، (١٩٢٧م) ص٢١٧–٢١٩.
٢٩  ج. روش وأ. كيرتشيمر «العقاب والبناء الاجتماعي»، ١٩٣٩م، ص٤١–٦٧.
٣٠  فيرمين، المرجع السابق، ص١٨.
٣١  جانز، المرجع السابق؛ فريتز نيوكام، «الاقتصاد والمدرسة في فرتمبرج من ١٧٠٠ إلى ١٨٣٦» (١٩٥٦م)؛ أ. ف. م. دين، «مدارس الغزل في اسكتلندا»، ١٩٣٠م.
٣٢  أوجست ف. رولنس، «محاولة للإجابة على سؤال: كيف نطور الملاجئ؟» ١٧٨٥م، ص٨١-٨٢.
٣٣  [جوزيف ج. سبنجلر، أسلاف مالتوس الفرنسي، ١٩٤٢م، الفصل الثالث.]
٣٤  س. وب. ويب، «الحكومة المحلية الإنجليزية السابعة: تاريخ قانون الفقر في إنجلترا»، الجزء الأول: قانون الفقر القديم (١٩٢٧م)، ص٣٠٨–٣١٣.
٣٥  ج. ت. كروز، «التغيرات في نسبة الخصوبة والوفيات في إنجلترا» مجلة التاريخ الاقتصادي (١٩٥٨م)؛ و«بعض الملاحظات من الأبحاث المعاصرة في التاريخ الديموجرافي»، دراسات مقارنة في المجتمع والتاريخ، ١، (١٩٥٨-١٩٥٩م)، ص١٦٤–١٨٨.
٣٦  إيرل ج. هاميلتون، «تضخم الأرباح والثورة الصناعية، ١٧٥١–١٨٠٠» النشرة الاقتصادية، عدد ١٠٦، (١٩٤١-١٩٤٢م) ص٢٥٦–٢٧٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤