المقالة الثالثة

مذهب داروِن على ما بسطناه في المقالتين السابقتين مهم؛ لأنَّه يكشف لنا عن أهم الظواهر وأوسعها، ألا وهو: أصل العالم العضوي؛ إذ يهيئُ لنا المعدَّات التي يتيسر لنا بموجبها الحكم بأسبابه، وهل هي في الأسباب الطبيعية أم في الأسباب الغائية المعوَّل عليها حتى اليوم.

ويعظم شأنه أكثر إذا أُطلق على الإنسان ليُعلم ما إذا كان يصح أيضًا عليه، وإذا ما كانت النواميس العاملة في باقي الأجسام الحية هي العاملة في أصله كذلك، أم هو خارج عن حكم هذه النواميس؟

فلا يخفى أنَّ أكثر الفلاسفة والطبيعيين أيضًا — ما خلا المدعوين ماديين من فلاسفة اليونان — كانوا يعتقدون أنَّ الإنسان مختلف جوهريًّا عن عالم الحيوان، ولا اتصال له به لا جسمانيًّا ولا روحانيًّا. وبقي هذا الاعتقاد معوَّلًا عليه حتى اليوم؛ لفقدان الأدلة التي يبنى عليها ما يخالفه، ولو ناقض الوحدة العامة للطبيعة والتصور الفلسفي للكون. فمسألة «من أين أتى الإنسان، وكيف أتى؟» لم يستطع العلم حلها طبيعيًّا، واعتبرت أنها تعلو على العلم، فلم يكن حلها ممكنًا إلَّا للدين وحده. لكن لما كانت الأديان متعددة كانت الروايات في أصل الإنسان كثيرة أيضًا، وأحيانًا غريبة للغاية؛ فإنك تكاد ترى روايات تتعلق بهذه القضية عند جميع الشعوب على اختلاف طبقتهم في المعتقد والتمدن، وهذا دليل على ما للإنسان حتى المتوحش من الميل إلى معرفة أصله، الذي هو «سر الأسرار» كما قال عنه أحد فلاسفة الإنكليز.

وأمَّا اليوم فتعرض لنا هذه المسألة على وجه آخر نظرًا إلى تقدمنا في المعارف. ودخولها في الأبحاث العلميَّة بعد أنْ كانت تُحسب فوق طور العقل من أكبر الأدلة على ما للعقل من الاقتدار.١ فالعقل لا حدَّ له خلافًا لما ذهب إليه بعضهم، لا حبًّا بالحقيقة، بل لغاية في النفس دينية أو فلسفية؛ ولذلك لا يجوز لنا أنْ نيأس من حل أشكل المسائل وأغمضها، وينبغي أنْ نسعى إلى الحقيقة جهدنا بجميع الوسائط التي لنا أبحاثًا كانت أم افتراضات.
لا شكَّ أنَّ العوامل العاملة في الإنسان هي نفس العوامل الطبيعية؛ لأن كل ناموس يطلق على سائر الطبيعة الحية ينبغي أنْ يطلق على الإنسان أيضًا، إذ إنَّ النواميس التي تكوِّن هذا العالم على مقتضاها واحدة وثابتة. وعلم التشريح وعلم الفيزيولوجيا — أي علم بناء جسم الحيوان — وعلم منافع أعضائه لا يدعان محلًّا للريب في كون الإنسان تشريحيًّا وفيزيولوجيًّا أكمل طائفة ذوات الفِقرات، وهذه الطائفة التي هي أعلى طبقات الحيوان رتبةً تنزل كلما ابتعدت عن الإنسان في سلسلة دركات لا تحصى. فإذا كان بين الإنسان وبين ما هو قريب منه من ذوات الثدي فراغ تشريحي أو فيزيولوجي، فهو ليس أعظم من الفراغات الموجودة بين أجناس أخرى منها، ويدل فقط على اختلاف عرضي أو نسبي، لا جوهري أو مطلق.٢ وهذه الحقيقة تنجلي لنا خاصة إذا نظرنا إلى طرق الترتيب التي نهجها الزولوجيون (علماء طبائع الحيوان) وإلى ذهاب تعب الذين منهم حاولوا جعل الإنسان عالمًا مستقلًّا عن الحيوان والنبات سدى. على أنَّ لينوس الذي هو أعظم من وضع طرق الترتيب في علم الحيوان لم يفته ذلك؛ لأنَّه ضمَّ في صفه الأول المسمى «بريمات» الإنسان والقرد والنصف قرد.٣ غير أنَّ بلومنباخ سنة ١٧٧٩ قد انحاز عن هذا الترتيب، ووضع صف ذي اليدين (وخصه بالإنسان)؛ تمييزًا له عن صف ذي الأربع أيدي (وخصه بالقرود). وقد عرَّف الإنسان أنَّه «حيوان منتصب ذو يدين»، فكل الصفات التي يتميز بها الإنسان على رأيه إذن «وقوفه منتصبًا»، وحصوله على «يدين». وهذا الترتيب عرفه بوفون وتبعه كوفيه الشهير، وهو الذي أدخله في العلم، وإلى اليوم لم يخرج منه تمامًا. على أنَّ عددًا كثيرًا من الزولوجيين قد رجع إلى ترتيب لينوس. وهذا الترتيب أصح ما يمكن وضعه، فالتمييز بين ذي اليدين وذي الأربع أيدي لا وجه له تشريحيًّا، والفضل في هذا البيان الدقيق للمشرح الإنكليزي هكسلي؛ فإنه قابل بين بناء عظام اليد والرجل، وعضلاتهما تشريحيًّا في الإنسان والقرد، وبيَّن أنَّ الاعتماد على الظاهر لا يكفي في مثل هذه القضية، بل يجب النظر إلى الباطن أيضًا.
ومن بحثه يتبين أنَّ اليد والرجل في الإنسان والقرد الشبيه بالإنسان ولا سيما الكورلا مكونتان على مبدأ واحد؛ أي إنَّ الكورلا ليس له أربع أيدٍ كما زعم، بل يدان ورجلان. فقائمة الكورلا الخلفية ليست سوى رجل ذات إبهام كبيرة، أشبه بإبهام اليد من جهة مقابلتها لباقي الأصابع؛ أي إنَّ له رجلًا ماسكة،٤ وهكذا سائر أنواع القرود والنصف قرود أيضًا، ففي سائر هذه الحيوانات وضع عظام الرسغ واحد، ولها من العضلات القابضة والباسطة القصيرتان والقصبية الطويلة، مما يجعل القائمة الخلفية تشريحيًّا رِجلًا لا يجوز توهمها يدًا؛ لذلك يرفض هكسلي تسمية ذوات الأربع أيدي، ولا يعتبر الإنسان سوى طائفة خصوصية من البريمات، ولا يجوز غير ذلك حتى ولو كان الفرق بين رِجل الإنسان ورِجل الكورلَّا أعظم مما ذكر أيضًا، والفرق أعظم بين تكوين رِجل الأوران أوتان مثلًا، والكورلَّا منه بين الكورلَّا والإنسان.

ويؤكد هكسلي أنَّه لا يوجد فرق جوهري كذلك بين باقي الأعضاء، كالعضلات والأحشاء والأسنان والدماغ … إلخ، فالتسنين الذي هو أوضح الأدلة على تقارب ذوات الثدي واحد في الإنسان والكورلا، من حيث عدد الأسنان وأنواعها وتكوين التاج، والفرق بينهما في أشياء عرضية فقط، وربما كان أعظم بين أنواع القرود المختلفة. وقد بيَّن شفهوزن أنَّ أسنان اللبن في الإنسان لا فرق بينها وبين أسنان القرد بشيءٍ؛ لأن الأضراس الكاذبة التي تنبت فيما بعد، والتي تتميز بتاج صغير وجذور ملتصق بعضها ببعض لا توجد في التسنين الأول، ويوجد مكانها أضراس صحيحة ذات تاج وجذور أشبه بما في القرد؛ أي إنَّ الإنسان يكون في التسنين الأول أدنى في التكوين — أي أقرب — إلى أصله، ولا يبلغ الإنسانية حقيقة إلَّا في التسنين الثاني. وفي هذا التسنين أيضًا تشبه أسنان الإنسان أسنان القرود العليا في جميع صفاتها ما خلا الحجم. وقد استنتج شفهوزن من ذلك «أنَّ الإنسان كان في السابق يعيش على الأثمار.» وبناء القرود العليا يشبه بناء الإنسان في كثير من الأمور التشريحية، وقد بيَّن هكسلي أنَّه في تشريح جثث البشر كثيرًا ما تلتقي العضلات موضوعة كما في القرود تقريبًا، «وعليه فالمشابهة بين الإنسان والصور الأدنى منه — كما يقول شفهوزن — ليست في الحياة الجنينية فقط كما هو معروف من زمان طويل، بل في حالة نموِّه وبلوغه الكمال أيضًا، ولا يزول أثرها إلَّا شيئًا فشيئًا.» وعلى قول هذا المؤلف يوجد من المشابهة بين القرود والإنسان في بناء ثلاث من أعظم الحواس «العين والأذن والجلد»، ما ليس لباقي ذوات الثدي، «فالقرد بعد الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي له الجسيمات الحساسة التي تحس بأخف التأثيرات، وهو الوحيد أيضًا الذي له البقعة الصفراء في الشبكية، والذي الدهليز فيه (الأذن الباطنة) شبيهٌ بما في الإنسان، خلافًا لأنصاف القرود التي يختلف فيها ذلك عنه.»

وآخر دعوى وأقواها أيضًا لفصل الإنسان عن الحيوان تشريحيًّا كانت الدماغ، على أنَّه وجد بعد الفحص الدقيق أن لا فرق بينه وبين أدمغة باقي الحيوان من حيث البناء التشريحي. ولما كان هذا العضو مهمًّا جدًّا كان لا بُدَّ من بسط الكلام عليه، فأقول:

إنَّ الأستاذ أون أحد مشاهير مشرحي الإنكليز سعى من بين كثيرين آخرين في أنْ يجد في دماغ الإنسان فاصلًا يفصله عن الحيوان، ويضعه في صف خاص بين ذوات الثدي، فذكر لذلك ثلاث صفات، وهي؛ أولًا: الفصَّان الخلفيَّان للدماغ المغطيان المخيخ والمطفان عليه، ثانيًا: القرن الخلفي للتجويفين الجانبيين الكبيرين، ثالثًا: الرجل الصغيرة لفرس البحر، ويراد بها عقدة صغيرة بيضاء مستطيلة مستقرة في الجدار الإنسي للقرن الخلفي أو في قعره تنشأ من شرم أو التواءٍ وحشي مقابل. فعلى زعم أون أنَّ هذا التكوين الذي هو أكمل هنا منه في الحيوان، يجب أنْ يضع الإنسان في صف قائم بنفسه بين ذوات الثدي سمي صف الأرشنسفال؛ أي المتسلط، تمييزًا له عن صف الجيرنسفال؛ أي الخاضع.

ولما انتشر مقال أون سنة ١٨٤٧ كثرت مناقضات العلماء له نظير رولستون وهكسلي وفلوار وغيرهم، وكثر البحث في دماغ القرود كذلك، وكانت النتيجة أنَّ ما قاله أون مغلوط، وأنَّه استند في بعضه على رسوم مغلوطة وناقصة لدماغ شمبانزي، كان قد طبعها بعض المشرحين الهولانديين «فروليك وشرادرفان دركولك»؛ لأنهم تحققوا أنَّ أدمغة القرود فيها كذلك القرن الخلفي للتجويفين الجانبيين، والرجل الصغيرة لفرس البحر وأن الفصين الخلفيين للدماغ فيها مطفان على المخيخ أيضًا، وأحيانًا أكثر مما في الإنسان.٥ ولزيادة الإسهاب فليراجع القسم الثاني من كتاب هكسلي في مقام الإنسان في الطبيعة.

وأمَّا حجم الدماغ الذي ينبغي اعتباره أيضًا، فقد بيَّن هكسلي أنَّ الفرق بين أصغر جمجمة بشرية، وأكبر جمجمة للكورلا وإنْ كان عظيمًا، إلَّا أنَّه أقل مما هو بين فروع البشر المختلفة. وقد قاس مورتون جماجم بشرية فبلغت مساحة أعظمها من الباطن ١١٤ قيراطًا وأصغرها ٦٣ قيراطًا، وقيل: إنهم رأوا جماجم هنود لا تتجاوز مساحتها ٤٦ قيراطًا، ومساحة أعظم جمجمة للكورلَّا لا تتجاوز ٣٤ قيراطًا؛ وعليه فإن حجم الدماغ يختلف من أدنى الإنسان إلى أعلاه أكثر مما يختلف بين الإنسان والقرد. وأمَّا تلافيف الدماغ التي أرادوا أنْ يجعلوها امتيازًا خاصًّا بالإنسان، فإنها موجودة في دماغ القرود، وبالغة كل درجات النمو من الدماغ الملس للنسناس إلى دماغ الأوران أوتان والشمبانزي، الذي قلما تختلف تلافيفه عن تلافيف دماغ الإنسان.

وهكذا أي عضو أو أي جهاز فحصناه كان لنا نفس النتيجة التي ذكرها هكسلي، والتي هي خلاصة أبحاثه؛ وهي أنَّ الفرق من حيث البناء أقل بين الإنسان والقرد منه بين طوائف القرود المختلفة.

والأستاذ هكسلي يقول كذلك: إنَّ الفرق بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان في الكم فقط — أي في العدد والحجم — وهو أقل مما بين الحيوانات العليا والحيوانات الدنيا، والفرق على رأيه أعظم بين رجلين أحدهما من الطبقة العليا والآخر من الطبقة السفلى منه بين أدنى الناس وأعلى الحيوانات. وعنده أنَّ الأنثروبولوجية أو علم الإنسان ليس إلَّا فرعًا من الزولوجية أو علم الحيوان.

وعليه فلا يوجد فرق جوهري بين الإنسان والحيوان ينفصل به الواحد عن الآخر انفصالًا تامًّا، لا في الجسماني ولا في الروحاني أو العقل؛ لأنَّه لا شبهةَ اليوم في أنَّ الدماغ عضو الفكر، وأنَّ العقل يختلف بحسب كبر الدماغ وشكله ووضعه ونموه؛ أي إنَّ الإنسان والحيوان سيان جسمانيًّا وروحانيًّا، والفرق بينهما في النمو والارتقاء فقط.

على أنَّه يوجد كثيرٌ من الفلاسفة واللاهوتيين والطبيعيين لا يسلم بأن الإنسان حيوان إلَّا في الجسماني فقط، وأمَّا في الروحاني فهو غير خاضع لنواميس الحياة الحيوانية.

ونجيب على ذلك بأن المقابلة بين عقل الإنسان وعقل الحيوان القريب منه تؤدي إلى نفس النتيجة التي يؤدي إليها تشريح المقابلة. ويعرض للفلاسفة ولأصحاب ما وراء الطبيعة عندما يحاولون بيان الفاصل بينهما نفس الصعوبات التي تعرض للمشرحين، فلا يوجد فاصل بين الإنسان والحيوان عقليًّا، كما أنَّه لا يوجد جسديًّا؛ فإن أعلى قوى الإنسان العاقلة موجودٌ جرثوميًّا في أدنى طبقات الحياة، وأرفع حاساته وأقواها، كالمحبة والمودة واللَّذة والألم والحقد والحزن … إلخ موجود في الحيوان أيضًا، فكل ما يتميز به الإنسان من الصفات النبيلة موجود في الحيوان في حالة موعودٍ بها، والفضل في ارتقائها فيه إلى ناموس الانتخاب الطبيعي. فالإنسان لا يتميز عن الحيوان إلَّا بكون الصفات المشتركة بينهما أَبلغ فيه وأظهر، وببقاء الأنسب أَرقى،٦ وهذا الذي جعل القوى العقلية فيه تقوى على الأميال السافلة والشهوات الفاسدة.

ولا ينبغي أنْ يُظن من ذلك أنَّ هذه القوى العاقلة غير موجودة في الحيوان، كلَّا، فالحيوان يقابل، ويستقري، ويستنتج، ويتعلم بالاختبار، ويتأمل كالإنسان، وانحطاطه عنه في ذلك كمي فقط. ونواميس الفكر في الحيوانات العليا هي كما في الإنسان، ومعرفة الأسباب واستخراج النتائج يتمان في كليهما على شرائط واحدة، وكل النظامات السياسية والاجتماعية للإنسان موجودة في الحيوان، ولكن على سبيل الرسم، وقد تكون أكمل فيه منها في الإنسان.

والخلاصة أنَّ حياة الحيوان العقليَّة لم تُعلم إلَّا قليلًا حتى اليوم، وقد حطت جدًّا عن مقامها؛ لأن أساتذتنا الفلاسفة الذين جعلوا درس هذه المسائل محصورًا بهم قد بنوا أحكامهم على أمور مجردة لا على الاختبار، وأمَّا الذين يدرسون هذه الأشياء عن قرب فإنهم يرون أمورًا غريبة كثيرة تدلهم على ما يستطيعه عقل الحيوان. ولفهم ذلك لا ينبغي الاعتماد على العلماء الذين يجلسون وراء مكاتبهم، بل على الناس الذين يخالطون هذه الحيوانات، كالصيَّادين والرعاة والفلاحين، وأصحاب معارض الحيوانات والمحافظين عليها، وغيرهم الذين يتيسر لهم مراقبة أعمالها العقليَّة. فمنهم نعلم أشياء مختلفة عما يقال عادة، فالحيوانات ليس لها عقل وعواطف كالإنسان فقط، بل لها أيضًا لغات وجمعيَّات قد تكون منتظمة أحيانًا أكثر من جمعيَّاته، وتبني بيوتًا وقصورًا تفاخر بها قصورنا، وعندهم جنود وأسرى وسجون ومحاكم، وتعتني كبارها جدًّا بتهذيب صغارها، وربما كان اعتناؤها بذلك أكثر من اعتناء الإنسان به، وتغير أخلاقها وتكتسب كثيرًا بمخالطة الإنسان — والحيوانات الأهلية شاهد على ذلك — خلافًا لزعم من ينفي هذه القابليَّة عنها توسلًا لجعل ذلك فاصلًا لها. حتى ولو صح هذا الزعم لما ساغ جعله صفة خاصة به دون غيره؛ إذ إنَّ متوحشي البشر قلما يكتسبون كذلك. وجميع فروع البشر غير متساوين في هذه القابلية، فإن أحمر الجلد والإسكيمي والبولينيزياوي والماوري والأوسترالي … إلخ يتلاشون جميعهم كما لا يخفى بمخالطة القوم المتمدنين. ولا نعلم من قَوي على ذلك، وارتفع فوق حالته الأصلية سوى الأسود الذي أُدخل إلى أميركا الشمالية، وهذا أيضًا في حالة العبودية وبمخالطته الإنسان «نظير الحيوان تمامًا». وإذا قالوا: إنَّ الإنسان له خاصة النطق للتعبير عن أفكاره مجردة، فإنهم أيضًا لا يثبتون شيئًا، إذ إنَّ الألفاظ المعبرة عن ذلك لا وجود لها في جميع اللغات الأميركانية، كما يعلم من فيلولوجية المقابلة، وكذلك اللغات الأوسترالية، وبعض اللغات البولينيزياوية، وأكثر الألسنة التي يتكلمها سود أواسط أفريقيا. وإذا أريد المقابلة بين الإنسان والحيوان فيلزم ألَّا تكون مع أكثر الناس تمدنًا، إذ إنَّ الفرق بينهما عظيم، بل مع متوحش أفريقيا أو أوستراليا القريب إلى الحيوان جدًّا، وإنْ كان يطلق عليه اسم الإنسان نظيرنا. وإذا كان الأستاذ بيشوف المشرح والفيسيولوجي الشهير يرى فرقًا بين الإنسان والحيوان في أنَّ الإنسان له — ما عدا الضمير — شعور بالذات أيضًا يعرَّفه «أنَّه قوة يقدر الإنسان بها أنْ يتأمل بذاته، وبسائر أحوال الأشياء ونسبتها إلى باقي الخلق»، فيليق بنا أنْ نسأله إذا كان يعتقد أنَّ ابن زلاندا الجديدة، أو متوحش الأمازون، أو ابن جزائر فيليبين، أو الإسكيمي، أو البوتوكودي حتى الصعلوك الأوروباوي له ذلك أيضًا؛ أي إنَّه يستطيع أنْ يتأمل في هذه الأشياء الجميلة؟! لكنه يقول هو عنهم: إنهم أناس تائهون متوحشون لم تنمُ فيهم «الصفة البشرية الخاصة»، ولسوء البخت لا يذكر من أين جاءنا بما يسميه «الصفة البشرية الخاصة» إنْ لم يكن من مراقبة نفس الإنسان. وهو ينقض كلامه بكلامه إذ ينفي عن أناس هم بالحقيقة بشر الصفة المميزة للبشر على زعمه، ولم يبين إمكان ظهور هذه الصفة بطريقة من الطرق. على أننا نعلم علم اليقين من الحوادث الجلية — كما قلنا مرارًا — أنَّ الفروع السفلى الأقرب إلى الحيوان منها إلى هذا الإنسان التصوري الذي خلقه بيشوف، ليس أنها لا تقبل التهذيب فقط، بل تهلك إذا أُريدَ إخضاعُها له أيضًا.

وبيشوف منفرد وحده بين الفلاسفة الذين حشر نفسه بينهم في تعريفه الإنسان، فالإنسان من أي طبقة كان، والحيوان كذلك لهما هذا الوجدان أو العلم بما يسمونه «أنا»، أو كما يقولون أيضًا: الشعور بالذات، ولا ينفيه — كما يقول شوبنهور — عن الحيوان بدون أدنى سبب ظاهر إلَّا الفلاسفة الذين لا شعور لهم. ويقول أيضًا: «إنه يلزم أنْ يقع أحد هؤلاء الفلاسفة بين مخالب النمر؛ حتى يتعلم على نفقته كيف يفرق الحيوان بين ما هو «أنا» وما ليس «بأنا»!»

والعقل ليس قوة خصوصية، بل مجتمع القوى العاقلة — كالتأمل والاستقراء والتصور — يسمى عقلًا، وهو ليس خاصًّا بالإنسان وحده، بل هو في الحيوان أيضًا، قال شفهوزن: «ليس من العدل أنْ نقيم حاجزًا حصينًا بين الإنسان والحيوان بقولنا: الإنسان عاقل والحيوان غير عاقل. وكيف يجوز جعل العقل صفةً مميزة لسائر البشر على السواء؟ ونحن نعلم أنَّ بين فروع البشر، بل الأفراد تفاوتًا من هذا القبيل،٧ فكل واحد عقله بقدر ما قسم له من التهذيب، وأين العقل البشري إذ يقتل المتوحش عدوَّه ويشرب من دمه؟ وإنْ قيل: إنَّ ما يميز الإنسان عن سواه إنْ لم يكن العقل نفسه فقابليته لأن يصير عاقلًا، فالاختبار يكذب ذلك؛ لأنَّه إذا كنا قادرين أنْ نعقل فالفضل في ذلك لحواسنا ولجميع وسائطنا العقلية، إلَّا أنَّ نمو هذه القوى العالي الذي يضعنا فوق الحيوان ليس واحدًا في سائر الناس.» ولقد أصاب ليل بقوله: «إنَّ عاملًا واحدًا روحيًّا، لا فرق في تسميته بديهة أو نفسًا أو عقلًا، يتحرك في سائر العالم الحي من أسفل إلى أعلى.» وعلى رأي شفهوزن: «إنَّ القول بأن الإنسان يتميز عن سائر الحيوان لاستعانته بالآلات وحده خطأٌ مبين؛ لأننا نعلم عن ثقة أنَّ القرد يكسر الجوز بالحجر، وأنَّه يرمي الحجر بين طبقتي صدفة أم الخلول لكي يفترسها.»

وإنا لفي غنًى عن إطالة البحث في هذه الاختلافات بين الإنسان والحيوان؛ فإنها لا تخفى على أحد، وهي ذات شأن عظيم في المدارس، وكتب التعليم مشحونة بها، والمعلمون يدخلونها جبرًا أولًا وثانيًا وثالثًا في رءوس التلامذة الذين تأخذهم هزة العزة لعلو مقامهم البشري، وأكتفي منها بذكر قضيتين كافيتين وحدهما لتبيين فساد المذهب كله؛ وهما: الانتصاب في المشي، والنظر المتجه نحو السماء. والقضية الأخيرة مغلوطة؛ لأن الإنسان لا ينظر إلى السماء دائمًا، كما أنَّ الحيوان لا ينظر إلى الأرض دائمًا، وإنما كلاهما ينظران أمامهما طبيعيًّا، وأمَّا أولئك الذين يوجهون أنفهم نحو السماء أكثر مما إلى الأشياء التي أمامهم، فمما يسخر بهم، وبكل الأحوال لا يعتبرون من طبقة أصحاب الأفكار.

وأمَّا المشي عموديًّا فموجود في كثير من القرود، وربما كان فيها أكثر لولا أنها تقيم غالبًا على الأشجار، ولولا أنها ماسكة، فالجيبون وهو أصغر القرود الشبيهة بالإنسان، يكون أكثر قيامه منتصبًا إذ يكون على الأرض. وكاستلنو يقول عن اللاكوتريش:٨ إنه إذا ربطت يداه وراء ظهره مشى ساعات طويلة على رجليه ولم يتعب. والأتل — أو القرد ذو الصنارة — متحرك جدًّا، ونبيه كذلك يقف غالبًا منتصبًا. والشمبانزي والكورلا لا يلمسان الأرض في مشيهما إلَّا بأصابع اليد أو بقفاها، وهي تشبه يد الإنسان كثيرًا. وقد قلنا فيما تقدم: إنَّ مشي الكورلا متوسط بين مشي الإنسان ومشي الحيوان. ويوجد أيضًا كثير من القوم المتوحشين يقيمون غالبًا على الأشجار كالقرود، وفيهم الرِّجل كما في القرود إبهامها موضوعة كما في الرِّجل الماسكة، فرِجل أهالي كلادونيا الجديدة على — قول روكاس — تفيدهم للإمساك، كما تفيدهم للتعرش على الأشجار؛ إذ إنهم يتمسكون بها بالغصون كما تفعل اليد. وأهالي جزائر فيليبين٩ لا يتجاوزون أربع أقدام ونصف قدم، وهم قوم متوحشون يقومون عراةً أو يشدون على وسطهم فقط مِنْطَقَةً من قشر الشجر. ويقيمون تارة على الأشجار، وتارة على الأرض. وأصابع رجليهم، ولا سيما الإبهام منها، موضوعة وضعًا يمكِّنها من التمسك بها بالأغصان والحبال كاليد. وإحدى قبائلهم المتوحشة واسمها الأجطاس ينصبون غفرهم على الأشجار. ويوجد في الملازيين — سكان جافا الذين يستعملون أرجلهم أيضًا كأيديهم — بعض صفات خاصة بالقرد لا وجود لها في الفرع القوقاسي، فلا يصيبهم الدوار، وينامون معلقين في الهواء مستندين إلى غصن أو ما شاكل.١٠

ولا شبهة أنَّ الرِّجل البشرية لم تخسر حركتها إلا شيئًا فشيئًا؛ لاستخدامها لعمل آخر ولاستعمال الحذاء، ولنا شاهد على ذلك في سكان جنوبي فرنسا، فإن عادتهم على التعرش على الأشجار جعلت عندهم سهولة كلية في تحريك أصابع رجليهم، بحيث يقابلون إبهامهم لباقي الأصابع كالقرود، ويتناولون بأرجلهم أصغر الأشياء (شفهوزن).

على أنَّ وقوف الإنسان عموديًّا منتصبًا على قدميه ليس كله طبيعيًّا؛ لأن وضع العمود الفِقري لا يقتضيه لزومًا، إذ لا يرتبط الجسد به إلَّا من جانب واحد فقط؛ ولذلك كان الأطفال والشيوخ كثيري السقوط إلى الأمام، والأطفال لا يتعلمون المشي منتصبين إلَّا بكل صعوبة. ولما كان ثقل الجسد كله متعلقًا بهذا العمود من جانب واحد فقط، كان ذلك فيه سببًا للانحناء الكثير الحصول؛ لأنَّه كثيرًا ما لا يقوى على حمل هذا الثقل.

ولكي نفرغ من هذا الموضوع لم يبقَ علينا سوى أمرٍ واحد كثيرًا ما اعتبروه ذا شأن عظيم، وعند الفحص الدقيق تسقط قيمته كغيره؛ أعني به غشاء البكارة والحيض اللذين اعتبرا أنهما خاصان بأنثى الإنسان، فكلاهما يوجدان في القرود، وفي غيرها من ذوات الثدي أيضًا. وقد ذكر الدكتور نوبرت من ستوتكاردت أنَّ بعض أجناس القرود ولا سيما قرود العالم القديم تحيض حيضًا صحيحًا، بعضها كل أربعة أسابيع، وبعضها مرتين في السنة.

فيظهر مما تقدم أنَّه لا يوجد فرق مطلق أو كيفي بين الإنسان والحيوان لا جسمانيًّا ولا روحانيًّا، بل الفرق بينهما نسبي أو كمي فقط. على أنَّ الفراغ العظيم الكائن بينهما سيتسع يومًا عن يوم؛ لازدياد التمدن ولموت الأصول المتوسطة. ولذلك، كلما بعد الإنسان عن أصله الأول زادت الصعوبة في معرفة الحقيقة، فإن الأصول العليا للقرود والفروع السفلى للبشر صارت في حالة التلاشي منذ زمان طويل، وكل منها يقل سنة عن سنة، بخلاف الإنسان المتمدن، فإنه لا يزال يزداد ارتقاءً وانتشارًا على سطح الأرض، فسوف تصير المسافة التي تفصل الإنسان عن الحيوان أكبر جدًّا منها اليوم بعد بضع مئات أو بضعة آلاف من السنين، بحيث يتعذر قطعها على علماء ذلك العصر البعيد إنْ لم يروا في الكتب مستندات يستندون إليها.

على أنَّ اكتشافات السياح والفوائد الناجمة للعلم منها نتيجتها تسهيل الصعب من ذلك؛ فإنه في أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل التاسع عشر لم يكن يُعلم إلَّا القليل النزر عن القرود الشبيهة بالإنسان، وما كان يذكر عنها حمله كوفيه على محمل الخرافة، وقال: إنه من مختلقات زميله بوفون. وأمَّا اليوم فنعرف أربعة قرود شبيهة بالإنسان: الجيبون والشمبانزي والأوران أوتان والكورلَّا، ومعرفة هذا الأخير حديثة العهد، فالكورلَّا يشبه الإنسان كثيرًا بالقد والهيكل، وكيان اليد والرجل والتسنين وغير ذلك. ومهما روي عن قوة هذا الحيوان وشراسته من المبالغة فقد تحقق أنَّه صحيح في أكثره. وهو أقوى القرود الشبيهة بالإنسان على القيام والمشي واقفًا، إلَّا أنها تشبه الإنسان في بعض أشياء أكثر منه، فالشمبانزي له رأس ودماغ قريبان من رأس الإنسان ودماغه، والجيبون وإنْ كان لا يتجاوز قده ثلاثة أقدام إلَّا أنَّه يشبه الإنسان كثيرًا بقفص صدره وأنواع جلوسه.

فأوجه الشبه مع الإنسان غير محصورة في نوعٍ واحد من القرود، بل متفرقة في أنواع كثيرة، وهذا كافٍ لإظهار غلط أولئك الذين يريدون أنْ يحصروها على ما يفهمون من مذهب داروِن في صورة واحدة تصل بينه وبين القرود رأسًا، وقد بيَّنت هذا الغلط فيما تقدم، حيث قلت: «إنه لا يجوز البحث عن صور انتقالية بين الصور الحاضرة، ولكن بينها وبين جد قديم انقرض من زمانٍ طويل، وكان يجمع فيه الصفات المختلفة للأنواع الحاضرة، وقلت أيضًا، وقد ذكرت مثال الصور الأربع الحاضرة الفرس وحمار الوحش والحمار والكواجا: إنه لا شك في أنَّ أصلها واحد، إلَّا إنه لا يجوز أنْ نطمع بوجود صور حيَّة متوسطة بينها، قال الأستاذ هليار: «إنَّ الأجسام الحيَّة المقيمة بعضها بجانب بعض قد تكون مختلفة جدًّا، ولا حاجة إلى أنْ يكون بينها صور انتقالية؛ لأنها لم تتكون بعضها من بعض، بل تكونت بعضها بجانب بعض، ولئن كان جدها واحدًا إلَّا أنَّه يمكن أنْ تكون مختلفة جدًّا.»

كذلك إذا أردنا شق الإنسان من عالم الحيوان على مذهب داروِن؛ فلا يجوز لنا أنْ نبحث عن صور متوسطة بينه وبين الكورلَّا، بل بينه وبين جدٍّ أو أجداد مجهولة نشأ منها فرع الإنسان من جهة، وفرع القرد من جهةٍ أخرى.»

ورب قائل يسأل: هل مثل هذه الصور الانتقالية وُجد أو وُجد ما يدل على وجوده؟

فأجيب: نعم؛ فإن الاكتشافات العلمية في هذه السنين المتأخرة قد جادت علينا بكثير من ذلك. على أنَّ هذه الاكتشافات على فرض أنها لم تُعلم، لا يجب أنْ تحول بيننا وبين إطلاق مذهب داروِن على الإنسان؛ لأنَّه كما تقدم في المقالة السابقة جوابًا على اعتراض فقدان الصور الأحفورية المتوسط لا قيمة لهذا الاعتراض، لقلة المعلوم لنا من الأرض. ويتضح ذلك أكثر مما يأتي؛ فإن القارَّات التي تعيش فيها القرود الشبيهة بالإنسان الكبيرة، والتي يلزم أنْ تكون فيها الصور المتوسطة لا تزال محجوبة عن الأبحاث البالنتولوجية، وهي المناطق الحارة لقارَّة أفريقيا وجزائر جافا وبورنيو وصومترا. ولا نعرف شيئًا أيضًا عن ذوات الثدي التي كانت تعيش في طبقة البليوسن، والبليوسن الأخير لهذه الأماكن. وأمَّا في أوروبا فقد وُجد في طبقات الميوسن؛ أي في متكوِّنات الأرض أيام كانت أوروبا حارَّة أكثر من اليوم، بقايا قرود أحفورية، وكان يظن من عهد غير بعيد أنَّه لا يوجد قرود أحفورية في أوروبا، كما كان يظن أيضًا أنَّه لا توجد أحافير بشرية لا سبيل اليوم إلى الشك بوجودها. وقد استُخرج من أوروبا في زمنٍ قصير ستة أنواع من القرود الأحفورية بعضها يجمع فيه بعض الصفات الموجودة في القرود والإنسان اليوم، وروتيمير وجد في الأراضي الثلاثية لسويسرا قردًا أحفوريًّا يجمع فيه صفات ثلاثة أنواع من القرود الحية (وهي: الكترهين والبلاتيرهين والمالكي). والقرد المسمى دريوبيتكوس لارتت نوع من الجيبون طويل الذراعين، وُجدت بقاياه في سفح جبال البيرنيز الفرنساوية سنة ١٨٥٦ في طبقات الميوسان الأعلى، وكان أكبر من الكورلَّا، وأسنانه أكثر شبهًا بأسنان الإنسان من الشمبانزي؛ أي كان أقرب إلى الإنسان من سائر القرود الحاضرة الشبيهة بالإنسان.

فإذا كان مثل ذلك وُجد في أوروبا، حيث كان الأمل به قليلًا جدًّا، فكم يجب أنْ يكون كثيرًا في الجهات الاستوائية التي هي موطن القرود الكبيرة، ولا سيما في طبقات البليوسن والبليوسن الأخير. وأمَّا زوال الصور المتوسطة وعدم بقائها زمانًا طويلًا، فلِما حصل بينها وبين الإنسان من المنازعة الشديدة في تنازع البقاء.

فمن الجهة الواحدة قد وُجد إذن قرود أحفورية أقرب إلى الإنسان من القرود الحاضرة، ويرجى وجود أخرى تكون دليلًا أوضح أيضًا. ومن الجهة الأخرى قد وُجد أيضًا في هذه السنين الأخيرة كثير من صور البشر الأحفورية، ومن المصنوعات البشرية وهي قديمة العهد جدًّا. والأربعة أو الخمسة آلاف سنة المعروفة لتاريخ الإنسان ليست شيئًا بالنظر إلى وجوده السابق العهد التاريخي. وتكوين هذه الآثار التشريحي يضيِّق المسافة التي تفصل الإنسان عن الحيوان أيضًا. ويطول بنا الشرح إذا أردنا فحص هذه المسألة المهمة بالتدقيق، فلتراجع في مؤلفات ليل وشارل فوجت وهكسلي وبوشه، وغيرهم من العلماء الذين بحثوا فيها، فقط أقول: إنَّ جميع الجماجم والعظام البشرية القديمة العهد جدًّا خصوصًا الجمجمة الشهيرة لنياند رسال، والفك السفلي الأحفوري الذي وجده ديبون حديثًا في مغارة نولات على اللاس في بلجيكا، كلها ذات تكوين دنيء جدًّا شبيهة بتكوين الحيوان وقريبة من القرد؛ أي تدل على أصل حيواني. ثم ولئن يكن تكوين الأحافير البشرية السافلة أدنى من تكوين أدنى المتوحشين اليوم، إلَّا أنَّ الإنسان القرد — كما يقول شفهوزن — الذي لا بُدَّ من أنْ نعثر عليه يومًا ما لم يوجد بعد، والسبب العظيم لذلك — بقطع النظر عن قلة المعلوم لنا من الأرض — هو عدم موافقة الأحوال الجيولوجية في الماضي القديم جدًّا لحفظ العظام البشرية، خلافًا للعصر الذي وَجد فيه الإنسان المعاصر المموث والحيوانات الكهفية. ولهذا السبب — كما يقول شفهوزن أيضًا — لا يرجى العثور على آثار الإنسان القديمة جدًّا إلَّا في أحوال غير اعتيادية. ومع ذلك فربما لا يحرم العلم من هذه الاكتشافات. وأنا من رأي جورج بوشه في هذا المعنى، حيث يقول من رسالة في الأنثروبولوجيا ما نصه:

إنَّ البالنتولوجية البشرية ربما تُظهر لنا يومًا من الأيام أجسامًا حيَّة نحتار فيها: أبشرٌ هي أم قرود بشرية!

وهو يقول أيضًا من كتاب في كثرة الفروع البشرية (سنة ١٨٦٤) من فصل منه ما نصه:

من يقول أننا لا نجد غدًا جمجمة قد نضطر لوضعها بين القرد الشبيه بالإنسان والإنسان.

وإنه لأمر مقرر في سائرِ الأحوال أنَّ ما اكتشفه وحصَّله العلم مهما كان قليلًا وناقصًا، فجميعه يشير إلى معنًى واحد؛ أي إلى رباط شديد يربط الإنسان بالحيوان. وإذا كان غير ذلك، فلماذا لم نجد أمرًا واحدًا يدل على الضد منه، أو شيئًا يدل على الفردوس، أو على صورة بشرية أكمل من الصورة الحاضرة من الصور الكاملة التي خلقها الله، والتي نحن أولاد لها، ولحق بهم النقص بسبب الخطية، فالجواب: لأن ذلك أمر مستحيل؛ إذ لا يمكن أنْ يكون شيء يضاد وحدة الطبيعة، قال بوشه: «الطبيعة واحدة، وسعي العلوم الحديثة إنما هو للوصول إلى هذه الوحدة.»

وإذ تقرر ذلك لم يبقَ علينا إلَّا أنْ نعرف كيف تخلص عقل الإنسان وصورته من عقل الحيوان وصورته؟ وبأي الطرق؟

ليس لنا من المواد ما يكفي للجواب على هذه المسألة جوابًا صريحًا أكيدًا، إلَّا أنَّه يمكن توضيح بعضها والبحث في هل حصل ذلك فجأة أو رويدًا رويدًا؟ فليل الذي بحث فيها في كتابه «قدم الجنس البشري» يزعم أنَّ هذا الارتقاء حصل للإنسان فجأة، مستندًا فيه إلى النوابغ الذين نبغوا في التاريخ بدون أنْ يكون في أجدادهم شيءٌ من الذكاء يدل على مجيئهم، فربما حصل هكذا في بعض الأفراد أو الأصول الحيوانية، فشبَّت فيه بعض الصفات البشرية، فنشأ عنه فرع أقرب إلى الإنسان. وهذا الزعم فيه شيءٌ من المذهب الذي تكلمنا عنه فيما مر؛ أي مذهب التكوين الكثير الطبائع للأستاذ كوليكر.

فمن أراد تصديق هذا الرأي فهو مخير، وأمَّا أنا فلا أراه ضروريًّا، بل الارتقاء البطيء كافٍ للتعليل عن كل أمر. والنوابغ لا يسقطون من السماء كما يظهر من كلام ليل، بل هم نتيجة فعل النواميس الطبيعية المحدودة الأموال المناسبة، كطبيعة الوالدين، وامتزاج صفاتهما المتضادة امتزاجًا حسنًا. وأضف إلى ذلك التربية والأسرة والمكان والزمان، وغير ذلك من الشروط التي لا تنبغ النوابغ بدونها. وما عدا ذلك ففي الطبيعة ناموس عام، هو أنَّ صغار الحيوانات والقرود والبشر الذين هم من أدنى جنسهم، يتشابهون أكثر من البالغين في تكوين الجمجمة وقابلية العقل؛ فإن صغار القرود خاصة يشبهون جدًّا الأطفال باستدارة جمجمتهم، ولا تتميز فيهم صفات القرد إلَّا مع السن، فتبدو الانخفاضات والبروزات والشكل الزاوي، وبروز الوجه عن الجمجمة. وكذلك يحصل في الأخلاق فتزداد القرود شراسة وقساوة، ولا تذعن للتربية كلما طعنت في السن. وهكذا أيضًا في أولاد السود كما يُعلم من روايات يوثق بها، فإنهم يُظهرون في المدارس ذكاءً وقابلية للتهذيب لا مزيد عليهما، فإذا بلغوا أشدهم تخلقوا بأخلاقهم الوحشية، وخسروا كل ما اكتسبوه بالتعليم كأَن لم يكن شيءٌ من ذلك. فمثل هذه الشواهد يعلمنا أنَّه يوجد في سن الصبوة استعداد خصوصي لقبول الارتقاء، فإذا وافقت الأحوال الخارجية فربما شبَّ أصل من الأصول لما فيه من القابلية وهو صغير، فبلغ ارتقاء عاليًا حسيًّا ومعنويًّا.

figure
أرنست هكل.

فما هي الآن نتيجة إطلاق مذهب التحوُّل على الإنسان، هل هي جيدة أم ردية؟ معظَّمة أم محقَّرة؟ مكروهة أم مقبولة؟ وهل أصاب «ولفجان منزل» في تنديده بي حيث صرخ متكرهًا: «الإنسان ابن قرد، آلة مصنوعة للبهيمية!» أو يجب اتباع رأي هكسلي الذي يقول: إنه عوضًا عن أنْ نرى في انحطاط أصل الإنسان عارًا وسببًا للقنوط، ينبغي علينا باعتبار أصلنا وما وصلنا إليه بالتربية أنْ نزداد رغبةً ونشاطًا لبلوغ غاية أعظم فأعظم، وأعلى فأعلى دائمًا.

فأنا من هذا الرأي، وأختم مقالتي بكلام استعرته من كتاب «تاريخ الرأي المادي» للفاضل لانج، حيث قال:
لا يليق بالفيلسوف أنْ يحمر خجلًا كما فعل بلينوس من حقارة أصلنا؛ لأن ما يظهر لنا أنَّه حقير هو بالحقيقة أجلُّ شيءٍ، وقد صرفت الطبيعة فيه أعظم صناعة. حتى لو كان الإنسان من أصل أدنى أيضًا، لما اقتضى أنْ ينحطَّ عن كونه أشرف الكائنات.١١
١  قال الأستاذ شفهوزن: «إنَّ معرفة أصل الإنسان الصحيح اكتشاف كثير النتائج في جميع فروع الفكر البشري، وربما عدها المستقبل أعظم ما في طاقة العقل الوصول إليه.»
٢  قال هكسلي في كتابه «معرفة أسباب الظواهر الحية» ما نصه:

إنه من السهل أنْ يُبين أنَّ الإنسان بالنظر إلى بنائه لا يختلف عن الحيوانات التي دونه والقريبة منه، أكثر مما تختلف هذه الحيوانات نفسها عن التي من صنفها.

٣  قال لينوس: «قد يظهر أنَّ الفرق أعظم بين الإنسان والقرد منه بين النهار والليل، لكنهم إذا قابلوا بين الأوروباوي العريق في المدنية، وبين متوحش رأس الرجاء الصالح يصعب عليهم التصديق أنهما من أصل واحد، كما أنَّه يصعب اقتناعهم بأن سيدة نبيلة من سيدات البلاط الملوكي ورجلًا بسيطًا يعيش في الغاب هما من نوع واحد.» ا.ﻫ.
٤  اعترض الأستاذ شفهوزن على هذه القضية، قال: «إنه يمكن التوفيق بين الأقوال المتناقضة في الكورلا؛ لأن قائمته الخلفية هي في بعضها رِجل، وفي البعض الآخر يد؛ فإن جانب العقب رِجل، وجانب الأصابع يد، وذلك في غاية الموافقة لوظيفة هذا العضو. والذي يميز رجل الإنسان من جهة الشكل كونها نظير قنطرة تحمل فوقها جسم الإنسان المنتصب. وأمَّا حالة الكورلا من ذلك فهي بين انتصاب الإنسان وبين وقوف ذوات الأربع، فالكورلا يقف غالبًا منحنيًا ورسغه مشى أو ركض يبقى عموديًّا، مع أنَّ جسمه لا يستقر على القائمتين الخليفتين وحدهما فقط، بل قسم منه يستقر على مؤخر اليدين المستقرتين على الأرض. وفي الجملة فإنه لا يستطاع تصور الانتقال بين الحيوان والإنسان، إلَّا كما هو موجود في الكورلا.» ا.ﻫ.
٥  وقد عرف أون غلطه حديثًا حيث قال: «إنهم يبينون أنَّ كل الأجزاء الكائنة في بناء دماغ الإنسان موجودة في ذوات الأربع أيدي (القرود) أيضًا، إلَّا أنها مختلفة كثيرًا وأدنى جدًّا مما هي في الإنسان»، ومع ذلك فإن هذا الفرق النسبي كافٍ عند هذا العالم لوضع الإنسان في صفٍ وحده.
٦  إن ما يميز الإنسان على رأي هكل عن الحيوان، هو أنَّ له أعضاء كثيرة نامية جدًّا؛ أي إنَّ فيه صفات كثيرة مجتمعة لا توجد في الحيوان إلاَّ متفرقة، مثلًا حسن توقيع — أو كمال — في بناء الحنجرة والدماغ والأطراف … إلخ؛ نتيجته قوة التكلم وكثرة التصور، والانتصاب في المشي … إلخ.
٧  بل ربما، فقد أيضًا قال كوزربنس في رسالة عن السود ما نصه:

إننا في يقين من أنَّ الفرع الأفريقي لا يستطيع أنْ يبلغ مبلغَ الفرع الأبيض، فقوة التجريد والتنسيق وإدراك نواميس العقل كل ذلك مفقود منه، فلا يعرف الحياة العقلية، بل كل حياته طبيعية.

٨  نوع من القرود نبيه ويدجن بسهولة.
٩  هم والبابواي أهالي هولاندة الجديدة من أصل واحد.
١٠  والملازيون معرَّضون أيضًا لمرض يدعى «لاتا» كالقرود يجعل ما فيه يتقلد كل ما يراه يُفعل أمامه. وأحد الألمان كتب عما رآه عن الطبقات السفلى للبشر في الهند الإنكليزية، قال: «إنهم يشبهون القرد كثيرًا في عاداتهم، وفي وقوفهم وجلوسهم وغير ذلك من أحوال جسدهم، وهم لا يقتلون القرد؛ لأنهم يعتبرونه إنسانًا ممسوخًا، وأنا أظن أنهم بالحري قرود ممسوخة!» والدكتور أَوي لالمان يختم رسالة كتبها في إنسان الغاب البرازيلي أي البوتوكودي بقوله: «إنني قد اقتنعت بكل أسف بأنَّه يوجد قرود من ذوي اليدين.»
١١  كأَن الإنسان في بحثه عن أصل الإنسان لا يتوخى الحقيقة العلمية، بل أنْ يثبت شرف الإنسان فقط، ولو تدبر أنَّ هذا الشرف إنما يكون بالارتقاء لما فاخر بعظاميِّ بالٍ، ولفضَّل عليه العصاميَّ الغضَّ، ولاستمسك إذن بالطارف المتكامل لا بالتليد المنحطِّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤