الفصل الثالث عشر

أقريطون يروي النهاية

أنا أقريطون صديق سقراط سأروي لكم نهاية قصته:

إننا نحن الأثينيين نبعث كل ربيع بسفينة تحمل رسالة إلى ديلوس، تلك الجزيرة الصغيرة التي وُلِدَ فيها الإله أبولو، ونحن نفعل ذلك احتفالًا بذكرى نجاتنا من خطر عظيم، وذلك حينما تمكن بطلنا ثيسيس — بمعونة الإله — من قتل مينوتور الكريتي صاحب الثور، الذي كان يفرض علينا ضحية من شبابنا كل عام، وهذه البعثة التي كنا نرسلها كل ربيع هي فرصة للتطهر في المدينة، وما دامت السفينة غائبة — وكثيرًا ما كانت الرياح المضادة تطيل غيابها برغم قصر رحلتها — كان لا يجوز أن ينفذ حكم الموت في سجين من سجناء الدولة، ومن أجل هذا طال مقام صديقنا سقراط معنا أكثر مما توقع أو توقعنا، ولو سارت الأمور سيرها الطبيعي لتناول سم النبات المخدر في اليوم الذي أعقب صدور الحكم عليه مباشرة، ولكن السفينة المقدسة كانت قد كُلِّلَت بالزهر — وهذا هو الاحتفال الرسمي بافتتاح البعثة — في اليوم الذي سبق المحاكمة، من أجل ذلك ولأن السفينة في غضون إبحارها وعودتها ستهب الرياح مضادة لها يومًا بعد يوم، قضى صديقنا في السجن شهرًا بأكمله …

ولست أدري إن كان الانتظار أثَّر في سقراط، كنا نلازمه كل يوم، ولم نلحظ عليه تغيرًا، بالرغم من أن الأصفاد لا بُدَّ أن تكون قد آلمت ساقيه، كما أنه لم يعتد أن يُحْبَسَ عن ضوء السماء، وكان السجان رحيمًا به على قدر ما يستطيع في هذه الظروف، واعتقد من مسلكه في النهاية أنه أحب سقراط بعض الشيء.

وحرصت أن أصادق السجان أيضًا، وأعتقد أن في ذلك نفعًا، وقد أوشك جدًّا أن يكون فيه.

وكما قلت: يظهر أن الانتظار لم يؤثر في سقراط، ولم يكن بوسعه — بطبيعة الحال — إلا أن يمعن في التفكير في الموت، وكان من قبل مشتغلًا دائمًا بالحياة، ولم أعرف في حياتي امرأ يمتلئ كمثله حيوية، ولكنه الآن يجابه مشكلة جديدة، وقد عالجها بما يليق به، فإن شيئًا لم يمت قط بين يديه، حتى الموت ذاته، وقد أثقلنا عليه كذلك في ذلك الشهر الأخير، وكان لا بُدَّ له من حيوية كافية يشد بها أزرنا جميعًا.

ومن العسير أن أوضح لكم كيف كان الأمر معنا، ولقد خلصنا في نفوسنا أثناء محاكمته، وكنت راغبًا جدًّا بإطلاقه في ذلك الحين إن كان لا بُدَّ من ذهابه، فلقد كان كبيرًا جدًّا، ورأيت ألا يستصغر نفسه من أجلنا، ولكنك فيما بعد ترى الناس يتحدثون فتعجب؛ لأن الحياة حياة والموت موت مهما يكن من الأمر، وإن المرء ليساوره الشك في حصافة نفسه، وربما كان سقراط كذلك من الغافلين، في نظر الدنيا على الأقل، والدنيا هي كل ما يهم الإنسان.

ثم عاد سمياس — أحد أصدقائنا — من طيبة يحمل مبلغًا جسيمًا من المال، وقال صديقه سيبيز الذي صحبه كعادته: إنه كان يستطيع أن يحصل على أكثر من ذلك لو دعت إليه الحاجة، وكان هناك كثيرون آخرون متحمسون للمساعدة، وكانت خطتنا أن نرشو السجان والحرس، وأن نطلق سراح سقراط ليلحق برفاقي في تسالي، ونعني نحن هنا في أثينا بالأطفال إن أراد أن يتركهم، وما كنت أظن أنه يرضى أن ينتزعهم الآن من حقوقهم كمواطنين أثينيين، وما زالت حياتهم كلها أمامهم.

وفي الحق لم أكن متفائلًا جدًّا في الخطة بأسرها، حقًّا كنا نستطيع أن نرشو السجان، ولم يكن التنكر مشكلة، وكان لدى رجل آمن يصاحب البغال، ولكن الأمر كان يتوقف كله على موافقة سقراط، وكنت من أصدقائه حينما كان سمياس وسيبيز لا يزالان طفلين في مهدهما، وكنت أعرفه حق المعرفة، وكنت أعرف أنه لا يخجل البتة من الموت ولا يخشاه إلا قليلًا، وقد تلقاه كضرب من ضروب المغامرة التي ليس منها مفر، ولن يقف الآن ويفر منه إلا إن استطعنا أن نبين له أنه من الخير له أن يفر.

واختاروني لكي أحدثه، وكان لسمياس الحق لو أراد ذلك، ويكادون جميعًا أن يفضلوني في الحديث ولكنهم اختاروني، ولم يتسع لي الوقت لكي أفكر في الأمر، وفي تلك الليلة وفدت إلى أثينا جماعة من السفينة المقدسة قادمة من رأس سوينم، وذكرت أن السفينة إنما تنتظر هدوء الريح كي تدور حول الرأس، وأنها سوف تصل في اليوم التالي، وسيلاقي سقراط بالطبع موته في اليوم الذي يليه.

وكان السجَّان صديقي كما ذكرت، وقد سمح لي بالدخول في وقتٍ مبكرٍ في صبيحة اليوم التالي، وكان لا بُدَّ أن يعرف بوجه عام ما كنت أرمي إليه، وتركني في الغرفة وحدي، وكان ذلك قبل بزوغ الفجر، وسقراط لا يزال نائمًا.

وجلست إلى جواره برهة أراقبه وهو نائم، وقد استلقى ساكنًا لا حراك به، ثم تيقظ من تلقاء ذاته، وتولى أمر نفسه توًّا، وسألني لماذا أتيت، وعن الوقت، ولماذا أذِنَ لي السجان بالدخول، ولماذا لم أوقظه فور وصولي، وعرف في اللحظة الأولى نبأ السفينة، ولم يكن إخطاره بالنبأ أمرًا سيئًا، إنما كنت أخشى النوع الآخر من السؤال.

ثم قصَّ عليَّ قصة حلم رآه قبيل يقظته: رأى امرأة ترتدي الثياب البيضاء تتفوه بالألفاظ التي استخدمها أخيل عندما كان يفكر في الفرار من طروادة، وقالت له: إنه سوف يعود إلى بيته في اليوم الثالث، وقد فسر ذلك بأنه سيموت بعد غده ولن يموت في غده، ومهما يكن من الأمر فقد اتضح ما كان يدور في رأس سقراط.

ثم شرعت في الحديث، وذكرت له على عجل ما اعتزمت أن أخبره به، قلت: إنه يسيء إلى سمعة رفاقه أولًا، وقلت: إننا سنبدو جميعًا جبناء، أو كأن حبنا له لا يكفي أن ننفق في سبيل إطلاقه قليلًا من المال، وكان في ذهني كما تعلمون أنه لا يريد الفرار من أجل ما قد يصيبنا من أخطار، قلت له إنه لا يجب أن يحسب لذلك حسابًا، فإن من حقنا أن نخاطر، وذكرت له ما كان من أمر سمياس وما جاء به من مال، وأصدقائه الآخرين جميعًا الذين يودون أن يقدموا له المعونة، وقلت: إننا نستطيع أن نخرج أنفسنا من المأزق بالرشوة لو لزم الأمر، وإن أصدقائي في تسالي سوف يقابلونه بالحب ويوفرون له مكانًا آمنًا.

وأخيرًا لجأت إلى نوع الجدل الذي كنت أعلم أنه كان في انتظاره؛ وذلك أنه ليس من الصواب له أن يستسلم هكذا، ويسمح للمخطئين أن ينتصروا، ويترك أطفاله يتامى، وذكرت له ما سوف يقوله كل امرئ عن قضيته: ما كان ينبغي أن تبلى المحكمة، وما كان ينبغي أن تنقلب إلى ما انقلبت إليه، والآن نراه ونرى أنفسنا جميعًا جبناء ضعفاء لا نبرم بشأنها أمرًا، وقلت له: إن وقت التفكير قد انقضى، وعلينا أن نعمل، وأن نعمل في تلك الليلة.

ولم يسخر مني — وقد تدفَّقت مني الكلمات تدفقًا كما يحدث لي أحيانًا في حالات الانفعال — ولم يقاطعني، ولما فرغت من حديثي قال: إن حماستي أمر له قيمته لو أنها اتجهت وجهة صحيحة، واقترح أن نبحث في صواب الموضوع وخطئه معًا، وأحسست كأني سأختنق عندما ذكر ذلك، فقد كان الوقت ضيقًا جدًّا، والخطر عظيمًا جدًّا لو وصلنا إلى قرار خاطئ، ومع ذلك فقد كنت أعرف أنه سوف يقول ذلك، وكنت لسبب ما أريده أن يقوله.

ثم سار قدمًا ووضع أسس قرارنا، مذكرًا إياي بالمبادئ التي اتفقنا عليها عدة مرات من قبل، وبدأ أولًا بالنقطة التي ذكرتها عما سوف يقوله الناس، وجعلني أقر أن المرء لا يستطيع أن يحكم بالصواب أو الخطأ بمجرد ما يحكم به الرأي العام، وإن المرأ ليفسد روحه لو اتجه هذا الاتجاه، كما يفسد الرياضي جسمه لو أصغى لكلِّ امرئ سوى مدربه.

وتعرض بعد ذلك للنقطة الثانية وهي أن مجرد الحياة لا يهم، وإنما تهم الحياة التي تلتزم الصواب، ولم يكن لي مناص من أن أقر ذلك أيضًا.

والنقطة الثالثة التي تناولها هي أن الشر لا يُرَد بالشر، وكنت في الماضي البعيد أعتقد أن تلك فكرة مضحكة، وذلك عندما أثارها أولًا، ولكني بدأت أدرك أنه كان على صواب، إن الشر لا يمكن أن يصدر عن إنسان خير؛ ولذا فقد اتفقت معه مرة أخرى، وإن يكن قد اشتد عليَّ في ضغطه لكي يرى إن كنت على ثقة تمامًا مما أقول.

قال: «أعرف أن قليلًا من الناس من يعتقد في ذلك، وقليل من سوف يعتقدون فيه في مستقبل الأيام، ومن يعتقد فيه ومن لا يعتقد لن يستطيعوا الاتفاق فيما بينهم على أي أمر من الأمور»، ولكنني اتفقت معه.

ثم تنحَّى عن الجدل وجعل قوانين مدينتنا تتحدث — وعندئذٍ عرفت أني قد هزمت، ذكر لي ما تنص عليه القوانين لو لاذ بالفرار — قال: إنها قد عنيت به منذ ولادته، ولما شب وأدركها خضع لها كذلك، ولم يحاول قط أن يفرَّ منها إلى مدائن أخرى أحسن قانونًا، كيف يستطيع أن يهدمها الآن؟! ولو هدمها فكيف يستطيع أن يتكلم عن الخير بعد ذلك؟

وختم حديثه بقوله: «هذا هو الصوت الذي يرنُّ في أذني يا أقريطون، يا صديقي العزيز، ورنين هذه الكلمات موسيقى يخرس معها كل صوت آخر، فلو أنك عارضتها بالأسلوب الذي أحسه الآن فسوف يكون حديثك عبثًا، ومع ذلك فإن كنت ترى أن حديثك سيؤدي إلى الخير فلتتكلم!»

وأجبته بقولي: «ليس لديَّ ما أقول يا سقراط»، وحقًّا ما قلت، بَيْدَ أن إبلاغ الآخرين بذلك كان أمرًا عسيرًا.

ووصلت السفينة، وعرفنا ذلك في المساء، ومِن ثَمَّ فقد كنا بالسجن صباح اليوم التالي مبكرين، ولم يأذن لنا حارس الباب بالدخول بادئ الأمر، وقال إن ضباط السجن مع سقراط يفكون قيده، ويصدرون الضروري من الأوامر، ولما انصرفوا أدخلنا.

وألفينا سقراط على فراشه وسلاسله مفكوكة، وزانثب تجلس إلى جواره تحمل رضيعها، وقد لازمته طوال الليل، ولكنها بدأت الآن تبكي لما ذكرت أن ذلك اليوم كان آخر أيامه، وطلب إليَّ سقراط أن أبعث بأحد رجالي معها إلى البيت.

ولذا فقد بقينا وحدنا معه، وجلس على سريره يدلك ساقه حيث خدرتها الأصفاد، وقلبنا في أحاديثنا شتى الموضوعات، وقال إنه حاول أن يَقْرِضَ قليلًا من الشعر، بسبب حلم كثيرًا ما انتابه في حياته، وطلب إليه أن يؤلف ألحان الموسيقى، وكان يعتقد أن «الموسيقى» ربما تعني ممارسة الفلسفة، وهي بالتأكيد أرقى لون من ألوان النغم الموسيقي، ولكنه وضع نشيدًا لأبولو، وروى بعض حكايات أيسوب نظمًا لمجرد الشعور بثقته من نفسه.

ثم اتجه الكلام إلى الحديث عن الموت ومعناه، وعلى أية صورة سوف يكون فيما بعد، وخجلنا قليلًا من التعرض للموت في الحديث، وإن كنا قد أحببنا الخوض فيه، وكان أكثرنا حكمة وكنا متعبين، وكانت تلك فرصتنا الوحيدة في السؤال، ولكنه لم يُبْدِ البتة خجلًا من الخوض في هذا الحديث، فقد اعتقد أن الموت لن يكون نهايته أو نهاية أي إنسان، ولكنه عرف أنه ربما كان متحيزًا في رأيه — في تلك الظروف — وفي اعتقاده فيما أراد أن يعتقد فيه، فسرَّه أن يبحث الأمر معنا.

وأذكر أننا لما جفلنا مرة من معارضته لأن المعارضة قد تؤذيه، حثنا على أن نفكر في الحق أكثر مما نفكر فيه، وقال: «اتفقوا معي إن ظهر لكم أني أقول الحق، أما إذا لم يظهر لكم ذلك فعارضوني ما وسعتكم المعارضة، وتأكدوا من أني لا أخدعكم وأجرفكم معي في تيار حماستي، ثم أنصرف عنكم كما تنصرف النحلة وقد أودعت فيكم لدغتي.»

ولا أستطيع أن أطيل عليكم فيما حدثنا به، وسيحدثكم أفلاطون عما سمع منه، برغم أنه كان في ذلك اليوم مريضًا ولم يستطع مغادرة الفراش لكي يأتي إلى سقراط، بَيْدَ أنه سمع من بقيتنا، وأعتقد أن الحديث نما في ذهنه فيما بعد، وذلك ما كان يريد سقراط في النهاية لكل منا: لونًا من ألوان النمو، وربما نما ذلك اليوم في ذهني كذلك، ولكن ما أذكره هو صديقنا دون حواره، وكان دائمًا خير محاور، وأعتقد حتى الرمق الأخير أن الموت لن يقضي عليه، وكلما فكرت فيه أعتقد ذلك أيضًا.

وأذكر مظهره حينما تكلَّم عن الإوز العراقي، وقد ذكرنا بغناء الإوز الحلو عند موته — من أسفها كما تعتقد كثرة الناس، وإن كانت الطيور لا تغني من الألم — وقال: إنها طيور أبولو كما أنه خادم أبولو، كما قال: إن خدام أبولو لديهم موهبة التنبؤ، فهم يرون الأشياء الطيبة في العالم الآخر، ويغنون من فرط السرور.

وحدث في الختام كذلك أمر لن أنساه، فقد أخذ يقص علينا قصة مؤداها أن العدالة والطهارة التدريجية قد تدركانه وتدركان كلًّا منا بعد الموت، ولم يستطع أن يلحَّ في تفصيل ذلك، ولكنه قال: إنها مخاطرة حسنة، وإنه يجب علينا أن نتشجع وأن نرعى أرواحنا خير رعاية، فنحليها بجمالها الخاص بها، من انسجام واستقامة وشجاعة وكرم وصدق، ثم سألته ماذا نستطيع أن نؤديه له؟ وأجاب: لا جديد، ويكفي أن نرعى أنفسنا. إن الألفاظ الكثيرة الآن لن تغير شيئًا من الأمر، وإنما المهم هو الأسلوب الذي نعيش على غراره.

ثم سألته أخيرًا كيف يريد أن يُدفن، وإني لأكاد أذكر ما قال حرفيًّا: «على أية طريقة تحبون، إذا لحقتم بي ولم أفر منكم!» ثم ابتسم لي ابتسامة رقيقة، ووجَّه نظره نحو الآخرين وقال: «لا أستطيع أن أقنع أقريطون أني نفس سقراط الذي كان يتكلم منذ لحظة ويدلي بالحجج، إنه يعتقد أني ذلك الجسم الميت الذي سوف يراه بعد برهة، وهو يسألني كيف يدفنني؟»

«وها أنا ذا في هذا المكان، لبثت أتحدث وقتًا طويلًا معزيًا إياكم ومعزيًا نفسي، وقائلًا إني لن أبقى معكم ما أتناول السم، بل سوف أذهب إلى جهة تبعث في النفس السرور بين المباركين، ومع ذلك فالظاهر أني لم أُحْدِثْ بكلامي كله أي أثر في أقريطون؛ ولذا فإني أريدكم أن تضمنوني لدى أقريطون — كما ضمنني أمام المحكمة — ولكن في اتجاه آخر، لقد وعد أن أمكث في أثينا، وعليكم أن تعدوا أني لن أمكث بعد مماتي، بل سوف أختفي، حينئذٍ لن تسوء مشاعر أقريطون، وحينما يرى جسمي محروقًا أو مدفونًا لن يحزن من أجلي كأني أكابد مشقة كبرى، ولن يقول في جنازتي: «هذه جنازة سقراط.»

لأن الألفاظ الكاذبة ليست متنافرة في حد ذاتها يا أقريطون، وإنما هي تبعث على الشر في نفوسنا، فابتهج إذن وقل: إنك تدفن جسمي، وافعل به ما بدا له، وما تحسب أنه يتفق مع التقاليد أشد اتفاق.»

وبعد ذلك ترك الآخرين برهة من الزمن، وأبقاني معه بينما كان يستحم ويعود إلى الحديث مع الأطفال ومع زانثب وقريباته اللائي صحبنها، واستغرق ذلك بعض الوقت، ولما عدنا إلى الأصدقاء الذين كانوا بانتظارنا في الغرفة الخارجية، كادت الشمس أن تغيب.

فجالسنا بعض الوقت، لا يتكلم كثيرًا، حتى جاء السجان ليقول إن الوقت قد حان، ويستأذنه في هذا، ويبكي وينعته بأنبل وأرق وخير إنسان أتى إلى ذلك المكان، وتحدث إليه سقراط في رفق.

وذكرت لسقراط آنئذٍ أن الشمس ما برحت فوق الجبال، وأنه ليس بحاجة إلى تناول السم بعد، وكنت أخشى الحديث، ولكنه لم يخش شيئًا، وطلب إليَّ أن أصدر أمري؛ ولذا فقد جاء الرجل بالكأس.

وسأله سقراط: «ماذا تقول؟ هل أصب قليلًا داعيًا أني الله؟» وقال الرجل: «لا.» فأجابه بقوله: «لقد فهمت، ولكني أستطيع ذلك بالتأكيد، ولا بُدَّ أن أدعو الآلهة أن تكون الرحلة من هنا إلى هناك رحلة سعيدة، ذلك هو دعائي اللهم آمين.» ورفع الكأس وشرب ما بها.

ولم أستطع أن أحتمل المشهد بعد ذلك، فنهضت وسِرْتُ إلى الجانب الآخر من الغرفة، لكي أبكي هناك، وجاء معي فيدو الصبي، أما أبولودورس الذي بكى قليلًا طوال النهار فقد أطلق صرخة كادت أن تحطمنا جميعًا كل التحطيم، لولا أن سقراط قد أوقفها.

وقال في ثبات: «ما هذا الأمر العجيب الذي تفعلون؟! لقد كان ذلك سببًا من الأسباب الكبرى التي حفزتني إلى إبعاد النساء؛ كي لا يقعن في هذا الخطأ، لقد سمعت أن الرجل ينبغي أن يموت في صمت، فالزموا السكون وتمسكوا بالصبر.»

فانتابنا الخجل واستطعنا أن نكفَّ عن ذرف الدموع، ومشى سقراط إلى الخارج برهة طبقًا لما أمر به، ثم استلقى على السرير، وبعد برهة أزال الغطاء عن وجهه — وكانوا قد ألقوه فوقه — وقال — وكان ذلك آخر ما قال: «نحن مدينون يا أقريطون لإله الشفاء بديك، فهلا قدَّمته؟ لا تنس ذلك.»

وضحيت بالديك في اليوم التالي، وسوف يدرك إله الشفاء أي خير قصد من وراء ذلك سقراط، ودفنَّا جثته، وأظن أن سقراط نفسه لم يكن هناك، وأظن أن الخاتمة كانت خيرًا على أية صورة بات سقراط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤