مُغَامَرَاتُ ثَعْلَب
(١) مُحالَفَةٌ بَيْنَ الْأَسَدِ والثَّعلَبِ
فِي غابَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْبِلادِ الْآهِلَةِ بِالسُّكَّانِ كانَتْ أَجْناسُ الْحَيَوانِ سارِبَةً، كُلٌّ مِنْها يَسْعَى عَلَى رِزْقِهِ.
ما مِنْ حَيَوانٍ فِي الْغابَةِ — وَإِنْ كانَ ضَخْمَ الْجِسْمِ، مَهِيبَ الشَّكْلِ — إِلَّا وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ «أَبِي فِراسٍ»، وَأَهْوَنُ شَأْنَا؛ فَهُوَ حَيَوانٌ قَوِيٌّ، لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ.
«أَبُو فِراسٍ» مَلِكُ الْوُحُوشِ الضَّارِيَةِ، كانَ مَرْهُوبَ الْجانِبِ، مَخُوفَ الْبَأْسِ. «أَبُو فِراسٍ» كانَ أَسَدًا، لَا تُرَدُّ لَهُ كَلِمَةٌ، وَلَا يُعْصَى لَهُ أَمْرٌ.
«أَبُو أَيُّوبَ» كانَ مِنْ حَيَوانِ الْغابَةِ، ثَعْلَبٌ سَرِيعُ الْجَرْيِ وَالنَّطِّ، يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ — بَيْنَ الْوُحُوشِ — فِي الْفِطْنَةِ وَالذَّكاءِ، والْمَكْرِ والدَّهاء.
«أَبُو فِرَاسٍ» الْأَسَدُ وَ«أَبُو أَيُّوب» الثَّعْلَبُ، كانا يَصْطَحِبَانِ فِي الْغَدَواتِ والرَّوحاتِ خِلالَ الْغابَةِ.
«أَبُو فِرَاسٍ» كانَ يُدْنِي «أَبا أَيُّوبَ» مِنْ مَجْلِسِهِ، وَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيرِهِ مِن حَيَوانِ الْغابَةِ.
الْأَسَدُ اتَّخَذَ مِنَ الْثَّعْلَبِ سَمِيرًا أَنِيسًا، وَمُسْتَشارًا أَمِينًا.
«أَبُو أَيُّوبَ» الثَّعْلَبُ كانَ بارِعًا فِي الصَّيْدِ، لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ، وَبَرَاعَةِ حِيلَتِهِ. الْمَرانَةُ أَكْسَبَتْ «أَبَا أَيُّوبَ» قُدْرَةً نَادِرَةً عَلَى اصْطِيادِ الْحَيَوَانِ.
كانَ يَتَفَنَّنُ فِي ضُرُوبِ الْحِيَلِ، لِكَيْ يُوقِعَ فَرِيسَتَهُ.
الْأَسَدُ «أَبُو فِرَاسٍ» مَلِكُ الْوُحُوشِ كانَ يَفُوقُ الثَّعْلَبَ «أَبا أَيُّوبَ» فِي قُوَّتِهِ وَبَطْشِهِ.
الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» كانَ يَفُوقُ الْأَسَدَ فِي ذَكائِهِ وَمَكْرِهِ. مَتَى لَاحَتْ فَرِيسَةٌ مِنْ بَعِيْدٍ لَمَحَهَا، وَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي مُطارَدَتِها، حَتَّى يَلْحَقَ بِهَا.
الْأَسَدُ حالَفَ الثَّعْلَبَ، وَحَرَصَ عَلَى صُحْبَتِهِ، وَأَظْهَرَ لَهُ الْوُدَّ؛ لِيَسْتَغِلَّ مَزاياهُ، وَيَسْتَخْدِمَهُ لِمَنْفَعَتِهِ.
(٢) الْقِسْمَةُ الظَّالِمَةُ
خَرَجَ الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» يَوْمًا لِلصَّيْدِ، فَظَفِرَ بِفَرِيسَتِهِ، وَفَرِحَ بِهَا كُلَّ الْفَرَحِ.
أَسْرَعَ الْأَسَدُ «أَبُو فِرَاسٍ» إِلَيْهِ، يَبْتَسِمُ وَيَتَوَدَّدُ، وَسَأَلَهُ: «مَاذَا أَصَبْتَ يَا «أَبا أَيُّوبَ»؟»
أَجابَهُ الثَّعْلَبُ: «هذَا ما أَصَبْتُهُ. أَلَّا تَرَى يا عَمِّي «أَبا فِرَاسٍ»؟ لَقَد اصْطَدْتُ غَزَالًا.»
نَظَرَ الْأَسَدُ إِلَى الثَّعْلَبِ بِعَيْنٍ يَبِينُ فِيها الْغَدْرُ، وَقَالَ لَهُ بِصَوْتِهِ الْمُمْتَلِئ الْخَشِنِ: «لِمَنْ هذا الصَّيْدُ يا تُرَى؟»
فَطِنَ الثَّعْلَبُ إِلَى أَنَّ الْأَسَدَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ هُوَ بِالْفَرِيْسَةِ، لِيَنْعَمَ بِأَكْلِها وَحْدَهُ.
خَشِيَ الثَّعْلَبُ بَأْسَ الْأَسَدِ، أَجابَهُ بِقَوْلِهِ فِي تَمَلُّقٍ: «هذا الصَّيْدُ كُلُّهُ لَكَ يا عَمِّي. لَكَ وَحْدَكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ سِوَاكَ. وَهَلْ تَظُنُّ أَنْ يُشَارِكَكِ فِيهِ أَحَدٌ؟!»
ظَهَرَتِ الْبَشاشَةُ وَالطَّلاقَةُ عَلَى وَجْهِ الْأَسَدِ «أَبِي فِرَاسٍ»، وَقالَ لِصاحِبِهِ الثَّعْلَبِ «أَبِي أَيُّوبَ»: «بارَكَ الله فِيكَ يَا ابْنَ أَخِي. أَنْتَ ذَكِيٌّ فَطِينٌ، وَصاحِبٌ أَمِينٌ!»
أَقْبَلَ الْأَسَدُ عَلَى الْفَرِيسَةِ. قَبَضَ عَلَى الْغَزالِ بِأَظْفارِهِ. أَعْمَلَ فِيهِ أَنْيابَهُ يَلْتَهِمُهُ. لَمْ يُبْقِ مِنْهُ إِلَّا فُضَالَةً قَلِيلَةً، لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ.
رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى الثَّعْلَبِ، وَقَالَ لَهُ فِي عَظَمَةٍ وَكِبْرِياءَ: «لَمْ أَنْسَ حَقَّكَ فِي الْفَرِيسَةِ الَّتِي اصْطَدْتهَا!»
قالَ الثَّعْلَبُ: «لا حَقَّ لِي فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَرِيْسَةِ! وَلَكِنْ شُكْرًا لَكَ يَا عَمِّي، عَلَى مَا تَفَضَّلْتَ وَأَعْطَيْتَ.»
قَالَ الْأَسَدُ: «لا أَظُنُّنِي غَبَنْتُكَ أَوْ جُرْتُ عَلَيْكَ، فَأَنْتَ شَرِيكِي وَحَلِيفِي، وَلِكُلٍّ مِنَّا حَقُّ مَعْلُومٌ.»
قالَ الثَّعْلَبُ: «أَنْتَ حَلِيفٌ شَرِيفٌ، لَا تَظْلِمُ وَلَا تَجُورُ. إِنَّكَ عَادِلٌ كَرِيمٌ. إِنَّكَ أَسَدٌ عَظِيمٌ!»
(٣) الثَّعْلَبُ يَتَعَلَّمُ مِنَ التَّجْرِبَةِ
ابْتَهَجَ الْأَسَدُ بِهذا الْمَدْحِ الظَّاهِرِ، وَالثَّناءِ الزَّائِفِ. لَمْ يُدْرِك أَنَّ الثَّعْلَبَ لَمْ يَصْدُقْ فِي الْمَدْحِ وَالثَّناءِ، بَلْ أرادَ السُّخْرِيَةَ وَالاسْتِهْزَاءَ. لَمْ يَفْهَمْ «أَبُو فِرَاسٍ» أَنَّ «أَبا أَيُّوبَ» عَرَفَ الْحَقِيقَةَ وَعَلَّمَتْهُ التَّجْرِبَةُ.
الثَّعْلَبُ عَرَفَ أَنَّ الْأَسَدَ يَتَّخِذُ مِنْ قُوَّتِهِ أَداةً لِلِاسْتِغْلالِ.
الثَّعْلَبُ تَعَلَّمَ أَنَّ الْأَسَدَ يُصَادِقُهُ وَيُحالِفُهُ، لِمَصْلَحَتِهِ وَحْدَهُ، لَا لِمَصْلَحَتِهِما الْمُشْتَرَكَةِ. أَيْقَنَ الثَّعْلَبُ أَنَّهُ إِذَا ظَلَّ يُحَالِفُ الْأَسَدَ فَسَيَبْقَى الْأَسَدُ يَنْعَمُ بِالأَطَايِبِ، وَيَقْنَعُ هُوَ بِالْفُتاتِ.
كَتَمَ الثَّعْلَبُ أَلَمَهُ وَغَيْظَهُ، وَأَقْسَمَ أَلَّا يَرْضَى بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الظَّالِمَةِ، لَنْ يُحَالِفَ الْأَسَدَ، أَوْ يُصَاحِبَهُ.
اعْتَزَمَ الثَّعْلَبُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الصَّيْدِ مُنْفَرِدًا، حَتَّى يَخْلُصَ مِنْ ظُلْمِ الْأَسَدِ الْباطِشِ الْمُسْتَغِلِّ.
(٤) مُحاولَةٌ لَمْ تَنْجَحْ
خَرَجَ الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» صَباحَ يَوْمٍ، يَطْلُبُ صَيْدًا.
خَشِيَ أَنْ يُصَادِفَهُ الْأَسَدُ فِي طَرِيْقِهِ فَيُلَازِمَهُ، وَيُحْرِمَهُ مَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ فِي يَوْمِهِ. ظَلَّ يَعْدُو مُسْرِعًا، حَتَّى بَلَغَ أَطْرَافَ الْغابَةِ، وَأَصْبَحَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ الْعَامِرَةِ بِالنَّاسِ.
وَقَفَ الثَّعْلَبُ يَتَلَفَّتُ؛ يَنْتَظِرُ الْفُرْصَةَ السَّانِحَةَ، لَيَكْسِبَ قُوتَهُ. رَأَى — عَنْ بُعْدٍ — مَرْكَبَةً مَمْلُوءَةً بِالسَّمَكِ.
كانَتِ الْمَرْكَبَةُ بَطِيْئَةَ السَّيْرِ، شَمَّ الثَّعْلَبُ رَائِحَةَ السَّمَكِ، فَاشْتَهَاهُ، وَكادَ عَقْلُهُ يَطِيرُ. كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى أَنْ يَظْفَرَ بِقَدْرٍ مِنَ السَّمَكِ، يَسُدُّ بِهِ جُوعَهُ؟
انْتَظَرَ حَتَّى دَنَتِ الْمَرْكَبَةُ مِنْهُ، وَحَاوَلَ أَنْ يَنُطَّ فَوْقَها.
كانَتِ الْمَرْكَبَةُ عالِيَةً، لَمْ يَسْتَطِعِ الثَّعْلَبُ أَنْ يَبْلُغَ غَرَضَهُ.
سارَتِ الْمَرْكَبَةُ فِي طَرِيقِها. وَقَفَ «أَبُو أَيُّوبَ» حَزِينًا مَهْمُومًا، يَتَحَسَّرُ عَلَى الْفُرْصَةِ الَّتِي فَاتَتْهُ.
(٥) الْحِيلَةُ الْمُوَفَّقَةُ
بَعْدَ قَلِيلٍ أَبْصَرَ الثَّعْلَبُ مَرْكَبَةً أُخْرَى قَادِمَةً، أَعْلَى مِنَ الْمَرْكَبَةِ الْأُوْلَى، وَأَكْثَرَ سَمَكًا مِنْها.
فَهِمَ أَنَّهُ إِنْ حاوَلَ النَّطَّ فَوْقَها فَسَتَخِيبُ مُحَاوَلَتُهُ، كَما حَدَثَ فِي الْمَرْكَبَةِ السَّابِقَةِ، لكِنَّهُ أَصَرَّ عَلَى أَلَّا تَفُوتَهُ هَذِهِ الْفُرْصَةُ الثَّانِيَةُ.
فَكَّرَ فِي حِيلَةٍ نَاجِحَةٍ، يَصِلُ بِها إلَى مَقْصُودِهِ. اسْتَلْقَى الثَّعْلَبُ فِي طَرِيقِ الْمَرْكَبَةِ.
تَظاهَرَ بِأَنَّهُ مَيِّتٌ، لَا حَرَاكَ بِهِ، وَلَا رُوْحَ فِيهِ.
أَبْصَرَهُ السَّائِقُ، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ فِي الطَّرِيقِ، لَا يَتَحَرَّكُ، عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمَوْتِ، فَجَعَلَ يُطِيلُ النَّظَرَ فِيهِ.
قَالَ السَّائِقُ لِنَفْسِهِ: «مَا أَجْمَلَ جِلْدَ هَذَا الثَّعْلَبِ!
لِمَاذَا لَا أَحْمِلُهُ مَعِي؟ إِنَّهُ مَيِّتٌ، لَا أَخْشَى أَذَاهُ!
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ جِلْدِهِ مِلْحَفَةً تَضَعُها ابْنَتَيِ عَلَى كَتِفَيْها.»
قَبَضَ سَائِقُ الْمَرْكَبَةِ عَلَى الثَّعْلَبِ بِيَدِهِ، فِي حَيْطَةً وَحَذَرٍ.
ظَلَّ السَّائِقُ يُطَوِّحُ بِالثَّعْلَبِ فِي الْفَضاءِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
لَمْ يَتَحَرَّكِ الثَّعْلَبُ أَقَلَّ حَرَكَةٍ.
اطْمَأَنَّ السَّائِقُ إِلَى أَنَّ الثَّعْلَبَ لَيْسَ حَيًّا. قَذَفَ بِهِ إِلَى الْمَرْكَبَةِ. ساقَ الْمَرْكَبَةَ وَهُوَ فَرْحانٌ مُبْتَهِجٌ بِمَا صَنَعَ.
رَفَعَ الثَّعْلَبُ رَأْسَهُ قَلِيلًا. رَأَىَ السَّائِقَ مُنْهَمِكًا فِي السِّيَاقَةِ، يَحُثُّ الْحِصانَ عَلَى الْإِسرَاعِ فِي السَّيْرِ.
السَّائِقُ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ لِلْمَرْكَبَةِ، لَا يُبْصِرُ ما وراءهُ.
الثَّعْلَبُ أَصْبَحَ الْآنَ وَاثِقًا أَنَّ السَّائِقَ لَنْ يَراهُ.
الثَّعْلَبُ أَقْبَلَ عَلَى السَّمَكِ يَأْكُلُ مِنْهُ مَا شَاءَ.
أَكَلَ الثَّعْلَبُ حَتَّى شَبِعَ. لَمْ يَكْتَفِ بِمَا أَكَلَ.
ظَلَّ يَقْذِفُ بِالسَّمَكِ فِي الطَّرِيْقِ سَمَكَةً بَعْدَ أُخْرَى.
لَمْ يَفْتُرِ الثَّعْلَبُ عَنْ عَملِهِ فِي إِلْقاءِ السَّمَكِ.
صَارَ السَّمَكُ — عَلَى طُولِ الطَّرِيقِ — كَأَنَّهُ حَبْلٌ طَوِيلٌ.
(٦) ثَمَرَةُ الرَّأْيِ الصَّائِبِ
الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» كانَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: «لَقَدْ أَلْقَيْتُ فِي الطَّرِيقِ مِائَةَ سَمَكَةٍ. هذا مِقْدَارٌ كَبِيرٌ. سَيَكْفِينِي وَقْتًا طَوَيلًا. أَنا الْآنَ لَا أَحْمِلُ هَمَّ الطَّعَام.»
وَثَبَ الثَّعْلَبُ مِنَ الْمَرْكَبَةِ، وَذَهَبَ إِلَى مَنْهَلِ الْماءِ لِيَشْرَبَ بَعْدَ أَنِ امْتَلَأَ مِنَ الطَّعامِ.
كانَ يُفَكِّرُ فِي صَوابِ رَأْيِهِ، حِينَ قَرَّرَ أَلَّا يُحَالِفَ الْأَسَدَ «أَبا فِراسٍ» الظَّالِمَ الغَاشِمَ.
لَوْ أَنَّ الْأَسَدَ صَاحَبَهُ — هذا الْيَوْمَ — لَما اسْتَطاعَ أَنْ يَهنَأَ بِلَحْمِ السَّمَكِ الطَّرِيِّ الطَّيِّبِ.
لَنْ يُحالِفَ — يَوْمًا مَا — أَحَدًا مِنْ ذَوِي الْبَطْشِ وَالطُّغْيَانِ.
سَيَظَلُّ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، يَنْشُدُ مَصْلَحَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ، لا يُصادِقُ إِلَّا مَنْ يُصادِقُهُ بِوَفاءٍ وَأَمانَةٍ وَإِخْلَاصٍ، وَلا يُعَاهِدُ إِلَّا مَنْ يُعَامِلُهُ مُعامَلَةَ النِّدِّ لِلنِّدِّ، لا مُعامَلَةَ السَّيِّدِ لِلْعَبْدِ.
(٧) السَّمَكُ الْمَنْهُوبُ
رَجَعَ «أَبُو أَيُّوبَ» مِنَ الْمَنْهَلِ، بَعْدَ أَنْ شَرِبَ حَتَّى ارْتَوى. أَبْصَرَ ضَبُعًا فِي الطَّرِيقِ تَنْتَهِبُ السَّمَكَ وَتَلْتَهِمُهُ. لَمْ يَسْتَطِعْ صَبْرًا عَلَى عُدْوانِ الضَّبُعِ عَلَى سَمَكِه.
قالَ غاضِبًا صائِحًا: «لِماذا اعْتَدَيْتِ عَلَى سَمَكِي، يَا أُمَّ عامِرٍ؟ إِنَّهُ صَيْدِي لِي أَنَا وَحْدِي. لَيْسَ لَكِ فِيهِ حَقٌّ.»
اشْتَدَّ عَجَبُ الضَّبُعِ «أُمِّ عَامِرٍ» مِمَّا قالَ الثَّعْلَبُ.
الَتَفَتَتْ إِلَيْهِ قائِلَةً: «إِنِّي لَمْ أَنْتَهِبْ مِنْكَ شَيْئًا.
هذا سَمَكٌ سَقَطَ مِنْ مَرَكَبَةٍ سَائِرَةٍ. إِنَّهُ حَقُّ لِكُلِّ مَنْ يَجِدُهُ فِي طَرِيقِهِ. أَتُرَاكَ اصْطَدْتَهُ مِنَ الْماءِ بِنَفْسِكَ؟»
اشْتَدَّ غَضَبُ الثَّعْلَبِ: «أَبِي أَيُّوبَ» عَلَى صَاحِبَتِهِ الضَّبُعِ: «أُمِّ عَامِرٍ»، وَحَنِقَ عَلَيْها أَشَدَّ الحَنَقِ.
لَمْ يَسْتَمِرَّ فِي مُنَاقَشَتِها وَمُجادَلتِها.
آمَنَ بِأَنَّ الْمُنَاقَشَةَ لا تَنْفَعُ، وَالْمُجادَلَةَ لا تُجْدِي.
فَكَّرَ الثَّعْلَبُ فِي حِيلَةٍ يَنالُ بِها غَرَضَهُ …
فَكَّرَ: كَيفَ تَتْرُكُ لَهُ الضَّبُعُ سَمكَهُ، وَلا تُنازِعُهُ فِيهِ؟
قالَ لِلضَّبُعِ «أُمِّ عَامِرٍ»: «أَنا لا أَبْخَلُ عَلَيْكِ بِسَمَكٍ تَأْكُلِينَهُ — وَإِنْ كانَ لِي — وَلكِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَأْكُلي طَعَامًا مِنْ كَسْبِكِ، وَمِنْ ثَمَرَةِ جُهْدِكِ.»
قالَتْ لَهُ مَخْدُوعَةً بِكَلامِهِ: «وَبِماذا تَنْصَحُ لِي؟»
أَجابَها فِي صَوْتٍ هادِئٍ: «تَنْتَظِرِينَ حَتَّى تَمُرَّ بِكِ مَرْكَبَةُ سَمَكٍ، فَتطْرَحي جَسَدَكِ فِي طَرِيقِها؛ فَيَحْمِلَكِ السَّائِقُ إِلَى الْمَرْكَبَةِ، فَتَأْكُلي مِنَ السَّمَكِ مَا لَذَّ وَطابَ، وَتْفَرُشِي طَرِيقَكِ مِنْهُ بِمَا تَشَائِينَ.»
فَرِحَتِ الضَّبُعُ بِما سَمِعَتْهُ مِنْ «أَبِي أَيُّوبَ»، وَاقْتَنَعَتْ بِالْحِيلَةِ الَّتِي عَلَّمَها إِيَّاها. وَقالَتْ لَهُ: «سَأَعْمَلُ بِنُصْحِكَ، وَإِنِّيَ شَاكِرَةٌ لَكَ حُسْنَ رَأْيِكَ.
لكِنْ أَخْبِرْنِي: هَلْ فَعَلْتَ أَنْتَ ذلِكَ؟»
(٨) التَّقْلِيدُ السَّيِّئُ
أَسْرَعَ الثَّعْلَبُ يُجِيْبُ صَاحِبَتَهُ «أُمَّ عَامِرٍ»: «نَعَمْ يا «أُمَّ عَامِرٍ»، اسْتَلْقَيْتُ فِي الطَّرِيقِ مُتَظَاهِرًا بِالْمَوْتِ. طَمِعَ سَائِقُ مَرْكَبَةِ السَّمَكِ فِي جِلْدِي.
حَمَلنَي إِلَى الْمَرْكَبَةِ. أَكَلْتُ مِنَ السَّمَكِ حَتَّى شَبِعْتُ، وَرَمَيْتُ مِنْهُ فِي الطَّرِيْقِ ما شِئْتُ … قَفَزْتُ مِنَ الْمَرْكَبَةِ بَعْدَ ذلِكَ. لَمْ يُحِسَّ السَّائِقُ بِما فَعَلْتُ.»
هَزَّتِ الضَّبُعُ رَأْسَها. عَزَمَتْ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ ذلِكَ بَعْدَ وَقْتٍ قَصِيرٍ، سَمِعَتْ صَوْتَ عَجَلاتٍ فِي الطَّرِيقِ عَلَى بُعْدٍ. لَمَحَتْ عَيْنُها مَرَكَبَةً تَقْتَرِبُ، مُحَمَّلَةً بِالسَّمَكِ.
قالَ الثَّعْلَبُ لِلضَّبُعِ: «هاكِ مَرَكَبَةَ سَمَكٍ لَمْ تَمُرَّ مِثْلُها مِنْ قَبْلُ. سارِعِي إِلَى الْعَمَلِ بِنَصِيحَتِي. أَنْفِذِي ما أَشَرْتُ عَلَيْكِ بِهِ.
اسْتَلْقِي بِجَسَدِكَ عَلَى الْأَرْضِ، وَتَظَاهَري بِالْمَوْتِ، حَتَّى يَحْمِلَكِ السَّائِقُ إِلَى الْمَرْكَبَةِ.»
(٩) عاقِبَةُ الْغَفْلَةِ
لَمْ تَعْرِفِ الضَّبُعُ ما خَبَّأَهُ لَها الْقَدَرُ مِنْ وَيْلاتٍ وَنَكَباتٍ، حِينَ تَفْعَلُ ما نَصَحَ بِهِ «أَبُو أَيُّوبَ».
انْخَدَعَتْ «أُمُّ عَامِرٍ» بِقَوْلِ الثَّعْلَبِ الْماكِرِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُخْلِصًا فِي نُصْحِهِ.
اسْتَلْقَتْ فِي طَرِيقِ الْمَرْكَبَةِ الْقَادِمَةِ. حَرَصَتْ عَلَى أَنْ تُغْمِضَ عَيْنَيْها، وَلا تَتَحَرَّك.
نَسِيَتْ أَنْ جِلْدَها لَيْسَ كَجِلْدِ الثَّعْلَبِ يَلْفِتُ الْأَنْظارَ، وَيَحْرِصُ النَاسُ عَلَى الْحُصُولِ عَلَيْهِ.
نَسِيَتْ أَنْ فِرَاءَها لَيْسَتْ نَاعِمَةَ الْمَلْمَسِ، حَرِيريَّةَ الشَّعْرِ، كَفِراءِ الثَّعالِبِ الَّتِي يَرْغَبُ فِيها النَّاسُ.
قَدِمَ سائِقُ الْمَرْكَبَةِ. رَأَى الضَّبُعَ فِي طَرِيقِهِ، مَطْرُوحَةً عَلَى الْأَرْضِ. رَكَلَها بِقَدَمِهِ فِي احْتِقارٍ وَغَيْظٍ.
قالَ فِي اشْمِئْزَازٍ: «يا لَكِ مِنْ قَبِيحَةِ الْمَنْظَرِ!»
ظَلَّ يَلْكُمُها مُهْتَاجًا نَاقِمًا، وَيَصْرُخُ فَي غَضَبٍ وَحَنَقٍ: «انْهَضِي، أَيَّتُها الدَّابَّةُ الْقَذِرَةُ الْمِكْسالُ. اِذْهَبِي إِلَى حَيْثُ لا تَقَعُ عَلَيْكِ عَيْنَايَ!»
أَلْهَبَ جِسْمَها بِعُودٍ غَلِيظٍ مِنْ أَعْوَادِ الشَّجَرِ.
لَمْ تُطِقِ الضَّبُعُ صَبْرًا عَلَى احْتِمالِ الضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ.
اضْطُرَّتْ أَنْ تَفْتَحَ عَيْنَيْها، وَتَجْرِيَ هَارِبَةً.
سارَتْ — فِي طَرِيقِها — تَعْوِي مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ.
كانَ الثَعْلَبُ المَكَّارُ يَعْلَمُ أَنَّ الضَّبُعَ «أُمَّ عَامِرٍ» سَيُصِيبُها الْأَذَى مِنَ السَّائِقِ.
أَسْرَعَ إِلَى طَرِيقِ «أُمِّ عَامِرٍ» يَتَبَيَّنُ ما حَدَثَ لَها، بَعْدَ أَن اسْتَلْقَتْ فِي طَرِيقِ الْمَرْكَبَةِ.
سَأَلَها الثَّعْلَبُ الْمَكَّارُ: ماذا حَدَثَ؟ قَصَّتْ عَلَيْهِ «أُمُّ عَامِرٍ» الْحادِثَ الْمَشْئُومَ.
قالَتْ لَهُ: «هكَذا كُتِبَ عَلَيَّ أَنْ أُضْرَبَ حَتَّى أُشْرِفَ عَلَى التَّلَفِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ أَظْفَرَ بِسَمَكَةٍ وَاحِدَةٍ.»
(١٠) سُخْرِيَةُ «أَبِي أَيُّوبَ»
قَالَ لَها الثَّعْلَبُ، وَهُوَ مُبْتَهِجٌ بِنَجاحِ حِيلَتِهِ: «أوَاثِقةٌ أَنْتِ — يا «أُمَّ عَامِرٍ» — أَنَّكِ رَقَدْتِ ساكِنَةً، فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ، دُونَ أَنْ تَتَحَرَّكِي أَقَلَّ حَرَكَةٍ؟»
فَقالَتْ لَهُ الضَّبُعُ: «لَيْسَ فِي هذَا أَقَلُّ شَكٍّ، تَعَرَّضْتُ لِلْمَرْكَبَةِ، وَأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ، وَلَمْ أَتَحَرَّكْ.»
تَظاهَرَ «أَبُو أَيُّوبَ» بِالْعَطْفِ عَلَيْها، وَالتَّوَجُّعِ لَها.
قالَ لَها، وَهُوَ يُخْفِي فِي نَفْسِهِ السُّخْرِيَةَ مِنْها: «لَعَلَّ السَّائِقَ لَمْ يَرَ فِي جِلْدِكِ مَا يُغْرِي بِاقْتِنائِهِ!
إِذَا صَحَّ هذا — وَهُوَ صَحِيحٌ — فَلَيْسَ هذا خَطَأَكِ. إِنَّهُ سُوءُ حَظِّكِ، أَوْقَعَكِ فِي وَرْطَةٍ، وَقادَكِ إِلَى خَاتِمَةٍ مُحْزِنَةٍ!»
قالَتْ لَهُ الضَّبُعُ وَعَيْناها تَذْرِفانِ الدُّمُوعَ: «مِنْ سُوَءِ حَظِّي — يا «أَبَا أَيُّوبَ» — أَنْ أَكُونَ قَبِيحَةَ الشَّكْلِ، لَيْسَ لِي — مِثْلُكَ — جِلْدٌ ثَمِينٌ!»
قالَ لَها الثَّعْلَبُ هَازِئًا: «لَيْسَتْ دَمامَةُ الْخِلْقَةِ، وَقُبْحُ الصُّورَةِ، عَيْبًا يَضِيرُ كائِنًا كانَ، مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ إِنْسانٍ.
لَيْسَ جَمَالُ الشَّكْلِ، وَحُسْنُ الصُّورَةِ، هُوَ الْمَزِيَّةَ الْوَحِيدَةَ؛ فَإِنَّ هُناكَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَزايا الَّتِي تُعَوِّضُ عَنِ الْحُسْنِ وَالْجَمالِ؛ هُناكَ قُوَّةُ التَّفْكِيرِ، وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ.
لكِنِ الْعَيْبُ — كُلُّ الْعَيْبِ — أَنْ تَكُونِي — يا أُمَّ عَامِرٍ — غَبِيَّةً حَمْقَاءَ، تُصَدِّقِينَ كُلَّ ما يُقالُ لَكِ، وَلا تتَدَبَّرِينَ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ!»
عادَ الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» إِلَى سَمَكِهِ، يَجْمَعُهُ لِيَأْكُلَهُ.
تَرَكَ الضَّبُعَ «أُمَّ عَامِرٍ» مَشْغُولَةً بِما تُعانِيهِ مِنْ آلامٍ.
ظَلَّتِ الضَّبُعُ — لِغَباوَتِها — حائِرَةً فِي أَمْرِهَا، لَا تَدْرِي حَقِيقَةَ الثَّعْلَبِ «أَبِي أَيُّوبَ»: هَلْ هُوَ مُخْلِصٌ فِي نُصْحِهِ، صَدِيقٌ أَمِينٌ؟ أَوْ هُوَ مُخَادِعٌ سَيِّئُ النِّيَّةِ، عَدُوٌّ مُبِينٌ؟