بوابة كلابشة وحجر السلامة
تحركت «لندا» من دهميت بمحرك واحد، لكنه أثبت جدارة كبيرة، وبعد أن سرنا بحذاء البر الشرقي لمسافة قليلة، عبر بنا الريس محمد النيل في اتجاه نجع قناوي لكي يودع أسرته مرة أخرى، ويأتي بأشياء يحتاجها في رحلته الطويلة معنا. وبعد توقف أمام النجع لم يزد عن نصف الساعة كثيرًا، عاد محمد وعلى ظهره بطانية وكيس آخر ومدراه لسبر غور المياه، سألناه عما في الكيس فرد ضاحكًا: شبكة صيد سمك. وكنا نعرف أن سكان النوبة لا يأكلون السمك كثيرًا، رغم توفره بكثرة أمام أعينهم، بل إن معلوماتنا التي حصلنا عليها من سيالة قبل بضعة أشهر تُؤكد أن هناك بعض المناطق في النوبة لا تأكل السمك إطلاقًا، وحجتهم في ذلك أنهم يطلقون على السمك عامة اسم «حوت»، ويسمون الصيادين «حَوَّاتة» وفي القليل «سَمَّاكة»، وذكر لنا بعض أهل سيالة أن الحوت قد ابتلع جدهم يونس، ومن ثم فرضوا حظرًا على أكل الحوت؛ أي السمك؛ لأنها كائنات مفترسة.
لكن مناطق أخرى تخصص اسم الحوت على سمك «القرموط» فقط، ولهذا فهو غير محبب إلى النفس ولا يُؤكل، كما هو الحال في قرشة، وقد لاحظنا أن هذا التحريم لا يسري إلا على عدد من قرى الكنوز ووادي العرب، أما منطقة الفديجة «النوبيين» ابتداءً من كورسكو حتى الحدود المصرية، فإن سكانها يأكلون الأسماك بدون تحريم.
ويقوم أبناء الصعيد عادةً بحرفة السِّمَاكة في طول بلاد النوبة، ومعظم صيدهم يُملح ويُرسل شمالًا إلى الصعيد، وإن عمليات الصيد تستغرق السنة كلها، عدا ثلاثة أشهر الفيضان؛ حيث يصعب الصيد مع تيار الماء القوي إلا في مناطق محدودة، والغالب أن بعض النوبيين يمارسون صيدًا من أجل الاستهلاك الخاص، وقد اتضح لنا من الأسئلة التي طرحناها في عدة أماكن، وعلى عدد من الصيادين، أن أشد مناطق التحريم توجد في القسم الشمالي من بلاد الكنوز، من دابود إلى أبوهور، ثم في المنطقة الوسطى من محرقة إلى السبوع، وكذلك لاحظنا أن عددًا كبيرًا من أهل النوبة المقيمين خارج النوبة قد تحرروا من فكرة المحرم، وأخذوا يدخلون السمك في طعامهم كلما كان ذلك في مقدورهم.
ولما كان الريس محمد من سكان المنطقة التي تُحرم أكل السمك، فقد تساءلنا: هل صحيح سوف يصطاد أسماكًا ليأكلها أم ليبيعها؟ لكن ظروف الرحلة وتنقلنا الكثير فيما يبدو لم تمكنه من ممارسة الصيد، فقد ظلت الشبكة جافة إلا مرة واحدة حينما كنا في منطقة قرشة، فقد اصطاد سمكتين وقرموطًا صغيرًا، هنا أكد لنا أهل قرشة أن هذا القرموط هو الحوت الذي يسري عليه التحريم، كما أضافوا: إذا ربطت القرموط وتركته في قليل من الماء فسوف يستبد به الحزن فيتغير لون جلده ويموت بعد قليل، وللتدليل على ذلك ربطوا القرموط الصغير الذي اصطاده محمد، وتركوه في وعاء به ماء، وبعد عدة ساعات لم يكن القرموط قد غير لون جلده، ولم يكن قد مات ولا أتذكر الآن مصير القرموط المسكين، وربما كان من نصيب الكلاب الجائعة!
ولا شك أن بعض النوبيين لا يتركون فرصة للكسب الإضافي ويتركونها تمر، ومن هنا كان تساؤلنا حول مصيدة السمك التي أحضرها الريس محمد، وما دار بيننا من حديث حول صفائح البنزين الفارغة:
– أريد أن نحتفظ بالصفائح الفارغة لاستعمالي.
– لماذا يا ريس محمد؟
– إننا نحتاجها في النجع.
– ولكن سوف يكون هناك نحو ٥٠–٦٠ صفيحة فارغة، فكيف سنحتفظ بها في القارب الصغير؟
– لن أحتفظ بها كلها في القارب، بل سأضع الفوارغ على الشاطئ في البلاد المختلفة التي تتم فيها عملية تفريغ البنزين، ثم أوصي بعض المراكبية أن يحملوا هذه الصفائح إلى النجع كلما مروا بالمناطق التي أتركها فيها.
ومع عدم اقتناعنا تمامًا بما قاله إلا أننا سكتنا، فماذا يهمنا من أمر الصفائح الفارغة طالما أنها لن تضايقنا في القارب، لكن أسعد أسر إلينا بعد قليل أن الريس محمد سوف يبيع الصفائح في المناطق التي نتوقف عندها، وسألنا أسعد: كم يكون ثمن الصفيحة؟ فقال: إنها غالية في هذه المناطق، خاصة أنها صفائح جديدة ومن النوع المجلفن الذي لا يصدأ إلا بصعوبة، وهذا النوع نادر جدَّا في النوبة؛ لأن البواخر والزوارق تستخدم وقود الديزل الذي يُباع في براميل كبيرة الحجم لا تصلح لتخزين الماء مثل صفائح البنزين، وربما استخدمت أيضًا في أغراض أخرى مثل حفظ الدقيق أو غير ذلك من المواد الغذائية التي يحرص عليها السكان لعزلتهم النسبية.
وفي مناسبة أخرى سألنا الريس محمد بكم يبيع الصفيحة فقال: حوالي عشرة قروش، وقلت: لماذا يبيعها رخيصة؟ فقال إنه يبيع بالجملة، ثلاثًا أو أربعًا معًا، ويبيع لأي شخص يُقابله على الشاطئ الذي نرسو عليه، فلا يوجد وقت للصعود إلى النجوع وبيع الصفائح على مهل، وربما تصرف الريس محمد في نحو ثلاثين صفيحة طوال الرحلة؛ مما أضاف إلى مدخوله نحو ثلاثة جنيهات، وهذه ليست بالمبلغ القليل كمكسب إضافي خلال شهر واحد، ولكن مثل هذه الفرصة شيء نادر الحدوث في النوبة.
تحركنا حوالي الرابعة بعد الظهر من نجع قناوي الذي يتبع عمدية أمبركاب، برغم أنه مواجه لدهميت وأكثر تعاملات أهله هي مع دهميت، وعمدية أمبركاب هي منطقة صخرية فقيرة في مجموعها، وتمتد نجوعها نحو ١٩ كيلومترًا، وهي بذلك أطول عمديات النوبة قاطبة، ولا ندري لماذا هذا الطول المفرط سوى أنه ولا شك تقليد تاريخي.
المنظر العام متكرر غير متغير؛ الحافات الصخرية العالية تقترب في معظم الأحيان من النهر، فلا تترك سوى مساحات حوضية صغيرة متناثرة على الشاطئين الشرقي والغربي وقد كستها الخضرة اليانعة، وفوق الحافات الصخرية تظهر المساكن بعضها طليت باللون الأبيض، وكلها تكَوِّنُ على البعد شكلًا كالحمائم البيضاء أو كسلسلة من القلاع والأسوار.
وحينما بدأت الشمس تغيب بدأت نسمات رطبة تلطف الجو كالمعتاد، وتضفي علينا جوًّا من البهجة والسرور: «لندا» تسير بنا مجتهدة والنوبة تتكشف لنا رويدًا رويدًا، ونحن على صفحة النيل الخالد نرقب كل شيء وأي شيء، وغربت الشمس فجأة وراء الجبال الغربية، أخذت الأضواء تبهت تدريجيًّا، وفي السابعة والنصف دخلنا بوابة كلابشة.
وبوابة كلابشة عبارة عن منطقة خانقية ضيقة، يمر بها النيل في مسار فيه تعرجات كثيرة لمسافة تناهز خمسة كيلومترات، هنا تشرف الحافة الصخرية تمامًا على النيل في معظم مساره، وترتفع في صورة شبه عمودية من الماء إلى نحو ٣٠–٥٠ مترًا، والقادم من الشمال يجدها فعلًا في صورة بوابة ضخمة؛ إذ إن النيل يضيق مرة واحدة دون مقدمات كثيرة، وإذا به يجد نفسه بين حوائط صخرية عالية متتابعة، وفي داخل المسار المائي منعرجات كثيرة وبعض المناطق الفسيحة نسبيًّا حين تنسحب الحافة الصخرية بعيدًا عن النهر قليلًا.
وحينما اقتربنا من البوابة كان الضوء يقل والظلمة تسود، وحين دخلنا البوابة كان على الريس محمد أن يبعد القارب عن الضفة ويتوسط نحو ثلث مجرى النهر، وعلى الرغم من أن المحرك كان يعمل بانتظام طيلة الساعات الأربعة الماضية، إلا أن ظلًّا من الشك والقلق ساورنا، ماذا نفعل لو أن هذا المحرك الوحيد تعطل لسبب ما؟ نحن هنا في منطقة صخرية جوانبها شبه عمودية، ولا توجد فيها ضفافًا من الأرض الطينية التي يمكن أن يرسو إليها القارب دون أن يُصاب بتلف جسيم؛ فالقارب يحمل أربعة أشخاص وحمولة لا بأس بها، ومحركًا واحدًا ضد التيار المائي العنيف، وفي ظلمة بدأت تطبق علينا إطباقًا، لكننا سرعان ما أبعدنا هذا الخاطر المخيف عن أذهاننا بالاستمتاع بلذة المغامرة!
وسرعان ما أخذنا نقلل من التساؤل والكلام حتى أطبق علينا صمت مثل إطباق الظلام، ولم يعد صوت المحرك نسمعه قويًّا وسط الحفيف الكثير الذي كانت «لندا» تفعله مع الماء، والرشاش الصغير الذي كان يتطاير من مقدمتها بين الحين والحين عندما تضرب المقدمة موجة صغيرة إثر أخرى، فتهدهد القارب قليلًا فتعود بنا حركته إلى عالم الواقع، وأخذ كلٌّ منا يتطلع إلى الصخور أمامه وعلى جانبيه وخلفه، وأخذ القمر يطلع ببطء في السماء فيُلقي ظلالًا عملاقة للصخور على الماء الداكن، أخذت الصورة تتحدد خطوطها العامة كما لو كنا ننظر إلى صورة فوتوغرافية مهزوزة بعض الشيء، وراح كل منا يضرب بخياله في آفاق لامادية مستمدة من صلب المادة التي تملأ فراغ أعيننا: الصخر والماء وسماء سوداء ترصعها آلاف مؤلفة من النجوم، ينعكس ضوء بعضها كحبة ألماس فوق جزء هادئ من سطح الماء، ثم يتلألأ مع تموجات الماء فيستطيل خطوطًا رفيعة متشابكة، لا تلبث أن تختفي مع موجة أخرى؛ فتظهر نقاطًا صغيرة من الضوء على سطح الماء المتحرك أبدًا.
وبين فترة وأخرى يظهر على صفحة الماء ظل شجرة من تلك الأشجار السنطية التي تنمو في أماكن غير معقولة على الصخور شبه العمودية، وتمد جذورًا طويلة في شتى الاتجاهات لتحفظها من السقوط، بينما يلتوي جذعها إلى أعلى يطلب الشمس والهواء! ونمر في منطقة يبتعد فيها الشاطئ قليلًا فيما يشبه القوس الكبير، فتمتد خيوط من ضوء القمر الساحر بين تعرجات الصخور، كما لو كانت أصابع يتشبث بها القمر وهو يجهد نفسه في الصعود.
ونظل قرابة الساعة نمخر العباب في هذه الثنيات العديدة، نتأمل هذه الصخور الجبارة، وهي لا تكاد تحس بنا، ونمضي في صمت إلا من جلبة المحرك الذي أصبح الآن على هامش السمع، يطن على الدوام فيمنحنا شعورًا بالحياة وسط هذا العالم الأبكم، وعادت بي الصورة إلى يوم أن كنت فيه أنقل الخطى في تؤدة وصمت في ليلة مقمرة في دهاليز معبد الكرنك، كنت شيئًا صغيرًا يتحرك في احترام بالغ في ظلال الأعمدة الشامخة والحوائط الشاهقة، وسط خضم زاخر بتاريخ المجد والفخار … تاريخ مصر العظيم … وتاريخ الحضارة الإنسانية.
وسئمنا الصمت، وسئمنا الخيال، ورحنا ندير أعيننا بنهم كلما مرت «لندا» بإحدى المنعطفات باحثين عن هدفنا المنشود، فلقد أصبحت الساعة التاسعة، وفي كل مرة نسأل الريس محمد: كم بقي على كلابشة؟ يطمئننا قائلًا: «جرَيِّب» — يعني عما قريب — ويسكت. ثم انفرجت الحوائط الصخرية فجأة، واتسع المجرى وأمامنا على البعد وملء العين أنوار كهربية تشيع انعكاسات عديدة كبيرة أحالت النهر حولها كتلة من الضياء، فلم نعد نعرف مصدر النور من انعكاساته، ولم نتبين العوامة التي تحمل هذا الضياء.
لكن القلق الذي تبدد لحظاتٍ حين رأينا الأنوار عاد يلح بشدة، معبد كلابشة على البر الغربي، فالمفروض أن تكون العائمات في الغرب، لكن الأنوار التي شاهدناها كانت على البر الشرقي، أمر محير، ظننا أن الأنوار هي لباخرة بوستة، لكن محمد ذكرنا أن اليوم ليس بموعدها الأسبوعي، ثم ظننا أنها باخرة سياحية عائدة إلى أسوان، ولكن قبل أن نجزم بشيء ظهر على البعد ضوء خافت على البر الغربي، هل يحتمل أن تكون عائمات مهندسي معبد كلابشة راسية على البر الشرقي بينما مخيم العمال على البر الغربي؟ وطرحنا التخمين جانبًا ويممنا نحو أنوار الشرق وعما قليل سنعرف الخبر اليقين، واقتربت لندا وتبينا عائمة كبيرة، لكن أحدًا لم يظهر في الشرفة، ودرنا إلى الجانب الآخر حيث كانت القاطرة، وصاح الريس محمد مناديًا، فلم يكن في لندا جهاز تنبيه، وخرج إلينا بعض الملاحين، سألناهم عن عائمات شركة «هوختيف» الألمانية، فأشاروا إلى الأنوار البعيدة عبر النهر، أما هم فقد كانوا إحدى عائمات وزارة الشئون الاجتماعية، وعليها عدد من الموظفين الذين يقومون بمتابعة دراسة الأحوال الاجتماعية للسكان، حتى تكون الوزارة ملمة بكل التطورات التي تحدث للعائلات النوبية وعدد أفرادها … إلخ، توطئة لعملية التهجير الكبير لكل سكان بلاد النوبة إلى منطقة كوم أمبو.
ولقد قابلنا في رحلاتنا إلى النوبة عددًا من موظفي الشئون الاجتماعية متناثرين هنا وهناك، يدققون ويفحصون ويتابعون المعلومات ويحدثوها بهمة ونشاط، وتمنيت كثيرًا لو أن الوزارات المعنية بموضوع النوبة قد وجهت الدعوة إلى طلاب الجامعة في أقسام الاجتماع والجغرافيا والأنثروبولوجيا أو خريجي هذه الأقسام؛ للمشاركة في هذه العملية الوطنية في شكل تدريب ميداني، يفيد الطلاب والخريجين في عملهم المستقبلي، فليس هناك طريقة أحسن من العمل في الميدان خارج الغرف والمكاتب لبناء كوادر علمية شبابية قادرة على الوفاء بمهام وظائفهم في المستقبل، وإذا كانت هذه فرصة ضاعت في الماضي، فإن مشروعات التنمية الحالية في مصر — الصغيرة قبل الكبيرة — في حاجة إلى إسهام الشباب وتدريبهم على طبائع الأشياء وطبائع الناس على الواقع، حينئذ لن يكونوا منفصلين عما يتم من تنمية وإنماء، وحين تئول إليهم أعمال ريادية سوف يكونون خير الرواد والقادة.
والآن هناك حاجة ماسة لهؤلاء الذين تدربوا في أرض الواقع لدراسة وتفهم التطبيق في مشروعات حيوية معلنة الآن في الوادي الجديد وجنوب الوادي وشمال سيناء، ومشروعات لا تقل حيوية على رأسها إعادة توطين النوبة؛ حيث الماء والأرض في متناول اليد التي تمتد لتبني مجتمعات جديدة، قوامها حاصلات زراعية صناعية وثروة حيوانية، فضلًا عن توطين بعض الصناعات وصناعة السياحة بمفاهيم جديدة عن المفهوم الجزئي الحالي.
نعود مرة أخرى إلى رحلتنا بعد هذا الاستطراد الذي يمليه الواجب: دار محمد بالقارب ويممنا غربًا وأخذت الأنوار تزداد وضوحًا، وبعد نحو عشر دقائق كنا نقترب من عائمتين كبيرتين، وإذا بعدد من الرءوس تطل علينا من العائمة الكبيرة التي اتجهنا إليها. درنا في مناورة صغيرة حتى نتمكن من تبادل الحديث مع من أطلوا علينا، ثم درنا مرة أخرى وربطنا القارب وصعدنا إلى العائمة.
قابلنا المهندس الألماني «أندورف» رئيس مجموعة العمل في نقل معبد كلابشة، وكان معه زميلان شابان من الألمان أيضًا، حدثناه عن توصيات المهندس «رايدر» الذي يعمل في رئاسة «هوختيف» في أسوان، ولكن ما كان هناك داعٍ للتوصية، فإن مجرد غريب في النوبة هو في حد ذاته توصية أن يساعده أي شخص قادر على إعطاء المساعدة — سواء كان ذلك الشخص من أهل النوبة أو موظفًا حكوميًّا أو موظفًا في إحدى الشركات أو من قباطنة البواخر والصنادل — فكما يحدث في أعالي البحار يحدث في النوبة؛ فأية باخرة في البحر تجد من يعينها من أقرب السفن إليها، وكذلك يحدث في النوبة، وكثيرًا ما احتجنا إلى مساعدة ما فمد يده إلينا أقرب من نسأل، وكثيرًا ما احتاج إلينا شخص يريد الانتقال من ضفة إلى أخرى، أو مريض يريد الانتقال من بلده إلى أقرب مستشفى عائم فكنا نلبي النداء على الفور.
استقبلنا «أندورف» بابتسامة، وفي الوقت الذي أخذنا فيه لكي نقوم بجولة ليلية تحت أضواء الكاشفات الكهربية في بقايا معبد كلابشة، كان عشاءٌ جيد يُطهى لنا، ولقد كان حديثنا بالألمانية مع الهر «أندورف» جواز مرور لتوفير أكبر راحة لنا في بياتنا تلك الليلة في العائمة، كما دعاه ذلك إلى الإفاضة في شرح عمليات نقل المعبد حجرًا حجرًا، قال لنا كلامًا كثيرًا: عدد الأحجار وطريقة وضع العلامات والأرقام عليها حتى يمكن وضعها بسهولة في مكانها عند إعادة بناء المعبد غربي أسوان، وما الذي يُنقل والذي يُترك في مكانه من المباني، وتاريخ بناء المعبد و«النيلومتر» — مقياس النيل — الملحق بالمعبد، والأرضية الحجرية التي تركت دون نزعها واحتمال وجود معبد سابق على المعبد الراهن، والتي ما زالت أحجاره موجوده، وبعضها استخدمها الرومان في بناء المعبد، والبعض الآخر استخدموه كجزء من أحجار الأرضية، وشاهدنا فعلًا بعض أحجار الأرضية عليها رموز منحوته، وفي مكتب أندورف بالعائمة شاهدنا مئات الرسوم والصور للمعبد وأجزائه المختلفة، وكلها مرقمة كي تتم عملية الترقيم على الأحجار بسهولة.
وطلب منا أحد المهندسين الشبان أن نقرأ بعض الكتابات غير الهيروغليفية التي تُوجد على بعض أحجار المعبد الخارجية، وليس معنى هذا أن المهندس كان على دراية بالكتابة الهيروغليفية، لكنه تعود على أشكالها فقط، وقد ظن المهندس أن الكتابات التي طلب قراءتها عربية، لكن حين رأيناها لم تكن كذلك، وربما كانت قبطية أو إغريقية.
على أية حال قام أحد الأثريين الألمان، بروفيسور «شتوك»، بأبحاث أخرى في موسم صيف ١٩٦٣ بأبحاث في أرضية المعبد بعد أن تم نقله، وتدل التقارير الأولية على أن معبد كلابشة الروماني قد بُني على أنقاض معبد من العصر البطلمي، وأن عددًا من أحجار المعبد البطلمي قد استخدمها الرومان في بناء معبدهم، وعلى أي الحالات تدل الدراسات الأثرية على أن المعبد البطلمي أقيم على معبد مصري قديم بُني في عهد الملك أمنوفيس الثاني في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ولقد قيل الكثير عن معبد كلابشة؛ من حيث إنه أكبر معابد النوبة الحرة البناء — معبد أبو سمبل أضخم، ولكنه ليس مبنى حرًّا، وإنما هو حفر في الجبل — وهو من حيث ذلك فهو أكبر معابد النوبة، وقال بعض السائحين أو الأثريين الذين لم يدققوا: إنه يشكل أجمال المعابد. وفي رأي آخرين أنه ليس كذلك، وإن كان كثير الزخارف، ولكن نقوشه ورسومه ليست على قدر الدقة والجمال للمعابد المصرية الفرعونية، وليس هذا بغريب؛ فإن معبد كلابشة الروماني بُني بين ٣٠ق.م و١٤م. حين كانت التقنية المصرية القديمة قد شابها غير قليل من التسطيح وعدم المهارة.
وفي أثناء رحلتنا الأولى عبر بوابة كلابشة في الليل، فاتنا أن نعرف شيئًا رأيناه في أثناء عودتنا شمالًا في نهاية سبتمبر، فقد ودعنا «لندا» والريس محمد في كلابشة، وركبنا صندلًا ضخمًا من الصنادل التي تنقل أحجار معبد كلابشة من موقعه القديم إلى أسوان، وكان هذا الصندل الذي يبلغ طوله قرابة ٣٠ مترًا وتدفعه قاطرتان كبيرتان ربطتا على جانبي الصندل، يحمل آخر حجر من حجارة معبد كلابشة، وقد لفه العمال بعيدان الذرة والكثير من أوراق خضراء رمزًا للحياة، ولقد كان الأهالي والعمال الذين يعملون في المعبد قد تجمعوا فجر ذلك اليوم ليلقوا نظرة وداع على آخر حجر يترك مكانه منذ ألفي عام. اصطف الأهالي على الحافة التي تشرف على مكان المعبد في صمت كامل، والعمال ينظرون إلى الصندل وهو يتحرك ببطء، وفي عيون الجميع نظرة حزن عميق، كنا نجلس في مقدمة الصندل في ظل «ونش» جبار يحمل الحجر، وبعد فترة جاء القبطان ووقف أمامنا على مقدم الصندل يحرك ذراعه يمنة ويسرة، وينقل هذه الإشارات ملاحان يقفان على مبعدة منه إلى قباطنة القاطرات فيحركانها حسب التعليمات، ثم أخذ القبطان الواقف أمامنا يتمتم ببعض العبارات، وقد حملقت كل العيون صوب ناحية من النواحي، وساد صمت قليل. سألنا أحد الملاحين: ما الأمر؟ فقال: حجر السلامة. ونظرنا حيث أشار فلم نتبين شيئًا سوى عدة جزر صخرية صغيرة تبرز هنا وهناك.
– أين هو حجر السلامة؟
– مختف تحت الماء.
– وما هو؟
– إنها منطقة صخرية تعوَّد البحارة والقباطنة حين يمروا تجاهها أن يقفوا في صمت، وأن يقولوا بعض العبارات مثل «حمد الله على السلامة»، ويقرءون الفاتحة، ومن ثم أُطلق عليه حجر السلامة.
– ولكننا لم نعبر بوابة كلابشة بعد.
– إن الحجر موجود في القسم الجنوبي من البوابة، ومن يمر بالبوابة من الشمال إلى الجنوب يمر بالحجر فيشكر الله على السلامة، ومن يعبرها من الجنوب يمر أولًا بالحجر ويشكر الله سلفًا تيمنًا بسلامة العبور.
والملاحظ أن الكثير من المعابد المصرية الكبيرة كانت تقع جنوب مناطق يضيق فيها النهر وتصبح الملاحة خطرة، معبد كلابشة يقع عند النهاية الجنوبية لبوابة كلابشة، ومعابد السبوع تقع إلى الجنوب من المضيق، ومعبد أبو سمبل يقع جنوب مضيق فرقندي، فهل هناك ارتباط بين هذه المعابد الكبيرة ومواقع بنائها جغرافيًّا؟ وبعبارة أخرى هل نشأت أولًا كمعابد صغيرة عند هذه المواقع الخطرة على الملاحة ليقدم فيها الملاحون الفراعنة الشكر على سلامة العبور؟ وهل ما كان الملاحون النوبيون المعاصرون يفعلونه من تقديم الشكر لله عند عبور حجر السلامة هو امتداد لعادة موروثة حضاريًّا منذ آلاف السنين؟
ونعود مرة أخرى إلى تجربتنا في كلابشة، فبعد العشاء الفاخر والمرطبات في عائمة هوختيف، استمتع كل منا بحمام مريح غسلنا فيه عرق أمس، ونستعد به للعرق الذي سيتلو ذلك لفترة طويلة، فالاستحمام في ماء النيل هو لمن يعرف السباحة وفي خلال أشهر التخزين، أما في خلال الفيضان فإن الماء ملبد بالكثير من الطمي؛ مما يجعل المستحم يحتاج إلى حمام ماء نظيف!
وفي الصباح الباكر قمنا بجولة أخرى في المعبد، بينما أخذ الميكانيكي المصري الذي يعمل مع هوختيف في محاولة إصلاح المحرك الثاني لقاربنا، وعندما عدنا من جولتنا قال الميكانيكي إنه لا فائدة من الإصلاح؛ لأن المحرك ينقصه قضيب صغير من الصلب ينقل الحركة إلى المروحة، وإن هذا القضيب يجب أن يكون أصليًّا أو يُصنَّع في أسوان، وقد بحث في أدراجه فلم يجد غير قضبان حديدة قابلة للانثناء أو الانكسار تحت قوة الحركة، وكنا قد لاحظنا أن حقيبة الآلات المزود بها القارب يوجد بها علاوة على مروحة إضافية قطع غيار أخرى، وأخذنا نفرغ المحتويات أمام الميكانيكي عله يجد بغيته، لكنه كان يهز رأسه بالنفي ويقول لنا: هذه غيار لكذا وتلك لكذا! وأخيرًا عثرنا على كيس صغير به عدد من القضبان والمسامير، قال أولًا ليست هي، ثم هز رأسه وأمسك أحد القضبان ووضعه أمامه، ثم أتى بالقطع الثلاث التي تكون القضيب المكسور ووضعها بترتيبها في موازاة القضيب الذي كان بالكيس، ودقق النظر، ثم أخرج كل القضبان من الكيس ووضعها كلها بموازاة بعضها وابتسم ابتسامة كبيرة وصاح هذا هو المطلوب، عليكم أن تحافظوا على هذه القضبان جيدًّا؛ لأنها روح المروحة. وبرغم أن القضيب من الصلب إلا أنه قابل للكسر إذا غير السائق مسار الحركة من أمام إلى الخلف مرة واحدة، أو إذا حدث ضغط مفاجئ يُوقف حركة المروحة مرة واحدة. وشرح لنا عمليًّا تغيير القضيب المكسور، فإذا به عمل غير معقد، وفرحنا كثيرًا حين دارت مروحة المحرك الثاني، وشعرنا أننا في أمان أكثر بوجود محركين عاملين.
وبعد الإفطار كان الميكانيكي قد ثبت الأسلاك التي تربط الدفة بعجلة القيادة، لكنه قال لنا محذرًا: لم أتمكن من ربطها على الوجه الصحيح، وقد أصبحت إدارة العجلة معكوسة لما هو مألوف، فلو أردت أن تدير القارب إلى اليمين لا تُدِر العجلة يمينًا بل إلى اليسار، وهكذا. ثم قام بتجربة قصيرة على سطح الماء للمحركين معًا.
وفي التاسعة والنصف صباحًا شكرنا الميكانيكي والهر أندورف وزملاءه، وتمنوا لنا السلامة.