الفصل السابع

قِرشَة

نزلنا إلى البر وعلى بضعة أمتار رأينا رجلًا ينحني إلى الأرض وفوق رأسه قبعة عريضة، وحين تبينا وجهه كان عمره لا يقل عن ثمانين عامًا، كان يجمع حشائش خضراء في «قفة» إلى جواره، سألناه عن مكتب بريد قرشة، فأشار إلينا بيد معرورقة إلى مكان إلى أعلى، وسألناه ماذا يفعل فقال إنه الدكتور؛ أي الدكتور الذي يعالج بالأعشاب، وسألناه عن عدد من الأشخاص كنا نعرف أن أبناءهم يعملون في القاهرة، فأجاب: إنهم في نجع بعيد عن نجع البوستة الذي نحن فيه.

سرنا في سهل متسع نبتت فيه الأعشاب فأكسبته خضرة يانعة، وعلى البعد ارتفعت كتل مفردة من الصخر هنا وهناك كمقدمات للحافة الصخرية العالية التي ترتفع عن السهل قرابة ٣٠ إلى ٤٠ مترًا، وتنتشر فوقها البيوت البيضاء في صورة أعادت إلى الذاكرة مناظر في جزر اليونان، وعبرنا جسرًا صغيرًا فوق مجرى مائي تكوَّن نتيجة نشع المياه، فأصبح بحيرة طويلة تنعكس على صفحة مائها الرائقِ السماءُ شديدةُ الزرقةِ مختلطةً مع الحافة الصخرية البنية اللون، ونبات الذرة يتطاول على ما عداه من مزروعات وأعشاب أخرى، ومررنا وسط الذرة في طريق ملتوٍ حتى وصلنا إلى الصخور، فدار بنا الدرب إلى أعلى وسط أكوام من الحجرة، فتذكرنا صورة قرشة في الشتاء حين تغطي مياه خزان أسوان كل هذا النابض بالحياة، ولا تترك سوى الحجر القاسي والبيوت البيضاء.

ظللنا نرتقي الدرب الصاعد بين بيوت مهدمة مهجورة ولا نجد أحدًا يرشدنا إلى مكتب البريد، وهذه البيوت المهجورة هي بيوت قرشة قبل تعلية خزان أسوان عام ١٩٣٣، وارتقينا أخيرًا حافة الهضبة علَّنا نكتشف مكان المكتب، لكننا لم نُوفق، فنادينا بأعلى صوت: أستاذ صالحين، يا أستاذ صالحين. وبعد فترة رد علينا صوت من بعيد، وتلفتنا إليه ووجدناه على البعد يقول إن الأستاذ صالحين في أحد البيوت خلفنا، ودخلنا بيتًا حسبما أشار وأخذنا نصفق لكن أحدًا لم يرد، وكان الشخص الذي كلَّمَنا لا يزال يرقبنا، فصاح بنا أن هذا بيت مهجور، وعلينا أن نخترق هذه الساحة إلى الساحة التالية، ثم نهبط قليلًا حيث نجد بيتًا أبيض اللون هو بيت صالحين، وحينما فعلنا لم يكن أحد جالسًا أمام البيت المغلق، نادينا وطرقنا الباب ولا من مجيب من داخل هذا البيت أو البيوت المجاورة، وفي اللحظة التي يئِسنا فيها واستدرنا للعودة، سمعنا صوتًا ضعيفًا من الداخل يسأل من الطارق، وبعد فترة فتح الباب: نحن ضيوف من القاهرة، أين نجد الأستاذ صالحين؟

– أنا هو، ماذا يمكن أن أؤديه لكم من خدمة؟

– نحن معارف الأستاذ عبد المطلب مفتش البريد في أسوان، وقد جئنا بتوصية منه، نحن أساتذة في جامعة عين شمس، ونقوم بأبحاث جغرافية واجتماعية في النوبة، ومعنا قارب صغير، وكنا قد شحنَّا صفائح بنزين من أسوان إلى قرشة وغيرها من المحطات، فهل وصلت شحنة البنزين إليكم؟

– تفضلوا إلى المكتب، لا لم تصلني مثل هذه الصفائح، وهذه أول مرة أعرف أن البنزين سيصل إليَّ، فعلى أي ناقلة شحنتم الصفائح؟

– على الناقلة «بيومي»، وقد شاهدناها تعبر هويس السد أثناء تحركنا إلى دهميت، فلا بدَّ أنها قد وصلت قبلنا؛ لأننا بتنا ليلتين في دهميت وكلابشة، ثم ألم يتصل بك المفتش عبد المطلب من أسوان؟

– لا لم يتصل، ولكن زميلي وكيل بريد سيالة كان قد طلبني ولم أكن موجودًا، كما أن إحدى الناقلات قد مرت أمس صباحًا أمام قرشة ولم تتوقف، فلعلها أنزلت شحنتها خطأ في سيالة بدلًا من قرشة!

– نعم إن الناقلة سوف تنزل صفائح أخرى في سيالة والمالكي … إلخ.

– سأتصل الآن بسيالة لأعرف الخبر.

ورفع صالحين السماعة وطلب سيالة ودار حديث طويل لم نفهم منه شيئًا، ثم قال لنا: إن المفتش كان قد اتصل بي ولم أكن موجودًا، واتصل بسيالة وطلب منه أن يتصل بي ليخبرني عن حضوركم وحضور البنزين، ووكيل سيالة يقول إن الناقلة «بيومي» لم تصله بعد، أهلًا وسهلًا في قرشة، أين القارب؟ ودعانا للدخول في بيته مؤكدًا سعادته بوجودنا.

وسواء كان البنزين قد وصل أو لم يصل، فقد كان في نيتنا أن نقضي بضعة أيام للدراسة والمشاهدة في قرشة باعتبارها عمدية مهمة من بلاد الكنوز، وكذلك كنا نعرف عددًا من العاملين في معهد الدراسات الأفريقية — السودانية سابقًا — من أهل قرشة، وبذلك كانت هذه بمثابة توصية للتعارف والبحث والتقصي؛ لهذا رحبنا شاكرين بدعوة الأستاذ صالحين للإقامة.

قضينا المساء في مسامرات مع صالحين وعدد قليل من سكان النجع الذين حدتهم الرغبة في التعرف على الغرباء وماذا يريدون، وقد عرفنا أن نجوع قرشة عديدة هي كما سجلناها كالآتي:
  • أمبو كول: وتعني ساقية شجر الدوم حيث أمبو = الدوم، وكول أو كولة = ساقية، بمعنى الأرض التي ترتوي من ساقية واحدة، أي زمام ساقية.
  • كوله سيه: الساقية الضيقة، بمعنى زمام ضيق لساقية، سكن عشيرة الجوهراب.
  • خضر كوليق: ساقية أو أرض ساقية خضر، سكن عشيرة الحاجِناب.
  • حمدنا بتجوج: نجع تحت جرف نجع حمد — ينطق أحيانًا حمدنا بتقوق — سكن عشيرة الجابراب.
  • جانب كوليق: نجع جانب الساقية، سكن الحاجِناب.
  • جار بطحة: نجع جار ذو الأرض الجيدة — ربما جار اختصار لعائلة أو بدنة جاراللاب — البطحة الأرض الجيدة، سكن الجوهراب.
  • الشدناب: نجع باسم عائلة أو بدنة شدناب، وينطق أحيانًا الشديدناب.
  • العلياب: نجع باسم عشيرة أو بدنة العلياب.
  • راحب كوليق: نجع سكن بدنة المكناب، وأحيانًا تنطق راهب بدلًا من راحب — ربما يشير هذا الاسم إلى أصول قديمة منذ العصر المسيحي في النوبة.
  • الحرازة قبلي وبحري: نجوع بدنة الجوهراب.
  • كَلَدول: الساقية الكبيرة، نجع سكن بدنة العلياب.
  • فضل كوليق: ساقية فضل، نجع سكن الجوهراب.
  • شلوف بطحة: شلوف = اسم الجد الذي أنشأ الساقية، وبطحة الأرض الجيدة، نجع سكن المكناب.
  • خور العرب: المقصود عشيرة أو عشائر من العبابدة «والبشارية» استقروا نحو منتصف القرن الماضي.
  • ساقية الدنجراب: نجع باسم عشيرة الدنجراب.
  • جد كول: جد = شيخ، وهي أرض فيها نشع مائي كثير، وهو نجع يسكنه المكناب.
  • ساقية مِتَّر: مِتَّر = بئر، وربما تعني ساقية البئر، نجع يسكنه المكناب.
  • هَمي مِتَّر: همي = اختصار همام، وتعني بئر همام، نجع يسكنه المكناب.
  • الترجمي: نجع يسكنه الجوهراب.
  • الحوض: نجع يسكنه الجوهراب.

ويبدو أن غالبية سكان قرشة تعود إلى عشيرة أو قبيلة واحدة هي «العونالاب» التي تمتد بعض بيوتها أيضًا في عمديات كشتمنة وجرف حسين وجانب من عمدية ماريا، وفي قرشة ينقسم أولاد عون إلى أولاد جابر «الجابراب» وأولاد مَكِن «المكناب»، وينقسم الجابراب إلى عدة بدنات منها «العلياب» وأولاد محمد «الحاجناب» — ربما الحاج ناب؟ — و«الجوهراب» و«الدنجراب». أما الشدناب فهم من بيت أولاد اليزيد «أبو اليزيد» من العونلاب الذين يسكنون جرف حسين، ويعود عونلاب ماريا إلى بيت شهاب الدين، وعونلاب الدكة إلى سعداللاب.

ويتتبع سكان قرشة من العونلاب نسبهم إلى «عون الله» في سلسلة من ١٣ جيلًا كما يدل على ذلك شجرة النسب عن أحد سكان نجع العلياب: «محمد حسن خليل إبراهيم محمد بشير حسين أبو بكر ظافر أبو النور مكِن عبد الله عون الله.»

وإذا كان الجيل يعمر نحو ثلاثين سنة، كما هو متعارف عليه، فإنه يبدو أن عون الله كان يعيش منذ ٤٠٠ سنة؛ في نحو القرن اﻟ ١٦م، وهو القرن الذي تم فيه سقوط المسيحية من النوبة وشمال السودان تمامًا، وقد سبقه بقرنين أو ثلاثة تداخُل الكثير من القبائل العربية في النوبة الشمالية، فإذا استكملنا سلسلة النسب السابقة من نجع العلياب بثلاثة أسماء يذكرونها أجدادًا لعون الله جدهم الأكبر، وهم نجم الدين ورضوان ونصر الدين، فإن أصول العونلاب ترجع بدون شك إلى فترة تداخل العرب في النوبة الشمالية، وبذلك فإنه من المدهش أن يحتفظ هؤلاء الناس بأنسابهم على مر القرون!

هل معنى هذا أن أصولهم عربية؟ لا نستطيع الجزم بجواب محدد، ولكن الأغلب أن العرب الذين تداخلوا مع سكان النوبة قد أنتجوا نسلًا خليطًا من أمهات نوبيات وآباء من العرب وأخلاطهم، مما أضفى على النسل الجديد كل مؤسسات الحضارة الإسلامية، بما فيها من نسب عصبي، لكن بقيت اللغة القديمة مع بعض التداخل بالعربية لغة القرآن ولغة التخاطب مع بقية سكان مصر، وكان لاستمرار التزاوج الداخلي أثره في التكوين النهائي السلالي والثقافي للكنوز.

وربما حان الوقت لمداخلة صغيرة عن سكان النوبة: من هم؟ وما هي أقسامهم الرئيسية؟

في عجالة صغيرة ينقسم سكان النوبة إلى ثلاثة أقسام هم بالترتيب من الشمال إلى الجنوب:
  • الكنوز: من غرب أسوان إلى عمدية المضيق مسافة نحو ١٥٠ كيلومترًا، وهم يتكلمون لغة خاصة قريبة الشبه بلغة الدناقلة في السودان.
  • العليقات: هم مجموعة عربية تداخلت في وسط النوبة من عمدية المضيق إلى عمدية كورسكو مسافة تبلغ نحو ٤٥ كيلومترًا.
  • النوبيون: ويطلق عليه أحيانًا اسم الفديجة، وأوطانهم من كورسكو حتى الحدود المصرية السودانية مسافة تبلغ نحو ١١٠ كيلومترات، ولهم لغة خاصة شبيهة بمجموعة لغات المحس في شمال السودان.

والنوبيون هم أكثر سكان النوبة المصرية عددًا؛ ربما لغنى بلادهم زراعيًّا، بينما بلاد الكنوز والعليقات أفقر لضيق السهل الفيضي وتداخل الحافات الصخرية مع الأراضي الزراعية، ولمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع نحيل القراء إلى القسم الثاني من هذا الكتاب.

صحونا من نوم مريح حوالي السابعة وتمشينا قليلًا إلى الحافة التي تطل على النهر، وتتذكر د. كوثر المنظر الأخاذ فتقول: نجع البوستة يعتبر غاية في الجمال فهو يرتفع عاليًا فوق الصخور في تدرج جذاب، كما لو أن فنانًا قد وضع كل مكونات صورة رائعة في مكانها؛ فأسفل الصخور ذات الألوان المتعددة يمتد مرج أخضر عريض، تنتشر فوقه بحيرات تعكس كالمرايا أضواء شمس اليوم الجديد والحشائش والنباتات كالموج الهادئ حين تهب النسمات وراء بعضها، وقد رصعت الحيوانات بألوانها السوداء والداكنة هذا المرج، ترعى في هدوء وترعاها أعين النساء والأطفال منتشرين فوق البساط الأخضر في سكينة وسلام، والنيل يمتد كشريط جبار رمادي اللون تشوبه أشرطة بيض، يفصل قرشة عن جرف حسين التي تمتد في الأفق تنعكس أشعة الشمس على بيوتها القليلة البيضاء، وبالنجع بئر مياه نقية باردة محببة للشرب.

دخلنا عدة منازل تتشابه في التصميم وإن اختلفت في الأحجام: فهناك الحوش السماوي وعلى جوانبه غرفة النوم — أو غرفتين — والمطبخ والسبيل الذي هو استراحة النساء المظللة، وإلى جوارها المزيرة. السقوف كلها قبابية مبنية من الطوب اللبن، والبيوت كلها مطلية بالجير الأبيض ناصع البياض، وكذا أرضيات بعض الغرف عليها طلاء من الجير. سقف المطبخ مستوٍ وليس قبابيًّا ومصنوعٌ من فلق النخيل والكثير من الجريد، وبه فتحة صغيرة في منتصف السقف. تجهيزات المطابخ متشابهة: فرن مبني من الطوب اللبن وكانون وموقد كيروسين في أحيان، ومواعين فخارية وزير لمياه المطبخ وأطباق من الخوص. غرف النوم بسيطة وأبرز ما فيها العنجريب وطرابيزة صغيرة وصندوق حفظ الملابس، وفي أحيان دولاب، وحبل لتعليق الملابس، وفي أحد أركان الحوش تحويطة للماشية والأغنام، وتحويطة أصغر للدواجن، وفي بعض البيوت سلم يقود إلى السطح حيث يخزن الحطب، وأخيرًا هناك غرفة مخزن بها أزيرة فخارية وأوعية كثيرة من السلال والخوص لحفظ الغلة وما شابه من أطعمة جافة، وفي أحد أركان المخزن يوجد حمام الاغتسال، وبعض حوائط المخزن بها طاقات مغلقة تُستخدم لوضع الأشياء كاستخدام الرفوف.

الحياة في نجع العلياب

وبعد الإفطار تحركنا إلى نجع العلياب، حيث يوجد أهل معارفنا بالقاهرة، وصلنا حوالي الثانية عشرة ظهرًا بعد أن مررنا على عدة نجوع وأخوار، أهمها خور الشديناب الذي تتغلغل مياهه في مسيل حالم بين كتل وجلاميد صخرية، متوغلًا إلى الداخل مزهوًّا بخضرة يانعة يداعبها النسيم بين الصخر الأشم، الطريق وعر صاعد هابط لمدة نحو ساعتين، استرحنا قرب أحد البيوت فخرج إلينا صاحب البيت ورشَّ علينا بعض ماء الكولونيا تحية لنا، وفي الطريق لاحظنا حفرًا كثيرة يُؤخذ منها الجير الحي المستخدم بكثرة في تبييض البيوت، وربما كان كثرة مصادر الجير سببًا في أن غالبية البيوت في قرشة مطلية بهذا البياض الناصع الذي لا شك في أنه يعكس الإشعاع الشمسي ويقلل الحرارة داخل الغرف، كذلك لاحظنا حفرًا أخرى في مناطق بقايا البيوت القديمة التي هجرها السكان عند تعلية خزان أسوان، وهذه تشكل سمادًا كفريًّا يستخدم في تخصيب الزراعة الشتوية في الحدائق الصغيرة.

وفي نجع العلياب ذهبنا إلى مضيفة عثمان سليمان والد خضري الذي يعمل بمعهد الدراسات الأفريقية، والمضيفة هناك تُسمى السبيل الذي يتكون من حجرة كبيرة مستطيلة سقفها قبابي، وأمامها مكان ممهد فسيح مسور بسور منخفض لجلسات ليالي الصيف أو نهار الشتاء المشمس، بينما تستخدم الغرفة في ليالي الشتاء أو قيظ الصيف، ولما كنا في جو قائظ فقد كان استقبالنا داخل السبيل، حيث توجد مجموعة من العنجريبات والطرابيزات، قدموا لنا غداء شهيًّا من الشوربة واللحم والأرز، ولا بدَّ أنهم ذبحوا ذبيحة تكريمًا لنا، وكان بين الحاضرين شخص هوايته صيد الغزلان التي تتواجد عند خور ماريا أمام معبد دندور، ولهذا فهو دائم الارتحال، كذلك يصطاد أنواعًا من الطيور المهاجرة في مواسمها، وكان الموسم الراهن هو موسم طائر يسمونه أبو العنز — هل كانت هذه الطيور والغزلان تدخل قائمة الطعام للصياد، أم يبيع منها؟ وأين؟

جلسنا نتحدث مع الشاي، أنواع المزروعات هي الذرة «العويجة» ونبات يسمى في النوبة الكشرنجيج، وهو ذو نمو خضري كبير وسريع ويُحش مرتين، وأوراقه وحبوبه جيدة كعلف حيواني، ولو أن بعضها يسلق ويدخل طعام الإنسان، ونبات آخر هو المَسيق أشبه كثيرًا باللوبيا الصغيرة، ثم نبات اللوبيا، وتزرع في مساحات صغيرة أنواع من الخضروات كالخيار والبصل، كما يزرع قليل من البطيخ والشمام، وكلها محاصيل ثانوية بعد الذرة والكشرنجيج واللوبيا، وهم يطحنون دقيقهم في مطاحن في عمدية الدكة على بعد نحو ١٥ كيلومترًا — يذهبون إليها بالمراكب — أو يشترون دقيقًا جاهزًا من الدكاكين، وعند الحاجة الملحة يجرشون ما عندهم من غلة في الرحاية ثم المهراكة للتنعيم.

تذكر الشيخ عثمان أن نجع العلياب قد نُقلت بيوته أربع مرات، أولاها كانت قبل بناء سد أسوان في ١٩٠٢م؛ وذلك لأن الأرض كانت تنشع كثيرًا مع الفيضانات، بينما المرات الثلاث الأخرى كانت مع إنشاء السد وتعليته مرتين في ١٩١١ و١٩٣٣، ويبدو أن النجع قد أنشئ في القدم في منطقة جيدة، لكن نشع المياه ربما جاء نتيجة تغير طفيف في مسار النهر، نتيجة النحت والإطماء حين كان النيل يجري حرًّا طليقًا دون ضوابط بشرية.

وقادنا الكلام عن نقل النجع إلى موضوع الانتقال إلى كوم أمبو بعد إنشاء السد العالي، وقد أجمع الحاضرون على أن هناك معايب في البيوت التي تبنيها الحكومة والتي سينقلون إليها، وتركز النقد حول صغر مساحات البيوت الجديدة والتصاقها بعضها البعض، وعدم وجود مدخل خاص للماشية والحيوانات بخلاف الباب الرئيسي، وكذلك أن المزيرة توجد إلى جوار الحمام مباشرة، كما ينقص البيت غرفة مخزن لوضع التبن وأعلاف الحيوان ومتعلقات أخرى، والخلاصة أنهم كانوا يفضلون لو أن الحكومة قد أعطتهم تعويضات مالية يبنون بها بيوتهم على النسق الذي اعتادوه.

ولا شك أن جانبًا كبيرًا من هذا النقد صحيح، وبخاصة التصاق البيوت في النوبة الجديدة؛ مما قد يخلق ظروفًا اجتماعية مستجدة بالنسبة للكنوز، بينما لا يُشكل ذلك موضوعًا للنقد بين النوبيين الذين تلتصق بعض بيوتهم عكس بيوت الكنوز المنفصلة عن بعضها.

وفي الأغلب فإن المجمعات السكنية التي تبنيها الهيئات الحكومية لا تفي باحتياجات الناس الذين سوف يستخدمونها، فمهما أدخل المهندسون المخططون من حسابات ومدخلات اجتماعية وديموجرافية، فإنه تظل هناك فروق فردية وجماعية لا يمكن إدخالها في حسابات مشروع إسكاني واسع مثل النوبة الجديدة، وأحسن الحلول هو ترك الناس تُقيم محلاتهم العمرانية ضمن أطر تنظيمية وهندسية عامة، وربما كان ذلك ممكنًا بالنسبة للنوبة لو أن عملية التهجير قد أخذت وقتًا كافيًا قبل وأثناء بناء السد؛ مما كان يسمح للناس بالبناء في الأرض الجديدة حسب مواصفاتهم والانتقال بحرية.

ثم دار الحديث عن بيوت نجع العلياب المسكونة منها والمغلقة، كان في النجع ثلاثة وثلاثون بيتًا وأربع مضايف، ومن البيوت كان هناك أربعة مسكونة بأسر كاملة؛ أي زوج وزوجة وأبناء، وأربعة عشر بيتًا مغلقة؛ لأن ذويها يعملون خارج النوبة، وثمانية بيوت مهجورة بعد أن تُوفي أصحابها، وستة بيوت شبه خالية يقيم في كل منها أرملة أو أم متوفى، وبيتان يعمل أصحابها في الخارج، لكن يقيم فيها بعض أقاربهم، وكان كل سكان النجع المقيمين خمسة رجال وإحدى عشرة سيدة كلهم كبار السن، وعددًا قليلًا من الأطفال، أما المقيمون خارج النجع فقد كانوا نحو خمسة وثلاثين من الرجال والنساء، فضلًا عن أطفالهم، وشابَّين يدرسان في معهد معلمي الدكة؛ أي إن السكان العاملين خارج النوبة أكثر من ضعف المقيمين في النجع، وهذه حالة عامة بالنسبة لغالبية عمديات بلاد الكنوز، وغالب العاملين يقيمون في القاهرة، والقليل في الإسكندرية وأسوان، وواحد فقط كان يعمل في السودان. دخلنا عددًا من البيوت، وهي لا تختلف كثيرًا عما سبق وصفه من حيث الحوش السماوي والغرف وتجهيزات البيت والمطبخ والمخزن وأماكن الحيوانات والحطب والدريسة فوق السطح، ووجود باب ثانٍ لدخول وخروج الماشية.

واستعرضت السيدات روتين الحياة اليومية لهن: في الصباح تقوم السيدة بسقاية البقرة وما لديها من حيوانات أخرى، ثم تجهز الشاي والإفطار الذي يتكون من بيض أو لحم أو طعمية أو لبن رايب وجبن قديم، ثم تخمر العجين لعمل خبز الدوكة — دقيق قمح أو ذرة — ثم تنزل إلى الحقول لجمع النجيل والأعشاب، وتعود لخبز العيش وطهي الغداء، سواء كان عدسًا أو لوبيا أو جاكوتًا — غالبًا أي غموس — ثم تسقي الحيوانات مرة ثانية وبعدها تغفو قليلًا للراحة، يعقبها عمل آخر متمثل في ملء الزير بالمياه وجمع النجيل، ثم تجهز العشاء المتكون من الشاي والحليب، وكذلك تخض اللبن للحصول على الزبد الذي يغلى للحصول على السمن الذي يوضع في «قرعة» كبيرة — يزرع القرع الكبير في أحيان — وتصنع المرأة أيضًا الجبن من اللبن بعد أخذ الزبد، ويوضع على مياه اللبن الرائب حلبة وكمون وشطة، ثم يُضاف إليه لبن بارد ويُترك في وعاء يومًا أو اثنين ثم يُخَسَّر، ويقوم الأطفال بالمساعدة في رعي الحيوان وجمع العشب من الحقول، وأحيانًا الرجال أيضًا، أما في الشتاء فإن العمل أقل؛ حيث لا توجد حقول وأعشاب ورعي للحيوان؛ ومن ثم فإن الشتاء فصل ركود، والصيف فصل عمل يتضمن كثيرًا من الجهد والتعب، خاصة بالنسبة للسيدات.

ونزلنا إلى الحقول فشاهدنا الكثير من البرك والبحيرات الصغيرة التي يكونها نشع النيل، وعددًا من النساء والأطفال يجمعون الكشرنجيج والنجيل الأخضر وبعض الذرة غير الناضجة تمامًا.

ويبلغ زمام ساقية العلياب تسعة أفدنة، منها ٣٫٥ أفدنة ملكية خاصة؛ بواقع فدان ونصف لعثمان سليمان، وفدان واحد لزينب شلبي، ونصف فدان لفضل بشير، ومثله لقاسم حسن أحمد، وهناك نحو ستة أفدنة ملكية على المشاع لأحفاد عبد الله ويونس وظافر وهب.

ويبدو أن وهب كان من كبار الملاك منذ نحو مائة سنة من تاريخ زيارتنا ١٩٦٢؛ فهو الجد الثاني لعبد الرحيم إسماعيل يونس وهب — أحد مُحدثينا من كبار السن في نجع العلياب — وكان وهب بن زيدان بن بشير بن حسن بن يونس — يونس غالبًا هو الجد الأكبر لسكان العلياب وعدد آخر من النجوع — يمتلك نحو ١٥ فدانًا في ساقية العلياب وحمدنا بتجوج، قمست بالتساوي بين أبنائه الثلاثة: يونس وعبد الله وظافر، ولكن يونس أضاف ٧٫٥ أفدنة إلى نصابه من أرض ساقية حمدنا بتجوج، وقسمت ملكية يونس على ستة من أبنائه — ١٢٫٥ ÷ ٦ = ٢٫٠٨ فدان — وهذه قُسمت بعد ذلك على ٢٢ وريثًا — ١٢٫٥ ÷ ٢٢ = ٠٫٥٦ فدانًا — وبعبارة أخرى فإن هذا مثال لتفتيت الملكية الزراعية، ومن ثم يصعب تحديد ملكية محددة، ولهذا فهي تُزرع على المشاع، وبطبيعة الحال فإن إنشاء سد أسوان، وإغراق الأراضي تحت مياه الخزان لمدة تسعة أشهر من السنة؛ جعل من غير المفيد أن يُحاول شخص ما استصلاح أرض جديدة يضيفها إلى أملاكه، وبعبارة أخرى فإن سد أسوان جَمَّد أية مجهودات للتنمية الزراعية في النوبة لمدة جيلين كاملين، وثَبَّت ما هو موجود من أرض لم تعد ملكية قانونية، وإنما حق انتفاع وزراعة خفية — بحكم التعويضات غير العادلة التي دُفعت للنوبيين — وسنعالج هذا الموضوع بشيء من التفصيل في القسم الثاني من هذا الكتاب. وبطبيعة الحال، فإن هذه الأوضاع ضاعفت عدد العاملين من النوبة في مصر والسودان؛ بحيث أصبح ذلك نمطًا حياتيًّا بعد أن كان مجرد نشاط اقتصادي يُساعد على المعيشة في النوبة.

سهرة في نجع كَلَدول

في اليوم التالي وجه إلينا الشيخ أحمد عباس، أحد وجهاء نجع كلدول، الدعوة للعشاء والسهرة عنده، وترددنا في قبول الدعوة؛ فنحن نعلم ضيق المعيشة، فصلًا عن أن معنا من الزاد ما يكفينا، ولا نريد من الناس سوى المودة والمعلومات والائتناس، ربما كان أشهى ما نريده أرغفة من خبز الدوكة الطري اللذيذ — وفكرنا أن نبادله ببعض ما عندنا من أطعمة محفوظة، لكن لم تكن هناك وسيلة أن نعلن صراحة عن هذه المقايضة؛ خوفًا من إغضاب الناس وجرح كرامتهم — لكن الأستاذ محمود صالحين، وكيل بريد قرشة الذي يستضيفنا عنده في نجع البوستة، شجعنا على قبول دعوة الشيخ عباس، وأفهمنا أن رفضها يسيء لكرامة الشيخ.

قرب الغروب مشينا نتسامر مع محمود صالحين ومساعديه، فلم نشعر ببعد المسافة. ونجع كلدول — الذي نسمعه أحيانًا «كلدون» كما كان الحال في سيالة، ولا ندري أيهما أصح — يقع بعد نجع العلياب الذي كنا فيه بالأمس، وأثناء سيرنا كنا نرى النساء راجعات من الحقول حاملات لفائف كبيرة على رءوسهن من الكشرنجيج، ومرة أخرى مررنا بخور الشدناب الجميل غاية الجمال.

وبعد مسيرة طويلة لاحت لنا أضواء الكلوبات عند بيت الشيخ أحمد عباس الأبيض الكبير، وفي هذا الضوء لاح لنا البيت الكبير كأنه قصر في رواية خيالية من قصص الشرق، وحين دخلت د. كوثر إلى داخل المنزل زادت إيحاءات قصص الشرق بما وجدت من بياض ناصع على الجدران والأرضية، والنساء والبنات في أردية بيض، والصوت خفيض والنظافة والهدوء يعمان المكان، أما الشيخ عباس فكان في ردائه الأبيض وعمامته الكبيرة ووجهه الأسمر المتناسق التقاطيع وقامته المديدة؛ كأنه شخص قد خرج من التاريخ يطل علينا في كثير من التواضع والرزانة وهدوء الحكماء.

استقبلنا الشيخ عند باب المضيفة الخارجية وبجواره شاب في مثل رشاقته وأدبه الجم؛ هو زوج ابنته على ما نتذكر، وفي طرف المضيفة السماوية ثلاثة أزيرة للماء، وفي الركن الآخر مصطبة، والكل مسور بسور منخفض، أما الجزء المبني من المضيفة فكان صالة كبيرة يبلغ طولها نحو ١٥ مترًا وعرضها نحو ستة أمتار وسقفها قبابي، وبها شباكان يطلان على الخارج، وشباكان مقابلان لتمرير الهواء وترطيب جو المضيفة، ومِلء الصالة دكك كثيرة وطرابيزات مغطاة بأقمشة بيضاء ذات خطوط زرق، كلوبات الإنارة كثيرة، وعلى إحدى الطاولات جهاز راديو تنبعث منه أغانٍ بصوت مرتفع، والراديو هو وسيلة هامة للاتصال بالعالم الخارجي في مثل هذه الأماكن النائية، كما أنه عامل يجذب الكثير من الناس للحضور والائتناس في المضيفة.

جلسنا، وبعد قليل من التعارف وتبادل الأحاديث الودية بدأ العشاء الفاخر: شوربة وأرز بالخلطة وبسلة سوتيه باللحم المحمر، وفاصوليا باللحم ومهلبية بالكرميل، وكلها مطهية بامتياز، ذكرتنا بطعام أفخر الموائد في القاهرة — معظم موائد النوبة الفاخرة هي من طهي الرجال الذين تمرس بعضهم على ذلك في الفنادق والقصور في مصر — وبعد أن انتهينا من الطعام تجمع نحو عشرين شخصًا في أحد أركان المضيفة يَطْعَمون، وكان آخر من أكل هو صاحب الدار وزوج ابنته اللذان كانا يشرفان على حسن تقديم الطعام لنا ولبقية القوم — وقد شهدت مثل هذا في السودان، ولعلها تقليد عربي أن يأكل المضيف بعد الضيفان.

وبعد الشاي انتظم الجميع وجلسوا على الدكك وبعضهم على الأرض وبدأ التسامر، وكان في الجمع الصياد هاوي الصيد، الذي فتح باب الحديث الجماعي بقص مغامرات ونوادر حدثت له أثناء ممارسته للصيد، وعرفنا بعد ذلك أنه أيضًا فنان ذو صوت رخيم، فوجدناها فرصة لتسجيل بعض الأغاني، أُحضرت «الطمبورة»، وهي الآلة الوترية المتداولة كثيرًا في النوبة، وبدأت السهرة بأغانٍ هادئة وبصوت رخيم ناعم، وكان بعض الرجال يردون بعض المقاطع في صورة «كورس» تلقائي، ولكن كان الغناء متقضبًا ودون حماس كثير، وقد علمنا أن ذلك راجع إلى حالة حزن وحداد في المنطقة، وبعد فترة بدأ الانسجام يسود والحماس يزداد، وانطلقت الأيدي تصفق والأرجل تدب مع النغم — حتى إننا طلبنا تخفيض الدق والتصفيق من أجل حسن التسجيل — وكانت هناك أغاني غزل كثيرة؛ مثل «ليه يا سمرا» و«بَلَّاجَة» — يعني دلوعة — و«حي بنات زينة هالله هالله»، وكلها مقطوعات جميلة شجية للروح البشرية.

ولتشجيعهم كنا نعيد عليهم تسجيل الأغنية بعد أن يفرغوا من غنائها فيطربون لها أشد الطرب، ويطلبون استعادتها مرة أخرى وأخرى، حتى خفنا أن تفرغ شحنة البطاريات، وما لدينا من بطاريات إضافية عددٌ محدود.

وفي خلال إحدى فترات التصفيق واستعادة الشريط لاحظت د. كوثر أشباحًا باهتة على بعد من أحد شبابيك المضيفة، فأيقنت أن النساء والبنات يستمعن دون أن يجرؤن على الدخول وسط هذا المجتمع الرجالي، فخرجَتْ لهن، لكنهن في البداية هربن مسرعات، ثم عدن حينما تبين أن الخارج إليهن هو سيدة مثلهن، وأخذت تتعرف عليهن ويتعرفن عليها داخل البيت، تقول: وجدتهن فتيات صغيرات مِلاحًا؛ هن بنات الشيخ أحمد عباس، وقد تزينَّ بالمصاغ والحلي الذهبية المتعارف عليها في بلاد النوبة، وتعرفتُ على ست الدار ووعدت بأني سأعود إليهن في اليوم التالي بدون زوجي لأسجل لهن ما يعن لهن من الأغنيات، وعُدت إلى المضيفة نكمل السهرة الممتعة حتى منتصف الليل، فودعونا بمثل ما استُقْبِلنا به من حفاوة، وشكرناهم والشيخ عباس أجزل الشكر على الليلة الطيبة والعشاء الفاخر.

سرنا في مشية سريعة لمدة ساعة في ضوء القمر دون حاجة إلى نور البطاريات: هدوء وحمير مربوطة ترعى في رعاية الله، ونمنا نومًا عميقًا حتى الخامسة والنصف صباحًا، حين استيقظ رياض على صفير باخرة البوستة، فنزل وقابل عليها الأستاذ عبد المطلب مفتش البريد، وبعض مدرسين سنقابلهم في نجوعهم فيما بعد.

وفي اليوم التالي بعد زيارتنا لنجع العرب عرجت كوثر على نجع كلدول لتلتقي بسيدات وبنات الشيخ أحمد عباس كما وعدتهن، تتذكر د. كوثر أنهن دخلن غرفة وأحكمن إغلاقها وأوقفن إحداهن عند الباب لتنبيههن إذا قدم الوالد أو زوج إحدى البنات، ورغم كل هذه الاحتياطات فإنهن كن خائفات أن تعلو أصواتهن، فلم يَكُنَّ قد أخذن الإذن بذلك، ولهذا جاء التسجيل فاشلًا؛ لأن أي حركة في الحوش كانت ترعبهن ويسكتن عن الغناء على الفور.

وقد لاحظت أن السيف والكرباج معلقين إلى جدار الغرفة، فقد كن في غرفة البنت التي تزوجت حديثًا، وهو تقليد متبع في كل أرجاء النوبة أن يدخل الزوج حاملًا السيف والكرباج ليلة عرسه في إشارة إلى ضرورة طاعته، وسنعالج هذا الموضوع فيما بعد.

نجع العرب وبقايا حياة البداوة

استيقظ الجميع في السادسة والنصف وتناولنا إفطارًا خفيفًا، ثم جلسنا نتحدث مع بعض الأشخاص بعض الوقت عن حياتهم السابقة في القاهرة وأعمالهم، وفي العاشرة والنصف تحركنا بالقارب «لندا» لأول مرة منذ إقامتنا في قرشة، متجهين إلى نجع العرب الذي يبعد نجعين عن نجع كلدول الذي كنا فيه بالأمس، وبالمناسبة نذكر أن الناقلة «بيومي» كانت قد وصلت قبل يومين أنزلت شحنة البنزين، وقام الريس محمد بتعبئة خزانات «لندا»، والباقي تركناه في عهدة مكتب البريد لحين عودتنا من الجنوب.

وفي أثناء إبحارنا إلى نجع العرب قابلنا الباخرة «شيخ البلد» التابعة لمصلحة الآثار المصرية، متجهة جنوبًا إلى أحد المواقع الأثرية في النوبة، وصلنا قبالة نجع العرب بعد نحو الساعة والربع، فوجدنا المضيفين الذين قادونا إلى السبيل المقام إلى جوار الجامع، والذي يسمونه هنا الخيمة كمصطلح حضاري يشير إلى أصولهم البدوية، والخيمة مبنية على نسق مضايف جيرانهم من الكنوز؛ أيْ جزء سماوي مسور وحجرة كبيرة، لكنها تختلف في أنها ذات نوافذ صغيرة وسقف مسطح من فلج النخيل والأبراش — جمع برش — وفي الداخل عدد من العنجريبات والطرابيزات مغطاة بقماش هندي وارد السودان، وجهاز راديو ألماني أيضًا وارد من السودان، والعلاقة مع السودان مهمة بحكم قيام بعضهم بالسفر بإبلهم عبر الدروب الصحراوية، وسنشير إلى ذلك فيما بعد، وهناك عصى معلقة بالحبال من طرفيها تستخدم لتعليق ملابس الضيفان إذا كانوا في ضيافة طويلة.

وعلى أحد جدران الخيمة عُلقت قربة ماء وزمزمية وشنطة لوضع الزاد، وهي من مستلزمات الرحلة داخل أودية الجبال الشرقية، كذلك كان مقود الجمل معلقًا على الجدار، وكلها تشير بوضوح إلى استمرارية التنقل والارتحال لبعض هؤلاء السكان في مواسم أو مهام معينة إلى داخل الصحراء وفي اتجاه السودان أيضًا.

مصطلح «عرب» يطلقه سكان النوبة بدون تمييز على البدو الذين يعيشون في الصحراء، ويأتون في موسم الصيف إلى النوبة؛ من أجل السقاية ورعي الجمال وتقديم خدمات أخرى مقابل أجر نقدي أو عيني، ولكن هؤلاء هم في الغالب من قبائل العبابدة، وفي الأقل من قبائل البشارية، وسواء كان العبابدة من أصول عربية أو من قبائل البجة الذين استعربوا، فإنهم ينقسمون إلى أربع قبائل كبرى: ثلاث منها مستقرون في نجوع كثيرة في الحاجز (أطراف الأرض الزراعية والصحراء) بين قفط (محافظة قنا) وكورسكو (النوبة المصرية)، فضلًا عن انتشاهم أيضًا في منطقة بربر في شمال السودان. أما القبيلة الرابعة فغالبها تسكن الصحراء المصرية الجنوبية الشرقية، جنوب خط نظري يمتد من قنا إلى القصير، والقبائل المستقرة هي: (١) الجِمِيلية. (٢) العَبودين والشَّنَاطير. (٣) الفقَرا والمِليكاب. أما القبيلة البدوية فهي (٤) العشاباب. وبعض العشاباب مستقرون نصف استقرار، وبعضهم بدو أقحاح كعشائر المحمداب في الصحراء والجريجاب بالقرب من ساحل البحر الأحمر، ولغة كل العبابدة العربية بعد أن تركوا لغة البجة القديمة منذ عدة قرون، وإن كان بعض العشاباب يتكلمون أيضًا خليطًا من العربية ولغة التبداوية البجاوية، قريبة الشبه بالبشارية، أما قبائل البشارية فيسكنون أساسًا في جزء من منطقة حلايب وجبل علبة، وينتشر بعضهم مع وادي العلاقي وأودية أخرى حتى بلاد النوبة، ويمارس العشاباب البدو حياة رعي مشابهة للبشاريين، لدرجة أنه يصعب على الغريب التفريق بينهما، ومن هنا يحدث خلط لدى النوبيين، فهم كلهم بالنسبة لهم «عرب».

وعبابدة نجع العرب في قرشة هم من العبديناب، أحد بطون المحمداب من قبيلة العشاباب، ويبلغ عددهم في النجع حول ١٥٠ شخصًا، منهم عدد كبير من المعاتيق — أي أصلًا رقيق للعبابدة أعتِقوا منذ فترة طويلة — وليس كل هذا العدد مقيمًا في النجع، فبعضهم يعمل خارج النوبة، وإن كان بنسبة أقل من الكنوز، وربما كان أكثر الأعمال خارج النوبة التي تغري العبابدة هو العمل في سلاح الهجانة، الذي يتوافق كثيرًا مع طباعهم الموروثة. وحسب اتفاق مُحدثينا، فإن في النجع ٣٠ من الذكور و٣٤ من الإناث، غالبيتهم الساحقة من بيت فكاك من العمراناب من العبديناب.

كان أحد الحاضرين يربط عمامته بطريقة مغايرة لمن حوله، وتبين بعد السؤال أنه في حالة حزن؛ فقد مات ابنه في الجبل منذ فترة قصيرة، لهذا يرخى أحد أطراف العمامة إلى صدره، وقد عرفنا أن عبابدة نجع العرب يذهبون للجبال الشرقية كثيرًا، وذلك على عكس عبابدة سيالة من الشناطير، الذين أصبح استقرارهم دائمًا من قديم، بينما ما زال نداء البادية قويًّا بين عبابدة قرشة والعلاقى، فالكثير من أسمائهم فيها رنين العشائرية والمرغنية؛ مثل سر الختم وفضل المولى والشويري … إلخ، وهي أسماء لا وجود لها بين جيرانهم من الكنوز.

وحسب اتفاق الحاضرين في المضيفة أنهم قد استقروا في قرشة ونواحيها منذ ستة أجيال؛ أي ربما منذ نحو منتصف القرن ١٨م. أو أواخره. سلسلة نسب أحد مُحدثينا تجري على النحو الآتي: «عبد الله حسب الله عبد الخير علي فكاك عمران.»

فهو من العمراناب من العبديناب من الجارلاب من الشافعاب من الديداناب من الرجلاب من الفشيجاب من الفراجاب من العوضلاب من المحمداب؛ أي إن عمران يفصله عن أصوله من المحمداب والعشاباب نحو عشرة أجيال، كلها كانت تعيش حياة البادية منذ نحو القرن الرابع عشر والأغلب قبل ذلك أيضًا.

والغالب أن عمران هذا هو الذي بدأ وذريته عملية الاستقرار، ليس فقط في منطقة قرشة، بل في مناطق عديدة في النوبة والسودان، وأولاد عمران هم:
  • شكيت: وذريته كثيرة في السودان، وقليل منها في العلاقي.
  • فكاك: أكثر ذريته في قرشة، والقليل في العلاقي وماريا، وقد تزوج من بنات عمومته ومن الكنوز في قرشة «جوهراب» ومن كنوز جرف حسين.
  • عبد السلام: وذريته منتشرة في جرف حسين وماريا وقرشة.
  • إدريس: وذريته متركزة في العلاقي.

وليس لدى عبابدة نجع العرب أراض زراعية، وساقية الدنجراب التي تمتد أمام نجع العرب هي ملك للكنوز، والأغلب أن الزراعة ليست من المهن المحببة للعبابدة، ولا يقتنون أبقارًا أو أغنامًا، بل هم يقتنون الجمال ويقومون بالنقل والتجارة، ولهم وسم خاص يسمون به الجمال يسمونه البدر، وهو على شكل حرف ح اللاتينية ويرسم على الصدغ، ووسم آخر يُسمى الجعيبة، ويوجد على الظهر وهو على شكل خط مائل هكذا «/»، وكان في النجع وقت وجودنا أربعة جمال فقط ترعى العشب والنجيل في الصيف، وفي الشتاء تعيش على قش الذرة والكشرنجيج، ولكن في معظم الأوقات يذهب البعض بالجمال ابتداءً من شهر أكتوبر إلى داخل الصحراء، حيث ترعى على النباتات الصحراوية في مناطق آبار قريات وأحيمر والقليب، وكلها في أواسط وادي العلاقي، ويؤجرون مساحات صغيرة من أرض الذرة والكشرنجيج؛ للحصول على دريسة جافة للجمال حينما يعودون من الصحراء في فبراير أو مارس، ويبلغ ثمن الجمل الصغير نحو ٢٠ جنيهًا والكبير بين ٢٥ و٣٠ جنيهًا.

وليست رحلة الشتاء موظفة فقط للرعي، وإنما يُستفاد منها في نقل الفحم النباتي الذي يُصنع من أشجار السنط الكثيرة في أودية الصحراء الشرقية — من الذي يقوم بعمل الفحم؟ عبابدة الجبل، أم آخرون؟ — والغالب أنهم ينقلون الفحم إلى سوق أسوان مباشرة مقابل نحو خمسة جنيهات للنقلة الواحدة، ويقوم العبادي بنقلتين خلال الشتاء، تستغرق الرحلة الواحدة نحو شهر من أماكن الفحم البعيدة أو أقل إذا كانت مصادر الفحم قريبة.

وكذلك كانوا يجمعون الحَمَر من الجبل، وهو غالبًا طفلة حمراء كان سكان النوبة يعجنوها مع كسر الفخار المدقوق، ويشكلونها وينعموها بمكاشط من الودع، ثم يحرقونها في الفرن، وكانت سيدة واحدة تجيد صنعة الفخار هذه، لكنها طعنت في العمر وأصبح الناس يشترونها من تجار القوارب الذين يأتون بها من وادي العرب في منطقة العليقات.

وخلال الصيف يؤجر العبابدة جمالهم لنقل سلع مختلفة من الميناء النهري إلى تجار النجوع، أو نقل أحمال من قش المحاصيل إلى بيوت النجوع المختلفة، أو التأجير للسفر في الصحراء — في الشتاء — وفي مثل هذه الأعمال ربما كانت يومية الجمل ٥٠ إلى ٧٠ قرشًا، هذا فضلًا عن الفائدة المباشرة من لبن الإبل الذي يُشرب طازجًا أو مغليًّا، وبيع البعرور مقابل سبعة إلى عشرة جنيهات، أما وبر الجمل فهو لقصره الشديد في هذه البيئة لا يُستخدم في النسيج، وهناك أقوال تدور همسًا أن العبابدة يقومون بعمليات تهريب سلع من السودان إلى النوبة في رحلاتهم الشتوية الطويلة هم والبشارية، وربما كان في ذلك بعض الصحة؛ ففي الستينيات كانت السودان مفتوحة تجاريًّا، بينما كان هناك تقييد للاستيراد من الخارج في مصر، وأمر طبيعي أن يحدث مثل هذا الانسياب السلعي بطرق عديدة عبر الحدود، سواء كان بين السودان ومصر أو ليبيا ومصر، وأي حدود سياسية في العالم يختلف على جانبيها قوانين الجمارك وأشكال الإنتاج وأسعار السلع.

وهكذا نرى أن الجمال تُستغل إلى حدودها القصوى في بيئتين متجاورتين: الصحراء والوادي الزراعي؛ فهو يلبي احتياجات البداوة واحتياجات الزراعيين معًا، ويتعايش عليه مجموعة من ذوي الأصول البادية التصقت بحافة الوادي منذ أمد طويل، وتعايشت مع السكان المحليين في وئام سلمي وصحي معًا.

وفي المساء ركبنا القارب عائدين إلى نجع البوستة، وشعرنا برهبة وخوف في الظلام، فالقمر لم يصعد بعد إلى كبد السماء، وهناك ظلال داكنة على صفحة الماء الذي خُيل إلينا أنه عالٍ في جهة الغرب، وأنه سيجرفنا تجاه البر الشرقي المليء بالسواقي، لكننا وصلنا بسلام ونمنا جيدًّا استعدادًا لمغادرة قرشة في الصباح، بعد أن قضينا فيها أيامًا مليئة بالمعلومات والمعرفة عن أحوال جزء جميل من النوبة، وناس غاية في الكرم واللطف ودماثة الخلق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤