الفصل التاسع

قراءة الماء

فيما سبق تكلمنا عن بعض المشكلات التي تعرضنا لها أثناء إبحارنا في النيل، وفي بقية الرحلة إلى توشكى والعودة منها إلى كلابشة سوف تصادفنا لحظات حرجة كثيرة، تصل بنا إلى حدود الخوف والفزع، وربما كان هذا هو الوقت المناسب الذي نتكلم فيه عن هذه التجارب غير السارة تحت عنوان «قراءة الماء»؛ لأن تصفح وجه النيل بشكل دقيق هو الطريق الآمن لملاحة سالمة.

بدأت بنا رحلة السفينة «عمدا» من غرب سد أسوان، وأثناء بداية سيرها الوئيد شاهدنا سيدتين من أهل النوبة تُجذفان قاربًا صغيرًا — فلوكة — وحدهما عبر الاتساع الكبير للنيل جنوب السد مباشرة، ودهشنا للحنكة والقوة التي كانت تظهر في تسييرهما القارب في ممرات مائية بين عشرات الجزر الجرانيتية التي تملأ مسار النيل، هذا المنظر الفريد هو قليل الحدوث في معظم بلاد النوبة، باستثناء المنطقة الشمالية وخاصة في منطقة الشلال، وبسبب صعوبة الملاحة بين جزر الشلال وصخوره الظاهرة والغاطسة وممرات الماء المندفعة بين الصخور والدوامات التي تتكون نتيجة سقوط الماء سنتيمترات معدودة؛ أصبح «الشلالية» — سكان منطقة الشلال — وكذلك سكان أمبركاب؛ مشهورين بإتقان فنون الملاحة وقراءة الماء، لا يكاد ينافسهم فيها أحد، لدرجة أن معظم قباطنة السفن في النوبة هم من منطقة الشلال، ومعظم ملاحي مراكب الشراع من أمبركاب.

أشكال الماء ومدلولاتها

وقراءة الماء خبرة تُكتسب بكثير من المران على مر الزمن، وقد أعطاني أحد البحارة من منطقة أمبركاب — التي هي منطقة ملاحة وعرة — بعضًا من الخبرة في قراءة الماء، مثلًا المياه الساكنة قد تبدو لأول وهلة مياهًا جيدة للملاحة النهرية، لكنها في الحقيقة مياه خطرة؛ لسببين: فإما أنها مياه عميقة تحف بها صخور سفلية فيما يشبه الخندق، وتصبح من مولدات الدوامات في طرفة عين؛ وإما أنها تتكون نتيجة جسر صخري غائر على عمق قليل، وفي هذه الحالة تسحب المياهُ القاربَ ببطء، ثم بسرعة شديدة حتى يرتطم بالجسر الصخري العائر، فتقلبه أو تلقي به إلى دوامة كبيرة سريعة تجعل القارب تحت رحمة الماء، وهناك منعرجات كثيرة مليئة بالدوامات الخطرة التي يزيد قطر الواحدة منها عن خمسة أمتار، وتنفتح مراكزها في صورة ماصات — شفاطات — واسعة عميقة لها صوت غير محبوب، والغالب أن هذه الدوامات لا تتكون فرادى، بل في مجموعات تسلمك إحداها للأخرى، بحيث تستطيع أن تخل بتوازن المراكب الصغيرة أو تقلبها!

وفي وقت الفيضان يصبح لون مياه النيل بنية طينية في درجات لونية مختلفة؛ اللون الغامق هو ما كان في الجزء الأوسط من النهر، حيث التيار الجارف قادر على أن يحمل معه ذرات الطمي، بينما يصبح رائقًا بعض الشيء قرب الضفاف، وقد تنعكس على صفحته خضرة المزروعات القريبة من الضفة، أو صفرة التلال الرملية، أو دكنة الصخور الجرانيتية، وبعض حمرة صخور التكوينات النوبية. وإلى جانب هذا كله تظهر أشرطة من الماء تبدو بيضاء أو زرقاء باهتة، وهي تعبر عن مياه عميقة خطرة على الملاحة؛ لأنها تولد دوامات في أحيان كثيرة إذا ما صادفت حاجزًا طينيًّا أو صخريًّا غائرًا تحت السطح، والسير ضد تيار الماء الجارف فيه الكثير من المجازفة، ولا يجب عبور النهر في خط عمودي، بل بزاوية يقدرها الملاح حسب قوة دفع التيار المائي، كما أنه ليس مستحبًّا عبور النهر وقت الظهيرة؛ لأن الماء يبدو وكأنه يفور ويغلي نتيجة التسخين الشديد للماء وتبادل المياه السطحية والعميقة في نحو الفترة بين الثانية والرابعة بعد الظهر، ويؤدي الفوران إلى انعكاسات الضوء المبهر من كل مكان على سطح الماء، والخلاصة أن التيار والفوران يؤديان إلى إبطاء واضح في حركة القوارب؛ مما يستدعي جهدًا على المحركات واستهلاكًا زائدًا للوقود.

وأحسن مياه للإبحار هي المياه الجانبية التي يسميها البحارة «الليان»؛ حيث تقل سرعة الماء نتيجة للاحتكاك بالضفاف والقاع غير البعيد، ولكن هناك خطورة بالنسبة لقوارب المحركات التي تغوص مراوحها أسفل قاع القارب؛ مما يؤدي إلى تعلق المراوح بالطين، أو الاصطدام بأي بروز ناتئ يؤدي إلى توقف المراوح أو الْتوائها، أما المراكب الشراعية فهي آمنة في الليان، ومع ذلك فإن السير في الليان — مع مراقبة شكل الماء وسبر غوره بين الحين والآخر بالمدراة — أحسن من السير ضد التيار أو مناطق الدوامات.

ونحن كجغرافيين نعرف أن الشواطئ البحرية التي تنحدر بشدة إلى البحر تقابلها مياه عميقة، والشواطئ المنحدرة في يسر تقابلها مياه ساحلية ضحلة، وقد جازفنا باستخدام هذه المعلومة بالنسبة لضفاف النيل، وحاولنا إثبات ذلك للريس محمد، فكنا نقترب بدرجة ما من الضفاف التي تنزل بانحدار كبير إلى مياه النهر، ونبتعد عن الضفاف المتدرجة الانحدار، وكان الريس محمد يقيس عمق المياه في كل حالة بالمدراة إلى أن لاح اقتناعه، ربما ظاهريًّا، ونرجو ألا يُفهم أننا كنا نقترب من الضفاف الصخرية، بل كنا نبعد عنها قدر الاستطاعة؛ لأن قاع النهر المجاور لمثل تلك الضفاف غالبًا ما يكون مليئًا بمفتتات الصخر بأحجام مختلفة، بل إن تجربتنا كانت مرتبطة بالضفاف الطينية فقط، فبعضها كان في شكل جرف يعلو مترين أو ثلاثة أمتار نتيجة النحت النهري، وبعضها ينحدر هينًا إلى الماء، ولا شك أنه من الأفضل أن يصطدم القارب بنتوء طيني في الليان بدلًا من الصخور والأحجار، ولسنا نزعم أننا أصبحنا ملمين بقراءة الماء؛ لأن ذلك يقتضي أضعاف الوقت الذي قضيناه على سطح النيل، وإنما أدركنا بعضًا من كل.

وقراءة الماء في الحقيقة ليست إلا مرشدًا عامًّا لضمان الملاحة في سلام، وهي بمثابة الأبجدية النافعة في أحيان كثيرة، ويجب أن يضاف إليها معلومات كثيرة عن اتجاه النهر: أين ينحت وأين يُرسب، واتجاه الريح مع التيار أو ضده في قطاعات مختلفة من مسار النهر، وتتبع أحداث غرق مراكب أو صنادل، كل هذه وغيرها من معلومات ضرورية للملاح الماهر، إلى جانب قدرته على قراءة الماء.

وقد سبق أن ذكرنا أن الريس محمد علي شاجة قد صحبنا طوال الرحلة ذهابًا وإيابًا، وفي البداية كنا نظن أنه خبير بالملاحة في كل أجزاء النوبة، لكنه قال لنا، فيما بعد، إنه لم يطرق النوبة جنوب أمبركاب منذ سنوات طويلة، ومع ذلك قادنا بحكمة واقتدار في ضوء القمر في منطقة بالغة الخطورة؛ هي بوابة كلابشة الصخرية، ونتيجة لتقادم العهد بسفره في بقية النوبة، كان علينا أن نسأل باستمرار رؤساء المراكب التي نمر بها: أين نسير، البر الشرقي أم الغربي؟ وهل هناك دوامات أو حجارة أو جسور غاطسة؟ وأين؟ والحقيقة أن وجود الريس محمد معنا كان في غاية الفائدة، فهو من الكنوز، ومعظم المراكبية من الكنوز؛ ولذا كان سهلًا التخاطب والحصول على المعلومات على وجه الدقة، وبناء على المعلومات كان ينبهني إلى المسار الصحيح، ولم يقتصر السؤال على المراكبية، بل كان يسأل الناس على البر إذا وجدنا بعضهم، ومن الطرائف التي يُمكن تسجيلها أن محمدًا سأل فتاة على البر أين نحن واسم النجع التالي، كل ذلك بالماتوكية لغة الكنوز، فلم تجبه الفتاة مباشرة وردت عليه بعد ذلك بالعربية، وللحظة ظن محمد أنها تكلمه بالماتوكية، وحاول أن يفسر ما تقول فلم يستطع، ولاعتيادنا نحن أن هذه كانت مهمة محمد فلم نكن نصغي كثيرًا للكلام المتبادل، لكنا لاحظنا حيرة محمد وانتبهنا، فسمعنا الفتاة تتكلم بالعربية، فأدركنا أننا تركنا منطقة الكنوز ودخلنا منطقة عرب العليقات، وكان ذلك في أحد النجوع الجنوبية من عمدية المضيق التي يختلط فيها الكنوز والعرب.

عقبات ملاحية صنع الإنسان

وإلى جانب العقبات الطبيعية سالفة الذكر كانت هناك عقبات أخرى من صُنع الإنسان في الماضي؛ هذه هي البيوت القديمة التي هجرها عند إنشاء سد أسوان وتعليته، وكذلك السواقي التي كانت تنتشر في النوبة منذ أكثر من ألف عام، والسواقي بنايات محكمة أكثر من البيوت، باعتبار أن مواقعها من الأرض التي ترويها ثابتة، بينما البيوت يمكن أن تهدم وتقام محلها بيوت أخرى على مر الزمن؛ لهذا فإن مخاطر السواقي أكثر على الملاحة من جدران بيت إنهار سقفه وتآكلت أسسه، والساقية عبارة عن برج متين لتثبيت التروس والعجلات الخشبية وأرضية دائرية لمسار الأبقار مدكوكة بفعل أقدام الحيوان، ويرتفع البرج بقدر يتناسب مع ارتفاع الأرض التي ترويها الساقية بواسطة قناة مبنية فوق حائط مقوى بمداميك، وتنتهي القناة عند أعلى منسوب للحقول ثم تنساب منها المياه في مساقٍ إلى الحقول العليا ثم السفلى، والغالب أن ارتفاع برج الساقية في حدود تتراوح بين ثلاثة وخمسة أمتار فوق مستوى النهر، ويجتهد الناس في إصلاح وتقوية بناء الساقية بصفة مستمرة؛ لأنها مصدر الحياة للأراضي الزراعية في المناطق ذات التضاريس الوعرة المرتفعة، مثل أراضي عمدية قرشة التي اشتهرت من زمن بعيد بسواقيها العديدة؛ ولهذا يخشى الملاحون من قباطنة بواخر البوستة إلى ملاحي المراكب والصنادل مياه «بحر قرشة» كما يسمونه، والذي يمتد نحو ستة كيلومترات أو أكثر، وليست الخشية طول السنة، بل هي أكثر ما تكون خلال بحيرة الخزان؛ لأن أبنية السواقي تكون غاطسة تحت المياه، بينما تكون ظاهرة خلال أشهر الصيف الثلاثة، حينما تكون مياه الخزان قد أُفرغت وهبط منسوب الماء بمقدار نحو ١٢ مترًا؛ ولهذا أمكننا التغلغل في مياه بحر قرشة دون التعرض لمخاطر غير مرئية خلال رحلتنا الصيفية.

وهنا يجب أن نضيف عقبات بشرية أخرى ناجمة عن غرق المراكب والسفن: أين بالضبط، وحجم المركب الغارق وحمولته، وما إذا كان غطس تمامًا أم شحط على جزر طينية غاطسة، فمثل هذه المراكب سرعان ما يتراكم عليها أرساب الطمي، وتكون عائقًا ملاحيًّا وقت نزول النيل، وأخبار هذه الحوادث تنتقل شفاهة عند حدوثها بسرعة كبيرة إلى أسماع القباطنة، فيدرجون المكان في القائمة السوداء التي في أذهانهم ليتجنبوها.

الرياح العاصفة وأمواج عالية

وأخطر عقبات الملاحة في النوبة هي الرياح الشمالية الشديدة، لكنها لحسن الحظ ليست متكررة الحدوث، وحين تهب تزداد قوتها إذا كانت الحافات الجبلية قريبة من مسار النهر، فتصطدم بتيار النهر الذي يجري في اتجاه شمالي، وتحدث هياجًا وأمواجًا لا يمكن تصورها على أنها أمواج نهر، ولقد صادفنا مثل هذا الجو العاصف أثناء عودتنا عند الحافة الصخرية في منطقة أبوهور، كانت الأمواج تضرب الزجاج أمام عجلة القيادة ضربًا شديدًا، وتترك رقائق من الطمي الذي يحجب الرؤية؛ مما دفعنا إلى فتح الزجاج كي نرى أين نسير، وتدفق بعض الماء إلى داخل القارب، وأعطانا رشاش الموج حمامًا طينيًّا لا ننساه! وبطبيعة الحال كان القارب يتأرجح بشدة، وتصعد المقدمة عشرات السنتيمترات مع الموجات الثقيلة، ثم يسقط القارب بصوت خلنا معه أن بطن القارب سينشق، وترتفع المؤخرة بما فيها مراوح المحركات لحظات قصيرة نفقد فيها قوة الدفع والتوجيه، ثم هكذا دواليك، وزاد من حدة المشكلة أن النظارة الطبية كانت تغطى بالطين ونحتاج إلى تنظيفها باستمرار، والخلاصة كان القارب أشبه بحصان فقدَ راكبه، أو كقطعة فلين تائهة وسط خضم هائل، واستمر هذا الحال قرابة نصف ساعة من الخوف والقلق إلى أن نجحنا في العبور من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي، حيث الريح والموج أخف وطأة، ونزلنا البر نريح المحركات الباسلة وأعصابنا المشدودة.

وإذا كانت الرياح الشديدة قد لعبت بقاربنا الصغير ما شاء لها، فإنها تفعل أكثر من ذلك بالنسبة للبواخر الكبيرة، فأخشى ما يخشاه قباطنة البواخر مثل هذه الرياح العاتية والأمواج التي تحدثها؛ ذلك أن هذه البواخر النيلية ليست ذات غاطس عميق، بل إنها ذات قاع مسطح لكيلا تنغرس في الضفاف الطينية حين ترسو في محطاتها العديدة، وقد حدث لنا ما يوضح هذه المخاطر، فبعد أن أتممنا دراستنا في سيالة في يناير-فبراير ١٩٦٢، حجزنا على البوستة المتجهة إلى الشلال، والتي تقلع من سيالة قادمة من وادي حلفا يوم سبت العاشرة صباحًا، وفي مساء الجمعة كنا قد أعددنا حقائبنا وحاجياتنا؛ استعدادًا للسفر صباح اليوم التالي، ونصحنا ناصح أن نبقي أغراضنا بالمنزل، وحين تظهر الباخرة يمكن أن نأتي بالأغراض إلى مكان رسوها قبل أن ترسو — يلاحظ أننا كنا في الشتاء، ومنسوب الماء عالٍ، والمسافة قصيرة بين النجوع والمرسى — وفعلًا أخذنا نترقب البوستة منذ التاسعة ومعنا جمع من الناس لوداعنا ولأسباب أخرى، ومضت العاشرة ولا أثر للباخرة، واتصل وكيل البريد بمحطة المضيق فلم تكن الباخرة قد وصلتها، واتصل بمحطة وادي العرب فقيل إنها سافرت متأخرة، وفي الثانية عشرة لم تكن الباخرة قد وصلت المضيق، ولما كانت الرياح قد أخذت تشتد منذ ظهر الأمس، فقد فسر لنا الناس التأخير بأن الباخرة لا بدَّ وأنها رست في السبوع — بين وادي العرب والمضيق — لتجنب الجو السيئ، وتساءلت: هل يوقف الريح مسار هذه الباخرة المستندة إلى صندلين كبيرين عن يمين وعن يسار؟ قيل لي: نعم؛ فالقبطان لا يستطيع تحمل مسئولية جنوح السفينة في هذا الهواء، وفي ذلك الحين تعجبت أن يفعل الهواء بمياه النيل المحدودة مثلما يفعل في البحار — ولكننا بعد تجربتنا في منطقة أبوهور أدركنا هذه الحقيقة تمامًا — ولم تظهر الباخرة طول السبت، ونمنا نومًا متقطعًا؛ خوفًا من مجيئها ليلًا ونضطر إلى الإقامة أسبوعًا آخر، وفي الثامنة صباح الأحد صاح وكيل البريد أن الباخرة في الطريق، وخلال رحلة العودة تحدثت مع القبطان الذي قال إنه أرسى الباخرة في منطقة رملية قرب السبوع منذ الثانية ظهر الجمعة، وللأسف فإنه لا يوجد تليفون في السبوع يمكن من إبلاغ المحطات الأخرى أين هو. وذكر لي أن قبطانًا جازف بالسفر تحت ريح متوسط القوة في منطقة توماس والدر، فانفصل أحد الصندلين وانقلب وفقدت الباخرة توازنها وأوشكت على الغرق، لولا أنها كانت قريبة من توماس، فأسرع بالرسو فيها، ولكن بعد وقوع خسائر وضحايا كثيرة — الصنادل غالبًا محملة بالبضائع وركاب الدرجة الثالثة معًا.

ولعلنا بهذه الأسطر القليلة قد أوضحنا للقارئ شيئًا عن المصاعب التي تواجه الملاحة في النيل النوبي، في موسم الفيضان وموسم ارتفاع منسوب المياه في الشتاء والربيع، وكل ما كتبناه هنا ليس إلا جزءًا يسيرًا مما يحتفظ به القبطان أو الريس في ذاكرته، فتصبح المعلومات جزءًا لا يتجزأ من الملاح نفسه.

ويؤدي هذا إلى أن يتمكن القبطان من السير بباخرته في أحلك ساعات الظلمة وفي أخطر الأماكن دون قلق كثير، فهو يمضي قدمًا بالباخرة في الدكنة التي لم يتعودها غيره، ويطفئ الأنوار الكاشفة تمامًا ويحس طريقه دون وجل خلال ظلام، لا أستطيع أنا وأنت أن نميز فيه أين ينتهي النهر وأين يبدأ البر، وربما تظن أن النجوع بأنوار مصابيحها الكيروسينية تحدد مجرى النهر، ولو كان الأمر كذلك لكان المنظر أكثر من أن يكون رائعًا، لكن سكان بلاد النوبة قوم ينامون مبكرين، ولا يسرفون في استخدام المصابيح كثيرًا، كما أن الشبابيك مصنوعة من ألواح خشبية قطعة واحدة، لا تترك بصيصًا من النور يطل على هذا الكون المظلم، الذي لا نرى فيه سوى إشعاعات ماسية ضئيلة من النجوم التي ترصع السماء بكثرة لا نلحظها في المدن، وإشعاعات هذه النجوم ثابتة قليلة التلألؤ؛ لصفاء السماء من أبخرة المدن والغازات التي تغلف جوها. وعلى هذه الأضواء الشاحبة جدًّا، قد نلمح على البعد أشباح التلال وحافات الهضبة تحف في سكون الأفق الرحيب أمامنا.

والخلاصة أن القباطنة ورؤساء المراكب والصنادل يسافرون وفي أذهانهم «كمبيوتر» مرسوم بالخبرة والتجربة «والباقي على الله»، والعبارة التي يرددونها دائمًا هي «السفر تساهيل»؛ ردًّا على استفسار: متى نصل المحطة التالية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤