الفصل الثاني

مشكلة اللغات النوبية

إذا كان تاريخ بلاد النوبة معقد مليء بالثغرات، فإن خطوطه العريضة قد رسمها العلماء بصورة مُرضية، أما اللغات النوبية فهي مشكلة المشاكل بحق؛ فالتتابع الجغرافي للغات واللهجات النوبية متقاطع ومتداخل، وهي من الشمال إلى الجنوب على النحو التالي: الكنزية من أسوان إلى المضيق، العربية من المضيق حتى كورسكو، الفديجة أو النوبية من كورسكو إلى حلفا، السكوت من حلفا إلى الشلال الثالث، المحس حول ثنية دلجو، وأخيرًا الدنقلاوية حتى الدبة. وباستثناء العربية فإن المختصين قسموا اللغات النوبية إلى مجموعتين هما:
  • المجموعة الكنزية الدنقلاوية، وتشمل سكان النوبة في أقصى الشمال والجنوب.

  • مجموعة المحس التي يتكلم بها المحس والسكوت والفديجة «النوبية» في لهجات متقاربة، ويحتلون الجزء الأوسط من إقليم النوبة الجغرافي.

والسؤال هو هل كانت المجموعة الأولى هي لغة كل سكان النوبة، ثم انفصلت بدخول جماعة اللغة المحسية، أم أن الأمر هو العكس؟ أي إن لهجات المحسية كانت لغة بلاد النوبة من شمال أسوان إلى الجنوب، ثم وفدت الكنزية-الدنقلاوية من كردفان.١
ولقد عالج موضوع اللغات النوبية وتصنيفها وأصولها عدد كبير من العلماء والباحثين ابتداءً من ريتشارد لبسيوس R. Lepsius (١٨٥٢ و١٨٨٠)، ثم ليو راينش Leo Reinisch في كتابه «لغة النوبة» ١٨٧٩، الذي رأى أنها إحدى اللغات الحامية دخلتها مؤثرات خارجية كثيرة، وتتالت الدراسات بعد ذلك: ديتريش فسترمان D. Westermann، الذي تابع النشر منذ ١٩١١ حتى ١٩٥٢ عن اللغات السودانية، وخاصة بحثه في ١٩١٣ عن لغة نوبية مجهولة في دارفور، وهرمان ألمكفست H. almkvist في دراسته عن النوبية في السودان ١٩١١، وكارل ماينهوف C. Meinhof عن اللغات الحامية ١٩١٢ الذي تابع بحوثه حتى ١٩٤٣، وإرنست تسيلارتز E. Zyhlarz الذي ركز معظم أبحاثه العديدة عن اللغة وقواعد اللغة النوبية في العصر المسيحي ١٩٢٨، والبقايا اللغوية للنوبة السفلى في العصور المصرية القديمة ١٩٣٥، والصوتيات في النوبية ١٩٤٩، ج. و. مري g. w. murray بحثًا قيمًا عن اللغة النوبية ١٩٢٠، وأتبعه بقاموس إنجليزي نوبي مقارن ١٩٢٣، ويحث س. هيللسن S. Hillelson عن أصول النوبية ١٩٣٠، وجوزف جرينبرج J. Greenberg عن تصنيف اللغات الأفريقية ١٩٥٠، وعن العلاقة بين لغات النيل-الصحراء ولغة مروى ١٩٧١، بروس تريجر B. Trigger عن العلاقة اللغوية بين لغة مروى ولغات السودان الشرقية ١٩٦٤، وهناك كثير من الباحثين غيرهم.٢
وتتفاوت الآراء بين إعطاء أصول حامية للنوبية دخلتها مؤثرات لغوية سودانية (راينش ومحمد عوض)، أو أنها لغة سابقة للحامية تأثرت باللغات السودانية آلاف السنين (ماينهوف)، أو أنها لغة سودانية (فسترمان وتسيلارتز وهيللسن وجرينبرج) أو أنها لغة نيلوتية حامية (مري وفيلهلم شميت)، أو أخيرًا أنها لغة معزولة تمامًا (ألمكفست)، هكذا نخرج بلا اتفاق أو ما يشبه ذلك على أصول النوبية، لكن الموقف ليس ميئسًا؛ فبعض الأبحاث الجديدة التي نشرها رولف هرتزوج R. Herzog ١٩٥٧٣ ونيكولاس ميليت N. B. Millet ١٩٦٤٤ تلقي أضواء على اللغة وتاريخ الاستيطان معًا، وهما ينتقدان فكرة تسيلارتز التي ترجح وطنًا أصليًّا للنوبيين في كردفان، ومنه انتقلوا في هجرتين: إحداهما إلى شمال كردفان ثم وادي النيل في إقليم النوبة، والثانية إلى جبال النوبا في جنوب كردفان الأقصى، وكذلك يرى الكاتبان أن علاقة الكنوز والدناقلة كانت لفترة محدودة؛ مما يصعب معه تفسير التقارب اللغوي بينهما. ويرى كلٌّ منهما أن سكان كل النوبة كانوا في فترة تاريخية ما، يتكلمون لغة واحدة؛ هي الأصول التي اشتقت منها اللهجتان الكنزية والدنقلاوية.

وذلك على عكس رأي جرينبرح ١٩٧١، الذي يرى أن اللغة النوبية القديمة هي شكل سابق للهجة المحس-الفديجة؛ بمعنى أن الكنزية والدنقلاوية أحدث من المحسية.

ويفترض ميليت لتفسير ذلك وجود جماعات «نوبية» اللغة، تسكن الصحراء الغربية قرب إقليم دنقلة، تأثرت إلى حد ما باللغة المنطوقة في مملكة مروى حينما نزحوا إلى وادي النيل في القرن الثاني أو الثالث ق.م، وأخذت هذه الجماعات الجديدة في الضغط شمالًا حتى النوبة السفلى التي كانت شبه خالية من السكان آنذاك — عهد البطالمة؟ انظر الجدول (١-١) التأريخي — ويستطرد ميليت أن النوباتي الذين دخلوا النوبة في نحو القرن الثالث الميلادي انتشروا أولًا في شمال النوبة المصرية، لكنهم لم يلبثوا أن استوطنوا وسط النوبة، وهو الإقليم الأكثر غنى؛ أي إنهم أزاحوا السكان الأصليين أو استرقوا من بقي منهم، وبذلك انفصل الكنوز عن الدناقلة، وهؤلاء النوباتي كانوا يحملون معهم مؤثرات من بربر الصحراء الغربية، وإنهم كونوا أصول مجموعة المحس اللغوية.
أما متى تم انفصال اللغتين الكنزية والمحسية، فإن بروس تريجر يقترح زمنًا لذلك في نحو منتصف القرن التاسع الميلادي بزيادة أو نقص قرنين من الزمان؛ أي في نحو ٦٥٠م أو أوائل القرن الحادي عشر الميلادي.٥

أما هرتزوج فيرى أن سكان النوبة منذ عصر مجموعة (ج) الحضارية؛ أي تقريبًا منذ عهد الدولة الوسطى في مصر، قد أصبحوا شعبًا خليطًا نتيجة ضغط المجموعات الزنجية المستمر — الذي توجد له إشارات في السجلات المصرية منذ الدولة الوسطى — وأنهم كانوا يتكلمون أصول اللغة النوبية؛ بدليل وجود كلمات مصرية قديمة في اللغة النوبية، وأن النوبية قد تأصلت بدخول المسيحية التي استمدت الكثير من مركبها الحضاري من مصر، وخاصة نتيجة لكتابة لغة الكنيسة، وفي القرن العاشر بدأ تداخل القبائل العربية، وخاصة ربيعة والعليقات الذين استقروا في منطقة وادي العرب خالصة لهم، وكذلك كان التداخل نتيجة لزواج العرب من النوبيين الذين كانوا يمارسون شكلًا من نظام حق الأم — نظام الوراثة في خط الرحم — مما ساعد على تسرب الدماء العربية واعتداد النسل الجديد الناجم عن هذا الزواج بأصله العربي بحكم نظام النسب الأبوي العربي، ولكن ذلك لم يقض على اللغة الأم بحكم نشأة الأطفال مع أمهاتهم.

وفي القرن ١٦ نشأت مملكة الفنج العربية في السودان الأوسط، وبسطت نفوذها على إقليم دنقلة فزاد استعرابه، وظل باقي النوبة من أسوان إلى بلاد المحس تابعة لمصر العثمانية، ونجم عن إنشاء الحاميات العثمانية وتزاوج جنودها بالنوبيات تأثير لغوي، أدى إلى تكوين مجموعة المحس اللغوية من بلاد المحس جنوبًا حتى كورسكو شمالًا؛ وبذلك انفصلت الكنزية عن الدنقلاوية، وكلتاهما وقعتا أيضًا تحت تأثير لغوي عربي، بداية من القرن العاشر «الكنوز» والقرن ١٤ «الدناقلة».

ولكل من الرأيين وجاهته، ويشتركان معًا في أن المجموعة اللغوية الكنزية الدنقلاوية هي الأقدم، بينما تشكلت المجموعة المحسية فيما بعد فاصلة — هي وعرب العليقات — بين الكنوز والدناقلة.

•••

وقد ثار جدل كثير حول اسم «الفديجة»: هل هم مجموعة لغوية أم جزء من اللغة المحسية. وأول من ذكر مصطلح «فديجة» هو ليو راينش، ولم يذكره أحد غيره، وقد انتقد لبسيوس بعنف رأي راينش في هذا الموضوع، وقد حاول البعض إيجاد تفسير للمصطلح وكيفية نشأته، بالاستناد إلى تفسيرات عديدة من السكوت على أنه لغويًّا بمعنى «سنهلك». ويرى الأستاذ محمد عوض أنه مصطلح أطلق على جماعة من المحس والسكوت هاجروا إلى جنوب النوبة المصرية هربًا من حكم المهدية، والرأي الذي يلقى قبولًا من الباحثين أنه «كنية» أو اسم للتشهير بمن يُطلق عليهم، والاسم ليس شائعًا بين السكان المشار إليهم به، بل هم يستخدمون اسم «النوبيين» لشعبهم، مقابل اسم الكنوز لسكان شمال النوبة.

•••

والحقيقة أن هناك مصطلحات متداولة في النوبة بدون دلالات واضحة؛ مثل «ماتوكي» بمعنى الكنوز أو الشرقيين، و«تنوكي» بمعنى غربي أو غربياب، ويخصص به أحيانًا سكان منطقة توماس وعافية غرب الدر، وهؤلاء يرون أن لهم وضعًا خاصًّا، وربما يربطون نسبهم إلى الجعافرة الحسنية — نسبة إلى الحسن ابن سيدنا علي بن عبد المطلب.٦

وهناك مصطلح آخر «صعيدوكي» يطلقها الكنوز أحيانًا على النوبيين، على نحو ما هو دارج في بقية مصر من تسمية جنوب الوادي باسم الصعيد.

والملاحظة الأخيرة في موضوع اللغة أن العزلة النسبية بين القرى والمحلات السكنية في النوبة بإطلاق، بالإضافة إلى تنوع الاتصال بجماعات عديدة مختلفة اللغة — العرب والبجة والعثمانلية والغز والزنوج المسترقين — قد أدت إلى تنوع استخدام كلمات ومصطلحات حتى بين القرية والأخرى في بلاد الكنوز وبلاد النوبيين؛ نتيجة كثافة الصلة مع العرب أو العثمانلية أو أنواع الرقيق الزنوج، وذلك على نحو الاختلاف بين سكان الشرقية وسكان البحيرة أو الفيوم ومحافظات صعيدية أخرى، وربما كان هذا هو السبب في اختلاف العلماء حول لغات النوبة، التي هي لا شك في انتمائها إلى مجموعتين هما: الكنزي-الدنقلاوي من ناحية، والمحسي بتفريعات لهجاته من ناحية ثانية.

•••

وبعد انتقال النوبيين إلى منطقة كوم أمبو سوف تتأثر اللغات واللهجات النوبية بوجودها في محيط عربي اللسان.

فلقد كانت العزلة السابقة في بلاد النوبة قبل السد العالي أحد العوامل لبقاء اللغة حية؛ نتيجة لبقاء معظم النساء في ديارهم.

أما الآن فإن الرجال والنساء على حد سواء قد يفقدون اللغة الأصلية تدريجيًّا نتيجة المعاملات مع جيرانهم في المواطن الجديدة، ونتيجة سهولة الحركة إلى المدن المصرية، وأخيرًا نتيجة لوسائل الإعلام المختلفة وبوجه خاص الوسائل المرئية منها.

١  يرى محمد عوض محمد أن التشابه بين لغة الكنوز والدناقلة راجع إلى موقع كل منهما بالنسبة للتجارة مع مصر، ويقول: «… ولم يكن بد لسرعة الاتصال من تجنب الإقليم النهري الكثير الجنادل، والذي لا يلعب دورًا خطيرًا في التجارة، وكان كل من الدناقلة والكنوز بحكم مواقع أوطانهم هم الذين يقومون بالنصيب الأكبر من تلك التجارة، لذلك كثر اتصالهم وتشابهت لهجاتهم.» ص٣٠٥ من كتابه «السودان الشمالي؛ سكانه وقبائله» مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ١٩٥١.
بينما يرى روبرت فرنيا أن الكنوز هجرة حديثة نسبيًّا من دنقلة إلى شمال النوبة المصرية، ففصلت بذلك شعبًا واحدًا هو الفديجة وجعافرة شمال محافظة أسوان، ويؤسس رأيه على أن النوبيين يرون الجعافرة نوبيين تمصروا واستعربوا بحكم مواقع استيطانهم شمال أسوان.
Fernea, R, “Egyptian Nubians” (S.R.C. American Universty, Cairo) and University Of Texas, Austin, London, 1973.
٢  أوردت الباحثة النمساوية آني هوهنفارت ١٣٤ عنوانًا لباحثين وعلماء لغويين، ابتداءً من بحث ليوراينش عام ١٨٧٩ إلى الباحث السوداني قاسم عون الشريف، عن اللغة الدارجة في النوبة المنشور في الخرطوم عام ١٩٧٥، انظر: Hohenwart Gerlachstein, A, “Nubien Forschungen” Acta Ethnologica et Linguistica, Nr 45, Wien 1979, PP.19–21.
٣  Herzog, R, “Die Nubier”, Akademie Verlag, Berlin 1957, PP.33–7.
٤  Millet, N, B, “Some Notes on the Linguistic Background of Modern Nubian”, in Contemporary Egyptian Nubia, Ed, R, Fernea, New Haven, Human Relations Area Files Inc, 1964.
٥  Trigger, B, “Merotitc and Eastern Sudanic: A Linguistic Relationship?” Kush Nr, 12, Khartoum 1964.
٦  لم ينتقل غالبية سكان توماس وعافية إلى الموطن الجديد في كوم أمبو، بل فضلوا الانتقال إلى منطقة إسنا التي كانت شركة إيتالو-كونسولت تقوم باستصلاحها لاستقبال المهاجرين الجدد، ربما كان السبب وجود أقارب لهم سبقت هجرتهم عند دفع تعويضات التعلية الثانية لسد أسوان عام ١٩٣٣، ولكن غير خاف أن الجعافرة ينتشرون في المنطقة وفي مركز إدفو، وهناك شعور خفي بالانتماء إلى أصول واحدة معهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤