صراع فوق نهر «تنجوسكا»!

لقد رسم الرجل الأول علامة حرف «ت»، رفع كف يدِه ثمَّ قاطع معه الكف الأخرى، فجاءت العلامة واضحةً، وردَّ عليه الرجل الأخر بنفس الحركة، نظر الشياطين إلى بعضهم ثم ابتسموا، إذن لقد بدأ الصراع. ابتعد الرجلان حتى اختفَيا، ولم يتحرَّك أحد من الشياطين، إنهم يَعرفون أن الرجلين سينزلان في آخر محطةٍ لأن القطار لا يقف قبل بلدة «تورا». استسلم الشياطين لهزات القطار الذي كان يندفع في سرعة وعندما بدأ القطار يُهدئ السرعة، استعدُّوا سريعًا حتى يكونوا على رصيف المحطة قبل أن ينزل الرجلان. وعندما توقف القطار أسرعوا بالنزول وتجمعوا تحت المظلة الحديدة العريضة اتِّقاءً للمطر، الذي كان ينزل بشدةٍ تتخلَّله حباتٌ كبيرة من الثلج، يرنُّ صوتها فوق أرض المحطة، وفوق المظلَّة الحديدية. ورغم أن القطار أبطل الماكينة، ورغم أن الركاب القليلين الذين كانوا فيه قد نزلوا منه، إلا أن الرجلين لم يظهَرا. طال انتظار الشياطين للرجلين إلا أن أحدًا منهما لم يظهر، فنظرت «إلهام» إلى «أحمد» في دهشة وقالت: لا أظن أن القطار قد توقَّف في الطريق، ولم يُهدئ حتى من سرعتِه! … هز «أحمد» رأسه ثم قال: من الضروري أن نتوقع كل شيءٍ.

تحرك الشياطين إلى موظَّف المحطة وسألوه عن أقرب فندق من المحطَّة. أشار لهم الرجل على مبنًى قديم، يقع أمام المحطة مباشرةً، فأخذوا طريقهم إليه، وطلبوا حجرةً واحدةً. نظر لهم موظف الفندق قليلًا، ثم قال: إن لديَّ حجرةً بها ثماني أسرَّة، يمكن أن تحتلوا خمسة منها.

أحمد: سوف ندفع إيجارها كاملةً.

صحبهم الرجل إلى حجرةٍ قديمةٍ متَّسعة ثم تركهم واختفى. فجلس الشياطين قليلًا في صمت، ثم قال «أحمد»: يجب أن نتحرك بسرعةٍ.

فهد: هل نخرج الآن؟

فكر «أحمد» قليلًا ثم أخرج خريطة صغيرة، بسطها أمام الشياطين وبدأ يتحدث: هذه هي المنطقة التي نحن فيها الآن. هذه هي إذن بلدة «تورا»، وهذا هو نهر «تنجوسكا»، لكن لا يبدو أن هناك مواصلات إلى النهر، إنه يبتعد عنَّا قليلًا، لكننا لا نستطيع أن نصل إليه سيرًا.

ظلَّ الشياطين يستمعون إلى «أحمد» في صمتٍ، أخيرًا قال «رشيد»: أعتقد أن موظف الفندق يُمكنُ أن يدلَّنا.

أحمد: سوف أتركُكم لحظةً أتحدَّث فيها إلى الرجل، وخرج «أحمد» من الحجرة إلى حيث الرجل الذي كان يدخِّن غليونًا، له رائحةٌ نفَّاذة، اقترب منه «أحمد» وحيَّاه ثم سأله: إننا نريد الوصول إلى نهر «تنجوسكا» كيف ذلك؟

نظر له الرجل طويلًا ثم قال: إنها منطقةٌ ممنوع فيها الزيارات الآن، نظرًا للانفجارات التي تَحدُث …

أحمد: أعتقد أن هناك طريقة ما للوصول …

ضحك الرجل في خشونة، ثم قال: ما دمت تعرف، فلماذا تسألني؟

ابتسم «أحمد» مفكِّرًا ثم قال: ألا يوجد دليل يصاحب الزوَّار في هذه المنطقة؟

الرجل: إنك ذكيٌّ، نعم يوجد، ويُمكن أن نؤجِّر لك زحافةً أو اثنتين لأنكم لا تستطيعون السير فوق الجليد.

أحمد: هذا شيءٌ طيبٌ.

الرجل: غير أنه يتقاضى أجرًا مُرتفعًا.

أحمد: لا يهمُّ.

غادر الرجل مكانه ثم خرج، وأخذ «أحمد» يتفحَّص المكان، ولم يَغِب الرجل طويلًا فقد عاد وخلفه رجل ضخم الجسم، تبدو عليه الشراسة، وقال رجلُ الفندق: ها هو «بروسكي» المرشد وصاحب الزحافات.

أحمد: أهلًا بك … هل يُمكن أن نتَّفق؟ فنظر له «بروسكي» طويلًا، ثم قال: أنت وحدك؟

أحمد: لا … إن معي أصدقائي.

بروسكي: ولماذا تُريدون الذهاب إلى هذه المنطقة الخطرة؟

ابتسم «أحمد» وقال: إننا نقوم بعمل دراساتٍ عن المنطقة.

هزَّ «بروسكي» رأسه، ثم قال: متى تتحرَّكون؟

أحمد: لو تحركنا الآن متى نستطيع أن نعود؟

ردَّ «بروسكي»: وقتما تُريدون، إننا سوف نسلك طريقًا مجهولًا حتى لا نقع في أيدي أحد.

هز «أحمد» رأسه وقال: هل أنت جاهِز الآن؟

بروسكي: طبعًا.

أحمد: لحظة واحدة أحضر الأصدقاء.

انصرف «أحمد» إلى الشياطين الذين كانوا في انتظاره وقال: هيَّا بسرعةٍ.

تبعوه جميعًا إلى حيث يوجد «بروسكي» الذي صحبهم إلى الخارج، وهو يقول: إن ملابسكم خفيفةٌ، والبرد شديد، بالإضافة إلى أن الثلج لا يتوقف عن النزول.

صمت لحظةً ثم قال: إنني أستطيع أن أؤجر لكم ملابس مخصوصة لهذا الجو.

بعد خطواتٍ قليلةٍ قال: انتظروني أمام هذا المبنى، سوف أُحضِر الزحافات حالًا.

وقف الشياطين ينتظرون، وكان الثلج يسقط بقوةٍ، وبرغم برودة الجو الشديدة إلا أن الشياطين لم يكونوا يشعرون بالبرد. لحظات ثم سمعوا صوت عجلات قادمة ونباح كلاب ثم ظهرت أول زحافة يجرها عدد من الكلاب، ثم ظهرت الزحافة الثانية والثالثة. ابتسم الشياطين فهذه أول مرة يركبُون فيها هذه المواصلة، واقترب «بروسكي» وقال: هيَّا للركوب كل اثنين في واحدةٍ. صمت قليلًا ثم قال: مَن الذي يركب بجواري؟

تقدَّم «أحمد» بسرعةٍ وقفز في أول زحافة، فقال «بروسكي»: كل اثنين يركبان زحافة ثم اتبعوني.

وقفز «بروسكي» برشاقةٍ رغم جسمه الضخم، وقفز «قيس» و«إلهام» في زحافةٍ، وقفز «فهد» و«رشيد» في الزحافة الثالثة، ثم بدأت الرحلة كانت كل زحافةٍ مُغطَّاةٍ بغطاء من المعدن الرقيق حتى تَحمي الركاب من الثلج المُتساقط، ولم ير الشياطين شيئًا، سوى مساحات اللون الأبيض الممتدة إلى ما لا نهاية. لم يكن يفصل كل زحافة عن الأخرى سوى مسافة صغيرة، لم يمض وقت، حتى خرجت الزحافات من بلدة «تورا» وأصبحت بين جبال من الثلج، حينئذ تردَّد صوت، جعل الشياطين يُركِّزون آذانهم لسماع ماذا يقول، غير أن الصوت كان يتحدَّث بلهجةٍ غير مفهومةٍ، وعندما تلاشى الصوت صاح «بروسكي» بصوته الخشن صيحةً ارتفع صداها في الفضاء وكأنها كانت تَصطدِم بمُرتفعات الثلج الموجودة، وشعر الشياطين أن شيئًا غير طبيعيٍّ سوف يحدث، وفكر «أحمد» بسرعةٍ، إنَّ أحدًا لا يعرف عنَّا شيئًا وهذه الصيحات أشعر أن لها معنًى شريرًا، ترى ماذا هناك؟ …

ضغط «أحمد» جهاز الشفرة ثم أرسل رسالة إلى زملائه: «من ش. ك. س» كونوا على استعداد، يبدو أننا سوف نُلاقي شيئًا … وبسرعة جاءه رد زحافة «قيس» و«إلهام»: من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س» نحن على استعداد، إننا نظن ذلك أيضًا. وبعدها جاءت رسالة زحافة «رشيد» و«فهد».

أصبح كل شيءٍ صامتًا الآن، كان الشياطين يترقَّبون أية حركةٍ يمكن أن تحدث، ونزلت أول زحافةٍ على منحدرٍ ثلجيٍّ وصاح «بروسكي»: خذوا حذركم إن المنحدر شديد. ظلت الزحافات تنزل في بطءٍ حتى تجاوزت المنحنى، وفجأة ظهر بين الجبلين رجلٌ لم تكن تظهر تفاصيله تمامًا، فقد كان يلبس ملابس تكاد تغطِّيه، اقترب من الزحافات، وقبل أن ينطق بكلمةٍ شهقت «إلهام»، توقفت الزحافات واقترب منها الرجل قائلًا: هل أنتم الذين كنتم في القطار؟ إنني أشكُّ فيكم … ثم ترك «إلهام» واتجه إلى «أحمد» الذي استقبله قائلًا: إننا مُهتمون بظاهرة الانفجارات.

ضحك الرجل في خشونةٍ وقال: إنكم تنتمون إلى إحدى المنظمات. ونظر إلى «بروسكي» وتحدث إليه بتلك اللغة الغريبة، وضحك «بروسكي» وانطلق بالزحافة تتبعه الزحافتان. ارتفعت سرعة زحافة «بروسكي» حتى أن «أحمد» سأله: لماذا هذه السرعة؟ لم يرد. حينئذ ضرب الكلاب بسوطه ضربةً جعلها تجري كأنها تهرب، وكانت كلاب الزحافتين الخلفيتين تجري تبعًا لجري الكلاب الأمامية.

مضت نصف ساعة وهم بين جبال الثلج، لا يرون شيئًا، تردَّد صوت آدمي بين الجبال الثلجية، فبدأ «بروسكي» في إبطاء السرعة، وظلت السرعة تبطئ شيئًا فشيئًا حتى توقفت. في النهاية قال «أحمد» وهو يحاول أن يبدو هادئًا: هل لا يزال نهر «تنجوسكا» بعيدًا؟

نظر إليه «بروسكي» بخشونة وقال: إننا الآن فوق تنجوسكا.

ظهرت الدهشة على وجه «أحمد»، لم تكن دهشة حقيقية، لقد كان يريد أن يخدع «بروسكي»، قال: هل ننزل إذن؟

ضحك «بروسكي» ضحكته الخشنة ثم قال: نعم، ولكنكم سوف تنزلون في السجن.

أحمد: ماذا تقول … سجن … أي سجنٍ؟

بروسكي: هذه أوامر.

نزل «بروسكي» من الزحافة وقال: هيا انزلوا.

كانوا يقفون أمام جبل ثلجي تبدو فيه فتحة جانبية، وفكَّر «أحمد» قليلًا، ثم قال: هل سندخل هنا؟

مضى «بروسكي» في اتجاه الجبل دون أن يردَّ، نزل «أحمد» بسرعةٍ ثم اتجه نحوه قائلًا: سيد «بروسكي»، هل يُمكن أن أعرف بالضبط ماذا حدث؟

بروسكي: لا تسألني، هذه أوامر.

أحمد: أوامر من؟

بروسكي: أوامره.

اقترب «أحمد» أكثر، كان يُبدي ودًّا ﻟ «بروسكي» ثم قال: هل يمكن أن أقابله؟

نظر له «بروسكي» في حدةٍ، ثم قال: إنك كثير الكلام»، ثم رفع يده وهوى بها على وجه «أحمد»، الذي تفادى الضربة، ثم عاجله بضربةٍ قويةٍ، جعلته يئنُّ، إلا أن «بروسكي» تماسك وعاجله «أحمد» بضربةٍ قويةٍ أخرى جعلته يطير في الهواء في اتجاه فتحة الجبل، في نفس اللحظة كان الشياطين قد تحركوا، وطار «فهد» في الهواء ثم ضرب «بروسكي» ضربةً قويةً جعلته يقفز برشاقة ليستقبله ويضربه ضربة عكسية جعلته يترنح ثم يهوي على الأرض، كان «أحمد» قد وقف على قدميه ودماء قليلة تسيل من فمه.

جرت «إلهام» نحوه وأخذت تضمد له الجرح، وتمسح الدم وكان «بروسكي» يئنُّ وهو ملقى على الأرض، قال «رشيد»: إننا لا نعرف جغرافية المكان.

قيس: لا يهم، المهم الآن أن نعرف أين هم؟ لم يكد «قيس» ينطق بكلمته حتى ظهرت مجموعة من الرجال، وقفوا ينظرون إلى الشياطين في سخريةٍ، قال واحد منهم: خدعوك يا «بروسكي»، لا بأس إن الدببة يمكن أن تتناولهم طعامًا شهيًّا».

نزل الرجال في نفس اللحظة التي تجمَّع فيها الشياطين، كانت كرات الثلج تتدحرج تحت أقدام الرجال وهم ينزلون من فوق الجبل الثلجي، كانوا يبدون كأنهم صنعوا من الثلج أيضًا. كانت كرات الثلج تبدأ صغيرة ومع دورانها تكبر، وتكبر حتى تصبح في حجم صخرة كبيرة وكان الشياطين يتفادون نزول كرات الثلج التي كانت تنزل مندفعةً بفعل الانحدار الجبلي!

وقف الشياطين محاصرون، كان الرجال يقتربون، أحصاهم «أحمد»، كانوا ثمانية فقال في نفسه: «إنهم مجموعةٌ كبيرةٌ لكن لا يهمُّ …

نظر إلى بقية الشياطين وقال: ما رأيكم؟

فهد: إنها فرصة العمر.

رشيد: إننا نواجه مغامرةً رائعةً.

ابتسم «أحمد»، لكن الابتسامة لم تكتمل، فقد ظهر في فتحة الجبل ما لم يخطر لهم ببال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤