الرجل الأخضر

وقف شابٌّ يرتدي بنطالًا قصيرًا، يدلُّ مظهرُه على التفاؤل والحماس، وسط ملعب الجُولف الموازي لشاطئِ البحر، والذي كان لونه يصير رماديًّا بفِعل الغسَق؛ وراح يلعبُ بمفرده. لم يكن يضربُ الكرة بلا هدف، لكنَّه كان يتدرَّب على ضرباتٍ معينة بحماسٍ واضح واهتمامٍ بالغ بالتفاصيل؛ فبدا أشبه بإعصارٍ أَنيق مرتَّب. وقد تعلَّم عدةَ حركاتٍ بسرعة، وإنْ كان لديه رغبةٌ في أن يتعلَّمَها في وقت أقلَّ وبسرعةٍ أكبر من المعتاد. وهو ميَّالٌ إلى حدٍّ ما لأنْ يصبحَ ضحيةً لتلك الدعوات اللافتة للأنظار التي يمكن للمرء من خلالها أن يتعلَّم العزفَ على الكمان في ستة دروس، أو أن يتقنَ اللكنة الفرنسية عبر دورةٍ تدريبيةٍ بالمراسلة. إنه يعيش في جوِّ الإعلانات العليل والمغامرة المُفعَمة بالأمل. يشغلُ الشابُّ وظيفة السكرتير الخاص لدى الأدميرال السير مايكل كرافن، الذي يمتلك المنزل الكبير الواقع خلف المتنزَّه المتاخم لملعبِ الجولف. كان الشاب طموحًا، ولا يعتزمُ الاستمرار إلى الأبد في وظيفته كسكرتير خاصٍّ لدى أيِّ شخص، لكنه أيضًا شخصٌ عقلانيٌّ ويدرك أن أفضل طريقة للكفِّ عن العمل كسكرتيرٍ هي أن يصبح سكرتيرًا ناجحًا؛ ومن ثمَّ فقد كان سكرتيرًا ناجحًا للغاية، يتعاملُ مع مراسلات الأدميرال المتأخرة المتراكمة بنفس التركيز السريع المحدَّد الهدفِ الذي يتعامل به مع كُرة الجولف. وعليه أن يتعامل مع المراسلات بمفرده ووفقًا لتقديرِه الشخصي في اللحظة الراهنة؛ نظرًا لأنَّ الأدميرال قد أبحر بسفينته منذ ستة أشهر، وعلى الرغم من أنه قد أوشَكَ على العودة، فمن غير المتوقع أن يعودَ قبل ساعاتٍ، أو ربما أيام.

وبخطواتٍ رياضية، ارتقَى الشاب، المدعو هارولد هاركر، قمةَ ربوة عُشبية بدت مثل سُور يُحيط بملعب الجولف، وبينما كان ينظر إلى البحر عبر رمال الشاطئ، رأى مَشهدًا غريبًا. لم تكن الرؤية واضحةً للغاية؛ بسبب تزايد ظلمة الغسَق كل لحظة تحت غيمةِ السُّحب التي تنذر بهبوب عاصفة، لكن بدا له، بنوع من الخداع اللَّحظي، مثلَ حلم بأيام خوالٍ، أو مشهدٍ درامي تؤدي الأشباح الأدوارَ التمثيلية فيه، مشهدٍ من حقبة تاريخية مختلفة.

بدا آخر شعاع من أشعَّة الغروب مثل خيوط طويلة من النحاس والذهب، فوق آخر قطاعٍ مُظلم من البحر والذي كان يميل فيما يبدو إلى اللون الأسود أكثرَ منه إلى الأزرق. لكنه كان لا يزال أكثرَ سوادًا بالمقارنة بهذا البريق في اتجاه الغَرب، هناك مرَّ رجلان بدتْ تفاصيلهما غير واضحة، يُشبهان في هيئتهما شكلَيْن من إحدى المسرحيات الإيمائية أو أحدِ عروض خيال الظل، كانا يرتديان قبعاتِ البحَّارة ذات الحواف الثلاثية المُلتفة لأعلى ويمتشقانِ السيوف؛ كما لو كانا قد هَبَطا للتوِّ من إحدى السُّفن الخشبية لأسطول نيلسون. لم يكن الأمرُ على الإطلاق ضربًا من الهلاوس التي كان يمكن اعتبارها أمرًا طبيعيًّا يعتري السيد هاركر، لو أنه كان عُرضةً للهلاوس. ولكنه من النوع المتفائلِ والعلمي؛ وكان سيتخيَّل على الأرجح وجود سفن طائرةٍ قادمة من المستقبل أكثر من تخيُّل سفنٍ حربية من الماضي؛ ومن ثمَّ استنتج بعقلانية تامَّة أنه حتى مَنْ يؤمن بعلوم المستقبل يمكنُه أن يصدِّق ما تراه عيناه.

لم يستغرق توهُّمه أكثرَ من لحظة. وفي اللحظة التالية، كان ما رآه أمرًا غير معتاد، لكنه قابل للتصديق؛ فقد وجد أن الرجلين اللذَيْن يسيران في صفٍّ واحدٍ عبر الرمال، حيث يتقدَّم أحدهما الآخر بمسافة خمسَ عشرة ياردة تقريبًا، ما هما إلا ضابطانِ عاديَّان من ضباط البحرية الحديثة، لكنهما كانا يرتديان ذلك الزيَّ الرسمي الكامل المُغالَى فيه إلى حدٍّ ما، الذي لن يُقدِم على ارتدائه ضباطُ البحريَّة إن كان بوُسعهم الاختيار؛ وقد يفعلون ذلك فقط في المناسبات الاحتفالية مثل الزياراتِ المَلكية. وقد استطاع هاركر أن يميِّز على الفور أنفَ الأدميرال الذي يعمل لديه وهو أنفٌ معقوفٌ شامخ، كما ميَّز لحيته المجدولة كالسُّنبلة، إذ كان يسير في المقدمة، غير واعٍ تقريبًا بالرجل الذي يسير خلفه. أما الرجل الذي يقتفي أثرَه فلم يستطع هاركر أن يميِّزه، لكنه يعلم شيئًا عن الظروف المتصلة بالمناسبة الاحتفالية؛ فهو يعلم أنه حين ترسو سفينة الأدميرال في الميناء المُتاخم، فلا بدَّ أن تحظى بزيارة رسمية من قِبَل إحدى الشَّخْصيَّات المرمُوقة؛ وهو ما يكفي، بهذا المفهوم، لتوضيحِ سببِ ارتداء الضابطَيْن للزيِّ الرسمي الكامل، لكنه يعرف الضباط أيضًا، أو على الأقل الأدميرال. لم يستطع سكرتير الأدميرال أن يدركَ ماذا عساه أن يستَحْوذ على الأدميرال كي يأتي إلى الشاطئ بهذا الزي، بينما يكاد المرء يجزمُ أنه لن يستغرق سوى خمس دقائق كي يُغير زيه الرسمي إلى ملابس مَدنية أو زيٍّ فضفاضٍ غير رسمي؛ فقد كان هذا أمرًا يصعب عليه إدراكه. ويبدو بطريقة ما أنه آخر شيء قد يُقدِم على فعله. وقد يظل بالفعل لعدة أسابيع أحدَ أكثر ألغاز هذه القضية الغامضة. وحسبما بدا المَشهَد، فإن تلك الأزياءَ الرسمية الرائعة بالمقارنة بالمَشهَد الخالي، الذي ترتسمُ فيه خطوطُ البحر المظلم والرمال، كان فيها ما يَستحضر إلى الأذهان الأوبرا الهزلية؛ فهي تُذكِّر المشاهِد بأوبرا «بينافور».

أما الشخص الآخر فهو أكثر تفرُّدًا؛ متفرد في مظهره نوعًا ما، على الرغم من زيه المُتقَن كمُلازِم، ولا يزال استثنائيًّا أكثرَ في سلوكه. وهو يسير بطريقة غير منتظمة ومضطربة على نحوٍ غريب؛ حيث يُبطئ أحيانًا ويسرع أحيانًا؛ كمَنْ لم يحسِم أمرَه بعدُ حولَ تخطي الأدميرال أو الاستمرار خلفه. بينما بدا الأدميرال كما لو كان أصمَّ، وبالتأكيد لم يسمعْ صوت خُطى الأقدام خلفَه على الرمال اللينة، لكن تلك الخطى، إذا اقتُفيَ أثرُها بأسلوب المحققين، فستثير عشرين تخمينًا بدءًا من احتمالِ أنها لشخصٍ به عرَج، حتى احتمال أنها لشخصٍ يرقُص. وكان وجه الرجل داكنًا ومظلمًا بفِعل الظل، بينما تجول عيناه وتلمعان بين لحظة وأخرى، كما لو أنهما تؤكدان اضطرابَه. يبدأ في الركض تارةً ثم فجأة يعاود السيرَ ببُطء ولامبالاةٍ تارة أخرى. ثم أقدم على فعلةٍ لم يكن السيد هاركر لِيتخيلَ أبدًا أن أي ضابطٍ بحريٍّ طبيعي يعمل في خدمة صاحب الجلالة البريطانية قد يُقدم عليها؛ ولو حتى في مصحَّة عقلية. فقد استلَّ سيفه.

وعند ذروة هذا الحدَث العجيب اختفى الشخصان المارَّان خلف لسانٍ على الشاطئ. واستطاع السكرتير المُحدِّق أن يلحظ لبرهة ذلك الغريبَ الأسمر البشرة، الذي عاود لامبالاته، وهو يضربُ رأسَ نبات الشنداب بنَصلِه اللامع. وقد بدا عندئذٍ أنه قد تخلَّى عن فكرة اللحاقِ بالرجل الآخر، لكن وجه السيد هارولد هاركر أصبح بالفعل مُستغرقًا في تفكير عميق؛ ووقف هناك يتأمل لبعض الوقت قبل أن يهبط بثباتٍ باتجاهِ البلدة، نحو الطريق الذي يمتدُّ لما بعدَ بوابات المنزل الكبير، ثم ينعطفُ كقوس طويل وصولًا إلى شاطئ البحر.

كان من المتوقَّع عودة الأدميرال عبر هذا الطريق المقوس قادمًا من الشاطئ، بالنظر إلى ذلك الاتِّجاه الذي كان يسير فيه، وبافتراضِ أنه عائد إلى منزله حسبما هو متوقَّعٌ بطبيعة الحال؛ فالطريق يمتدُّ بطول الرمال، وتحت ملعب الجولف، ثم ينعطف نحو البلدة بعد اللسانِ مباشرةً ثم يتحول إلى طريق عائدٍ باتجاه منزل كرافن؛ ومن ثمَّ انطلق السكرتير عبر هذا الطريق، باندفاعه المتميِّز به، كي يقابلَ صاحب عملِه أثناء عودته إلى منزله. لكن صاحب العمل، على ما يبدو، لم يكنْ في طريق عودته إلى المنزل. وأغرب من ذلك أن السكرتير لم يكنْ في طريقِ عودته إلى المنزل أيضًا، على الأقل ليس قبل مرور عدة ساعات؛ وهو تأخيرٌ طويل بما يكفي لإثارة حالةٍ من الذعر والغُموض في منزل كرافن.

خلف أعمدة ذلك المنزلِ الريفيِّ الفخم للغاية ونَخْلِه، كانت هناك، بالفعل، حالةٌ من الترقب التي تتحوَّل تدريجيًّا إلى حالة من الاضطراب وعدم الارتياح؛ فقد بدا جرايس كبير الخدم، وهو رجلٌ ضخم الجثة حاد الطباع يتجوَّل صامتًا على الدوام في كل أرجاء المنزل، قلقًا على نحوٍ ملحوظ وهو يتحرك في القاعة الأمامية الرئيسية، وينظرُ من حينٍ لآخر عبر النوافذ الجانبية للشرفة، على الطريقِ الأبيضِ الممتدِّ باتجاه البحر. أما ماريون أخت الأدميرال، التي تدير له المنزل، فلها نفسُ الأنف الطويل مثل أخيها مع تعبيرٍ أكثر تكبرًا، وهي متحدثة لبِقَة، وحديثها مسهَبٌ إلى حد ما، لا يخلو من الدعابة، وتستطيع التحدثَ فجأة بنبرة مرتفعة وحادة مثل ببَّغاء كوكاتو. وهناك أيضًا أوليف ابنة الأدميرال، وهي فتاةٌ عابسة وحالِمة، ومعروفٌ عنها الصمت والشرود، وربما النزوع إلى الحُزن؛ لدرجةِ أن عمَّتها عادةً ما تحتكر أغلبَ الحديث لنفسها ودون ممانعةٍ من جانبها، لكن الفتاة حباها اللهُ أيضًا بضحكةٍ مباغتة لها جاذبيَّتُها الأخَّاذة.

قالت السيدة الكبيرة: «لا أدري لماذا لم يعُودوا حتى الآن، لقد أخبَرني ساعي البريدِ بوضوح أنه قد رأى الأدميرالَ قادمًا عبر الشاطئ؛ مع ذلك المخلوقِ المخيف روك. تُرى لماذا ينادونه بالمُلازِم روك؟»

فأشارت الشابة المبتئسة الحزينة، مع إشراقة لحظيَّة: «ربما … ربما ينادونه بالمُلازِم روك لأنه مُلازِم.»

قالت عمَّتها بصوتٍ مُتحَشْرج، كما لو كانت تتحدَّثُ عن خادمة: «لا أدري لماذا يُبقي عليه الأدميرال؟» وقد كانت فخورةً للغاية بأخيها ودائمًا ما تُناديه بالأدميرال؛ بيدَ أن فكرتها عن المهامِّ في البحرية الملكية كانت غير دقيقة.

ردت أوليف: «حسنًا، إن روجر روك شخصٌ عابس وغيرُ اجتماعي وما شابه ذلك من صفاتٍ، لكن بالطبع هذا لا يمنع كونَه بحَّارًا ماهرًا.»

صاحت عمَّتها بإحدى صيحاتها المفاجئة الأشبه بالكوكاتو: «بحَّار! إنه لا يُطابق تصوري عن البحَّار. لقد اعتادوا وأنا صغيرةٌ أن يغنوا أغنية «الفتاة التي أحبَّت بحَّارًا» … فقط فكري في الأمر! إنه ليس بَشوشًا مبتهجًا، كما أنه ليس حرًّا، ولا أدري ماذا أيضًا. هو لا يغني أغاني البحَّارة ولا يرقصُ الرقصة المزمارية.»

ردت ابنة أخيها برصانة: «حسنًا، إن الأدميرال لا يرقصُ الرقصة المزمارية إلا فيما ندَر.»

قالت السيدة العجوز: «أوه، أنت تعرفين ما أعني؛ إنه ليسَ ذكيًّا أو مبهجًا أو أيَّ شيء. ذلك السكرتير يمكنه أن يُبلي بلاءً أفضلَ منه.»

تبدَّل وجه أوليف الحزين بواحدة من نَوْبات الضحك البهيَّة المفعَمة بالحيوية والشباب، وقالت: «أنا على يقينٍ من أنَّ السيد هاركر سيرقص الرقصةَ المزمارية من أجلك، وسيقول إنه قد تعلَّمها في غُضون نصف ساعة فقط من كُتيِّب التعليمات؛ فهو دائمًا ما يتعلَّم أشياءَ من هذا القبيل.»

ثم توقَّفتْ عن الضحك فجأة، ونظرتْ إلى وجه عمَّتها المنفعل.

وأضافت: «لا أدري لماذا لم يعد السيد هاركر؟»

ردَّت العمة: «لا يهمني أمر السيد هاركر.» ثم نهضت لتنظر من النافذة.

تحوَّل ضوءُ الأصيل من الأصفر إلى الرمادي، وهو يتحوَّل الآن إلى اللون الأبيض تحت ضوءِ القمر المتنامي، فوق مشهد الأراضي المنبسطة المترامية بجانب الشاطئ؛ والتي لم يقطَعْها سوى مجموعة من أشجار البحر الملتوية المحيطة ببِركة والممتدة إلى ما وراء ذلك، وهي هزيلةٌ ومظلمة إلى حدٍّ ما بالمقارنة بالأفق، وكذلك حانة الصيَّادين الرثَّة على الشاطئ والتي تحمل اسم «ذا جرين مان» أو «الرجل الأخضر». وقد خلا الطريقُ والمشهد كلُّه من المارة. ولم يرَ أحدٌ الشخصَ ذا القبعة الملتفَّة لأعلى الذي شُوهِدَ من قبلُ، في وقتٍ سابقٍ عند الغروب، وهو يسيرُ بجانبِ البحر؛ ولا الشخص الغريب الآخر الذي كان يتبَعُه. ولم يرَ أحدٌ حتى السكرتيرَ الذي رآهما.

كان الوقت قد تجاوزَ منتصفَ الليل عندما ظهر السكرتير أخيرًا وأيقظ أهلَ المنزل؛ وبدا وجهُه، الأبيض مثل شبحٍ، أكثرَ شحوبًا بالمقارنة مع الوجه الخالي من التعابير والهيئة المتبلِّدة لمفتش الشرطة الضخم الواقف في الخلفيَّة. وقد ظهر ذلك الوجه الأحمر الغليظ العديم التأثر كما لو أنه قناع هلاك، على نحو فاقَ حتى ذلك الوجه الأبيض المُجهَد. ونُقِلَت الأخبار إلى المرأتين بحرصٍ وعنايةٍ قدر الإمكان؛ تقديرًا للموقف، لكن فحواها أن جثة الأدميرال كرافن قد استُخرجت من بين الأعشاب المقززة والزَّبَد الراكد في بركةِ مياهٍ تحت الأشجار؛ وأنه قد غَرِق ومات.

إنَّ أي شخص يعرف السيد هارولد هاركر، السكرتير، سيُدرك أنه، أيًّا كان دافعُه، قد بدا منذ الصباح أن لديه رغبةً في أن يتصدرَ المشهد بشدَّة؛ فقد استحثَّ المفتشَ، الذي قابله في الليلة الماضية على الطريق بالقُرب من حانة الرجل الأخضر، كي يذهَبا إلى غرفة أخرى من أجل مشاورةٍ خاصة وعملية؛ حيث راح يستجوب المفتش بطريقةٍ أشبه بالتي قد يستجوبُ بها المفتشُ شخصًا ريفيًّا غيرَ مثقف، لكن المفتش بيرنز كان شخصًا هادئًا لا تُثار أعصابه بسهولة؛ وعدم استيائه من تلك التفاهاتِ يدلُّ على أنه إما غبيٌّ للغايةِ وإما ذكي للغاية. سرعان ما اتَّضح بعد ذلك أن المفتش لم يكن غبيًّا على الإطلاق كما يبدو عليه؛ لأنه قد حسَم أسئلةَ هاركر الحماسية بطريقةٍ بطيئة لكنَّها منظمة وعقلانية.

قال هاركر (بينما يمتلئُ رأسه بعدة كتيِّبات تحمل عناوين مثل «كيف تصبح محقِّقًا في عَشرة أيام»): «حسنًا، حسنًا، إنه المثلث التقليدي، حسبما أظن؛ حادثٌ، أو انتحار، أو قتلٌ عَمد.»

أجابه الشرطي: «لا أعتقد أنه حادثٌ، فلم يكن الظلام قد حلَّ بعد، والبركة تبعد خمسين ياردةً عن الطريق المباشر، وهو يحفظ معالمَه كعتبةِ داره. كما أن سقوطَه في تلك البركة لا يعدو كونَه كمَنْ ذهبَ ورقد برويَّة في بركةِ وَحْلٍ صغيرة ضَحْلة في الشَّارع. أما عن الانتحار، فإنه اقتراحٌ تستوجبه مسئوليةُ المهنة إلى حدٍّ ما، ولكنه أمرٌ غير محتمَل أيضًا؛ فالأدميرال رجلٌ مُفعَم بالحيوية وناجح وثريٌّ للغاية، وهو يكادُ يكون مليونيرًا في الواقع؛ على الرغم من أن هذا لا يُثبتُ أيَّ شيء بالطبع. وعلى ما يبدو فهو طبيعيٌّ جدًّا ويحيا حياةً شخصيةً هانئة؛ وهو آخر شخصٍ أشك في أنه قد ينتحر غرقًا.»

قال السكرتير خافضًا صوتَه في إحساس منه بالإثارة والتشويق: «ها قد وصَلْنا، حسبما أظن، إلى الاحتمالِ الثالث.»

قال المفتش ردًّا على إزعاج هاركر المتعجِّل بخصوص كل شيء: «لن نتعجل الحكم. لكن بطبيعة الحال هناك شيءٌ أو شَيئان أودُّ أن أعرِفَهما. ينبغي أن أجمع معلوماتٍ عن أملاكه، على سبيل المثال. هل تعرف مَن يُحتمَل أن يُطالِب بإرثِه فيها؟ أنت سكرتيرُه الخاص؛ فهل تعرف أيَّ شيء عن وصيته؟»

أجاب الشاب: «أنا لست سكرتيرًا خاصًّا إلى هذا الحد. فمُحاموه هم السادةُ: ويليس وهاردمان ودايك، هناك في شارع ساتفورد الرئيسي؛ وأعتقد أن الوصيةَ في حَوْزتهم.»

قال المفتش: «حسنًا، ينبغي أن أذهب لرؤيتهم في أقرب وقت.»

قال السكرتير العَجُول: «لنذهبْ لرؤيتِهم في الحال.»

وراح يجوبُ الحجرة ذهابًا وإيابًا دون توقُّف، ثم انتقل فجأةً إلى موضوع جديد.

حيث تساءَل: «ماذا فعلتَ بخصوص الجُثة أيها المفتِّش؟»

«إن د. ستراكر يفحصُها الآن في قِسم الشرطة. وقد يصبحُ تقريره جاهزًا خلالَ ساعة تقريبًا.»

قال هاركر: «ألا يمكن أن يُجهَّز في وقتٍ أقرب من هذا. قد نوفِّر الوقت إن قابلناه في مكتب المحامين.» ثم توقَّف وقد تغيرت نبرتُه المندفعة فجأةً إلى نبرةٍ يَشُوبها شيء من الارتباك.

وهو يقول: «أصْغِ إليَّ، أريد … نريد أن نفكر في الشابَّة الصغيرة، ابنة الأدميرال المسكينة، ونراعي شعورَها الآن قدر الإمكان. إنَّ لها رأيًا قد يكون محضَ هُراء، لكني لا أريد أن أخذلَها. فهي تريد أن تستشيرَ صديقًا لها يُقيم في المدينة حاليًّا. رجلٌ يُدعى براون؛ وهو قسٌّ أو كاهن من نوع ما. لقد أعطَتْني عنوانه. وأنا لا أثقُ كثيرًا في القساوسة أو الكهنة، لكنْ …»

أومأ المفتش برأسه قائلًا: «أنا لا أثقُ تمامًا في القساوسة أو الكهنة، لكني أثق كثيرًا في الأب براون؛ فقد تصادفَ أن عمل معي على حلِّ قضيةٍ من نوعٍ غريب تخصُّ سرقة حُليٍّ من صفوة المجتمع. كان ينبغي أن يصبح رجلَ شرطةٍ بدلًا من كاهن.»

قال السكرتير اللاهث بينما اختفَى من الحجرة: «أوه، حسنًا، دَعْه يأتي إلى مكتب المحامي أيضًا.»

وهكذا تصادف أنهما، عندما توجَّها مُسرعَيْن عبر المدينة المجاورة لمقابلة د. ستراكر في مكتب المحامي، وجدا الأب براون يجلسُ هناك بالفعل قابضًا بيده على مظلَّتِه الثقيلة، وهو يتجاذبُ أطرافَ حديثٍ ودي مع الشخص الوحيد الموجود من أصحاب المكتب. كما كان قد وصَل أيضًا د. ستراكر، لكن يبدو أنه قد وصل لتوِّه؛ إذ كان يضع قُفَّازيه بعناية في قبعته ويضع قبعته فوق منضدةٍ جانبية. وكانت الابتسامةُ اللطيفة والأسارير المتألقة ترتسم على وجه القس الشبيه بالقمَر ونظارته، مع الضحكات الصامتة للمحامي العجوزِ المرِح الذي اشتعل رأسه شيبًا، والذي كان يتحدَّث معه؛ كافيةً لتوضيح أن الطبيبَ لم يفتحْ فمَه بعدُ ليخبرَهم بنبأ الوفاة.

كان الأب براون يقول: «إنه صباحٌ جميل رغم كلِّ شيء، ويبدو أن العاصفة قد تجاوزَتْنا؛ فقد مرت بعض السحب السوداء الكبيرة، لكني لاحظتُ عدم سقوط قطرةِ مطر واحدة.»

وافقه المحامي الذي كان يتلاعب بقلمٍ في يده؛ وهو السيد دايك، الشريك الثالث، قائلًا: «ولا قطرة واحدة، لا توجدُ في السماء الآن سحابة واحدة. إنه يومٌ مثاليٌّ للقيام بإجازة.» ثم أدرك وجود زُوَّار فرفع ناظريه واضعًا القلم وهو يقف قائلًا: «أها، السيد هاركر، كيف حالك؟ سمعت أن الأدميرال على وشكِ العودة قريبًا.» عندئذٍ تحدَّث هاركر، ورنَّ صوتُه الأجوف في أرجاء الحجرة.

«يؤسفني أن أقول إننا نحمل أخبارًا سيئة؛ فقد مات الأدميرال كرافن غرقًا قبل أن يصلَ المنزل.»

عندئذٍ حدث تغير في جو المكتبِ الساكن، بينما ظلَّ الشخصان الواقفان على وضعيَّتِهما بلا حراك، يحدِّق كلٌّ منهما في المتحدث كما لو أن مُزحة قد تجمَّدتْ على الشفاه. وكلاهما يكرر «غَرقَ!» وهما ينظران إلى أحدِهما الآخر، ثم إلى مَنْ نقل لهما الخبر. وبعدها، ضجَّ المكان بالأسئلة.

سأل القس: «متى حدثَ هذا؟»

بينما سأل المحامي: «أين وجدتموه؟»

قال المفتش: «لقد عُثِرَ على جثمانه في تلك البِركة على الشاطئ، بالقرب من حانةِ «الرجل الأخضر»، استُخرجت الجثة وقد غطَّاها الزَّبَد والأعشاب الخضراء تمامًا؛ بحيث يصعبُ التعرف عليه تقريبًا، لكن د. ستراكر هنا قد … ما الأمر أيها الأب براون؟ هل أنتَ مريض؟»

قال الأب براون وقد انتابَتْه رجفة: «الرجل الأخضر، آسفٌ جدًّا … وأستمِيحكم عذرًا على اضْطرابي.»

سأله الضابط وهو يحدق: «وما سببُ اضطرابك؟»

قال القس مع ضحكةٍ مرتجفة: «بسبب كونه مغطًّى بالزَّبَد الأخضر، حسبما أظن.» ثم أضاف بثباتٍ أكثر: «فقد ظننت أنه ربما كان عُشبًا بحريًّا.»

في هذه اللحظة راح الجميع ينظر إلى القس، بشكٍّ ليس مستغربًا بطبيعة الحال بأنه قد جُنَّ، لكن حتى الآن لم تكنِ المفاجأة الحاسمة قد أُعلنت بعد. فبعد صمتٍ مطبق، كان الطبيب هو مَنْ تحدَّث.

د. ستراكر هو رجل مميز، حتى عند النظر إليه؛ فهو طويل جدًّا ونحيف، يرتدي زيَّه الرسمي كطبيبٍ؛ كما أنه يحافظُ على طراز لم يعد معروفًا منذ منتصفِ العصر الفيكتوري. وعلى الرغم من صِغر سنِّه نسبيًّا، فقد أطلق لحيتَه البُنية الطويلة لتسترسل فوق مِعطفه، وعلى النقيض منها كانت ملامحه، التي تجمع بين الوَسامة والقسوة، تبدو شاحبةً على نحو ملحوظ. وقد قلل من وَسامته أيضًا شيءٌ في أعماق عينيه، ليس بحَوَل لكنه يبدو كحَوَر خفيف. وقد لاحظ الجميعُ هذه الأشياء عنه؛ لأنه في اللحظة التي تكلم فيها، أعطى انطباعًا لا يُوصَف بالسُّلطة، لكن كل ما قاله هو:

«ثمة شيءٌ إضافي يجب أن يقال، إذا أردتم التفاصيلَ، عن غرق الأدميرال كرافن.» ثم أضاف بتأمُّل: «إن الأدميرال كرافن لم يمُتْ غرقًا.»

التفت المفتش مع حالة جديدة من التأهب التام، وعاجله بسؤال سريع.

فقال د. ستراكر: «لقد انتهيت توًّا من فحصِ الجثة، ووجدت أن سبب الوفاة هو طعنةٌ في القلب بنصل مدبب مثل خنجرٍ مستدقِّ الطرف. وقد أُخفيت الجثةُ في البركة بعد الوفاة مباشرة، بل بعدها بوقت قصير.»

أخذ الأب براون يتابع د. ستراكر بعين مُفعَمة بالحيوية، وهو نادرًا ما يفعل ذلك مع أي شخص؛ وعندما بدأ المجتمعون في المكتب يتفرَّقون، اصطحب هو الطبيبَ ليُجري معه حوارًا آخر قصيرًا، أثناء سيرهم في الشارع. ولم يكن هناك الكثير ليستَبْقيَهم سوى السؤال الرسمي عن الوصية. وامتُحن انعدامُ صبرِ السكرتير الشاب بعض الشيء من خلال قواعد السُّلوك المهنية للمحامي العجوز، لكن الأخير استُحِثَّ في النهاية، من خلال براعة القس أكثر من سلطة رجل الشرطة، على أن يمتنع عن تصنُّع الغموض في موضعٍ لا يشوبه غموضٌ على الإطلاق. أقرَّ السيد دايك، وهو يبتسم، بأن وصية الأدميرال هي وثيقةٌ طبيعية وتقليدية للغاية؛ حيث ترك كل شيء لابنتِه الوحيدة أوليف، وأنه ليس ثمة سببٌ محدد لإخفاء الحقيقة.

سار الطبيب والقس ببطء عبر الشارعِ الممتد من المدينة باتجاه منزل كرافن. بينما اندفع هاركر أمامَهم بكلِّ حماسته المعهودة كي يذهب إلى مكان ما، لكن الاثنين في الخلف كانا فيما يبدو مستغرقَيْن في حوارهما أكثر من الاتجاه الذي يسيرون صَوْبه. وقد كانت نبرة الطبيب الطويل غامضة حين قالَ للقس القصير بجانبه:

«حسنًا، أيها الأب براون، ماذا تعتقدُ حيالَ أمرٍ كهذا؟»

نظر إليه الأب براون باهتمامٍ لبرهة، ثم قال:

«حسنًا، لقد بدأت بالتفكير في أمرٍ أو أمرين، لكن الصعوبة الرئيسية التي تواجِهُني هي أني لا أعرف الكثيرَ عن الأدميرال؛ على الرغم من معرفتي بابنته.»

قال الطبيب بملامحَ متجهمةٍ جامدة: «إن الأدميرال حسبما يقال عنه شخصٌ ليس لديه أيُّ أعداء في العالم.»

أجاب القس: «أفترض أنك تعني وجودَ شيء آخر لن يقال.»

قال ستراكر بتعجُّل وقسوة: «أوه، إن هذا ليس من شأني. كانت لديه حالاتٌ مزاجية، حسبما أظن؛ فقد هدَّدني ذات مرة باتخاذ إجراء قانوني حيالَ إحدى العمليات، لكني أعتقد أنه فكَّر بشكلٍ أفضل في الأمر. يمكنني أن أتخيل كونه قاسيًا إلى حدٍّ ما مع مَرْءُوسيه.»

تركزت عينا الأب براون على جسد السكرتير الذي يخطو خُطًى واسعة على مسافةٍ أمامهما، وبينما هو يحدق، أدرك السببَ الخاص لتعجُّله؛ فعلى بُعد خمسين ياردة كانت ابنة الأدميرال تخطو ببطءٍ عبر الطريق أمام منزل الأدميرال. وبسرعة سار السكرتير بجانبِها، بينما راح الأب براون يشاهد الدراما الصامتة للشخصَيْن السائرين أمامه وهما يتقلَّصان مبتعدَيْن. وقد بدا السكرتير بكل وضوح متحمسًا للغاية حيالَ أمر ما، لكن وإن كان القس قد خمَّنه، فهو يحتفظُ به لنفسه. وعندما وصل إلى الناصية المؤدية إلى منزلِ الطبيب، قال باقتضاب: «لا أدري إن كان ثمة المزيد لتخبرَنا به.»

أجاب الطبيب على نحوٍ فظٍّ للغاية: «لماذا؟» وسار مبتعدًا، دون أن يوضِّح فحوى سؤاله، وما إذا كان يعني لماذا يُفترَض أن يكون لديه ما يُفصِح عنه، أم أنه يعني لماذا يُفترَض أن يُفصِح عمَّا لديه.

سار الأب براون وحده بخُطًى متثاقلة، في أعقابِ الشابِّ والشابة؛ ولكن حين وصل إلى المدخل والطريق الشجري لحديقة الأدميرال، توقَّف على إثر ما فعلته الفتاة حيث التفتتْ فجأة وسارتْ مباشرةً باتجاهه؛ وقد بدا وجهُها شاحبًا على غير المعتاد وعيناها تلمعان بإحساسٍ جديد لا يمكن وصفُه بعد.

وقالت بصوتٍ خفيض: «أيُّها الأب براون، يجب أن أتحدثَ إليك في أقربِ وقتٍ ممكن، يجب أن تستمعَ إلي؛ فليس لدي أيُّ مخرج آخر.»

فردَّ بفتورٍ كما لو أن طفلًا مشردًا قد سأله عن الساعة: «بالتأكيد. إلى أين عسانا أن نذهبَ ونتكلم؟»

قادَتْه الفتاة بشكل عشوائي إلى تعريشة متهدمة في الحديقة؛ حيث جلسا خلف ستارٍ من الأوراق الضخمة غير المنسَّقة. ثم بدأت على الفور، كما لو أنها بحاجة ماسة لأن تنفس عن مشاعرها وإلا فسيُغشى عليها.

ثم قالت: «هارولد هاركر، تحدَّثَ معي عن أشياء، أشياء رهيبة.»

أومأ القس برأسه، بينما تابعت الفتاة بسرعة: «عن روجر روك. هل تعرف شيئًا عن روجر؟»

أجاب: «لقد أخبروني عنه، يُطلق عليه رفاقه البحَّارة لقبَ روجر المرح؛ لأنه ليس مرحًا على الإطلاق، ويشبه شعارَ القراصنة ذا الجمجمة والعظمتَين المتصالبتَين.»

قالت أوليف بصوتٍ خفيض: «إنه لم يكن هكذا على الدوام، من المؤكد أن شيئًا غريبًا قد طرَأ عليه. كنت أعرفه معرفة جيدة عندما كنا أطفالًا؛ حيث اعتدنا أن نلعب هناك على الرمال. كان طائشًا متهوِّرًا، ودائمًا ما كان يتحدث عن رغبته في أن يصبح قرصانًا؛ ويمكنني القول إنه كان من النوع الذي يقولون عنه إنه قد ينجرفُ إلى الجريمةِ من خلال قراءة القصص المروعة، لكن فكرتَه عن القرصنة تحمل بعض الشَّاعرية. وقد كان آنذاك روجر المرح بحق. أظنُّ أنه كان آخر طفلٍ يريد تحقيق الأسطورة القديمة للهروب إلى البحر؛ وفي النهاية اضطرتْ عائلته للموافقة على التحاقِه بالبحرية. حسنًا …»

قال الأب براون بصبر: «نعم.»

ثم قالت، وقد استغرقتْ في واحدة من لحظاتها المرحة النادرة: «حسنًا، أظن أن روجر المسكين وجد الأمر مخيِّبًا للآمال؛ فضباط البحرية نادرًا ما يحملون السكاكين بأسنانِهم أو يلوحون بالسيوف القصيرة الدامية والرايات السوداء، لكن هذا لا يفسِّر التغيرَ الذي طرأ عليه. لقد أصبح قاسيًا؛ ومتبلِّدًا وغبيًّا، مثل رجل ميت يتجوَّلُ في الأرجاء. وهو دائمًا ما يتجنبني، لكن هذا لا يُهم. أظن أن حزنًا عميقًا لا شأنَ لي به قد حطَّم فؤاده. والآن … حسنًا، إذا كان ما يقوله هارولد صحيحًا، فإن هذا الحزن العميق ما هو إلا ضربٌ من الجنون؛ أو ربما مسٌّ من الشيطان.»

سأل القس: «وماذا قال هارولد؟»

أجابت: «إنه أمر مروِّع، لا أستطيع أن أقوله. إنه يقسم على رؤيتِه لروجر وهو يتسللُ خلف أبي في تلك الليلة وهو متردِّد، ثم سحَبَ سيفه … ويقول الطبيب إن والدي قد طُعن بنصل مدبب … ولا أستطيع تصديق أن روجر روك له أي علاقة بالأمر. إن عبوسَه وعصبية والدي كانا يؤدِّيان إلى نشوب مشاحنات بينهما في بعض الأحيان، لكن ما هي المشاحنات؟ أنا لا أقولُ على وجه التحديد إني أُساند صديقًا قديمًا؛ لأنه حتى ليس ودودًا، لكن ثمة بعض الأمور لا يسعُ المرءَ إلا أن يُوقِن بها، حتى فيما يخص شخصًا تعرفه معرفة سطحية، لكن في نهاية المطاف هارولد يقسم أنه …»

قال الأب براون: «يبدو أن هارولد كثيرُ القسم.»

ساد صمت مفاجئ، ثم قالت بعده بنبرةٍ مختلفة: «هو يقسم على أمور أخرى أيضًا. لقد تقدم هارولد هاركر لخِطبتي توًّا.»

قال رفيقها مستفسرًا: «هل عليَّ أن أهنِّئَكِ، أم أهنِّئه؟»

قالت وقد اعترَتْها مرة أخرى موجةٌ من حِسِّها الكوميدي المتناقض: «لقد أخبرته أنَّ عليه الانتظار. وهو لا يجيد الانتظار. كما قال إني عالمه المثالي، وإني كلُّ ما يطمح إليه، وهكذا. لقد عاش في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن على نحوٍ ما، أنا لا أذكر له أبدًا أن تحدَّث يومًا عن الدولارات، وإنما فقط عن الأمور التي يُؤمن بها ويراها مثالية.»

قال الأب براون برقة بالغة: «وأفترض أنكِ تودين معرفة الحقيقة بخصوص روجر قبل أن تقرِّري بشأن هارولد.»

تصلَّبَت الفتاة واكفهرَّت، ثم ابتسمت فجأة وهي تقول: «أوه، أنت تعرف الكثير.»

قال القس بجدية: «أنا لا أعرف سوى القليل، لا سيَّما في هذه القضية. فأنا أعرف فقط مَنْ قتلَ والدك.» قفزت واقفةً وهي تحدق فيه بشحوب. وبدا على وجهِه الامتعاض وهو يسترسل: «لقد بدوتُ كالأحمق عندما أدركت الأمرَ في البداية؛ وهم يسألون عن مكان العثور على الجثَّة، وأخذت أتحدث عن الزَّبَد الأخضر والرجل الأخضر.»

ثم وقف هو أيضًا، ممسكًا بمظلته غير المتقنة الصنع بعزمٍ جديد، ثم خاطب الفتاة بثبات قائلًا: «هناك شيء آخر أعرفه، وهو مفتاح كل ألغازِك؛ لكني لن أخبرك به الآن. وأفترض أنه خبرٌ سيِّئٌ، لكنه ليس بقدر السوء الذي عليه الأشياء التي كنت تتخيَّلينها.» ثم زرَّ معطفه واستدار باتجاه البوابة وهو يقول: «سأذهب لمقابلة صديقِك السيد روك. في كوخ على الشاطئ، بالقرب من المكان الذي رآه السيد هاركر يَسير فيه. أعتقد أنه يعيش هناك.» وتحرَّك بحيويةٍ صوب الشاطئ.

إن أوليف شخصية واسعة الخيال، ربما إلى الحد الذي يصعب معه تركُها لتأملاتها في تلك التلميحات التي ألقاها صديقُها على مسامعها، لكنه كان في عجلةٍ من أمره كي يجد أفضل سبيلٍ للترويح عن أفكارها وتأملاتها. وقد سيطرت على مخيِّلتها الصلةُ الغامضة بين أول تصور عن القاتل طرأ على ذهنِ الأب براون وبين لغةِ الصدفة فيما يخُص البركة والحانة، فتراءت لها في صورة مئات الأشكال الرمزية القبيحة؛ حيث أصبح الرجل الأخضر شبحًا يجرُّ أعشابًا مقززة ويتجول في الريف تحتَ القمر، وأصبحت لافتةُ الرجل الأخضر جسدًا بشريًّا يتدلَّى من مشنقة، وأصبحت البركة نفسها حانةً؛ حانة مظلمة تحت الماء للبحارة الأموات. ومع ذلك فقد اتخذ الطريقَ الأسرع على الإطلاق للإطاحة بكل هذه الكوابيس، مع دفقة من ضوء النهار الخاطف للأبصار والذي بدا أكثر غموضًا من الليل.

وقبل غروب الشمس، كان شيءٌ قد عاد إلى حياتها ليقلب عالمها رأسًا على عقبٍ من جديد؛ شيء لم تكن تعرفُ أنها ترغب فيه إلى أن مُنِحَتْه فجأة؛ شيء قديم ومألوف مثل الحلم، ومع ذلك ظلَّ غامضًا وغير معقول. حيث عاد روجر روك يخطو عبر الرمال، وحتى عندما بدا عن بُعد مثل نقطة؛ علمتِ الفتاة أنه قد تغيَّر، وكلما اقتربَ أكثر فأكثر، رأتْ وجهه المظلم قد دبَّتْ فيه الحياة من جديد فملأته ضَحِكًا وبهجة. وتوجَّه إليها مباشرةً كما لو كانا لم يفترقا على الإطلاق، ثم أمسَكَ كتفيها وهو يقول: «الآن أستطيع الاعتناء بكِ، حمدًا لله.»

لم تعرف بماذا أجابت، لكنها سمعتْ نفسها تتساءل باستغراب نوعًا ما: «لماذا تبدو مختلفًا وسعيدًا إلى هذه الدرجة؟»

أجاب قائلًا: «لأنني سعيد. لقد سمعت الأخبار السيئة.»

وجد جميع الأطراف المعنية، ومن بينهم بعض الذين بدَوْا غير معنيين إلى حدٍّ ما، أنفسَهم مجتمعِين على طريق الحديقة المؤدي إلى منزل كرافن، للاستماع إلى الصيغة الرسمية، التي صارت الآن رسمية حقًّا، لقراءة المحامي للوصية؛ والتكملة المحتملة والأكثر عمليةً لرأي المحامي بشأن الأزمة. وإلى جانب المحامي ذي الشَّعر الرمادي نفسه، المسلَّح بوثيقة الوصية، كان هناك المفتش المسلَّح بسلطةٍ ذات صلة أكبر بالجريمة، والمُلازِم روك الذي صار يُجاهر باهتمامه بالسيِّدة في غير مواربة؛ كما اندهش البعض من رؤية قامة الطبيب الطويلة، بينما ابتسم البعض قليلًا عند رؤيةِ قامة الكاهن الضئيلة الممتلئة. وقد كان السيد هاركر، المرسال الطائر (الأشبه بتمثال الإله ميركيوري الطائر عند الإغريق)، قد انطلقَ إلى بوَّابات المنزل من أجل مقابلتهم، وتوجيههم نحو الحديقة، ثم استبَقَهم مرة أخرى ليجهِّز لاستقبالِهم. وهو يقول إنه سيعود في لمحِ البصر، ويمكن لأيِّ شخص يرى مدى سرعته وحيويته أن يصدِّق ذلك؛ ولكن، في اللحظة الراهنة، تُركوا منتظرِين في الحديقة خارج المنزل.

قال المُلازِم: «إنه يذكِّرني بمَنْ يركض لإحراز نقاطٍ في لعبة الكريكيت.»

قال المحامي: «هذا الشاب منزعج إلى حدٍّ ما من تراخي الإجراءات القانونية وبطئِها على النحو الذي لا يُواكب سرعته. ولحسنِ الحظ، فإن الآنسة كرافن تفهم الصعوباتِ والمعوِّقات التي نلاقيها في مِهنَتنا. لقد أكدتْ لي بلطف أنها لا تزال تثقُ في بطء إجراءاتي.»

قال الطبيب فجأة: «أتمنى لو أن لديَّ نفسَ الثقة في سرعته.»

سأل روك عاقدًا حاجبَيْه: «لماذا، ماذا تقصد؟ هل تقصد أن هاركر سريع جدًّا؟»

قال د. ستراكر بأسلوبه المبهم نوعًا ما: «سريع جدًّا وبطيء جدًّا. أعرف مناسبةً واحدة على الأقل لم يكن فيها سريعًا جدًّا. لماذا كان يتسكَّع حتى منتصف الليل عند البركة وحانة «الرجل الأخضر»، قبل أن يأتي المفتش ويعثر على الجثة؟ لماذا التقى المفتشَ؟ لماذا يتوقع أن يقابل المفتش خارج الحانة؟»

قال روك: «أنا لا أفهمك. هل تقصد أن هاركر لم يكن يقولُ الحقيقة؟»

ظلَّ د. ستراكر صامتًا. فضحك المحامي الأشيَبُ بروح الدعابة المثيرة للاشمئزاز، ثم قال: «ليس لديَّ شيء أكثر جدية لأقوله ضدَّ الشاب من أنه قام بمحاولةٍ سريعة وجديرة بالثناء ليُعلمني مهنتي.»

قال المفتش، الذي كان قد انضمَّ للتو إلى المجموعة في المقدمة: «على ذكر ذلك، لقد حاول أن يعلمني مهنتي أيضًا، لكن هذا لا يهم. أما إذا كان د. ستراكر يعني أيَّ شيء من وراء تلميحاته هذه، فهذا ما يهم. ويجب أن أطلبَ منك التحدث بصراحة، أيها الطبيب. قد يكون من واجبي أن أستجوبَه في الحال.»

قال روك، بينما ظهر السكرتير المنتبه مرةً أخرى عند المدخل: «حسنًا، لقد أتى.»

هنا، أذهل الأب براون، الذي ظل صامتًا وغير ظاهر في نهاية الموكب، الجميعَ، ربما بالأخص أولئك الذين يعرفونه؛ فهو لم يكن يسيرُ بسرعة إلى الأمام فحسب، بل تحوَّل مواجهًا المجموعة بأكملها بتعبيرٍ يشبه التهديد كما لو كان سيُلقي القبض عليهم، أو مثل رقيب يُوقِف الجنود.

ثم قال بصرامة: «توقفوا! أعتذر للجميع، ولكن من الضروري بالتأكيد أن أرى السيد هاركر أولًا. يجب أن أخبرَه بشيء أعرفه؛ ولا أعتقد أنَّ أي شخص آخر يعرفُه، شيء يجب أن يسمعه؛ فربما يوفر هذا سوء الفهم المأساوي تجاه شخص ما في وقتٍ لاحق.»

سأل المحامي العجوز دايك: «تُرى ما الذي تقصده؟»

قال الأب براون: «أعني الأخبارَ السيئة.»

بدا المفتش ساخطًا وقال: «هنا … أقول.» ثم نظر فجأة إلى عين القس وتذكَّر أشياء غريبة رآها في أيام مضت. فاستطرَد قائلًا: «حسنًا، إذا كان أي شخص في العالم سِواك، فربما كان يجدر بي أن أقول بكل وقاحةٍ جهنمية …»

لكن الأب براون كان بالفعل قد تركَهم، وبعد ذلك بلحظة انهمك في الحديث مع هاركر في الشُّرفة. حيث سارا معًا ذهابًا وإيابًا لبضع خطوات ثم اختفيا في الأرجاء الداخلية المظلمة. وبعد نحو اثنتي عشرة دقيقة خرج الأب براون بمُفرده.

ولدهشتهم، لم يبدِ أيَّ رغبة في دخول المنزل مرة أخرى، حيث كانت الصحبة بأكملها على وشك دُخوله. وقد ألقى بنفسه على المقعد المتهالك إلى حدٍّ ما في التعريشة المُورِقة، ومع اختفاء الموكب عبر المدخل، أشعل غليونًا وشرع في التَّحديق بخواءٍ في الأوراق الطويلة الممزقة حول رأسه والاستماع إلى الطيور. ولم يكن هناك رجلٌ لديه رغبة صادقة وقوية لعدم القيام بأي شيء أكثر منه هو.

وقد غرق، على ما يبدو، في سحابةٍ من الدخان وحلم مجرد، عندما فُتِحَت الأبواب الأمامية مرة أخرى وخرج منها شخصان أو ثلاثة وهم يركضون نحوه بتعجُّل، حيث فازت ابنة المنزل ومعجبها الشاب السيد روك بسهولة في السِّباق. وقد علت وجهَيْهما الدهشة؛ بينما كان وجه المفتش بيرنز، الذي تبعهما بخطواتٍ أشدَّ بطئًا، مثل فيل يهزُّ الحديقة، يموج ببعض السخط أيضًا.

صاحت أوليف بعد أن توقفتْ وهي تلهث: «ما معنى هذا كله؟ لقد رحل!»

قال المُلازِم منفعلًا: «لقد فرَّ! حزمَ هاركر حقيبةً وفرَّ! خرج من الباب الخلفي وعبر جدار الحديقة واللهُ وحدَه يعلم أين ذهب. ماذا قلت له؟»

قالت أوليف، مع تعبير أكثر قلقًا: «لا تكن سخيفًا! بالطبع أخبرتَه أنك ستكشفه، وها هو الآن قد رحَل. لم أكن لأصدق أبدًا أنه شريرٌ هكذا!»

قال المفتش لاهثًا، وقد أصبح بين ظهرانَيْهم: «حسنًا! ماذا فعلت الآن؟ من أجل ماذا خذلتني هكذا؟»

كرَّر الأب الكلام قائلًا: «حسنًا، ماذا فعلت؟»

صاح بيرنز، بجزم وبصوتٍ أشبه بصوت الرعد في الحديقة الهادئة: «لقد تركت قاتلًا يهرب، ساعدت قاتلًا على الفِرار. وأنا مثل الأحمق سمحت لك بتَحذيره؛ والآن هو على بُعد أميال.»

قال الأب براون: «لقد ساعدتُ بعضَ القتلة في حياتي، هذا صحيح.» ثم أضاف بتمييز دقيق: «ولكني لم أساعدهم على ارتكابِ الجريمة، لعلكَ تفهم.»

قالت أوليف في إصرار: «لكنك كنت تعلم طوال الوقت، لقد خمَّنت منذ البداية أنه هو بالتأكيد. هذا ما قصدته حول كونِك مستاءً من عملية العثور على الجثة. وهذا ما كان يقصدُه الطبيب بقوله إن والدي ربما كان ممقوتًا من أحد المرءُوسين.»

قال الضابط بسخط: «هذا ما أشتكي منه، لقد كنتَ تعلم حينذاك أنه كان …»

قالت أوليف في إصرار: «كنت تعلم حينذاك أن القاتِل …»

أومأ الأب براون بثبات، وقال: «نعم كنت أعلم حينذاك أن القاتل هو دايك العجوز.»

قال المفتش: «مَنْ؟» ثم توقَّف وسطَ صمت تام، لم تقطعه سوى تغريداتِ العصافير.

قال الأب براون موضحًا، كمَنْ يشرح أحد الأمور الأساسية لفصل الأطفال: «أعني السيد دايك، المحامي، ذلك الرجل ذا الشعر الرمادي الذي يُفترَض أنه مَنْ كان سيقرأُ الوصية.»

وقفوا جميعًا مثل التماثيل وهم يحدِّقون فيه، وهو يملأ غليونه بعناية مرة أخرى ويشعل عودَ ثقاب. وفي النهاية، حشد بيرنز قدرته الصوتية لكسر الصمت الخانق بجهدٍ يشوبه العنف.

ثم قال: «ولكن لماذا؟ بحق السماء!»

قال الكاهن وهو ينهض بتمعُّن، وينفخ في غليونه: «أها، لماذا؟ فيما يخص السبب الذي جعله يفعل ذلك … حسنًا، أظن أن الوقت قد حان لإخبارِك، أو لمَن لا يعرف منكم، الحقيقة التي هي مفتاحُ كل هذه القضية. إنها مصيبةٌ كبرى، وجريمة عظيمة، لكنها ليست مقتل الأدميرال كرافن.»

ثم نظر إلى وجهِ أوليف وقال بجدية شديدة: «سأخبركِ بالأخبار السيئة بصراحةٍ وبكلماتٍ مقتضبة؛ لأنني أعتقد أنكِ شُجاعة بما فيه الكفاية، وربما سعيدةٌ بما يكفي، لاحتمالها على النحو الجيد. فأنتِ لديكِ الفرصة، وأعتقد القدرة، لتصبحي امرأةً عظيمة. أنتِ لستِ وريثة عظيمة.»

ثم وسط الصمت الذي أعقب ذلك، كان هو مَن استأنف تفسيرَه.

«يؤسفني القول إن معظمَ أموال والدك قد ضاعتْ. أضاعتها خفَّةُ اليد المالية للرجل الأشيب المدعو دايك، الذي يؤسفني القول أيضًا إنه مُحتال. إن الأدميرال كرافن قد قُتِلَ لإسكاته؛ كي لا يفضح الطريقة التي احتيل عليه بها. وحقيقة أنه قد أفلس وأنكِ قد حُرمتِ من الإرث هما الدليل البسيطُ الوحيد، ليس فقط على القتل، ولكن على جميعِ الألغاز الأخرى في هذه القضية.» أخذ نفَسًا أو اثنين ثم واصل حديثه.

«لقد أخبرت السيد روك أنكِ حُرمتِ من الإرث، فهرعَ عائدًا لمساعدتك. إن السيد روك شخصٌ مميَّز.»

قال السيد روك بأسلوب فَظٍّ: «أوه، دعكَ من هذا.»

قال الأب براون بهدوءٍ علمي: «إن السيد روك هو مخلوقٌ خيالي؛ فهو رجلٌ في غير زمانه الصحيح، هو ارتدادٌ إلى صفاتِ الأسلاف، هو أحد الناجين من العصر الحجَري الذي لا يزالُ على سجيته. إذا كانت ثمة خرافةٌ بربرية واحدة نفترض جميعًا أنها قد انقرضت واندثرت تمامًا في هذه الأيام، فهي ذلك المفهومُ الذي يجسده عن الشرف والاستقلال، ولكن انهالت على ذِهني بعدَ ذلك العديد من الخرافات البائدة والمعتقدات البالية، مما أصابني بالارتباك. إن السيد روك هو حيوانٌ منقرض. إنه ديناصور بليسوسور. فهو لم يكن يريد أن يعيش على ثروة زوجتِه، أو أن يصبح لديه زوجة يمكن أن تطلق عليه لقب «صائد ثروات»؛ لذلك فقد استاء بطريقة مشوَّشة ولم ينخرطْ في الحياة مرة أخرى إلا عندما جلبت إليه الأخبار السارَّة بأنكِ قد أفلستِ. لقد أراد أن يعملَ من أجل أن يعول زوجته لا أن يصبح أحدَ مقتنياتها. أمرٌ منفِّر، أليس كذلك؟ إذن دعونا ننتقل إلى الموضوع الأكثر إشراقًا عن السيد هاركر.

لقد أخبرت السيد هاركر بأنكِ حُرمتِ من الإرثِ، فاندفع بعيدًا في حالة من الذعر. لا تحكمي على السيد هاركر بقسوة. إنَّ لديه في الواقع تطلعاتٍ جيدة وأخرى سيِّئة، لكنها مختلطة بعضها ببعضٍ. لا ضررَ من وجود طموحات، ولكن كان لديه طموحاتٌ أطلق عليها مثاليات. إنَّ الحس القديم بالشرف قد علَّم الرجال التشكيكَ في النجاح؛ علَّمهم أن يقولوا «هذه فائدة؛ فلعلَّها تكون رشوة.» لكن الهراءَ الجديد الملعون تسعَ مرات حول إحراز النجاح يعلِّم الرجال الربطَ بين مفهوم أن تكون رجلًا ناجحًا ومفهوم أن تجني مالًا. هذا هو كلُّ شيء؛ هذا هو ما ألمَّ به، أما بخلاف ذلك فهو شخص جيد تمامًا، وهناك الآلاف مثله. حيث لا تكون تطلعاتُ المرء الطموحة وسعيه الدءُوب نحو تحقيق الثراء سوى ارتقاء بمستواه المعيشي والاجتماعي. والزواج من زوجة جيدة وغنية ما هو إلا نجاحٌ، لكنه لم يكن وغدًا أنانيًّا؛ وإلا كان سيعود ببساطة ثم يهجركِ أو يجرحُكِ حسبما يتراءَى له. هو فقط لم يستطع مواجهتَكِ. وبينما كنتِ لا تزالين هنا، لم يبقَ من عالمه المثالي المُحطَّم سوى نصفِه.

لم أخبر الأدميرال، ولكن شخصًا ما فعلَ ذلك؛ فقد وصل إليه الخبر بطريقة أو بأخرى، خلال الاستعراضِ الكبير الأخير على متنِ السفينة، بأن صديقه محامي العائلة قد خانَه؛ فانفعل انفعالًا عارمًا لدرجة أنه قام بما لم يكن ليقوم به على الإطلاق في حالتِه الطبيعية؛ حيث جاء مباشرةً إلى الشاطئ بقبَّعته الملتفة والشريط الذهبي للقبض على المجرم، وأرسل برقية إلى مركز الشرطة؛ ولهذا كان المفتش يتجوَّل حول حانة «الرجل الأخضر». وقد تبِعه المُلازِم روك على الشاطئ؛ لأنه اشتبه في وجود بعض المشكلات العائلية، وهو بين أملٍ ويأس في أن تسنح له فرصة المساعدة؛ ومن ثمَّ يستطيع تصحيح صورته. ومن هنا جاءَ سلوكه المتردِّد. أما عن استلاله لسيفِه عندما كان يتبعُه بالخلف وظنَّ أنه بمفرده، حسنًا، فهذا مجرد خيال؛ فهو شخصٌ رومانسي يحلم بالسيوف والهُروب إلى البحر، لكنه وجدَ نفسه في خدمة لم يُسمح له فيها حتى بامتشاقِ السيف إلا مرة واحدة خلال ثلاث سنوات. لقد ظنَّ أنه بمفرده على الرمال، فأخذ يلعب كما لو كان صبيًّا. إذا كنتم لا تفهمون ما فعلَه، فلا يسعني إلا أن أقول، مثل ستيفنسون: «لن تصبح قرصانًا أبدًا.» كما أنك لن تصبح شاعرًا أبدًا، ولم تكن طفلًا قط.»

أجابت أوليف بجدية: «لم أكن قط، لكن أعتقدُ أني قد فهمت.»

تابعَ القس متأملًا: «كل إنسان تقريبًا سيلعبُ بأي شيء له شكل سيف أو خنجر، حتى لو كان سكينًا من ورَق. لهذا السبب اعتقدتُ أنه من الغريب جدًّا أن المحامي لم يفعلْ ذلك.»

سأله بيرنز: «ماذا تعني؟ لم يفعل ماذا؟»

أجابَ براون: «لماذا؟! ألم تلاحظ، في ذلك الاجتماع الأول في المكتب، لعب المحامي بقلمٍ وليس بسكينٍ من ورقٍ؛ على الرغم من أنه كان يمتلك سكينًا من ورقٍ، فولاذيًّا لامعًا جميلًا على شكل خنجر مستدق الطرف؟ وكانت الأقلام متْربة ومغطاة بالحبر؛ بينما كان السكين قد نُظِّفَ للتو. ورغم ذلك لم يلعبْ به. هناك حدود للمفارقات التي تُحيط بالقتلة.»

بعد صمتٍ قال المفتش، وكأنه شخص استيقظ لتوه من حلم: «انظر هنا … أنا لا أعرف ما إذا كنت أقفُ على رأسي أم عَقِبي؛ لا أدري إن كنت تظن أنك قد وصلتَ إلى النهاية أم لا، لكني لم أصِلْ إلى البداية حتى. من أين حصلت على كل هذه المعلومات عن المحامي؟ ما الذي جعلك تنطلق خلفَ هذا الأثر؟»

ضحكَ الأب براون بأسلوب فظٍّ خالٍ من المرح.

ثم قال: «القاتل أخطأ في البداية، ولا أدري لماذا لم يلاحظْه أحد. عندما أعلنتَ خبر الوفاة في مكتب المحامي، لم يكن من المفترض أن أحدًا يعرف أي شيء هناك، باستثناء أنه من المتوقع عودة الأدميرال إلى المنزل في أي وقت. وعندما قلتَ إنه مات غرقًا، سألتُ متى حدَث ذلك، بينما سأل السيد دايك عن مكانِ العثور على الجثة.»

توقَّف للحظة لينفض غليونه، ثم استأنف متأملًا: «الأمر ببساطة أنهم عندما يخبرونك أنَّ بحَّارًا قد غرقَ، في طريق عودته من البحر، فمن الطبيعي أن تفترض أنه قد غرِق في البحر. على أيةِ حال، لنسلِّم جدلًا أنه ربما غرقَ في البحر. إذا كان قد جُرِفَ من فوق سطحِ السفينة، أو ابتلعه البحر مع سفينته، أو رقد جسدُه في الأعماق، فما من سببٍ إذن لتوقع العثور على جسَده على الإطلاق. وفي اللحظة التي سأل فيها الرجل أين عُثِرَ على الجثة، كنت متأكدًا أنه يعرف مكانَ العثور عليها؛ لأنه هو مَنْ وضعها هناك؛ إذ ما كان ليخطر ببال أحد سوى القاتل أن يحدث مثل ذلك الأمرِ غير المُحتمَل؛ حيث يغرق بحَّار في بركة خضراء على بُعد بضع مئات الياردات من البحر. كان هذا هو سببَ شعوري فجأةً بالإعياء وتحولي إلى اللون الأخضر. وربما يسعني أن أقول: أخضر مثل «الرجل الأخضر»؛ فأنا لا أستطيع أبدًا أن أستأنس وجودي فجأة بجوار قاتل؛ ولذا، اضطررت لمواجهة الإعياء بالحديث عبر الأمثلة الرمزية، لكن المثلَ الرمزي أصبح يعني شيئًا، في نهاية المطاف. حيث قلت إن الجثة كانت مغطَّاة بالزَّبَد الأخضر، ولكن ربما كانت مجردَ أعشاب بحرية.»

من حُسن الحظ أن المأساة لا يمكنها أبدًا قتلُ الكوميديا وأن الاثنتين يمكن أن تسيرا جنبًا إلى جنب؛ فبينما ذُهِلَ الشريك المفوَّض الوحيد عن أعمال السادة ويليس، وهاردمان، ودايك؛ عندما دخل المفتش إلى المنزل لاعتقاله، كانت أوليف وروجر ينادِي أحدُهما الآخرَ فوق الرمال في المساء، مثلما كانا يَفعلان معًا وهما طفلان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤