العرَّاف

«… ورأيت الناس يستولي عليهم حزن عميق، وقد وهنت قوى خيارهم فيما يعملون، فانتشر تعليم يؤدي إلى الإيمان في أن كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال، فتجاوبت الأصداء في الهضبات مرددة: كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال.

لقد حصدنا ولكن غلالنا أكمد لونها وتهرأت، فأي شيء تساقط تحت جنح الظلام من وراء كوكبه اللئيم؟

لقد ذهبت جهودنا سدًى، وفسد خمرنا فاستحال سمًّا زُعافًا، فكأن عينًا حاسدة أصابت حقولنا وقلوبنا فأَذْوَتْها.

جففنا جميعنا فإذا نزلت بنا حارقة فلا يتطاير منا غير الرماد، لقد تعب منا كل شيء حتى لسان اللهيب.

غاضت الينابيع أمامنا وتراجع البحر عنا، وقد زلزلت الأرض تحت أقدامنا، ولكنها لم تفغر فاها لتوارينا، فمن لنا ببحر نغرق فيه، إننا نصرخ طالبين البحر فيذهب صوتنا بددًا على سطوح المستنقعات.

والحق أننا بذلنا أقصى جهودنا طلبًا للموت ولما نزل جثثًا تحيا وعيونها جاحظة طي اللحود.»

هذا ما قاله أحد العرافين، فذهب قوله نافذًا قلب زارا فبدَّله تبديلًا، وأصبح زارا حزينًا متعبًا يضرب في الأرض شبيهًا بمن ذكرهم العرَّاف في نبوءته.

وقال زارا لأتباعه: لن يمضي زمن طويل حتى ينسدل هذا الغسق القاتم على وجه الأرض، وأنا أحاذر ألا أجد وسيلة للعبور بنوري إلى ما وراءه فأنقذه من الانطفاء. هل من حافظ له بين هذه الأحزان وأنا قد أعددته ليضيء في العوالم البعيدة ويشعَّ في طيَّات الظلام السحيق.

وسار زارا شاردًا يحمل همَّه في قلبه، فأمضى ثلاثة أيام لا يذوق فيها طعامًا ولا شرابًا ولا يعرف الراحة حتى وقف لسانه عن الكلام، فاستغرق في نوم عميق وجلس صحبه حوله يسودهم القلق طوال الليالي متوقعين أن يفيق ليردوه عن أحزانه.

وأفاق أخيرًا فخاطبهم بصوت كأنه ترديد صدًى بعيدٍ قائلًا: «أصغوا إليَّ، أيها الصحاب، لأقصَّ عليكم ما رأيت في حلمي وساعدوني على تعبيره، فإن حلمي قد أُغمض عليَّ ولم يزل مَعْناه كامنًا فيه.

رأيتني هجرت الحياة واخترت مهنة حارس للقبور على الجبل المقفر حيث يرتفع قصر الموت، فكنت أحرس النعوش وهي أسلاب النصر تغص بها الدهاليز المظلمة، فكنت أرى الساقطين في معترك الحياة المسجَّين في التوابيت المغطاة بالزجاج يحدجونني بنظراتهم المروعة، وهنالك نشقت عرف الأبدية غبارًا يتطاير على روحي فيرهقها، ولا أستطيع أن أنفض عنها هذا الغبار الثقيل.

وكانت أصداء الليل تدور بي ومعها شبح العزلة والانفراد، فكان رفيقي سكون الموت تتعالى فيه من حين إلى حين حشرجة المُدنَفين.

وكنت أحمل المفاتيح وقد علاها الصدأ أعالج بها أصلب الأبواب؛ فتصرف مصاريعها بصراخ أبح لئيم يذهب مدوِّيًا في الدهاليز كأن الدَّرَفات أجنحة أطيار تنكمش وتنعق متململة ممن يريد تنبيهها من رقادها.

وعندما كان يخيم السكوت بعد هذا الدوي كان يبلغ رعبي أشدَّه، فأبقى وحدي محاطًا بهذا الصمت الرهيب.

ومر الزمان متمهلًا، لو صح أن في مثل هذه الرؤى زمان، إلى أن وقع ما أفقت له مذعورًا.

قُرع الباب ثلاث مرات بدويٍّ كأنه الرعد القاصف، فهتفت الدهاليز ثلاث مرات بصدًى كأنه الزئير، وتقدمتُ إلى القفل أعالجه فلم يتزحزح قيد أنملة، وهبت العاصفة بشدة فدفعت بالمصراعين ورمت إليَّ بنعش أسود، وقد تصدَّع الهواء بالصفير والولولة وسقط النعش فانحطم وخرجت منه آلاف من القهقهات، فرأيت آلافًا من الأطفال والملائكة وطيور البوم والمجانين والفراشات الضخمة يطفِرون حولي ساخرين.

واستولى الخوف عليَّ فإذا أنا مطروح على الأرض أصرخ صراخًا مريعًا، فانتبهت لصوتي مذعورًا.

وسكت زارا لحظة وهو حائر، فإذا بأحبِّ أتباعه إليه ينهض ويقبض على يده قائلًا: «إن تعبير رؤياك إنما هو في حياتك نفسها يا زارا، أفلست أنت النعش، وقد حشدت الحياة فيها سيئاتها وعبوس ملائكتها؟ أفليس زارا يجتاح اللحود مقهقهًا كالأطفال ساخرًا بالساهرين على القبور الخافرين لها، مستهزئًا بكل من تقرقع المفاتيح في أيديهم.

لسوف يذعر هؤلاء الناس منك فيطرحهم ضحكُك أرضًا فيُغمى عليهم، ثم ينتبهون وبذلك يثبت عليهم سلطانك.

لقد اطلعت لنا كواكب جديدة في الآفاق ونشرت من الليل ما كنا نجهله من البهاء، والحق أنك مددت ضحك فوق رءوسنا فأظلَّنا بعديد ألوانه، فمنذ الآن ستتعالى قهقهة الأطفال من النعوش وستعصف من الجهود القاتلة الريح التي نتوقعها.

لقد مثَّلت نفسُك أعداءَك فأزعجتك رؤياك، ولكنك انتبهت منسلخًا عنهم وعدت إلى روعك، وهم أيضًا سينتبهون فيرجعون إليك.»

هكذا تكلم التابع، فدار سائر الأتباع بزارا يشدون على يديه محاولين إقناعه بالنهوض من فراشه والانسلاخ عن أحزانه ليعود إليهم، غير أن زارا بقي جالسًا على فراشه وعيناه جاحظتان كأنه عائد من سفر بعيد لا يعرف ممن حوله أحدًا، ولكن أتباعه رفعوه وأوقفوه؛ فانتبه فجأة وتغيرت سحنته فمد يده يداعب شعر لحيته ورفع عقيرته قائلًا: كل هذا سيكون عندما يحين زمانه، فأعدُّوا لنا غذاء طيبًا الآن لأكفِّر عن الرؤيا التي رأيت، غير أن العرَّاف سيجلس إلى جنبي ليأكل ويشرب معي وسأريه بحرًا يغرق فيه نفسه.

هكذا تكلم زارا …

ولكنه حدَّق في وجه تابعه الذي عبر له حلمه، حدَّق به طويلًا وهو يهزُّ رأسه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤