أقبح العالمين

وعاد زارا يتوغل في الأحراش وبين الجبال مرسلًا أبصاره إلى كل جهة دون أن يعثر على الصارخ المستنجد، غير أنه كان يقفز في سيره فرحًا وهو يقول: لقد كفَّر هذا النهار عن سيئات صباحه، فما أغرب من تحدثت إليهم في طريقي، ولسوف ألوك كلماتهم وأمضغها حتى أزدرها غذاء لنفسي.

ولما وصل زارا إلى منعطف سبيلٍ تصدُّه صخرة عالية انكشف له مشهد جديد رأى فيه نفسه في مملكة الموت؛ إذ صدمت أبصاره مهاوٍ حمراء دكناء ليس عليها شجرة ولا نبتة ولا يُسمع فيها صياح طير أو زقزقة عصفور، وقد نفر من ذلك الوادي كل ذي حياة حتى الوحوش فما كان يرتاده من حين إلى حين إلا الأفاعي الجسيمة الخضراء عندما كانت تحس بالهرم وتطلب الفناء، ولذلك دعى الرعاة هذا الوادي مقبرة الأفاعي.

وراودت مخيلة زارا تذكارات قديمة وشعر بأنه قد مر بهذا الوادي فيما مضى، فأُثقل دماغه وبدا يتباطأ في سيره حتى امتنع عليه نقل قدميه فإذا به يفتح عينيه فجأة، فيرى على حافة الطريق شخصًا له وجه إنسان وليس له من هيئة البشر شيء كائنًا لا اسم له بين أسماء الكائنات، واستولى على زارا نوع غريب من الخجل، فاستحت عيناه مما رأتا فاحمر وجهه حتى منابت شعره الأبيض، فتولَّى وأراد أن يبارح هذا المكان فإذا به يسمع صوتًا كالهدير أو كبفية المياه إذا سُدَّت مجاريها، وما عتم حتى استحال هذا الصوت إلى نبرات تشبه الكلام وهي تقول: أيْ زارا … أي زارا … حلَّ رمزي إذا قدرت وأعلن الحقيقة عن «الانتقام من الشاهد».

قف مكانك وتراجع إلى الوراء فالأرض متجلدة أمامك، حاذر أن ينزلق غرورك عليها فتنكسر قوائمه.

أنت تحسب نفسك حكيمًا يا زارا، فحل الرمز المعروض عليك، إذا كان لك أن تكسر أصلب القشور لاكتشاف نواتها فقل لي من أنا.

وما سمع زارا هذه الكلمات حتى هزَّه الإشفاق هزًّا؛ فهوى على الحضيض كشجرة توالت على جزعها ضربات الفئوس، ولكنه ما هوى حتى نهض وقد ارتسمت القساوة على وجهه فقال: لقد عرفتك يا هذا، فأنت قاتل الإله، دعني منك فأنا متولٍّ عنك، لقد ثقل عليك أن يكون هنالك من لا يزال ينظر إليك ويتفرس في قبحك، وأنت أقبح العالمين، فأقدمت على الانتقام من هذا الشاهد.

قال زارا هذه الكلمات وتحفَّز للسير، ولكن الكائن الذي لا اسم له تمسك برجليه وصاح به متمتمًا: لا تذهب، ابقَ هنا فقد عرفت ما هي الصدمة التي ألقتك صريعًا، مرحى لك لأنك تمكنت من النهوض، لقد أدركت ما يشعر به قاتل إلهه، تعالَ واجلس إلى جانبي، إنك لن تضيِّع أوقاتك معي سدًى؛ لأنني إذا لم أتوجه إليك فإلى من أتجه، اجلس ولكن لا تنظر إليَّ، فإنك لتكرِّم قبحي بإغضائك عنه.

إنهم يطهدونني، وقد أصبحت أنت الآن ملجئي الأخير، إنهم يطهدونني لا بحقدهم ولا بقوة جندهم وما تهمني هذه القوة، بل إنني لأفخر بمصادمتها لي وأُسرُّ، وهل في العالم نجاح يضاهي نجاح المطهَدين مجدًا؟ إن المطارِد ينتهي بالمتابعة وهو الراكض دومًا وراء متبوعة. إن ما يؤلمني منهم هو أنهم يطهدونني بإشفاقهم، وما أهرب إلا من هذا الإشفاق طالبًا ملجأ في أكنافك، فاحمني يا زارا! إنك ملجئي الوحيد وقد نفذتَ سريرتي وعرفتَ ما يشعر به قاتلُ إلهه، ابقَ هنا وإذا ما أردت الارتحال أيها الرحالة اللجوج فلا تنصرف من الطريق التي اتبعتها أنا لأصل إلى هذا المكان، إنها لبئس الطريق.

لعلك لا تنقم عليَّ لتوجيهي هذه الكلمات إليك ولإسدائك نصحي. إنْ أنا إلا أقبح العالمين، إن رجلي أضخم الأرجل وأثقلها فما مررتُ على طريق إلا ودمرتها.

لقد رأيتك متجهًا نحوي وأنت تقصد المرور بي خلسة ولاح الاحمرار على وجهك فعرفت أنك أنت زارا، ولو أن غيرك مر بي لكان نفحني بصدفة أو بذل لي إشفاقه بنظرة أو بكلمة، ولكنني كما عرفتَ لم أصل من التسول إلى درجة أرضى فيها بتصدق الناس عليَّ.

إن لديَّ ثروة وافرة من العظائم بل من أقبحها وأفظعها؛ لذلك شرفني خجلك يا زارا.

وما توصلت إلا بشق النفس إلى التخلص من إزعاج الرحماء لأجد الإنسان الوحيد القائل في هذا الزمان بأن الإشفاق نقمة وليس نعمة، وهل من قائل بهذا سواك، يا زارا؟

إن الإشفاق إهانة للكرامة سواء أصدر من الناس أم من إله الناس، ولعل في حبس المعونة من النبل ما ليس في المسارعة إلى بذلها.

ولكن صغار البشر يحسبون أن في هذه المسارعة إلى الإشفاق فضيلة لا تضاهيها فضيلة، فهم لا يحترمون الشقاء إذا تعاظم ولا القبح إذا تناهى ولا التشويه إذا لم يُبقِ ولم يذر.

إن أنظاري تمر على هؤلاء الرحماء كما يمر نظر الكلب على ظهور الأغنام المتزاحمة، فما أراهم إلا صعاليك ترمد صوفهم وامتلأت رءوسهم بأفكار الأنعام.

إنني أقف كالبجعة تحدج المستنقعات بنظرات الاحتقار لأرسل أنظاري على تدافع صغيرات الأمواج وكل إرادة واهية وكل نفس حقيرة.

لقد طال زمن الاعتقاد بهؤلاء الأصاغر، وأولاهم الناس الصواب حتى تولوا القوة وأصبحوا يقولون بأن لا خير إلا ما يرونه هم خيرًا.

إن ما يُعتبر حقيقة في هذا الزمان إنْ هو إلا ما علمه ذلك البشير الذي نشأ بين هؤلاء الصعاليك، ذلك القديس الغريب الأطوار الذي وقف مدافعًا عن قومه وهو يشهد لنفسه قائلًا: «أنا هو الحق.»

إن هذا المدعي قد أفسح المجال منذ زمان طويل لهؤلاء الصعاليك؛ فتطاولوا منتصبين على أظلافهم، إن هذا القائل أنا الحق قد علمهم ضلالًا عظيمًا.

لقد أورد قوله هذا فما تلطف أحد تلطفك بالرد عليه يا زارا؛ إذ مررت أمامه وصحت به: لا … لا … وألف مرة لا …

لقد حذرت الناس من ضلاله، فكنت أول المحذرين من الإشفاق، وما وجهت خطابك للمجتمع ولا للفرد، بل وجهته لنفسك ومن هم من مرتبتك، فأنت تبدي استحياءك من خجل الآلام العظمى فتقول: «كونوا على حذر أيها الناس، إن الغمامة الواسعة تمتد من منشأ الإشفاق.»

ثم تقول: «إن المبدعين قساة، والمحبة العظمى تتعالى فوق إشفاقها.»

أي زارا، لقد كنت مدركًا إنذارات زمانك عندما نطقت بهذا.

ولكن عليك أن تحاذر أنت أيضًا ما فيك من إشفاق؛ لأن كثيرين خرجوا على طريقهم يقصدونك، وما أكثر الغارقين ومن جمَّدهم الصقيع!

ولأدعونَّك حتى إلى الاحتراس مني، فإنك قد حللت لغزي من وجهتي حسنه وقبحه، وعرفت من أنا وما فعلت فعرفت من ذلك ما يمكنه أن يصدمك ويصرعك.

وعلى كل، فقد وجب على الإله أن يموت؛ لأنه كان يحدق بعين نافذة لا تخفى عليها خافية فيسبر أعماق الإنسان وأغواره مستكشفًا جميع ما كمن فيه من قبح وعيوب.

لقد كان إشفاقه خاليًا من الحياء، فكان يذهب هاتكًا الأستار عن قبائح ذاتي، أفما حق على هذا الفضولي الرحيم أن يموت، أفما كان لي أن أنتقم ممن تحرش بخفاياي أو أختار الموت تخلصًا منه.

إن إلهًا يرى كل شيء حتى الإنسان لأجدر به أن يفنى وما يحتمل الإنسان مثله شهيدًا.

هكذا تكلم أقبح العالمين، فنهض زارا وقد أحس بالصقيع في أحشائه وقال: يا من لا يُعرف ولا يُسمى، لقد حولتني عن اتباع طريقك وأنا أدعوك مكافأة لك إلى اتباع طريقي، انظر إلى الذروة، هنالك مغارة زارا.

إن مغارتي متسعة مديدة كثيرة السراديب يجد فيها طالب الخفاء خباء، وعلى مقربة منها حُفر وأوجار لكل حيوان من الزحافات والدبابات والأطيار، فاقتدِ بي يا من هجرت العالم وكرهت الحياة بين الناس، وأرهقك إشفاق الناس تعلَّم كما تعلمت أنا فلا يتعلم إلا العامل المختبر.

ليكن أول ما تتعلمه التحدث مع نسري وأفعواني؛ فالأول أعظم الحيوانات كبرًا، والثاني أشدهم مكرًا، فليكونا لك ولي خير مَن نستشير.

هكذا تكلم زارا وسار في طريقه وقد ازداد تفكيره إسراعًا ومشيته تمهلًا؛ إذ كان يسائل نفسه عن أمور كثيرة فلا يجد لها جوابًا.

وقال في قلبه: ما أشقى الإنسان وما أقبحه مليئًا بالضغينة والعيوب الخفية!

قيل لي إن الإنسان محب لذاته، فأية درجة يجب أن تبلغ الأنانية لتتغلب على ما في الذات من صفات حقيرة؟

لقد مررت الآن بكائن يحب ذاته وهو يحتقرها، فهو في نظري متناهٍ في عشقه واحتقاره؛ لأنني ما عثرت قط من قبل بمثله كائنًا يحتقر ذاته إلى هذا الحد، إن في مثل هذا الاحتقار تعاليًا وسموًّا، ولعل هذا الإنسان هو الإنسان الراقي الذي أرسل بصرخة الاستنجاد.

إنني أحب رجال الاحتقار العظيم لأن على الإنسان أن يفوت ذاته ويتفوق عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤