قلت وقالت١

قطرات الماء القليلة جدًّا إذا أصابها الظمآن الذي بلغ به الظمأ جفاف الروح، تحولت في تسعير خياله والتضرم على كبده قطرات من اللهب الأبيض … وكذلك في ظمأ الحب، فإن القليل جدًّا مما يداوى به الحبيب، هو الكثير جدًّا مما يمرض به المحب …!

•••

قالت له: اغضب ما وسعك من الغضب وما وسعت منه، فإن غضبك هو نفسه من مقاييس الرضا! ألم تر إلى الحريق في البرق، وإلى الصواعق في الرعد، أذاك من امتلاء السحاب بالنار أم من امتلائه بالماء؟

•••

الحب أن يخيم جو موسيقي على بعض أيام العمر؛ ليتم فيه الانسجام بين نفس عاشقة وصورة جميلة، إذ لا بد لانسجام الجمال في الحب من أن يكون المعشوق عند محبه في مثل تناسق اللحن الفني لا يخرج منه شيء عن الوزن والطرب، فإذا كانت العمر صفحات مكتوبة فأيام الحب الصفحة المكتوبة بعلامات النغم، لا يقرأ شيء فيها إلا لحن ورن ورجع وصلصل.٢

•••

وتعاتبا مرة فغضبت، فقال لها: فلنفترق، فما في الغضب من شيء إلا أنه عناد الموقف، إن الموقف بين متكلمين أو متساجلين هو موقف حيّ، فما أسرع ما يثب القلب إلى القلب في لفظة غاضبة، فإذا اللفظة من ذلك كأنما ملأها الدم، ومثلتها الحياة فأصبحت شخصًا غير الاثنين لا يبالي بهما نفعًا ولا ضرًّا!

فاستضحكت لهذه الفلسفة، وفكهت لكلامه — وما يعجبها شيء ما تعجبها المعاني — ثم قالت: إذن يمكن الاتفاق، وتقرير الأمر مع الكلمة. أي مع الشخص اللفظي الغضبان لا معك أنت …!

•••

وقالت له في أمر: أنا راضية بحكمك فاحكم.

قال: قد عرفت الحكم ولم أنطق به …

قالت: فهل الحكم عطر في منديلك أعرفه من الهواء؟

قال: بل عرفته بنفسك الرقيقة الملهمة: وأما والله يا حبيبي لو كنت محامية؛ لسرقت من أدمغة القضاة أحكامهم …

قالت: منزلة رفيعة، ولكنها على سرقة وتلصص.

قال: يا عزيزتي، يلذ لي أنها سرقة؛ لأتخيل لها قانونًا ومحكمة وقضاة.

قالت: ثم ماذا بعد قانونها ومحكمتها وقضاتهم؟

قال: أرافعك إلى تلك المحكمة، وأتهمك بتهمة سرقة قلب …!

•••

الحب طفولتنا الكبيرة كل ما تملكه أن تبكي وتضحك وتمكر وتنافق، ومعنى ذلك كله أريد أريد! ولو أمكن أن يكبر الطفل، ويبقى طفلًا؛ لكان هو العاشق بذاته، ولكان حبه لأمه وأبيه مضاعفًا عند السنين التي كبر فيها — هو العشق بعينه!

•••

الدموع أوهى من أن تهدم شيئًا، ولكنها تهدم صاحبها!

•••

الدموع هي روح المحيط السماوي، ألا ترى أنها لا تسيل إلا مع الأقدار؟ متى نزل القدر نزل الدمع.

•••

المعنى الذي يكون في النفس أكبر من الكلام في الحزن، والفرح هو وحده تعبِّرُ عنه النفس بدموعها.

•••

سألها مرةً: ماذا يقول البحر لو سقطت فيه دمعة من مهجور؟

فقالت إنه يقول: إنسان أحمق أو مخبول يحاول أن يجعل له بحرًا من قطرتين …

قال: أراك يا فيلسوفتي لا تفهمين لغة الوجود!

قالت: فما ترى أنت؟

قال: إنه يقول عندئذ: تباركت يا رب! أنا الجبار المالئ ثلاثة أرباع الأرض، قد آلمتني دمعة محب متألم؛ فهل هو يحمل ثلاثة أرباع الهم في الأرض!

•••

في نوح اللحن الشجي صورة الدموع التي في أعيننا، وإذا حنّ كانت فيه شهوة نفس، وإذا جنح إلى الطرب كانت فيه رغبة واقعة، وليس في الكون ما يجمع هذه الألحان الثلاثة المتباينة في صوت واحد إلا زفرة الحب يأسى العاشق ويحن ويطرب فيقول: آه …

•••

لو سألتني: من أعظم أهل الفنون على وجه الأرض؟ لقلت لك: كل حبيب جميل هو في عين محبه أعظم أهل الفنون؛ لأنه في نظر هذه العين هو وحده الذي يخلق الجمال الحي الرائع، ويضع معناه في كل ما يتصل به، حتى لكأن جماله تفرق على أجزاء العالم، أو كأن أجزاء العالم التفت على جماله.

•••

وقالت له: أنا لا أشفق على آلامك! وهل تراني أكره لك النبوغ والعبقرية؟ إن الألم في رجل الفن العبقري إنما هو (عملية) التصوير والطبع في مخيلته؛ فمواهبة الحساسة تحزن الوجود فيّ، وكلما رأى جمالًا أو قبحًا أو سرورًا أو حزنًا غمرته؛ ليتألم بمعنى ما رأى، وحكمة ما أبصر؛ لأن جهة الفن في كل شيء هي معناه وحكمته، فيتألم، فينطبع المعنى، فيكون في المخيلة مادة من مواد العمل الفني حين يعمل، فذلك ليس ألمًا في إنسان كما ترى، بل هو أداء طبيعي في أداة حية متخذة لهذا العمل خاصة، ميسرة له بكل حوادثها؛ ومن هنا فلا رحمة ولا مهاونة فيما يؤلم رجال الفن؛ إذ لا تعرف منهم الحكمة التي خلقتهم إلا آلات، آلات يجب أن تعمل حتى تتلف أو تتحطم …

تزداد الجميلة إشراقًا وجمالًا بالحب؛ لأن أثر نظرات محبها يلازمها، حتى إنها لتحس في غيبته كأن نظره واقع عليها من عينه لا من فكرها، وبذلك تتجرد معانيها النسائية علمها الفني وتدأب عليه، فلا تزال تجعل وتحسن ما دامت محبوبة معشوقة.

•••

الحب إيمان النفس بكائن طاهر، والدين إيمانها بكائن خفي، ألا يكون ذلك أسلوبًا في الطبيعة؛ لحفظ الإيمان في الإنسانية؟٣

•••

أشعر أحيانًا كأنه ما من رجل في العالم يحب امرأة إلا ألم بحسي شيء من لذة هواه، فإن لم أكن أنا العالم كله فلقد جعلت حبي هو الحب كله!

•••

أنت فيَّ، وأنا أنظر بك إليك، هذه هي المشكلة التي جعلتك لغزًا لا حل له، فما أقرب الحب من العبادة، ما دام هذا الحب هو تجلي نفس في نفس، وما أشبهه بدين يعبد فيه الجسم الجسم، فالمعشوق حالة نفسية متألهة معبودة، والعاشق حالة أخرى متولهة عابدة!

•••

لو عشق أعظم علماء الدنيا؛ لأيقن أن حيرة عقله في أسرار الكون لها شكل أدق وأغمض مع أسرار الحب، ولعرف أن في أعماق النفس الإنسانية مثل ما في أعماق الوجود: مسائل لا حل لها، ألا يخرج من ذلك أن كل محب يقابل في الطبيعة بقلبه أو إحساسه أعظم العلماء بعقله وآلاته؟

•••

قد عرفنا أن لنا أعمارًا محدودة، يجوز أن ساعات الهناءة والسعادة إنما كانت محدودة؛ لأنها أعمار لأعمارنا؟ فبضعة أشهر من الجفاء أو البعد يكون عمرها هو ساعة اللقاء التي تنفق بعدها، وسنة كاملة من عمل يكون عمرها يوم سرور؟

إن كان هذا صحيحًا فما أقصر عمرك يا عمري …؟

•••

كل الأماني التي لا تتحقق، هي وجود مخنوق في القلب!

•••

من تأله الحب أن أوقاته هي الأوقات التي تتغير فيها الأشياء فتلبس في أفكارنا غير حقائقها، وبذلك يثبت الحب أنه أقوى من الحقيقة؛ إذ كان يخلق فيها خلقة ويغيرها في الفكر، وأنه أقوى من الزمن: إذ كان يطول به على العاشقين، ويقصر مع أن الزمن لم يقصر ولم يطل، وأنه أقوى من الوجود؛ لأنه دائمًا إما ينقص منه في نظر العاشق وإما يزيد عليه.

•••

إن المحب ليشعر أحيانًا من شدة القلق والاضطراب أن فكره يعدو بين الأشياء والحوادث وراء الاطمئنان الذي فر من قلبه!

•••

حين يجد العشق بصاحبه يحبس عليه الزمن كله في نقطة هم ثابتة لا تتحرك، فتشتبه عليه الأيام حتى لا يشعر أنه يقضي يومين أحدهما يختلف عن الآخر.

•••

العيون التي وراءها ضروب الأفكار المختلفة، هي وحدها التي فيها ضروب التعبير المختلفة.

•••

في الحب لا فصل بين الصغائر والكبائر؛ إذ كانت قيمة الصغيرة والكبيرة في اعتبارها لا في ذاتها، والحادثة في الحب تكون بالحالة التي تقع فيها أكثر مما تكون بنفسها؛ فالهجر وهو أشق وأعنت ما في الحب، قد يكون لوعة مطمئنة إذا كان عن دلال أو سلوان من الحبيب، ولكنه أشد الفظائع كلها، وأكبر من القتل إذا كان سببه الميل إلى محبٍّ آخر، فهو في سببه أكثر مما هو في نفسه؛ لأنه خرج من المكان إلى الشعور.

•••

الليل والفجر والشفق والأصيل، هي أوقات الجمال في النفس؛ ولن يجعل لها سحرها الساحر إلا أن يكون ذات مرة قد وقعت دقائق ملونة … في ساعة حب!

•••

ما وقفت أمامك مزة يا حبيبتي أنظر إليك إلا قلت في نفسي: من هنا يبدأ ما لا يدرك …!

•••

أصل الحب العاشق اتساع الرغبات المنجذبة وخروجها عن حدها، وأصل الجمال المعشوق اتساع الأسباب الجاذبة وخروجها عن حدها كذلك، فمن ثمة لا أناة في الحب، ولا عقل ولا استقرار؛ إذ هو اجتماع فوضيين بائرتين على نفس ضعيفة!

•••

هل تأملت مرة في اسم حبيبك؟ وهل تعرف في الأسماء الكثيرة التي تماثله ما يماثله؟

إن كل الأسماء من اللغة وهو وحده من النفس، والأسماء كالأرقام الحسابية وهو وحده كالواقع المدلول عليه، تقول: مئة ألف، فتذهب كلمة في الهواء ليس لها ولا حقيقة واحدة، ثم تعد الذهب وتقول: مئة ألف دينار، ففي هذه وحدها مئة ألف حقيقة …؟

•••

أنا يا حبيبتي، قد تجاوزت المنطقة الإنسانية، التي يقع في حدودها المدح والذم، فلا تأبهي لمن يذمني عندك أو يمدحني.

أنا فوق هذه الطبقة التي يتنفسون منها كلامهم، فإن ارتفع يريدني أحد منهم فوصل إليَّ خنقه وصوله إليّ …!

•••

فلان وفلانة، هو بدونها ناقص؛ لأنه وحده، وبها ناقص أيضًا؛ لأنه معها … هي كالفصل له عن الكمال، وهذا أكثر عمل المرأة وعمل أكثر من النساء …!

أنت لا تحلفين أحببتك أم أبغضتك؟ ولا تدافعين عن شيء منك في نفسي، ولكن كل شيء منك يدافع في نفسي عن نفسه، وينتصر ويتغلب …

هل تلبس الزهرة أوراقها ولونها إلا لتظهر عارية الجمال؟

هل تلبس الحبيبة كبرياءها ودلالها إلا لتظهر عارية الحب؟

… ومع ذلك فروح الشجر المر هو الماء العذب!

١  انظر فصل (قالت وقلت) صفحة ١٤٤، فهذا تكملة لما هناك.
٢  الصلصلة: الصوت الرنان. والترجيع: أن يرجع بعض النغم على بعضه للتطريب.
٣  تقدم وجه آخر من هذا المعنى فيما نقلناه من كتابنا (المساكين) في صفحة ٩٦ من الشرح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤