مَن هو إله يسوع؟

بعد أن غطس يسوع في ماء الأردن وخرج منه، ترك يوحنا المعمدان وجمهرة المتعمدين وجعل يصلي في خلوة مستغرقًا في تأمل باطني عميق: «وإذا كان يصلي انفتحت السماء، ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلًا: أنت ابني الحبيب بك سررت» (لوقا، ٣: ٢١– ٢٢). هذا المشهد الذي يوصف في الأناجيل الثلاثة الإزائية على أنه حدث موضوعي، لم يكن في حقيقة الأمر إلا تعبيرًا بمفردات رمزية عن خبرة صوفية وجدية قادَت يسوع إلى الكشف والاستنارة، عقب فترة طويلة من البحث العقلي والكدح الروحي. لقد عرف إلهه الذي كشف عن نفسه في هيئة حمامة، وهذا الإله لم يكن إله التوراة الذي رفضه يسوع في عقله الباطن منذ حداثته وراح يبحث عن الإله الحق. فمَن هو إله يسوع؟

من المهم جدًّا أن نلاحظ أن يسوع لم يستخدم في أقواله الاسم التوراتي يهوه أو بديله إيلوهيم في الإشارة إلى إلهه، وإنما دعاه دومًا بلقب الآب أو الآب السماوي. وبهذا اللقب تتوجه إليه الصلاة المسيحية التي علَّمها يسوع لتلاميذه: «أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض … إلخ» (متَّى، ٦: ٩–١٢). فهو أب ليسوع وأب لجميع البشر: «إن الأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي» (يوحنا، ١٠: ٢٥). «فاغفروا لكي يغفر لكم أبوكم الذي في السماوات زلاتكم» (مرقس، ١١: ٢٥). «فكونوا كاملين لأن أباكم الذي في السماوات هو كامل» (متَّى، ٥: ٤٨).

إن هوية الإله الذي تجلى ليسوع بعد خروجه من ماء العماد، تعلن عن نفسها من خلال الهيئة الرمزية التي تجلَّى بها. فإله التوراة لم يتجلَّ أبدًا في هيئة حمامة وإنما في ظواهر طبيعانية تعبر عن القوة والجبروت والغضب. فعندما أعلن عن نفسه لموسى أول مرة ناداه من قلب جذوة نار تتوهج في شجرة عليق (الخروج، ٣: ١–٦). وأعلن عن نفسه للمصريين من خلال الأوبئة والكوارث التي أرسلها عليهم والتي كان آخرها قتله لمواليدهم الجدد ومواليد مواشيهم: «فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيِّه إلى بكر الأسير الذي في السجن، وكل بكر بهيمة» (الخروج، ١٢: ٢٩). «وعندما أخرج موسى بني إسرائيل من مصر كان الربُّ يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديَهم الطريق وليلًا في عمود نار ليضيء لهم» (الخروج، ١٣: ٢١). وعندما نزل الرب على جبل سيناء ليُعطيَ موسى لوحي الشريعة تجلَّى لبني إسرائيل في ظواهر بركانية: «وكان جبل سيناء كله يُدخِّن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل الجبل جدًّا» (الخروج، ١٩: ١٨). وكانت ناره تسقط من السماء لتلتهم المحارق الحيوانية الموضوعة على المذبح: «فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، ولحست المياه التي في القناة» (الملوك الأول، ١٨: ٣٨). وكانت الريح والزلزلة والنار تتقدمه لتُعلن عن حضوره: «وإذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب ولم يكن الرب في الريح، وبعد الريح زلزلة ولم يكن الرب في الزلزلة، وبعد الزلزلة نار ولم يكن الرب في النار» (الملوك الأول، ١٩: ١١–١٣). وإذا تكلم كان صوته يخرج مثل هدير العاصفة وقصف الرعد: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة فقال له: هل لك ذراع كما للرب؟ وبصوت مثل صوته تُرعد» (أيوب، ٤٠: ٦–٩). وكان الوباء والحمى رسولاه يتقدمانه إذا مشى: «الرب جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران. جلاله غطَّى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه … قُدامه ذهب الوبأ وعند رجلَيه خرجَت الحُمَّى … وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم ودُكَّت الجبال الدهرية وخُسفت آكام القِدم» (حبقوق، ٣: ٣–٦).

وعلى العكس من هذه التجليات للإله التوراتي فإن إله يسوع قد اختار الحمامة لكي يُعلنَ عن نفسه من خلالها. فقد كانت الحمامة رمزًا للحب سواء في ثقافات الشرق القديم أم في الثقافة الكلاسيكية، ونجدها دومًا في الفن المصور بصحبة إلهات الحب، وقد تُمثَّل إلهة الحب نفسها بجناحين. إن جوهر إله يسوع هو المحبة، محبة العالم: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذلك ابنه الوحيد لكيلا يهلكَ كلُّ مَن يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا، ٣: ١٦). أما إله التوراة فقد أحب إسرائيل وكره بقية العالم، وقد زرع كراهية الشعوب الأخرى في قلب بني إسرائيل في وصيته الأولى لموسى عن كيفية التعامل معهم: «احترز من أن تقطع عهدًا مع سكان الأرض التي أنت آتٍ إليها لئلا يصيروا فخًّا في وسطك، بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أصنامهم وتقطعون سواريهم» (الخروج، ٣٤: ١٢–١٣). وهذا نموذج من قوانين موسى الحربية التي استنَّها لقادة جيشه: «اقتلوا كلَّ ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلًا بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات» (العدد، ٣١: ١٧–١٨). وهنالك قانون آخر فرضه يهوه معروف بقانون التحريم الذي يُلزم القائد العسكري تقديمَ كلِّ ذي نفس حية من الشعب المهزوم قربانًا للرب: «فالآن اذهب واضرب شعب عماليق وحرموا كل ماله، ولا تعف عنهم بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا» (صموئيل الأول، ١٥: ٣).

أما المخطط الذي رسمه يهوه للتاريخ فهو مسيرة تنتهي بسيادة شعب إسرائيل على أمم العالم، بعد مذبحة شاملة يقودها بنفسه تجعل مَن بقي من هذه الأمم حيًّا عبيدًا لشعب الرب: «ولولوا لأن يوم الرب قريب، قادم كخراب من القادر على كل شيء» (إشعيا، ١٣: ٦). «هو ذا الرب يخلي الأرض ويفرغها ويقلب وجهها ويبيد سكانها» (إشعيا، ٢٤: ١). «اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا ويا أيها الشعوب أصغوا. لتسمع الأرض وملؤها، لأن للرب سخطًا على كل الأمم وحُموًّا على جيشهم، قد حرَّمهم دفعهم للذبح، فقتلاهم تُطرح وجِيَفهم تصعد نتانتها، وتسيل الجبال بدمائهم» (إشعيا، ٣٤: ١–٤). «ويكون في ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتنيَ بقية شعبه … ويجمع منيفي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض؛ لأن الرب سيرحم يعقوب ويختار إسرائيل ويريحهم في أرضهم، فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى أرض الرب عبيدًا وإماءً» (إشعيا، ١١: ١١–١٢ و١٤: ١–٢).

وفي المشهد التالي الذي يرسمه إشعيا، نرى يهوه بعد عودته من المذبحة الشاملة وقد تلطخَت ثيابُه بالدم فصار كمَن داس في معصرة عنب:
  • «مَن هذا الآتي من آدوم بثياب حُمر، من بُصرة، هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته؟

  • أنا المتكلم بالبر العظيم للخلاص.

  • ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس معصرة؟

  • قد دُسْتُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي ووَطِئتهم بغيظي، فرشَّ عصيرهم على ثيابي فتلطخَت كلُّ ملابسي. لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفدييَّ قد أتت … فدستُ شعوبًا بغضبي وأسكرتهم بغيظي وأجريت على الأرض عصيرهم» (إشعيا، ٦٣: ١–٦).

هذا الإله الذي رفضه يسوع في أعماقه منذ البداية يدعوه الغنوصيون بإله العالم المادي ويقرنونه بالشيطان. وإذا كان يسوع قد تعرف على إلهه الحقيقي في تجربته الروحية الأولى عقب خروجه من ماء العماد، فإن تجربته الروحية الثانية التي وضعَته وجهًا لوجه مع إله التوراة سيد هذا العالم المادي، سوف تحسم خياراته إلى الأبد.

يلخص لنا مرقس هذه التجربة الثانية بقوله: «وللوقت أخرجه الروح إلى البرية، وكان هناك في البرية أربعين يومًا يجرَّب من الشيطان. وكان مع الوحوش، وصارت الملائكة تخدمه» (مرقس، ١: ١٢–١٣). أما متَّى ولوقا فيتوسعان في تفاصيل هذه القصة اعتمادًا على مصدر ثالث مشترك:

«أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس. فاقتاده الروح في البرية أربعين يومًا وإبليس (ديابولوس باليونانية، وتعني الشيطان) يجربه، ولم يأكل شيئًا في تلك الأيام. ولما انقضَت جاع أخيرًا. فقال له إبليس: إن كنت ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير أرغفة. فأجابه يسوع: مكتوب أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله. فمضى به إبليس إلى المدينة المقدسة وأقامه على شرفة الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فألقِ بنفسك إلى الأسفل، فإنه مكتوب: يوصي ملائكته بك فيحملونك على أيديهم فلا تصطدم رجلك بحجر. فقال يسوع: مكتوب أيضًا: لا تجرب الرب إلهك. ثم مضى به إبليس إلى جبلٍ عالٍ وعرض عليه ممالك الأرض في لحظة من الزمن ثم قال له: أَجعل لك هذا السلطان كله، ومجد هذه الممالك، لأنه قد دُفع إليَّ وأنا أجعله لمَن أشاء، فإن سجدت لي يعود هذا كله إليك. فقال يسوع: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. فلما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين. ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل، فانتشر ذكره في الناحية كلها وكان يُعلم في مجامعهم» (لوقا، ٤: ١–١٣. قارن مع متَّى ٤: ١–١١).

إذا أردنا فهْمَ هذه القصة فعلينا أن نأخذها بدلالاتها الرمزية لا في تفاصيلها كواقعة حقيقية. فهذه التجربة قد جرَت في عقل يسوع عندما انسحب إلى الصحراء حيث اعتكف مدة من الزمن يتأمل في الحقائق التي تكشفت له وفي دوره المقبل. وهي تجربة قريبة من تجربة البوذا مع الشيطان أيضًا. فعندما جلس البوذا تحت شجرة التين الهندي عازمًا على ألَّا يبرح مكانه حتى ينكشف له الطريق إلى خلاص الإنسان، جاءه إله الرغبة والموت (وهما العنصران المتحكمان في حياة الإنسان) ليصدَّه عن المعرفة المحرَّرة، وتبدَّى له أولًا في صورة أمير ساحر يحمل بيده قوسًا تزيِّنه الأزهار، وبرفقته بناته الثلاث اللواتي كشفن عن محاسنهن وحاولن إغواء البوذا بشتى الوسائل، ولكن قلبه بقيَ ساكنًا كبرعم لوتس فوق مياه بحيرة صافية. عند ذلك اتخذ المغوي هيئةَ رئيس الشياطين مارا وهاجمه مع أبالسته المخيفة التي اتخذَت أشكالًا مرعبة أحاطَت بالشجرة وراحَت تضيِّق الخناق على البوذا وتقذفه بشتى أنواع الأسلحة، ولكنه بقيَ في جلسة التأمل غيرَ عابئ بما يجري حوله، وكانت القذائف التي تُرمى عليه تتحول إلى زهور معلقة في الهواء فوق رأسه. وأخيرًا خاب سعيُ مارا وانسحب مع رهطه، وأخذ قلب البوذا يشعُّ بالمعرفة. وهنا اهتزَّت الأرض بمسرة وجاء الآلهة إلى البوذا وسجدوا أمامه. لقد صار الطريق إلى خلاص الأرواح ممهدًا بعد استنارة المعلم.١

إذا كان إله يسوع قد كشف عن هويته من خلال رمز الحمامة، فإن الذي جرب يسوع في البرية يكشف عن هويته من خلال قوله ليسوع بعد أن عرض عليه ممالك الأرض في لحظة من الزمن: «أجعل لك هذا السلطان كله ومجد هذه المالك، لأنه قد دُفع إليَّ وأنا أجعله لمَن أشاء، فإن سجدت لي يعود هذا كله إليك.» فهو الإله «الديمبرج» صانع العالم المادي وحاكمه الأعلى. أما عن صلة هذا الإله بالشيطان وبالإله التوراتي الأعلى المتعالي عن هذا العالم الناقص والمليء بالشر، فتشرحه لنا المنظومة الفكرية الغنوصية التي كان يوحنا المعمدان وسمعان ماجوس السامري أبرز ممثليها السوريين في أواسط القرن الأول الميلادي.

يتخذ مفهوم «الغنوص–Gnosis» مركز البؤرة من عقائد وممارسات الغنوصيين. والكلمة يونانية وتعني المعرفة بشكل عام، ولكن المعرفة التي يسعى إليها الغنوصي ليست مما يمكن اكتسابه بإعمال العقل المنطقي وقراءة الكتب وإجراء التجارب والاختبارات، وإنما هي فعالية روحانية داخلية تقود صاحبها إلى اكتشاف الشرط الإنساني، وإلى معرفة النفس التي تقود إلى معرفة الله الحي ذوقًا وكشفًا وإلهامًا. هذه المعرفة هي الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في سجن الجسد المادي وسجن العالم المادي الأوسع، لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه. فالروح الإنسانة هي قبس من روح الله، وشرارة من نور الأعالي وقعت في ظلمة المادة ونسيَت أصلها ومصدرها. والإنسان في هذه الحياة أشبه بالجاهل أو الغافل أو النائم، ولكن في أعماق ذاته هنالك دومًا دعوة إلى الصحو عليه أن يُنصت إليها، ويشرع في رحلة المعرفة التي تحوله من نفس حيوانية أسيرة لرغبات الجسد، إلى نفس عارفة أدركَت روابطها الإلهية وتهيأت للانعتاق الذي يعود بها إلى ديارها.
ولكن الله الذي يبحث عنه الغنوصي في أعماق ذاته ليس الإله الذي صنع هذا العالم المادي المليء بالألم والشر والموت، بل هو الأب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخليقة ولا يحده وصفٌ أو يحيط به اسم، الواحد الموجود بصمديته، القائم بنوره، البداية التي لم تسبقها بداية. خفي لم يره أحد، بلا أوصاف لأن أحدًا لم يفهم كنهه فيصفه، بلا اسم لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم. قائم في نفسه ولنفسه وراء الوجود ووراء الزمن. أما صانع العالم فهو إله أدنى من الأب النوراني، إنه يهوه إله اليهود الذي يوازي شيطان الديانة الزرادشتية المدعو أنجرا ماينيو، أو أهيريمان. وتصوره الأدبيات الغنوصية كإله جاهل بالعوالم النورانية القائمة فوقه، يجلس على عرش يحيط به معاونوه من قوى الظلام المدعوون بالأراكنة (الكلمة صيغة الجمع من كلمة أركون، أي حاكم باللغة اليونانية). وعلى الرغم من أن هذا الإله قد صنع الإنسان من مادة الأرض الظلامية نفسها، إلا أنه أخذ روحه من نور الأعالي المسروق وحبسها في قوقعة الجسد. ولكي يُبقيَه في حُجب الجهل فقد فرض عليه الشريعة التي تشغله عن نفسه وعن اكتشاف الجوهر الحقيقي للروح. أما عن كيفية ظهور هذا الإله الخالق، فمسألة لم يعالجها المعلمون الغنوصيون من خلال مقاربات فلسفية وإنما من خلال صياغات أسطورية لا نجد داعيًا للخوض في تفاصيلها هنا.٢

لقد كانت مثل هذه الأفكار كامنة في خلفية يسوع الثقافية، ومن الممكن جدًّا أن قصة اعتماده في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، تُخفي وراءها مرحلة من حياة يسوع تتلمذ فيها على يوحنا قبل أن يشقَّ طريقَه الخاص. ولكن أفكار يسوع هذه تظهر في أقواله ومواقفه على درجات متفاوتة من الوضوح أو الخفاء، وذلك تبعًا لدرجة فهْم مؤلفي الأناجيل من جهة (ومن ورائهم تلاميذ يسوع المباشرون) ولرغبة يسوع في التصريح أو التلميح. ولدينا في الأناجيل عدة مواقف تُفصح عن قصورِ فهْم التلاميذ عن بلوغ مؤدَّى أقوال معلِّمهم. نقرأ في إنجيل لوقا: «فلم يفهموا هذه الكلمة وكانت مغلقةً عليهم فما أدركوا معناها وهابوا أن يسألوه عنها» (لوقا، ٩: ٤٥). وأيضا: «أما تفهمون هذا المثَل؟ فأنى لكم أن تفهموا سائر الأمثال» (مرقس، ٤: ١٣). وأيضًا: «فلم يفهموا شيئًا من ذلك، وكان هذا الكلام مغلقًا عليهم فما أدركوا معناه» (لوقا، ١٨: ٣٤). وفي خطاب يسوع للناس العاديين كان يصوغ كلماته على قدر أفهامهم: «وكان يضرب لهم كثيرًا من هذه الأمثال ليُلقيَ إليهم كلام الله على قدر ما كانوا يستطيعون أن يسمعوه» (مرقس، ٤: ٣٣). وفي إحدى المرات تركه كثير من تلاميذه لما سمعوه: «هذا كلام عسير مَن يقدر أن يسمعه؟ … فتولى عنه كثير من تلاميذه ولم يعودوا يمشون معه» (يوحنا، ٦: ٦٠–٦٦). ولنتابع فيما يلي بعض ما رشح إلى الأناجيل من أقوال يسوع التي تعبر عن موقفه من إله التوراة ورفضه لشريعته.

في قولٍ لافت للنظر يصف يسوع شريعة موسى التي تلقَّاها من يهوه بأنها شريعة موت في مقابل شريعته التي تَهَب الحياة: «لم يعطكم موسى خبز السماء، بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق، لأن خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم حياة» (يوحنا، ٦: ٣٢–٣٥). «آباؤكم أكلوا المنَّ (= شريعة موسى) في البرية وماتوا. هو ذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت. أنا الخبز الذي نزل من السماء» (يوحنا، ٦: ٤٩–٥١). واليهود لم يعرفوا قط الإله الحق الذي هو إله يسوع: «على أني ما جئت من نفسي، بل هو حق الذي أرسلني أنتم لا تعرفونه وأما أنا فأعرفه» (يوحنا، ٧: ٢٨–٢٩). «أنتم لا تعرفوني ولا تعرفون أبي، ولو عرفتموني لعرفتم أبي» (٨: ١٩).

وفي قول له مشبع بالفكر الغنوصي الذي يرفض العالم يقول يسوع لليهود: «أنتم من الدرك الأسفل وأنا من الملأ الأعلى. أنتم من العالم، وأنا لست من هذا العالم.» فالقلة العارفة التي أدركت مَن هي وإلى أين تمضي، تشعر بغربتها في هذا العالم، والعالم من جهته ينبذها ويبغضها. ولذلك يقول يسوع عن تلاميذه الذين فهموا رسالته: «أنا ذاهب إليك أيها الأب القدوس … بلَّغتهم كلامك فأبغضهم العالم لأنهم ليسوا من العالم. كما أني لست من العالم. لا أسألك أن تُخرجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير» (١٧: ١١–١٥). «يا أبتِ العادل. العالم لم يعرفك، أما أنا فقد عرفتك، وعرف هؤلاء أنك أرسلتني. أظهرتُ لهم اسمك وسأُظهره لهم، لتكون فيهم المحبة التي إياها أحببتني وأكون أنا فيهم» (يوحنا، ١٧: ٢٥–٢٦).

وفي المقابل، فإن اليهود أبناء هذا العالم واقعون تحت سلطان الشيطان إله عالمهم. وإذا كان الله أبًا لمَن عرفه وآمن به، فإن الشيطان هو أبو اليهود الذين لم يتلقَوا من سلسلة أنبيائهم المزعومين كلمةَ حقٍّ منذ أبيهم إبراهيم: «أنا أقول بما رأيت عند أبي وأنتم تعملون بما سمعتم من أبيكم (= الشيطان = يهوه). فأجابوه: إن أبانا هو إبراهيم. فقال لهم يسوع: لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم. ولكنكم تريدون قتلي، أنا الذي قال لكم الحق الذي سمعه من الله. وهذا ما لم يفعله إبراهيم» (يوحنا، ٨: ٣٨–٤٠). فإذا كان إبراهيم لم ينقل لليهود الحق الذي سمعه من الله، فإن التاريخ النبوي التوراتي بكامله تاريخ زائف، وكل الذين تسلسلوا بعد إبراهيم من أنبياء اليهود لم يعرفوا الله الحق. ولذلك قال يسوع في مناسبة أخرى: «الحق أقول لكم: مَن لم يدخل حظيرة الخراف من الباب بل تسلق إليها من طريق آخر كان لصًّا سارقًا، ومَن يدخل من الباب كان راعي الخراف … جميع الذين جاءوا قبلي لصوص سارقون ولكن الخراف لم تُصغِ إليهم. أنا الباب فمَن دخل منِّي يخلُص» (يوحنا، ١٠: ١–٩).

وفي سياق آخر يؤكد يسوع أُبوة الشيطان لليهود في مقابل أُبوة الله الخفي للعارفين: «لو كان الله أباكم لأحببتموني، لأني من قِبل الله خرجت وأتيت … إنكم أولاد أبيكم إبليس وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم. كان منذ البدء مهلكًا للناس، لم يثبت على الحق لأنه ليس فيه شيء من الحق، فإذا نطق بالكذب نضح بما فيه لأنه كذاب وأبو الكذاب. أما أنا فلا تصدقوني لأني أقول الحق … مَن كان من الله سمع كلام الله، فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لستم من الله. فقال اليهود: ألسنا على صواب إذا قلنا إنك سامري وأن بك مسًّا» (يوحنا، ٨: ٤٢–٤٨).

إن الجملة الأخيرة التي ردَّ بها اليهود على يسوع والتي اتهموه فيها بأنه «سامري» وبه مسٌّ، لم تلقَ عنايةً كافية من مفسري الكتاب. فالسامري تعني مواطنًا من منطقة السامرة التي كانت تحتوي في ذلك الزمان على طوائف دينية ومجموعات اثنية متنوعة. كما تعني أيضًا عضوًا في مجموعة السامريين، وهم طائفة دينية يهودية لا يحتوي كتابها المقدس إلا على أسفار موسى الخمسة، وما زالت بقية منها تعيش حول منطقة نابلس، أما يسوع فقد كان مواطنًا جليليًّا ولم تكن له صلة بطائفة السامريين، وكان محاورو يسوع يعرفون ذلك جيدًا فما الذي قصدوا إليه عندما لقبوه بالسامري؟ إن التفسير الوحيد لهذا اللقب هو أن اليهود قد عقدوا صلة بين ما يطرحه يسوع من أفكار وبين أفكار سمعان ماجوس السامري وطائفته الغنوصية التي نشطت خلال أواسط القرن الأول الميلادي.

وفي حوار له مع امرأة سامرية، قال يسوع بأنه لا يهود السامرة ولا يهود أورشليم قد عرفوا الله الحق، وأنه ستأتي ساعة تُلغَى فيها طقوس هيكل أورشليم ويتم التخلص من اليهود: «قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي. آباؤنا سجدوا في هذا الجبل (= جبل جرزيم موقع هيكل السامريين) وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه. قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعةٌ لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود» (يوحنا، ٤: ١٩–٢٢).

ومع رفضه لإله التوراة فقد رفض يسوع شريعته. فقد كان يشفي المرضى في يوم السبت منتهكًا قانون الراحة الأسبوعي. وعندما شغب عليه اليهود من أجل ذلك قال لهم: «إن أبي ما يزال يعمل، وأنا أيضًا أعمل» (يوحنا، ٥: ١٧). وقال لهم في مناسبة مشابهة أخرى: «إن السبت جُعل للإنسان، وما جُعل الإنسان للسبت» (مرقس، ٢: ٢٧). ولم يكن يحضُّ تلاميذه على الالتزام بالصيام اليهودي. وعندما احتج عليه اليهود لتجاهله فرض الصيام، ردَّ عليهم بطريقة ساخرة عندما قال: «هل يستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم (يعني نفسه)» (مرقس، ٢: ١٨–١٩). وقد نقض شريعة الطعام التي تفرق بين ما هو طاهر وما هو نجس و«جعل كل الأطعمة طاهرة» على حدِّ تعبير (إنجيل مرقس–الترجمة الكاثوليكية، ٧: ١٩). وانتقد طقوس المحارق والقرابين الحيوانية عندما قال بأن الله يريد الرحمة لا الذبيحة (متَّى، ٩: ١٣). ورفض تطبيق شريعة رجم الزانية عندما جاءه اليهود بامرأة أُخذت في زنا، وقال لهم: «مَن كان منكم بلا خطيئة فليتقدم أولًا ويرمها بحجر» (يوحنا، ٨: ٣–١١).

ونلاحظ في إشارة يسوع إلى الشريعة في جداله مع اليهود قوله دائمًا «شريعتكم»، ولم يقل أبدًا «شريعتنا». الأمر الذي يدل على أنه لم يعتبر نفسه واقعًا تحت سلطان الشريعة اليهودية (راجع على سبيل المثال: يوحنا، ١٠: ٣٤، ١٥: ٢٥، ٨: ١٧–١٨، ٧: ١٩. ومرقس، ١٠: ٣–٥).

إن قصة تجربة الشيطان في البرية هي التي وضعت يسوع منذ البداية على طريق الجلجلة حيث غُرس صليبه. لقد رفض إله اليهود فقتله اليهود.

١  هذه القصة مدوَّنة في جميع سير البوذا مع اختلافات طفيفة في التفاصيل.
٢  للتوسع في موضوع الغنوصية، أوصي بالمرجعَين الشاملَين التاليَين:
Elain Pagels, The Gnostic Gospel, Vintage, New York, 1981.
Kurt Rudolph, Gnosis, Harper, San Francisco, 1987.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤