مرقيون والكنيسة البديلة

من بين آباء الكنيسة الأوائل كان مرقيون–Marcion الأبرز بين مَن تقصَّى تعاليم يسوع الباطنية وفَهِمها حقَّ فهْمها. وعندما فشل في إحداث أي تغيير يُذكر في قناعات زملائه في كنيسة روما، انشق عنها وأنشأ كنيسة جديدة توسَّعت شرقًا وغربًا بزخم قوي، وطرحَت نفسَها بديلًا عن كنيسة روما التقليدية.
جاء مرقيون من آسيا الصغرى. فقد وُلد وترعرع في مدينة سينوب على البحر الأسود بمنطقة البنط–Pontus. سنة ميلاده غير معروفة ولكن يمكن تحديدها بشكل عام في أواخر القرن الأول الميلادي. نشأ في أسرة مسيحية وكان والده أسقفًا للمجموعة المسيحية المحلية. ويعتقد البعض أنه كانت لوالده هذا روابط مع طائفة البولسيِّين–Paulicians، وهي طائفة مسيحية مبكرة نشأت في أرمينيا على يد مبشِّر يُدعى عاديا جاء من أورشليم حاملًا معه تعاليمَ سريةً ليسوع من منشئها. وقد بشَّر عاديا بعقيدة تقول بأن يسوع هو كائن بشري تبناه الله وجعله ابنًا له. ثم تطور ضمن هذه العقيدة تنويع آخر يقول بوجود إلهين أعليين لا إله واحد، الأول هو الآب السماوي الأعلى، والثاني هو الديميرج خالق هذا العالم وسيده.
أخذ مرقيون عن والده مهنة الشحن البحري بسفينة تخصه، وربما أكثر. وقد توسع في أعماله باتجاه الموانئ الغربية لآسيا الصغرى مثل إفسوس وسميرنا التي كانت من المراكز القديمة للحركة الغنوصية، وهناك حصلت جدالات فكرية حامية بينه وبين السلطات المسيحية التقليدية. وفي سميرنا وصفه المنافح العنيد عن الإيمان القويم بوليكارب بأنه بكر الشيطان. نحو عام ١٣٩م رحل إلى روما حيث انضم إلى المجموعة المسيحية العاملة هناك وتبرع للحركة بمبلغ كبير من المال. في مكان إقامته الجديد طور تعاليمه، ويقال إنه اتصل بالغنوصي السوري كيردو–Cerdo وتأثر به، وكان يبشر مثله بالفصل بين الإله الخالق إله التوراة والإله الخفي الأعلى إله يسوع. وعندما انعقد مجمع كنسي في روما عام ١٤٤م، عمل مرقيون على الترويج لأفكاره والدفاع عنها، ولكن المجمع رفض أطروحاته بعد جدال طويل بشأنها. عند ذلك انسحب مرقيون من كنيسة روما وأسَّس كنيسته الجديدة التي أنفق بقية عمره في الدعوة إليها بعزيمة لا تفتر ولا تلين، وفي إحداث فروع لها في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية.

شكلَت كنيسة مرقيون أكبر تهديد للكنيسة القويمة في القرن الثاني الميلادي، وانتشرت فروعها في إيطاليا وبلاد الشام ومصر ووادي الرافدين وأرمينيا، وشارك أعضاؤها في النضال المسيحي إلى جانب إخوتهم من أتباع الكنيسة القويمة، ونالوا من الاضطهاد مثل ما نالهم وقدموا من الشهداء مثل ما قدموا. ولكن الكنيسة الرسمية لم تعتبرهم إلا هراطقة، وفي أول كتاب مسيحي ضد الهرطقة وضعه جوستين الشهيد نحو عام ١٥٠م، جرى تصنيف مرقيون إلى جانب كلٍّ من سمعان ماجوس السامري وتلميذه ميناندر باعتبارهم رأس المكيدة التي يدبرها الشيطان ضد المسيحية. وقد استمرت الكنيسة المرقيونية في الغرب إلى جانب الكنيسة القويمة إلى أن صارت المسيحية دينًا للإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي، ثم بدأت تتلاشى بتأثير القرارات الرسمية التي أصدرها الأباطرة ضد الهرطقات، وملاحقة الهراطقة وإحراق كتبهم. أما في الشرق فقد عاشت المرقيونية فترة أطول بسبب هجرةِ المرقيونيِّين إلى المناطق الريفية البعيدة واختفائهم من المدن الكبرى. ويبدو أن مَن لم يَعُد منهم إلى الكنيسة الرسمية قد دخل في المانوية بسبب التقارب الواضح بين العقيدتين. كما أن ماني نفسه قد استلَّهم على ما يبدو التنظيم الكنسي المرقيوني عندما كان يؤسس لكنيسته الغنوصية العالمية.

يقوم فكر مرقيون على الفصل التام بين العهد الجديد والعهد القديم، وكان معارضًا للطريقة المسيحية التقليدية في تأويل كتاب العهد القديم (= التوراة) لجعله متلائمًا مع العقيدة المسيحية. كما يقوم فكره على التناقض بين إله الشريعة وإله المحبة والخلاص؛ فالأول هو إله العهد القديم الذي خلق العالم وراح يحكمه من خلال شريعة قائمة على الانتقام، ومؤسِّسًا العدالة بلا رحمة أو طيبة. هذا الإله الحقود والناقص نقص العالم الذي خلقه، والذي يقول مرقيون إنه يعرفه حقَّ المعرفة، هو إله جدير بالازدراء ولا يستحق بالفعل العبادة التي يطلبها، وهو ليس أبًا ليسوع كما يعتقد المسيحيون القويمون. أما إله المحبة والخلاص الذي يدعوه مرقيون بالإله المتعالي والإله المجهول الذي يقيم في سمائه الخاصة فوق إله الخلق، فليس له علاقة بمجريات الأحداث في العالم لأنه لم يكن صانعَه، وهو لم يتدخل إلا بأن أرسل ابنه يسوع المسيح في هيئة جسمانية تُخفي أصله السماوي إلى هذا العالم البائس الذي أحبَّه وأراد له الخلاص، وفي هذه الهيئة الجسمانية حكم عليه إله التوراة بالصَّلب لأنه كان جاهلًا بحقيقته. ولكن يسوع قبل الرجوع إلى أبيه نزل إلى هاديس (= العالم الأسفل أو الجحيم) ليكمِّل فعله الخلاصي بتحرير الأموات. وهناك شمَل فعله الخلاصي جميعَ الأمم التي طالَتها لعناتُ التوراة، بينما بقي أعمدة التاريخ الديني التوراتي في العالم الأسفل لأنهم بقوا على عنادهم وقساوة قلوبهم.

إن مفهوم اغتراب الله عن العالم هو مفهوم جذري لدى مرقيون. فما نعرفه عن الله هو أن جوهره الطيبة والرحمة، وفيما عدا ذلك فليس بإمكاننا تقديم أي وصف أو تحديد له؛ لأن شروطنا الأرضية لا تسمح لنا بذلك. وبينما تعقد الأنظمة الغنوصية الراديكالية (التي لا ينتمي إليها مرقيون) صلةً من نوع ما بين الديميرج والإله الخفي المتعالي، باعتبار أن ظهور الديميرج كان نتاجًا لعملية سقوط في عالم الملأ الأعلى، فإن نظام مرقيون يُصرُّ على عدم وجود رابطة بين الإلهين. وعلى عكس هذه الأنظمة أيضًا، فإن الإنسان عند مرقيون هو مَن صنع الديميرج روحًا وجسدًا، وبالتالي فإن روحه ليست قبسًا من روح الإله الخفي، والشراكة في الجوهر مع الله لا تشكِّل العنصر الأساسي في عملية الخلاص عن طريق العرفان الذي يكشف للإنسان هذه الشراكة، لأنه معتمد بشكل كلي على رحمة الله ونعمته من خلال الإيمان بيسوع المسيح مخلِّصًا. هذا الإيمان هو الذي سيؤدي إلى مباركة الروح من قبل الإله الخفي، وتحويلها من روح ملوثة بشرِّ العالم بداعي ارتباطها بالجسد إلى روح نورانية منعتقة ومتحررة من سجن الجسد وسجن العالم.

إن عدم وجود صلة بين الديميرج والإله الخفي في فكر مرقيون قد أعفاه من تلك التصورات الميثولوجية المعقدة التي حاول معلمو الغنوصية الراديكالية من خلالها شرْحَ كيفية صدور الديميرج عن عالم الألوهة العلوي واستقلاله بخلق العالم المادي. فلقد التزم مرقيون الفكرَ الإنجيلي لا سيما أطروحات بولس التي طوَّرها بروح غنوصية لم تكن غائبةً عن بولس نفسه، ووصل بها إلى نتائجها المنطقية، التي لم يَصُغها بولس بطريقة صريحة.

وعلى الرغم من معارضة مرقيون لإله العهد القديم وتوكيده على تحرير الإنسان من حكمه، إلا أنه يعتقد أن عليه متابعة مهمته في تسيير شئون هذا العالم؛ لأن العالم من حيث الأصل لا قيمة له، والجسد الإنساني لا يساوي شيئًا وكذلك حياة هذا الجسد في العالم. لذلك فقد عارض مرقيون الزواجَ لأنه يؤدي إلى التكاثر، وإلى إدامة بؤس الشرط الإنساني عن طريق إنجاب رعايا جدد يقعون تحت سلطة إله هذا العالم ويساعدون على تعزيز سلطانه. وهو في هذا الموقف على نقيض النزعة النسكية المسيحية التي تُعارض الفعل الجنسي ما لم يكن هدفه الإنجاب.

كان لمرقيون عددٌ من الكتابات لم يصلنا منها إلا شذرات أوردها المؤلفون المسيحيون في معرضِ ردِّهم على الهرطقات المسيحية، ولكنه لم يعتبر مؤلفاته كُتُبًا مقدسة كما فعل ماني. ولذلك فقد عَمِل على تزويد كنيسته بكتاب مقدس اختار أسفاره من عديد الأسفار التي كانت متداولة بين المسيحيِّين في ذلك العصر، فكان بذلك أولَ مَن أقرَّ كتابًا قانونيًّا معتمدًا للعهد الجديد. وقد احتوى هذا الكتاب على إنجيل لوقا بعد أن حذف منه مرقيون قصةَ الميلاد التي اعتقد أنها مقحمة على النص الأصلي، وسلسلة نسب يسوع التي تربطه بالملك داود، كما حذف منه ما اعتقد بأنه مداخلات يهودية. كما اعتمد مرقيون إلى جانب إنجيل لوقا عشرًا من رسائل بولس وهي: غلاطية، وكورنثة ١ و٢، وروما، وتسالونيكي ١ و٢، وإفسوس، وفيلمون. وفي ردها على هذا الإجراء سارعَت كنيسة روما إلى صياغة كتابها القانوني الذي احتوى على معظم الأسفار التي نعرفها اليوم، واعتبرت كتاب التوراة العبرانية بمثابة عهد قديم لهذا العهد الجديد.

ولكي نأخذ فكرة عن الطريقة التي عرض بها المؤلفون المسيحيون أفكار مرقيون، سوف أقدِّم فيما يلي هذا المقتبس من كتاب المؤلف إيرينايوس المتوفَّى نحو عام ٢٠٠م والذي نافح فيه عن العقيدة المسيحية ضد الهرطقات، وهو بعنوان «ضد الهرطقات» (باللاتينية Adversus Haereses):

«ومرقيون البنطي خَلَف كيردو، وطوَّر مذهبه الذي جدَّف فيه بلا حياء على الإله الذي اعترفت به الشريعة كما الأنبياء، ودعاه بصانع الشر، ومحب الحروب، والمخادع المراوغ، والمناقض لنفسه. وهو يقول بأن يسوع قد جاء من قِبل الآب الذي يقيم فوق هذا الإله الذي صنع العالم، عندما كان بونتوس بيلاطس واليًا على اليهودية في أيام الإمبراطور تيبيريوس، وأظهر نفسه لأهل اليهودية في هيئة رجل بشري، معلنًا أنه جاء ليهدم الشريعة وتعاليم الأنبياء وجميع أفعال هذا الإله الذي خلق العالم، والذي يدعوه مرقيون حاكم وسيد هذا العالم. وقد اعتمد إنجيل لوقا بعد أن شذبه وحذف منه كلَّ ما له علاقة بنسب يسوع، وأقواله وتعاليمه التي يُقر فيها بأن خالق العالم الذي تدعوه الأسفار المقدسة بالرب هو أبوه. وقد أقنع تلاميذه بأن تعاليمَه أكثرُ مصداقية من تعاليم الرسل الذين نقلوا لنا الإنجيل، بينا لم ينقل لهم هو إلا جزءًا صغيرًا منه. كما أنه اختصر رسائل بولس الرسول وحذف منها كلَّ ما قاله بولس بخصوص خالق العالم باعتباره أبًا ليسوع، كما حذف كلَّ مقتبسات بولس من نبوءات الأنبياء التي تتحدث عن مجيء المسيح.»

«وبرأيه فإن الأرواح التي تتقبل تعاليمه هي التي ستحقق الخلاص. وهذا الخلاص لا يشارك به الجسد لأنه مصنوع من مادة الأرض، وزيادة في التجديف على الله، قدَّم لنا مرقيون هذه القصة التي تجعله متحدثًا باسم الشيطان وعدوًّا للحقيقة: فعندما هبط يسوع بعد قيامته إلى الجحيم، خلَّص من ربقة الموت قابيل وسلالته، وأهل سدوم، والمصريين وأمثالهم من الأمم الوثنية؛ لأنهم هرعوا إليه وآمنوا به فضمَّهم إلى ملكوته. أما هابيل وأخنوخ ونوح، وإبراهيم ونسله، والأنبياء، وكل البارين الذي أطاعوا الرب، فلم يشملهم الخلاص الذي أعلنَته الحية لمرقيون، لأنهم اعتقدوا أن الرب الذي كان دومًا يجرِّبهم قد جرَّبهم مرةً أخرى، فلم يهرعوا إلى يسوع ولم يصدقوا دعواه، وبقيَت أرواحهم في الجحيم.»

من هذا العرض العام لتعاليم مرقيون، نلاحظ أنه قد أبقى نفسه على مسافة متساوية من الغنوصية الراديكالية ومن المسيحية القويمة. ويمكننا اعتباره لاهوتيًّا مسيحيًّا أكثر منه لاهوتيًّا غنوصيًّا. ولكن بعض تلاميذه المباشرين مالوا من بعده إلى الراديكالية وطوروا تعاليمه ووصلوا بها إلى حيث لم يشأ لها أن تصل. من أهم هؤلاء التلاميذ المدعو آبيليس–Apelles، الذي نشأ في الإسكندرية موطن الغنوصية المصرية، وهو الذي حرَّف مسار تعاليم أستاذه لتلتقيَ مع تعاليم الغنوصية الراديكالية في ذلك العصر؛ فقد عزا إلى الروح الإنسانية وجودًا مسبقًا في عالم الإله الخفي الأعلى، كما جعل من الإله الذي صنع العالم ملاكًا ناريًّا خلقه الله، ولكنه سقط من عليائه وأدار ظهره للنور، ثم صنع العالم والإنسان. وهذا الملاك الساقط هو إله اليهود يهوه. وقد بثَّ آبيليس تعاليمه في كتابَين لم يصلَا إلينا، وإنما ألمح إليهما بعضُ المؤلفين المسيحيين مثل أوزيبيوس. وقد استقل آبيليس عن الكنيسة المرقيونية وأسَّس كنيسته الخاصة التي اندثرَت في أواخر القرن الثالث الميلاد.١

(١) المرقيونية في مؤلفات المسلمين

عاشت المسيحية المرقيونية في الشرق حتى القرن العاشر الميلادي على ما يورده ابن النديم في كتابه المعروف بالفهرست. فهول يقول: «ولأصحاب مرقيون عدة كتب غير موجودة إلا حيث يعلم الله. وهم يتسترون بالنصرانية، وهم بخراسان كثير، وأمرهم ظاهر كظهور المنانية (=المانوية).» ويقول في عقائدهم ما يلي: «المرقيونية هم أصحاب مرقيون، وهم قبل الديصانية. وهم طائفة من النصارى أقرب من المنانية والديصانية.» وزعمت المرقيونية أن الأصلَين القديمَين هما النور والظلمة، وأن ها هنا كونًا ثالثًا مزجها وخالطها. وقالت بتنزيهِ الله عز وجل عن الشرور؛ لأن خلق جميع الأشياء كلها لا يخلو من ضرر، وهو مُجَلٌّ عن ذلك. واختلفوا في الكون الثالث ما هو، فقالت طائفة منهم هو الحياة وهو عيسى، وزعمت طائفة أن عيسى هو رسول ذلك الكون الثالث، وهو الصانع للأشياء بأمره وقدرته. إلا أنهم أجمعوا على أن العالم مُحدث وأن الصنعة بيِّنةٌ فيه، ولا يشكُّون في ذلك. وزعمت أن مَن جانَب الزهومات (= اللحم والدسم) والمسكر وصلَّى لله دهره وصام أبدًا أفلت من حبائل الشيطان. والحكايات عنه (أي مرقيون) مختلفة كثيرة الاضطراب. وللمرقيونية كتابٌ يختصون به يكتبون به ديانتهم. ولمرقيون إنجيل سماه …

أما الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل، فقد وضع المرقيونية في باب «من له شُبهة كتاب»، وقال فيهم ما يلي: «أصحاب مرقيون، أثبتوا أصلَين قديمَين متضادَّين: أحدهما النور والثاني الظلمة. وأثبتوا أصلًا ثالثًا هو المعدَّل الجامع، وهو سبب المزاج. فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلا بجامع. وقالوا إن الجامع هو دون النور في المرتبة وفوق الظلمة. وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم. ومنهم مَن يقول: إن الامتزاج حصل بين الظلمة والمعدِّل؛ إذ هو أقرب منها، فامتزجَت به لتطيبَ به وتلتذَّ بملاذه. فبعث النور إلى العالم الممتزج روحًا مسيحية وهو روح الله وابنه، تحننًا على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم، حتى يخلصَه من حبائل الشياطين. فمَن اتبعه فلم يلامس النساء ولم يقرب الزهومات أفلت ونجا، ومَن خالفه هلك.»

«وقالوا: وإنما أثبتنا المعدِّل لأن النور هو الله تعالى، لا يجوز عليه مخالطة الشياطين … وأيضًا: فإن الضدَّين يتنافران طبعًا ويتمانعان ذاتًا ونفسًا، فكيف يجوز اجتماعهما وامتزاجهما؟ فلا بد من معدل يكون دون النور وفوق الظلام فيقع الامتزاج منه. وهذا على خلاف ما قالته المانوية، وهو أيضًا على خلاف ما قاله زردشت، فإنه يُثبت التضاد بين النور والظلمة، ويثبت المعدَّل كالحاكم على الخصمين الجامع بين المتضادين، لا يجوز أن يكون طبعه من أحد الضدين، وهو الله عز وجل الذي لا ضدَّ له ولا ند.»٢

من هذا العرض الذي قدَّمه ابن النديم والشهرستاني، نلاحظ أن العقيدة المرقيونية في صيغتها المتأخرة قد حافظت على بعض الأفكار الأصلية للمعلم الأول، ولكنها تبنَّت الكثير أيضًا من الأفكار والتصورات الغنوصية الراديكالية التي كانت أبعدَ ما تكون عن فكر مرقيون.

١  من أجل سيرة وتعاليم مرقيون انظر المراجع التالية:
  • M. Eliade, Encyclopedia of Relgion, edt, MacMillan, London, 1987, pp. 195–196.
  • W. Barnston, edt, The Other Bible, Harper, New York, 1984, pp. 642–644.
  • Kurt Rudolph, Gnosis, Harper, New York, 1987, pp. 313–316.
٢  من أجل المرقيونية في مؤلفات المسلمين، راجع:
  • الشهرستاني: الملل والنحل، دار الفكر، ص٢٠٣–٢٠٤.

  • ابن النديم: الفهرست، دار الكتب العلمية، ص٥٢٣–٥٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤