هل وُجد يسوع فعلًا؟

عبر التاريخ الطويل للبحث في العهد الجديد ظهر تيارٌ ما زال له مؤيدون في الوقت الراهن، يقول إن يسوع المسيح ليس شخصيةً تاريخية، وما أحداث الإنجيل إلا أسطورة تكوَّنت ببطء ونسجَتها مخيلةُ اللاهوتيِّين على مدى قرن من الزمان إلى أن اكتملَت بالطريقة التي وصلَتنا بها. إننا لا نعرف شيئًا عن أسرة يسوع ولا عن حياته قبل ظهوره الفجائي وهو في نحو الثلاثين من العمر، كما أن سيرة حياته التبشيرية كما دوَّنها الإنجيليون مليئة بالتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها على أي صعيد. ويبدو أن هؤلاء الإنجيليِّين الذين كانوا يكتبون باللغة اليونانية، لم يكونوا على معرفة مباشرة بجغرافية فلسطين وبيئتها الطبيعية، وأن أحدًا منهم لم يرَ يسوع شخصيًّا ولم يسمع منه، بل ولم يرَ مَن اجتمع بيسوع مباشرة وسمع منه. إننا نعرف مثلًا لون بشرة النبي محمد ولون عينَيه وطول قامته ومزاجه وطبائعه وأدق تفاصيل حياته، ولكننا لا نعرف شيئًا ملموسًا يتعلق بيسوع ولم يصفه لنا أحد من الذين رافقوه وخالطوه عبر حياته.

إن مسألة تاريخية يسوع بقيَت أمدًا طويلًا مادةً لجدلٍ أكاديميٍّ حادٍّ بين الباحثين، ولا يبدو أنها ستُغلَق في يوم من الأيام. ويرتكز أصحاب مقولة أسطورية الإنجيل بشكل رئيس على وقوف الرواية الإنجيلية وحيدةً في شهادتها على يسوع، ويقولون إن الأحداث التي وصفها الإنجيليون قد مرَّت من غير أن يلحظها أحد من المعاصرين. ففي القرن الأول الميلادي الذي دعوه أصحاب هذا الاتجاه بقرن الصمت عن يسوع، تم إنتاج مراجع غنية باللغتين اليونانية والرومانية أعطَتنا صورة حافلة بالتفاصيل عن أحداث القرن وعن الحياة الثقافية والسياسية في أصقاع الإمبراطورية لا سيما في المشرق العربي. ومؤلفو هذه المراجع على تخصصهم في حقول معينة، إلا أن طابع الموسوعية كان غالبًا على أعمالهم وقدَّموا لنا معلوماتٍ كثيرةً ما زلنا نستفيد منها اليوم في إعادة بناء تصورنا لذلك العصر.

من هؤلاء المؤلفين على سبيل المثال يَرِد ذِكرُ فيلون الإسكندري، وهو فيلسوف يهودي أفلاطوني (ت٥٤م)، وبلوترخ (٤٠–١٢٠م)، وتاسيتوس (٥٤–١٠٩م). وبلينوس الأصغر (٦١–١١٣م)، وسويتونيوس (٧٥–؟)، وسينيكا (ت٦٥م)، وجوفينال (٤٥–١٣٠م)، وبلينوس الأكبر (٢٣–٧٩م). ومن المنطقة الفلسطينية نفسها لدينا من طبريا المؤرخ جوستوس الذي أنجز كتابًا عن تاريخ ملوك اليهود حتى منتصف القرن الأول الميلادي، والمؤرخ اليهودي الشهير يوسيفوس الذي أمضى القسم الأخير من حياته في روما وأنجز خلال الربع الأخير من القرن الأول الميلادي كتابَين عن تاريخ اليهود، الأول بعنوان عاديات اليهود Jewish Antiquities، والثاني بعنوان الحروب اليهودية Jewish Wars. ومن هذين الأخيرين يمكن أن نتوقع إشارات إلى يسوع وحركته الدينية. ولكن جوستوس الذي قدَّم لنا معلومات غزيرة عن الملك هيرود أنتيباس حاكم الجليل في عصر يسوع، لم يتعرض ولو بإشارة عابرة إلى يسوع، أما يوسيفوس فإن المقطع الوحيد الذي ذكر فيه يسوع، ما زال حتى الآن موضعَ جدل بين الباحثين، وجلُّهم يؤكد بأنه إضافة مسيحية على النص الأصلي.١

في الرد على هذه الطروحات التي تبدو منطقية وجذَّابة للوهلة الأولى، تقول بأن يسوع وحركته الدينية ما كان لهما أن يلفتا نظر السلطات الرومانية ولا المؤلفين المعروفين في ذلك الوقت. فحياة يسوع التبشيرية لم تَدُم أكثر من سنة وفق الأناجيل الإزائية أو سنتين وفق إنجيل يوحنا. وخلال هذه الفترة القصيرة لم يُفلح يسوع في خلق حركة دينية قوية يمكن أن تُشغل بال السلطات اليهودية في أورشليم، أو حركة معارضة سياسية يمكن أن تُشغل بال السلطات الرومانية. إن قراءة ما وراء السطور في الأناجيل تقودنا إلى الاستنتاج بأن حركة يسوع لم تُفلح خلال حياته في التسرُّب إلى نسيج المجتمع الجليلي أو المجتمع اليهودي، وعندما مات لم يترك وراءه أكثر من مائة تابع على أكثر تقدير. أما دخول يسوع إلى أورشليم الذي صوَّره بعضُ الإنجيليِّين بطريقة فخمة وجعلوا أهل المدينة يخرجون لاستقباله شِيبًا وشُبَّانًا، وهم يبسطون أرديتَهم تحت حوافر حماره ويهتفون بأعلى أصواتهم تحيةً له، فإن إنجيل لوقا يقدِّم لنا الصورة الأقرب إلى الواقع عندما يقول: «فجاء التلميذان بالجحش إلى يسوع ورصفا رداءَيهما عليه وأركبا يسوع. وفيما هو سائر فرشوا ثيابهم في الطريق. ولما قرُب عند منحدر جبل الزيتون ابتدأ كلُّ جمهور التلاميذ يفرحون ويُسبِّحون الله بصوت عظيم قائلين: مبارك الملك الآتي باسم الرب، سلامٌ في السماء ومجدٌ في الأعالي» (لوقا، ١٩: ٣٥–٣٩).

فإذا كان الأمر كذلك، فإن إعدام يسوع لم يكن بالشأن الكبير الذي يمكن أن ينتشر خبرُه في أرجاء الإمبراطورية ويلفت نظر المؤرخين. فقد كان العشرات من القوميِّين اليهود يُصلَبون في تلك الأيام على يد السلطات الرومانية بتهمة الشغب السياسي والتحريض ضد روما، كما كان المجلس اليهودي (السنهدرين) يحكم بالموت رجمًا بالحجارة على مَن تثبت عليه تهمة التجديف أو ازدراء الشريعة. وكان استفانوس وهو أحد أعمدة كنيسة أورشليم بعد وفاة يسوع واحدًا من هؤلاء، على ما يُخبرنا به سفر أعمال الرسل. فقد ادَّعى عليه بعضُ اليهود قائلين: إنا سمعناه يكفر بموسى وبالله، ويقول إن يسوع الناصري يبدل ما أُورثنا به من سُنن. فحكم عليه المجلس بالرجم (أعمال، ٧: ٨–٥٣). وكانت العادة أن يُعلَّق المرجوم بعد موته على عمودٍ خشبي. وفي الحقيقة فإن جوهر تهمة يسوع لم يختلف كثيرًا عن تهمة استفانوس على الرغم من تقديمها إلى بيلاطس في قالب سياسي.

ويعطينا سفر أعمال الرسل معلومةً دقيقة عن عدد أتباع يسوع. فعندما اجتمع كل التلاميذ بعد أن ظهر يسوع لهم للمرة الأخيرة كان تعدادهم نحو مائة وعشرين (أعمال، ١: ١٥). وهؤلاء كانوا يواظبون على الصلاة في الهيكل اليهودي (٣: ١) ربما بداعي التقية، ولم يكن بالإمكان تمييزهم عن بقية اليهود، لا سيما وأنهم لم يُطلقوا على أنفسهم في البداية اسمَ المسيحيِّين، وإنما استخدموا تسميةً عامة ودعوا أنفسهم بالإيبونيِّين (إيبونيم) التي تعني بالعبرية الفقراء. أما اسم المسيحيِّين فلم يُطلَق على أتباع يسوع إلا نحو عام ٥٠م وكان ذلك في مدينة أنطاكية. ومما لا شك فيه أن يسوع قد استطاع استمالة عدد من اليهود المتكلمين باليونانية ممن كانوا يأتون لزيارة أورشليم بمناسبة الفصح اليهودي، وكانت له معهم حواراتٌ (يوحنا، ١٢: ٢٠). وعندما عاد هؤلاء إلى مواطنهم خارج فلسطين شكَّلوا بؤرًا مسيحيةً متفرقةً دون أن يلحظَهم أحدٌ لأنه لم يكن بإمكان الغريب عنهم التمييز بينهم وبين اليهود الآخرين. ولمثل هؤلاء وجَّه بولس الرسول خطابَه أولًا، سواء عن طريق زيارتهم أم عن طريق توجيه رسائله إليهم.

وقد ساهم نشاط بولس التبشيري المحموم في زيادة عدد البؤر المسيحية داخل الجماعات اليهودية وخارجها، ولكن المجتمع الروماني بقي على عدم تمييزه لهؤلاء عن بقية اليهود وبقوا على حالة الكمون التي يعيشونها. ولكن شيئًا ما حدث في روما نحو عام ٥٠م نقله إلينا مؤرخ القصر الإمبراطوري سويتونيوس نحو عام ١١٥م في كتابه «حياة الأباطرة الاثنا عشر»؛ حيث أورد خبرًا مقتضبًا وغامضًا بعض الشيء، فقال: إن الإمبراطور كلاوديوس (٤١–٥٤م) طرد من روما اليهود الذين أثاروا فتنةً بتحريضٍ من المسيح (= Christus باليونانية).٢ ومن الواضح هنا أن سويتونيوس كان ينقل هذه الواقعة حرفيًّا عن السجلات الإمبراطورية العائدة إلى أواسط القرن الأول عندما كانت المعلومات مشوشة عن المسيحيِّين وعن علاقتهم باليهود. ونحن هنا أمام أول خبرٍ تاريخي عن اليهود المتنصرين وعن معلمهم. وعلى الرغم من أن هذا الخبر موثَّق خارج فترة صمت القرن إلا أن صاحبه قد انتزعه ولا شك من وثائق تعود إلى زمن الحدث.
إن خبر سويتونيوس هذا يدلنا على أن المسيحية لم تظهر للعيان كحركة دينية متميزة قبل تقاطعها مع حياة المجتمع الروماني. وقد حصل مثل هذا التقاطع بشكل أكثر درامية في عصر الإمبراطور نيرون (ت٦٨م)، عندما شبَّ في أواخر فترة حكمه حريقٌ كبير في العاصمة روما وكاد أن يأتيَ على المدينة بأكملها، وسرَت شائعات بين الناس تقول إن نيرون هو الذي أشعل المدينة ليتمتع بالمشهد العظيم للكارثة. ولما كان سببُ الحريق مجهولًا بالفعل للسلطات الرومانية، فقد نصحه مستشاروه بالبحث عن كبش فداء وجده في الجماعات المسيحية التي وُجِّهت إليها التهمة، إضافة إلى تُهَمٍ أخرى تتعلق بممارسة السحر وطقوس غريبة تتضمن أكل اللحم البشري وشرب الدم. ولا شك أن هذه التهمة الأخيرة ذات صلة بطقس التناول الذي يتضمن أكل جسد المسيح وشرب دمه رمزيًّا من أجل التوحُّد معه. ومصدرنا عن هذه الأحداث هو مؤرخ آخر للقصر الإمبراطوري يُدعى تاسيتوس في كتابه الموسم بالحوليات Annals والذي يعود إلى نحو ١٢٠م، أي مرة أخرى إلى خارج ما يُدعى بقرن الصمت. ولكن هذا المؤرخ في تقصِّيه لأخبار الأباطرة كان مثل معاصره سويتونيوس يستخدم وثائق الأرشيف الملكي، كما أن ذكرى مثل هذه الأحداث كانت ما تزال ماثلة في الأذهان بعد مرور ستين عامًا على وقوعها، يقول تاسيتوس:
«لكي يقضيَ نيرون على الشائعات ألقى تهمة الحريق على عاتق تلك الجماعة المكروهة التي يدعوها الناس بالمسيحيِّين. وكان الحاكم بيلاطس قد أعدم المسيح الذي ينتمون إليه، وذلك في عهد الإمبراطور تيبيروس … وبعد القبض على أفراد الطائفة وانتزاع الاعترافات منهم كان معظمهم يُدان لا بتهمة الحرق المتعمد بالدرجة الأولى وإنما بتهمة كراهية الجنس البشري. وبعد ذلك كانت العقوبات القاسية والمهينة تُنفَّذ بحقهم، فكانوا يُلبَسون جلود الحيوانات البرية وتُطلق عليهم الكلاب الشرسة التي تمزقهم إربًا. أو كانوا يُثبَّتون على الصلبان وعند المساء كانت أجسادهم تُحرَق لتُضيءَ عتمة الليل مثل المشاعل. وقد قدَّم نيرون حدائقَه الخاصة لتكون مسرحًا لهذه المشاهد … إن هؤلاء بصرف النظر عن جريرتهم قد استحقوا التعاطف لأن عقابهم بهذه الطريقة لم يكن من أجل الصالح العام وإنما إرضاءً لنزوات رجلٍ واحد (= نيرون).»٣

نأتي الآن إلى المؤرِّخَين الفلسطينيَّين جوستوس من طبرية، ويوسيفوس اليهودي. فقد وُلد جوستوس في مدينة طبرية الجليلية ولكنه أمضى الشطر الثاني من حياته في مدينة إفسوس بآسيا الصغرى، وهناك وضع كتابه عن تاريخ ملوك اليهود الذي أنهاه خلال فترة حكم الملك هيرود أغريبا حفيد هيرود الكبير، والذي جعله الرومان ملكًا على اليهودية عام ٤١م، ولكنه لم يحكم سوى ثلاث سنوات لأنه تُوفِّي عام ٤٤م بشكل مفاجئ، وعادت اليهودية لتُحكَم من قِبل ولاةٍ رومانيِّين. أما لماذا لم يهتم هذا المؤرخ بذكر شيء عن يسوع والمسيحيِّين، فلأن الأحداث التي يرويها تنتهي بعد عقدَين من الزمان فقط على وفاء يسوع، عندما لم تكن المسيحية في فلسطين قد تميَّزت على اليهودية، ولا يمكن أن نتوقع منه كبيرَ اهتمامٍ بحركة دينية لم تكن قد طفَت على السطح في ذلك الزمن. يضاف إلى ذلك أن كتاب جوستوس يتحدث عن تاريخ ملوك اليهود، والمسيحية نشأت في زمن لم يكن فيه ملك على اليهودية.

أما يوسيفوس الذي كان موسوعيًّا بكل ما في الكلمة من معنًى، والذي أورد لنا في مؤلَّفَيه سابقَي الذكر كلَّ كبيرة وصغيرة، فقد جاء على ذكر يسوع في المخطوطات التي وصلَتنا من كتابه عاديات اليهود الذي أنهاه نحو عام ٩٤م، أي في أواخر قرن الصمت عن يسوع. وهذا نص الفقرة الخاصة بذلك وهي من المجلد الثامن عشر:
«في ذلك الزمان عاش إنسان حكيم يُدعى يسوع، إذا كان لنا أن ندعوه إنسانًا لأنه أتى أمورًا غير عادية، وكان معلِّمًا للناس الذين تقبلوا الحقيقة بفرح، وجذب إليه كثيرًا من اليهود واليونانيِّين. لقد كان هو المسيح. وحينما حكم عليه بيلاطس بالصلب بناء على اتهام شيوخنا، بقي الذين أحبوه منذ البداية مخلصين له، وفي اليوم الثالث لموته ظهر لهم حيًّا لأن أنبياء الرب تنبَّئوا بذلك وبكثير من معجزاته الأخرى.»٤
في التعامل مع هذا الخبر انقسم الباحثون إلى فريقين، فقد رفضه الفريق الأول جملةً وتفصيلًا باعتباره مداخلة مسيحية أضافها النُّسَّاخ اللاحقون، لأن يوسيفوس الذي كان مؤمنًا يهوديًّا ومن فرقة الفريسيِّين تحديدًا، قد دعا يسوع بالمسيح وتحدَّث عن قيامته من بين الأموات كأنها واقعة حدثَت فعلًا. أما الفريق الثاني فقد قَبِل الخبر في خطوطه العامة، على اعتبار أن يدَ مَن زوَّر هذا النص قد بنَى تزويره على نصٍّ أصليٍّ كتبَه يوسيفوس، وأن مهمتَه اقتصرَت على إضافة بعض العبارات ذات الصبغة المسيحية. وقد بقيَت نتائج الجدل بين الفريقين معلَّقةً في الفراغ، إلى أن نشر أحدُ الباحثين عام ١٩٧١م مخطوطًا من القرون الوسطى كتبَه باللغة العربية الأسقف آغابيوس تحت عنوان الحوليات العالمية. وكان من جملة ما تطرَّق إليه هذا المؤلف أخبارٌ عن يسوع مستمدة من الكتب القديمة بما في ذلك كتاب عاديات اليهود ليوسيفوس، الذي يبدو أنه كان محتفظًا بنسخة منه مختلفة عن بقية النسخ التي وصلَتنا، نسخة منقولة عن الأصل قبل تزويره، ومنه اقتبس هذا النص وأورده في مخطوطه:
«في ذلك الزمان عاش إنسانٌ حكيم دعوه يسوع، عاش حياة استقامة وعفة وصار له كثيرٌ من اليهود تلاميذَ. حكم عليه بيلاطس بالموت صلبًا، ولكن تلاميذه لم يتخلَّوا عنه. وقد قال هؤلاء إنه ظهر لهم حيًّا في اليوم الثالث بعد صلبه. وهم يفترضون أنه هو المسيح الذي تنبَّأ الأنبياء بموته.»٥
يبدو لنا هذا الخبر الذي أورده آغابيوس مكتوبًا من قِبل شخصٍ موضوعي. فهو لم يَقُل إن يسوع هو المسيح بل قال إن تلاميذه يفترضون ذلك. ولم يَقُل إنه ظهر لتلاميذه حيًّا في اليوم الثالث وإنما عزا لتلاميذه هذا القول. من هنا يمكن اعتباره أقرب إلى الصيغة الأصلية التي أوردها يوسيفوس. ولعل مما يدعم هذا الرأي أن يوسيفوس قد أورد خبرًا لاحقًا عن يسوع، يتحدث فيه عن حادثةٍ جرَت نحو عام ٦٢م عندما أعدم المجلس اليهودي «يعقوب أخا يسوع الذي يُدعى المسيح» (ويعقوب هذا ورد اسمه بين إخوة يسوع في إنجيل متَّى ١٣: ٥٥، وفي إنجيل مرقس ٦: ٣). إن الصيغة المختصرة لهذا الخبر وعدم تصدِّي المؤلف لمزيد من التعريف بيسوع، يدل على أنه اعتبر يسوع شخصية معروفة تمامًا ولا حاجة إلى التعريف بها. كما أن هذا الخبر الثاني يؤكد أصالة الخبر السابق.٦
ولكن ماذا يقول اليهود أنفسهم في يسوع؟ وهم المستفيد الأول من فكرة لا تاريخية يسوع لا سيما في جدالهم مع المسيحيين المنشقين عن اليهودية؟ إن وجهة نظر اليهود في يسوع تتخذ لدينا أهمية بالغة، لأن الأخبار التي تداولوها كانت أخبارًا متصلة وغير منقطعة ومستمدة من عصر يسوع نفسه، فقد أورد كتاب التلمود رواية كانت متداولة بين اليهود مفادها أن يسوع قد ولدَته امرأة تعمل ندافة من عشيقها الوثني بانتير. وقد سافر في شبابه إلى مصر حيث تعلَّم فنون السحر، وعندما عاد حُوكم وأُعدم رجمًا بالحجارة، ثم عُلِّق عشيةَ عيد الفصح.٧ ونحن إذن صرفنا النظر عن الحقد اليهودي الذي ينضح من هذا الخبر لما وجدنا فيه إلا توكيدًا على تاريخية يسوع. فلو لم يكن يسوع شخصًا من لحم ودم، ولو أن أحدًا ما قال في ذلك العصر إن يسوع كان شخصية مختلقة، لكان اليهود أسرعَ الجميع إلى إعلان ذلك، وحشد الوقائع للبرهنة عليه بدل التركيز على تشويه سمعته وسمعة أمه.

لقد تقصينا حتى الآن المصادر الخارجية التي تشهد على تاريخية يسوع، وهي المصادر نفسها التي ادَّعى بها أصحاب الرأي المخالف. ولكن ماذا عن مصادر كتاب العهد الجديد ذاتها؟ ولماذا تستبعد هذه المصادر من الجدال الدائر حول تاريخية يسوع؟ أليس من الممكن والمرجح أنها تحتوي على وقائع تاريخية جرى تقديمها في قالبٍ وعظيٍّ ألقى ظلالًا من الشك على مصداقيتها؟

لقد تحوَّل بولس الرسول إلى المسيحية في أربعينيات القرن الأول، وراح يبشر بالمسيح الذي صُلب من أجل خلاص العالم، وذلك بعد مُضيِّ نحو عقد واحد من الزمان على حادثة الصلب. ثم بدأ بكتابة رسائله المعروفة مع بداية خمسينيات القرن، والتي كان يجري تداولها على نطاق واسع بين المجموعات اليهودية المتنصرة قبل تدوين الأناجيل. فهل كان بولس يبشر بكائن أسطوري لم يوجد قط ولم يسمع أحدٌ بصلبه على يد بيلاطس قبل عقدين من الزمان؟ إن بولس لم يرَ يسوع لكنه عرف الذين رأوه وسمعوه، وكان على صلة بكنيسة أورشليم، وكان يلتقي ببطرس ويوحنا وغيرهما من تلاميذ يسوع. فهل كان هؤلاء شخصيات ميثولوجية أيضًا لم يعرفها ولم يسمع بها اليهود من مستمعي بولس؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف استطاع بولس استمالةَ عددٍ كبير من اليهود اليونانيين وكان بعضهم يحجُّ إلى أورشليم ويعرف أخبارها، ويعرف بالتالي كذِبَ ما يدَّعيه بولس؟

على أية حالٍ، فإن بولس لم يروِ لنا شيئًا من سيرة حياة يسوع، ولم يبشِّر بيسوع الإنسان الذي عاش في فلسطين، وإنما بيسوع القائم من بين الأموات وبالآثار الخلاصية لصَلبه وقيامته. وما علينا من أجل البحث عن يسوع التاريخي سوى الالتفات إلى الأناجيل الأربعة، من أجل إحداث شبكة من التقاطعات بين الأخبار الواردة فيها والأخبار التاريخية الموثَّقة. وهذا ما سوف نلتفت إليه فيما يلي من هذا البحث.

١  للتوسع في موضوع لا تاريخية يسوع انظر الفصل الثاني من كتاب:
كريفيلوف: المسيح، أسطورة أم حقيقة، موسكو، ١٩٨٧م.
٢  H. Shanks, edt, Christainity and Rabinic Judaism, 1992, p. 86.
٣  Tacitus, Annals, 15, 44-42-2-8. Citet in: Elain Pagels, The Gnostic Gospels, Vintage, New York, 1981, pp. 91, 121.
راجع أيضًا:
  • كريفيليوف، المرجع السابق ص١٤٢–١٤٣.

  • أ. س. سفينسكلايا: المسيحيون الأوائل، ترجمة حسان إسحاق، دار علاء الدين، دمشق، الفصل الرابع، ص٦٦.

٤  أ. س. سفينسكلايا: المسيحيون الأوائل، ترجمة حسان إسحاق، دار علاء الدين، دمشق، الفصل الرابع، ص٦٦.
٥  نفس المرجع السابق ص٦٦.
٦  Geza Vermes, The Changing Faces of Jesus, Penguin Compass, 2002, p. 276.
٧  أ. س. سفينسكلايا، المرجع السابق، ص٦٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤