لغز إخوة يسوع

كانت أسرة يوسف ومريم تضمُّ إلى جانب يسوع البكر أربعةَ إخوة له وأختين. عن هؤلاء الإخوة لا نعرف إلا أقلَّ من القليل؛ فقد أشار إليهم مرقس ومتَّى مرتين بشكل عابر، المرة الأولى في معرض تعجب أهل الناصرة عندما سمعوا كلمات الحكمة التي تخرج من فم يسوع، فقالوا: «أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوَليست أخواته ها هنا عندنا» (مرقس، ٦: ٣). وفي الموضع المقابل عند متَّى نقرأ: «أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمُّه تُدعى مريم وإخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا؟ أوَليست أخواته جميعًا عندنا» (متَّى، ١٣: ٥٥). ويردُ ذِكرُ الإخوة عند مرقس ومتَّي مرة ثانية عندما جاءت أم يسوع وإخوته يطلبونه وهو يكلم الجموع: «فجاء حينئذٍ إخوته وأمه ووقفوا خارجًا وأرسلوا إليه يدعونه. وكان الجمع جالسًا حوله، فقالوا له: هو ذا أمك وإخوتك خارجًا يطلبونك. فأجاب قائلًا: مَن أمي ومَن إخوتي؟ ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال: ها أمي وإخوتي. لأن مَن يصنع مشيئة الله، هو أخي وأختي وأمي» (مرقس، ٣: ٣١–٣٥. قارن مع متَّى، ١٢: ٤٦–٥٠). وعلى الرغم من أن متَّى ومرقس لم يذكرَا لنا عدد الأخوات أو أسماءهن، إلا أن المؤلفين المسيحيين في القرون الأولى للميلاد، مثل إبيفانوس، قالوا: بأنهن اثنتان واحدة تُدعى مريم والأخرى سالومي.١ أما لوقا ثالث الإزائيين، فقد تجاهل قائمة الأسماء التي أوردها مرقس ومتَّى، ولا نستخلص منه إشارةً ولو عابرة إلى وجود إخوة ليسوع أو أخوات.

فإنا انتقلنا إلى يوحنا وجدنا لديه إشارتَين إلى إخوة يسوع؛ الأولى عندما قال بشكل عابر إن يسوع بعد عرس قانا الذي حوَّل فيه الماء إلى خمر: «انحدر إلى كفر ناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه وأقاموا هناك» (يوحنا، ٢: ١٢). أما الإشارة الثانية فتستحق أن نتوقف عندها لأنها تُقدِّم لنا مدخلًا لفهم موقف إخوة يسوع منه، فهم إلى جانب عدم الإيمان برسالته قد سعَوا إلى وقوعه في أيدي السلطات اليهودية: «وكان عيد الخطال عند اليهود قريبًا. فقال له إخوته: انتقل من هنا واذهب إلى اليهودية لكي يرى تلاميذك أيضًا أعمالك التي تعمل، لأنه ليس أحدٌ يعمل شيئًا في الخفاء وهو يريد أن يكون علانية. إن كنت تعمل هذه الأشياء فأظهر نفسك للعالم. لأن إخوته لم يكونوا يؤمنون به. فقال لهم يسوع: إن وقتي لم يحضر بعدُ أما وقتكم ففي كل حين حاضر. لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني أنا لأني أشهد عليه بأن أعماله شريرة. اصعدوا أنتم إلى هذا العيد، أنا لست أصعد بعدُ» (يوحنا، ٧: ٢–٨). هذا الموقفُ الذي يُعبر عنه يوحنا أوضحُ تعبيرٍ في هذا الخبر، يأتي في انسجام مع ما أورده مرقس من أن أسرة يسوع جاءت للقبض عليه لأنهم اعتبروه فاقد الرشد: «ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليُمسكوه لأنهم قالوا إنه مختلٌّ» (مرقس، ٣: ٢١).

إن عقيدة العذرية الدائمة لمريم لا تجد سندًا لها في الأناجيل الأربعة، كما أن لقب «العذراء» بالمعنى اللاهوتي اللاحق لم يُسبغ على مريم في أي من أسفار العهد الجديد. فهذه العقيدة لم تترسخ إلا بعد أن قال بها اللاهوتي أبيفانوس في أواخر الرابع الميلادي، وقبل ذلك كان المؤلفون المسيحيون يشيرون إلى إخوة يسوع على أنهم «إخوة الجسد»، وهذا يعني أنهم أشقاؤه من نفس الأب والأم.٢ بعد تبنِّي هذه العقيدة كان على الكنيسة أن تخرج بتفسير لوجود إخوة ليسوع؛ فقال فريقٌ من اللاهوتيين إن صفة «الإخوة» كانت تشمل عند اليهود أبناء العمومة أو أبناء الخئولة، فهم والحالة هذه إما أولاد أخت مريم أو أولاد أخي يوسف. وقد شاع بين مؤرخي الكنيسة الأوائل اعتمادًا على أخبار متداولة أن أخا يوسف النجار كان يُدعى كلوبا. وفي الحقيقة فقد كان الشائع بين اليهود إطلاق صفة الإخوة على أبناء العمومة أو أبناء الخئولة، ولكن هذه الحالة لا تنطبق على إخوة يسوع لأننا نراهم على الدوام في صحبة مريم أو في صحبة مريم ويسوع، على ما ورد لدى متَّى ومرقس: «فبينما هو يكلم الجموع إذا أمه وإخوته خارجًا يطلبون أن يكلموه» (متَّى، ١٢: ٤٦. قارن مع مرقس، ٣: ٣١)، وعلى ما ورد أيضًا لدى يوحنا: «وبعد هذا انحدر إلى كفر ناحوم هو وأمه وإخوته وأقاموا هناك» (يوحنا، ٢: ١٢). وهذا يعني أن هؤلاء الإخوة كانوا جزءًا من أسرة يسوع يقيمون معه في بيت واحد، ولم يكونوا أبناء عمومة أو أبناء خئولة.
وقال فريق آخر من اللاهوتيِّين في إخوة يسوع بأنهم كانوا أولاد يوسف النجار من زواج سابق. ويبدو أنهم في اجتهادهم هذا قد استلهموا أناجيل الطفولة المنحولة التي يظهر فيها يوسف كرجل عجوز وله أولادٌ من زوجة متوفاة. فعندما استدعى الكاهن الأكبر زكريا كلَّ الرجال الأرامل وأجرى القرعة بينهم على مَن يكفل مريم التي أنهَت فترة إقامتها في الهيكل كمنذورة للرب، ثم يتزوجها بعد ذلك، وقعَت القرعة على يوسف، ولكن يوسف تخوَّف من حمل هذه المسئولية وقال لزكريا: «إنني شيخ وعندي أولادٌ أمَّا هي فعذراءُ فتيَّةٌ، وأخشى أن أُصبحَ موضعَ سخريةٍ بين أبناء إسرائيل.»٣وقال فريق ثالث بأن هؤلاء الإخوة قد ولدَتهم مريم ليوسف بعد يسوع، وهم إخوته الأشقاء بالجسد. وهذا الرأي يجد سندًا له من إنجيل متَّى الذي قال: «إن يوسف النجار لم يعرف مريم حتى وضعَت ابنها البكر» (متَّى، ١: ٢٥). أي إن الخلوة الزوجية لم تحصل بين الطرفين قبل ولادة يسوع وإنما بعدها. وقد أخذَت الكنيسة الغربية بالرأي الأول الذي يقول بأن إخوة يسوع هم أبناء خئولةٍ أو عمومةٍ له، بينما أخذَت الكنيسة الشرقية بالرأي الثاني القائل بأنهم أولاد يوسف وإخوةٌ غير أشقاء ليسوع. أما الرأي الثالث فقد أسقطَته الكنيسة ولا يأخذ به الآن إلا الباحثون العلمانيون.

ولكن هنالك مفاجأة أخرى تنتظرنا فيما يتعلق بإخوة يسوع. فمؤلف إنجيل لوقا الذي تجاهل وجودَ إخوة ليسوع مثلما تجاهل أي دور لمريم في حياة يسوع التبشيرية، يقول لنا في الإصحاح الأول من سفر أعمال الرسل المنسوب إليه إن أم يسوع وإخوته كانوا بين تلاميذ يسوع الذين كانوا يجتمعون معًا للصلاة بعد أن صَعِد عنهم يسوع إلى السماء: «وهؤلاء كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة مع النساء، ومريم أم يسوع، ومع إخوته» (أعمال، ١: ١٤). فأين كانت مريم قبل ظهورها الفجائي هذا؟ وكيف تحوَّل إخوة يسوع إلى الدين الجديد، وهم الذين لم يؤمنوا برسالته (يوحنا، ٧: ٥)، والذين حاولوا وضْعَه تحت الحجر لأنهم اعتبروه مختلَّ العقل (مرقس، ٣: ٢١)، ولماذا غابت أم يسوع بعد هذه الإشارة العابرة إليها، ولم يأتِ مؤلف أعمال الرسل على ذكرها مرةً أخرى؟

إن ظهورَ أمِّ يسوع المفاجئ في سفر الأعمال يمكن قبوله مع كثير من التحفظ، وذلك اعتمادًا على إنجيل يوحنا؛ حيث ظهرت أمُّ يسوع فجأةً أيضًا عند صليبه بعد غيابها عن جميع أحداث الإنجيل عقب قصة عرس قانا التي جرَت في مطلع الأحداث، والروايتان تؤيدان بعضهما بعضًا على الرغم مما فيهما من غرابة. أما ظهور إخوة يسوع بين التلاميذ في سفر أعمال الرسل، فلا يمكن تفسيره بسبب موقفهم الذي أوضحه النصُّ من يسوع خلال السنة التي سبقَت صلبَه. فمَن هم أولئك الذي دعاهم لوقا بإخوة يسوع في أعمال الرسل بعد أن تجاهل في إنجيله وجودَ إخوةٍ له؟ من أجلِ حلِّ هذا اللغز سوف نلتفت إلى حلِّ لغزٍ آخر هو لغز مريم الأخرى التي ورد ذكرُها بين النساء اللواتي رافقنَ يسوع وحضرنَ واقعةَ صلبِه.

في مشهد الصلب نقرأ عند مرقس ما يلي: «وكانت نساء ينظرن من بعيد، بينهن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وسالومة، اللواتي تبعنَه وخدمنَه حين كان في الجليل» (مرقس، ١٥: ٤٠–٤١). وفي السياق نفسه، نقرأ عند متَّى: «وكانت هناك نساءٌ كثيرات ينظرنَ من بعيد، وهنَّ كنَّ قد تبعنَ يسوع من الجليل يخدمنَه، وبينهن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي» (متَّى، ٢٧: ٥٥–٥٦). وبعد أن أُودع جثمان يسوع في القبر يقول لنا متَّى: «وبعد السبت جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر، وإذا زلزلة عظيمة حدثَت … إلخ» (متَّى، ٢٨: ١–٢).

ولنقارن الآن قائمتي الأسماء في الروايتين بعد تغيير ترتيب الأسماء في كل قائمة:
  • مرقس: سالومة – مريم المجدلية – مريم أم يعقوب ويوسي.
  • متَّى: أم ابني زبدي – مريم المجدلية – مريم أم يعقوب ويوسي (= الأخرى).

إن المقارنة بين القائمتين تقودنا إلى الاستنتاج بأن مريم أم يعقوب ويوسي هي نفسها مريم الأخرى، وأن سالومة هي نفسها أم ابني زبدي، أي يعقوب ويوحنا صيادي السمك.

لوقا لم يذكر لنا أسماء النساء اللواتي كنَّ ينظرنَ واقعة الصَّلب، واكتفى بالقول: «وكان جميع معارفه ونساءٌ كنَّ قد تبعنَه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك» (لوقا، ٢٣: ٤٩). أما يوحنا فيقدِّم لنا قائمةً جديدة بأسماء النسوة؛ حيث يقول: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية» (يوحنا، ١٩: ٢٥). إن قائمة يوحنا هذه قد تبدو لأولِ وهلةٍ مختلفةً تمامًا عن قائمة مرقس ومتَّى، إلا أننا بعد المقارنة وإنعام النظر سنجد أنها لا تختلف إلا في إحلال أم يسوع محلَّ سالومة (أم ابني زبدي)، لأن زوجة كلوبا المدعوة أيضًا مريم هي نفسها مريم الأخرى أم يعقوب ويوسي، على ما تُبيِّنه المقارنة التالية:
  • مرقس: سالومة – مريم المجدلية – مريم أم يعقوب ويوسي.
  • متَّى: أم ابني زبدي – مريم المجدلية – مريم أم يعقوب ويوسي (الأخرى).
  • يوحنا: أم يسوع – مريم المجدلية – مريم زوجة كلوبا.

وكما نلاحظ فقد حلَّت أم يسوع في قائمة يوحنا محلَّ سالومة أم ابني زبدي، وبقيت مريم الأخرى أم يعقوب ويوسي التي عرَّفها لنا بأنها أخت أم يسوع زوجة كلوبا.

ولكن مَن هو كلوبا (= كليوباس/Cleophas في الأصل اليوناني)؟ في غير هذا الموضع من إنجيل يوحنا لم يَرِد في بقية الأناجيل اسم كلوبا إلا مرةً واحدة عند لوقا باعتباره أحد تلاميذ يسوع. ففي اليوم الثاني للصَّلب كان اثنان من التلاميذ منطلقَين إلى قرية قريبة من أورشليم: «وكانا يتكلمان بعضهما مع بعضٍ عن جميع هذه الحوادث، وفيما هما يتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما، ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفته. فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسان؟ فأجاب أحدهما الذي اسمه كليوباس وقال له … إلخ» (لوقا، ٢٤: ١٣–١٩). ولكن التاريخ الكنسي أورد معلوماتٍ عن كلوبا هذا، وقال بأنه أخٌ ليوسف النجار. وهذه المعلومة جاءتنا من الكاتب المسيحي هيجسبوس الذي عاش في أواسط القرن الثاني الميلادي، وجمع في مؤلَّفٍ له ما استطاع جمعَه واستقصاءَه عن المسيحيين الأوائل، ولكن مؤلفه قد ضاع وبقيَت منه شذراتٌ وردَت بشكل رئيسي في كتاب تاريخ الكنيسة لأوزيب القيساري من القرن الرابع الميلادي.٤ كما نقل لنا أوزيب هذا عن هيجسبوس أيضًا أن كلوبا عمُّ يسوع هذا كان له ابنٌ يُدعى سمعان استلم قيادة كنيسة أورشليم عام ٦٢م.٥ وبذلك نحصل على قائمة بأولاد كلوبا عمِّ يسوع وزوجته مريم تضم كلًّا من: يعقوب ويوسي وسمعان. وهؤلاء أولادُ عمِّ يسوع، أي إخوته بالمفهوم اليهودي لذلك الزمان.
إلا أن هذه القائمة بأولاد أخت مريم زوجة كلوبا تُبدي لنا بعضَ الغرابة لأنها تحتوي على ثلاثة من أسماء أولاد يوسف النجار ومريم أم يسوع، وهم: يعقوب ويوسي وسمعان (راجع القائمة الأولى عند مرقس، ٦: ٣؛ ومتَّى، ١٣: ٥٥) أي إن مريم زوجة يوسف وأختها زوجة كلوبا أخي يوسف وتُدعى مريم أيضًا هما سلفتان متزوجتان من أخَّين، وأنجبَت كلٌّ منهما ثلاثةَ أولاد يُدعون بالأسماء نفسها. من أجلِ حلِّ هذه المعضلة، اقترح البعض قراءة نص إنجيل يوحنا المتعلق بأسماء النسوة اللواتي كنَّ حاضرات في مشهد الصلب ليغدوَ على الشكل التالي: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه، ومريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية»٦ وبذلك يكون عدد الحاضرات هو أربع نساء بدلًا من ثلاثة على ما تُبيِّنه المقارنة التالية:
  • النص الأصلي: أم يسوع – أخت أمه مريم زوجة كلوبا – مريم المجدلية.
  • القراءة المقترحة: أم يسوع – أخت أمه – مريم زوجة كلوبا – مريم المجدلية.

هذا الاستنتاج المنطقي هو الذي يقودنا إلى إلغاء التعارض بين الأناجيل التي بيَّنت لنا بوضوح الموقفَ السلبي لإخوة يسوع منه ومن رسالته، وبين سفر أعمال الرسل الذي يُفاجئنا في إصحاحه الأول بوجود إخوة ليسوع مع التلاميذ بعد أن ارتفع عنهم. فهؤلاء الإخوة المذكورون في سِفر الأعمال ليسوا أولادَ مريم امرأة يوسف بل أولاد مريم زوجة كلوبا عمِّ يسوع.

على أن بعض المؤلفين المعاصرين اليهود ممن كتبوا في سيرة يسوع لهم رأيٌ آخر في حلِّ مشكلة تشابُه أسماء أولاد مريم زوجة يوسف وأسماء أولاد مريم زوجة كلوبا، مفاده أن المريمتين هما في حقيقة الأمر واحدةٌ، وأن في القصة سرًّا حاولت الأناجيل إخفاءَه. ولنتابع هذا الرأي المتطرف لدى الكاتب جيمس طابور الذي ناقش المشكلة على الوجه التالي:

لدينا سببٌ وجيهٌ للافتراض بأن يوسف النجار قد مات في وقت مبكر من حياة يسوع. فبعد قصص الميلاد يختفي يوسف ولا يظهر ثانيةً في أي حدث من أحداث الإنجيل. فعندما جاءت أم يسوع وإخوته ووقفوا خارجًا يطلبونه (متَّى، ١٢: ٤٦–٥٠) لم يكن يوسف بينهم، وعندما انتقل يسوع مع أمه وإخوته ليقيم في كفر ناحوم (يوحنا، ٢: ١٢) لم يكن يوسف معهم، وكذلك الأمر خلال الأحداث العاصفة للأسبوع الأخير من حياة يسوع، وعند اجتماع التلاميذ بعد صعوده عنهم ومعهم إخوة يسوع وأمه (أعمال، ١: ١٢–١٤). وعلى الأرجح فإن يوسف قد مات دون أولاد لأنه لم يكن الأب الجسدي ليسوع. وبناءً عليه، ووفق شريعة التوراة، كان على الأخ الأعزب أن يتزوج امرأة أخيه المتوفَّى لكيلا ينقطعَ نسله. وهذه القاعدة الشرعية موضَّحةٌ في سِفر التثنية ٢٥: ٥–١٠. كما جرت الإشارة إليها في إنجيل مرقس ١٢: ١٨–٢٣. ثم يخلص المؤلف من مناقشته الطويلة لبعض نصوص الإنجيل إلى أن أخا يوسف المدعو كلوبا قد تزوج أم يسوع وأنجب منها يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا، الوارد ذكرهم في الأناجيل على أنهم إخوة يسوع. وبالتالي لا يوجد لدينا قائمتان بأسماء أولاد المريمتين وإنما قائمة واحدة بأسماء أولاد مريم أم يسوع من زوجها الثاني كلوبا.٧

من بين إخوة يسوع أولاد كلوبا، هنالك شخصية تستحق أن نتوقف عندها، وهو يعقوب الذي دعاه بولس بأخي الرب، في معرض حديثه عن زيارته لأورشليم ولقائه لبعض المسئولين عن الجماعة المسيحية الأولى فيها.

(١) لغز يعقوب أخو الرب

في سِفر أعمال الرسل الذي يروي عن نشاط أتباع يسوع بعد صعوده. يقول لنا لوقا في الإصحاح الأول: إن الرسل الأحد عشر بعد أن ارتفع يسوع عنهم، «رجعوا إلى أورشليم من جبل الزيتون وصعدوا إلى العليَّة التي كانوا يقيمون فيها، وكانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطِّلبة مع النساء اللواتي تبعنَ يسوع، ومع مريم أم يسوع ومع إخوته» (أعمال، ١: ٩–١٤)، ثم يقول لنا إنه بعد بضعة أيام دعا بطرس جميعَ أتباع يسوع من التلاميذ وكان عددهم نحو مائة وعشرين من أجل اختيار رسول ثاني عشر ليحلَّ محلَّ يهوذا الإسخريوطي الذي مات بعد خيانته ليسوع، فوقع الاختيار على متياس فحُسب مع الأحد عشر رسولًا (أعمال، ١: ١٥–٢٦). في هذا الخبر، يبدو لنا بطرس كرئيس الكنيسة أورشليم الناشئة، على الرغم من أن الكاتب لا ينصُّ صراحة على ذلك. وهذا الاستنتاج تدعمه حقيقة أن بطرس كان أبرزَ الرسل الاثنَي عشر خلال حياة يسوع، وكان مع يوحنا ويعقوب (ابنا زبدي) الأقرب إليه من البقية. كما تدعمه مسيرةُ أحداث سفر الأعمال حيث نجد بطرس في أكثر من موضع يقف ويخطب في التلاميذ ويُعطي تعليماته إليهم. وهو يظهر مع يوحنا ابن زبدي في بعض المفاصل الرئيسية من حياة الجماعة المسيحية الأولى. فقد شفيا مقعدًا باسم يسوع الناصري (٣: ١–١٠). وكانا يخطبان في الشعب عندما أرسل الكهنة وقبضوا عليهما وأودعا في السجن (٤: ١–٢٢). وتوجها معا إلى السامرة للتبشير بين أهلها (٨: ١٤–٢٥).

في سياق رواية أعمال الرسل نتعرف على اثنين من التلاميذ يحملان اسم يعقوب، الأول يعقوب ابن زبدي أخو يوحنا الذي قتله الملك أغريبا الأول الذي عيَّنه الرومان حاكمًا على اليهودية والسامرة من عام ٤٠ إلى عام ٤٤م: «وفي ذلك الوقت مدَّ هيرودوس (أغريبا) يدَيه ليُسيءَ إلى أُناس من الكنيسة، فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف. وإذ رأى أن ذلك يُرضي اليهود عاد فقبض على بطرس أيضًا» (١٢: ١–٣). ولدينا تلميذٌ آخر يُدعى يعقوب أشار إليه مؤلف سفر الأعمال ثلاث مرات؛ المرة الأولى بعد خروج بطرس من السجن عندما جاء إلى بيت مرقس حيث كان عددٌ من التلاميذ مجتمعين هناك، فقال لهم: «أخبروا يعقوب والإخوة بهذا. ثم خرج وذهب إلى موضع آخر» (١٢: ١١–١٧). وفي المرة الثانية عندما وقف شخصٌ اسمه يعقوب وتكلَّم في اجتماع للتلاميذ فحدَّد واجبات المنتمين إلى المسيحية من الوثنيِّين تجاه الشريعة، وحصرها بالامتناع عن السجود للأصنام، وعن الزنا، وعن أكل الدم ولحم الحيوانات المخنوقة (١٥: ١٣–٢١). وفي المرة الثالثة عندما عاد بولس إلى أورشليم من رحلته التبشيرية: «ولما وصلنا إلى أورشليم قَبِلنا الإخوة بفرح، وفي الغد دخل بولس معنا إلى يعقوب وحضر جميع المشايخ» (أعمال، ٢١: ١٧–١٨). فمَن هو يعقوب الذي يبدو في هذه الإشارات على اقتضابها شخصيةً قيادية في الحركة المسيحية الناشئة؟

إن الاعتماد على سفر أعمال الرسل من أجل تحديد هوية يعقوب، يقودنا إلى القول بأنه يعقوب بن حلفي الوارد ذكره في قائمة أسماء الرسل الاثنَي عشر لدى كلٍّ من مرقس ٣: ١٦–١٩ ومتَّى ١٠: ٢–٤ ولوقا ٦: ١٣–١٦. ولكن بولس في رسالته إلى أهالي غلاطية يقول: إنه في زيارته الأولى لأورشليم بعد ثلاث سنوات من اهتدائه، زار بطرس لكي يتعرَّف عليه ومكث عنده خمسة عشر يومًا، ولكنه لم يرَ غيره من الرسل إلَّا يعقوب أخا الرب (غلاطية، ١: ١٨–١٩). وفي الإصحاح الثاني من الرسالة نفسها يقول بأنه زار أورشليم للمرة الثانية بعد أربع عشرة سنة، حيث التقى «يعقوب وصفا (= بطرس) ويوحنا، المعتبرين أنهم أعمدة» (غلاطية، ٢: ١–١٠). وهذا ما يقودنا إلى التأكد من هوية يعقوب سفر الأعمال على أنه يعقوب ابن كلوبا، ابن عم يسوع أو أخوه بالمعنى المجازي السائد. وقد كان واحدًا من الهيئة القيادية العليا إلى جانب بطرس ويوحنا.

وتتأكد لدينا هويةُ يعقوب سفر الأعمال من خلال شهادة خارجية. فقد روى المؤرخ يوسيفوس أن المجلس اليهودي في عام ٦٢م اتَّهم يعقوب أخا يسوع (هكذا وردت تسميته في النص) بالهرطقة وحكم عليه بالموت رجمًا بالحجارة.٨ وقد أورد لنا أوزيب القيساري في تاريخه الكنسي نبذةً مقتبسةً عن هيجيسبوس من أواسط القرن الثاني الميلادي يتحدث فيها عن يعقوب. فقد كان نذيرًا للرب من بطن أمه، لم يأكل اللحم ولم يشرب الخمر ولم يحلق شعر رأسه ولم يضمخ جسده بالعطور. وكان يصلي من أجل غفران خطايا الشعب. وعندما حكم عليه اليهود بالموت رجمًا ركع على ركبتَيه وطلب من الرب أن يغفر لقاتليه. وبعد موت يعقوب اجتمع الرسل وبقية التلاميذ واختاروا ابنًا آخر لكلوبا أخي يوسف يُدعى سمعان ليحلَّ محلَّ يعقوب. وقد عاش سمعان هذا حتى سنٍّ متأخرة وحكم عليه الرومان بالصَّلب في عهد الإمبراطور تراجان (٩٨–١١٧).٩

إن خلاصة ما توصلتُ إليه بخصوص إخوة يسوع، هي أنهم ينتظمون في مجموعتين؛ الأولى هم إخوته بالجسد من يوسف ومريم، والثانية هم أولادُ عمِّه كلوبا. وإلى هذه المجموعة الثانية ينتمي مَن دعاه بولس ومؤلفو التاريخ الكنسي بيعقوب أخي الرب، كما ينتمي إليها سمعان بن كلوبا الذي حلَّ محلَّ أخيه يعقوب في مجلس الرسل الاثنَي عشر. وقد كان لهاتين الشخصيتَين دورٌ قياديٌّ بارزٌ في توجيه الحركة المسيحية المبكرة. هذه الخلاصة لا تتفق مع التفسير الكنسي ولا مع تفسير بقية الباحثين، ولكنها تقوم على استقراء دقيق لمعطيات الأناجيل.

١  جيمس طابور. سلالة يسوع، ترجمة سهيل زكار، دمشق ٢٠٠٨، ص٩٧.
٢  المرجع نفسه، ص٩٩.
٣  راجع إنجيل يعقوب ١٩، وسنحول متَّى ٨ في مجموعة منحولات العهد الجديد:
Montague R. James, Apocryphal New Testament, Oxford, 1983.
٤  James Stewart, The Foreigner, Hamish Hamilton, London, 1981, p. 18.
٥  H. Schonfield, The Passover Plot, Element, Great Britain, 1996, p. 207.
٦  من أجل هذه القراءة، راجع إنجيل يوحنا في الترجمة الكاثوليكية الجديدة، بيروت ١٩٦٩م، ص٣٢٥، الحاشية رقم ٢.
٧  جيمس. د. طابور، المرجع السابق، الفصل الرابع.
٨  Hershel Shanks, Chritianty and Rabbinic Judaism, Biblical Archaeology Society, Washington. D.C. 1992, pp. 13, 309.
٩  Hugh Schonfield, The Passover Plot, Element, 1996, pp. 279, 241.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤