مشكلة إنجيل يوحنا

وعودة إلى التلميذ المحبوب

يعتبر إنجيل يوحنا ظاهرةً متفردةً بين الأناجيل الأربعة. فهو يمتلك رؤيةً خاصةً، وبنيةً عامةً، وتحقيبًا زمنيًّا، وأسلوبًا في أقوال يسوع، لا يوازيها شيء في الأناجيل الأخرى. كما ويقدم لنا لاهوتًا مختلفًا عن لاهوت الأناجيل الإزائية. فرسالة يسوع في الأناجيل الإزائية هي رسالة أخروية، تركِّز على قرب حلول ملكوت الله والمطالب الأخلاقية اللازمة لدخوله، عندما ينتهي الزمن والتاريخ وينتزع الله العالم من سلطة الشيطان، ويُرسل ابنه في قدومه الثاني ديَّانًا يُنهي العالم القديم ويقيم على أنقاضه عالمًا جديدًا يرثه المؤمنون. وقد ورد تعبير ملكوت الله في الأناجيل الإزائية نحو ثمانين مرة، أما إنجيل يوحنا الذي لم يَرِد فيه هذا التعبير إلا مرةً واحدةً، فإن طريقة تعامله معه توضح لنا مراميه اللاهوتية المختلفة: «ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا وُلد من علٍ. فقال له نيقوديموس: كيف يسع الإنسان أن يُولد وهو شيخ؟ أيستطيع أن يدخل في بطن أمه ثانيةً ثم يولد؟ أجاب يسوع: الحق، الحق أقول لك: ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا وُلد وكان مولده من الماء والروح. فمولود الجسد يكون جسدًا ومولود الروح يكون روحًا» (يوحنا، ٣: ٣–٦). أي إن دخول الملكوت لا يكون في زمان مقبل، بل هو متيسر هنا والآن إذا مات الإنسان عن نفسه وعاش في الله. فرسالة يسوع ليست رسالةً أخرويةً وإنما هي رسالة عرفان روحي يتحقق من خلال معرفة الابن الذي حمل الخلاص للعالم بموته على الصليب.

يتميز إنجيل يوحنا بأسلوب أدبي يوناني رفيع المستوى، وتتخلله أفكارٌ فلسفية تنتمي إلى الأفلاطونية الوسيطة التي كان فيلون الإسكندري واحدًا من أبرز ممثليها، إضافةً إلى أفكارٍ غنوصية تشكِّل الأساس اللاهوتي الذي يقوم عليه هذا الإنجيل. وهذا ما دعا الباحثين في السابق إلى اعتباره مصدرًا للبحث عن يسوع اللاهوتي أكثر منه مصدرًا للبحث عن يسوع التاريخي. ولكن كثيرًا من الباحثين في العهد الجديد اليوم يرون أن مؤلف إنجيل يوحنا قد زودنا بتفاصيلَ صحيحةٍ عن جغرافية وطبوغرافية فلسطين في أيام يسوع (لا سيما أورشليم) وعن العادات اليهودية وطقوس الهيكل. الأمر الذي يرجح في رأيهم أن مؤلفه كان شاهدَ عيانٍ على حياة يسوع، وأن الأحداث التي يرويها تتمتع بقدرٍ كبير من المصداقية.

إن أقدم الشذرات التي وصلتنا من إنجيل يوحنا ترجع إلى زمن ما بين عام ١٢٥ وعام ١٥٠م، كما أن أقدم الإشارات إلى هذا الإنجيل قد جاءتنا من أواسط القرن الثاني الميلادي. وهذا يعني أن الإنجيل قد دُوِّن قبل عام ١٢٥م. والرأي الغالب لدى الباحثين اليوم أنه قد دُوِّن بين عام ١٠٠ وعام ١١٠م.١ ولكن مَن هو مؤلفه؟ إن مقدمة الإنجيل تقول: «الإنجيل بحسب يوحنا». ولكن أي يوحنا هو؟

بعد وفاة بولس الرسول عام ٦٣م، وهو الذي قدم لنا أول أدبيات مسيحية مدونة، لم يمارس أحد تأثيرًا كبيرًا على العقيدة المسيحية يعادل التأثير الذي مارسه مؤلف إنجيل يوحنا. وهذا ما دعا الكنيسة المبكرة إلى اعتباره واحدًا من الاثنَي عشر، والمطابقة بينه وبين يوحنا بن زبدي صياد السمك الذي كان مع أخيه يعقوب من التلاميذ المقربين إلى يسوع. فهو التلميذ الذي أحبه يسوع، والذي أغفل الإنجيل ذكْرَ اسمه، ولكنه أراد إفهامنا في الإصحاح الأخير بأنه كاتبه. أو أن شهاداته كانت وراء تدوينه.

ولكن المشكلة التي يواجهها دارسُ إنجيل يوحنا، هي غياب أي إشارة في الإنجيل يمكن أن توحي بالمطابقة بين يوحنا بن زبدي والتلميذ الذي أحبه يسوع. والمؤلف قد تجاهل تقريبًا وجودَ يوحنا وأخيه في حياة يسوع، ولم يأتِ على ذكرهما إلا مرةً واحدةً عندما أشار إليهما كابنَي زبدي دون ذكر اسمَيهما (يوحنا، ٢١: ١–٢). يضاف إلى ذلك أنه من المستبعد جدًّا، إن لم يكن من المستحيل، أن يكون يوحنا صياد السمك المتواضع وغير المتعلم هو كاتب الإنجيل الرابع بأسلوبه الأدبي الراقي وطابعه الفلسفي. وقد سبقنا سفر أعمال الرسل إلى الإقرار بعامية وسذاجة يوحنا بن زبدي عندما وصفه مع بطرس بأنهما أميان. فبعد أن أجرى هذان التلميذان إحدى معجزات الشفاء وقاما بعد ذلك يخطبان في الشعب، استدعاهما الكهنة وراحوا يستجوبونهما: «فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا تعجبوا وقد عرفوهما أُميَّين (أو عاميَّين في ترجمة أخرى) ولا علم عندهما. ولكنهم عرفوا أنهما كانا قبلًا من صحابة يسوع. وهم إلى ذلك يرون الرجل الذي شفي واقفًا قربهما، فلم يكن لديهم ما يجيبونهم عنه، فأمروهما بالانصراف من المجلس» (أعمال، ٤: ١٣–١٥). فهل هنالك يوحنا آخر يمكن أن يكون كاتبَ الإنجيل الرابع؟ وما هي علاقة هذا اليوحنا بالتلميذ المحبوب؟

لقد ورد في بعض الأخبار المتداولة لدى المسيحيِّين الأوائل، ومنها ما ورد عند إيرنايوس أسقف ليون نحو عام ١٨٠م: أن يوحنا الرسول قد انتقل إلى مدينة إفسوس بآسيا الصغرى وعاش عمرًا مديدًا هناك. وفي أواخر أيامه أقنعه البعض بأن يدوِّن ذكرياته عن يسوع، فأنجز الإنجيل الرابع. ولكن لا يوجد لدينا شواهد من القرن الأول الميلادي على أن يوحنا الرسول (ابن زبدي) قد رحل إلى آسيا الصغرى، وكل ما لدينا من أخباره في العهد الجديد يعود إلى ما قبل عام ٦٠م. فقد ذُكر لآخر مرة في سفر أعمال الرسل ٨: ١٤ عندما ذهب مع بطرس من أجل التبشير في منطقة السامرة، كما ذكره بولس في رسالته إلى أهالي غلاطية مع بطرس ويعقوب أخي الرب باعتبارهم أعمدة كنيسة أورشليم (غلاطية، ٢: ٩) وذلك نحو عام ٥٠م، كما أن سفر الأعمال يُخبرنا عن مقتل أخيه يعقوب على يد هيرود أغريبا الأول عام ٤١م (أعمال، ١٢: ١–٢)، وذكرت أخبار متداولة أخرى أن اليهود قد قتلوا يوحنا نفسه بعد ذلك بفترة وجيزة.٢ ومن الملفت للنظر أن أغناطيوس أسقف أنطاكية في رسالته المعروفة إلى أهالي إفسوس عام ١١٠م، قد خاطبهم بقوله: «يا أهل بولس»، مشيرًا بذلك إلى إقامة بولس بينهم منذ عدة عقود ورسالته الموجَّهة إليهم (الرسالة إلى أهالي إفسوس). ولو أن يوحنا الرسول كان مقيمًا في إفسوس بين عام ١٠٠ و١١٠م عندما أنجز إنجيله هناك، لما تردَّد أغناطيوس في ذِكر ذلك، وكان أحرى به أن يناديَهم بيا أهل يوحنا الرسول؛ لأنهم كانوا أقرب عهدًا إلى يوحنا منهم إلى بولس.٣
على أن شخصيةً مسيحيةً مهمةً أخرى كانت نشطةً في آسيا الصغرى خلال مطلع القرن الأول الميلادي، يدعوها بابياس في كتابه الذي ظهر عام ١٤٤م بيوحنا الشيخ (أو يوحنا القس). وقد التقى بابياس بيوحنا هذا قبل وفاة الأخير عام ١٣٠م، عندما كان يجمع مادة كتابه باحثًا عن أي شخص عرف أحد التلاميذ المباشرين ليسوع، علَّه يحصل من هؤلاء على شهادات مباشرة على أحداث الإنجيل. ولكنه لم يُشر من قريب أو بعيد إلى أن يوحنا الشيخ هذا يمكن أن يكون هو نفسه التلميذ المحبوب.٤

على أن شخصية يوحنا الشيخ ليست غائبةً عن أسفار العهد الجديد، لأنه في اثنتين من الرسائل الثلاث المعزوة إلى شخص اسمه يوحنا، نجد أن الكاتب قد قدَّم نفسه في البداية تحت لقب «الشيخ» (رسالة يوحنا الثانية: ١؛ والرسالة الثالثة: ١). فهل كان يوحنا آسيا الصغرى المعروف بالشيخ أيضًا هو مؤلف رسائل يوحنا؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل له صلة بكتابة الإنجيل الرابع؟ وما هي صلته بالتلميذ المحبوب؟ قبل التعامل مع هذه الأسئلة سوف نتوقف لنبحث في ثنايا الإنجيل الرابع عن التلميذ المجهول الذي دعاه المؤلف بالتلميذ الذي أحبَّه يسوع دون أن يُفصح عن اسمه. أم هل لعله أفصح ولكن الباحثين حتى اليوم قد أغمضوا أعينهم عما هو تحت أبصارهم، وذلك بتأثير الأفكار المسبقة المسيطرة؟

هنالك ملاحظتان في غاية الوضوح تركهما لنا المسئول عن الصياغة النهائية للإنجيل، نستشف منهما وجودَ شخصين مسئولين عن إنجاز هذا العمل، الأول هو التلميذ الحبيب الذي كان يُملي ذكرياته عن يسوع، والثاني هو الذي كان يدوِّن هذه الذكريات ويُعيد صياغتها بأسلوبه ومن خلال فهمه وتفسيره للوقائع، بطريقة اختلطت معها الواقعة بالتفسير الذاتي للمدون. وإليكم هاتين الملاحظتين:
  • (١)

    عندما تلقَّى الجنود الأمر بكسر سيقان المصلوبين من أجل التعجيل بموتهم، قاموا بكسر ساقَي اللص الأول والثاني، وعندما وصلوا إلى يسوع وجدوه ميتًا فطعنه أحدُهم بحربةٍ في جنبه فخرج على الإثر دمٌ وماء. وهنا يقول مؤلف الإنجيل: «يشهد بذلك الذي رأى، وشهادته صحيحة ويعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا مثله» (١٩: ٣١–٣٥). ومن الواضح هنا أن المؤلف لا يقدِّم لنا شهادته الخاصة وإنما شهادة شخص آخر.

  • (٢)

    يختم المؤلف إنجيلَه بالجملة التالية التي يعزو فيها إلى التلميذ الحبيب كلَّ ما دوَّنه عن يسوع من شهادات، فيقول: «وهذا التلميذ هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدوِّنها.» ثم يميز المؤلف نفسه عن صاحب الشهادات ويتابع قائلًا: «ونحن نعلم أن شهادته حقٌّ» (٢١: ٢٤).

ولنتابع الآن ظهورات هذا التلميذ من البداية إلى النهاية في سياق الأحداث، ونلاحظ كيف أن مدوِّن الإنجيل لم يشأ لنا أن نفترض بأن التلميذ الذي أحبَّه يسوع هو يوحنا بن زبدي، وأن كل ما أورده بشأنه ينطبق على شخصٍ مختلف تمامًا. ولسوف نُعيد هنا ذكر بعض ما أوردناه في بحث «الإنجيل السري ولغز التلميذ الحبيب»، متوسعين في الموضوع ومضيفين إليه عناصرَ جديدةً.

  • (١)

    يظهر التلميذ الحبيب للمرة الأولى في رواية دعوة التلاميذ، حيث نجد اثنين من أتباع يوحنا المعمدان وقد التحقا بيسوع وصارا أول أتباعه، وهما أندراوس أخو بطرس وآخر لم يذكر لنا المؤلف اسمه: وفي الغد أيضًا كان يوحنا واقفًا هو واثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع ماشيًا، فقال: هو ذا حمل الله. فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع. فالتفت يسوع ونظرُهما يَتْبعانِه، فقال لهما: ماذا تطلبان؟ فقالا: رابي (الذي تفسيره يا معلم) أين تقيم؟ فقال لهما: تعالا وانظرا. فأتيا ونظرا أين يقيم ومكثا عنده ذلك اليوم. وكانت الساعة نحو العاشرة (= الرابعة بعد الظهر). وكان أندراوس أخو سمعان بطرس واحدًا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه. فلقيَ عند الصباح أخاه سمعان، فقال له: وجدنا ماشيحا، أي المسيح. وجاء به إلى يسوع. فنظر إليه يسوع وقال: أنت سمعان بن يونا، أنت تُدعَى صفا، الذي تفسيره بطرس (١: ٣٥–٤٢). بعد ذلك يدعو يسوع تلميذَين آخرَين هما فيلبس ونثنائيل، وبذلك يغدو عدد التلاميذ الأوائل الذين تبعوا يسوع خمسة، هم: أندراوس وسمعان بطرس أخوه، وفيلبس ونثنائيل، والتلميذ المُغفَل الاسم. وعلى عكس رواية دعوة التلاميذ لدى الإزائيين، فإن يعقوب ويوحنا ابنَي زبدي غائبان عن رواية التلاميذ الأوائل عند يوحنا ولا ندري متى وأين التحقا به بعد ذلك.

  • (٢)

    لا يظهر هذا التلميذ المُغفَل الاسم بعد ذلك في إنجيل يوحنا إلا خلال الأسبوع الأخير من حياة يسوع، وبعد أن أضاف إليه المؤلف لقبَ «التلميذ الذي أحبَّه يسوع». وبما أن مؤلف الإنجيل قد أشار في إصحاحه الأخير إلى أن شهادات تلميذ مغْفَل الاسم تكمن وراء إنجاز إنجيله الذي تلقاه المسيحيون الأوائل تحت عنوان «الإنجيل بحسب يوحنا»، فقد شاع منذ البداية أن مؤلف هذا الإنجيل هو يوحنا الرسول أخو يعقوب. هذه الفكرة المسيطرة قد حجبَت عن الجميع حقيقةً في غاية الوضوح، وهي أن التلميذ الوحيد الذي أكنَّ له يسوع حبًّا خاصًّا هو لعازر من بيت عنيا أخو مريم ومرتا. وقصة إحياء لعازر التي يظهر فيها التلميذ المغْفَل الاسم للمرة الثانية، ولكن باسمه الصريح هذه المرة، تُثبت صحة ما نذهب إليه: «وكان إنسانًا مريضًا وهو لعازر من بيت عنيا من قرية مريم وأختها مرتا. ومريم هي التي دهنت الرب بالطيب ومسحت قدميه بشعرها، وكان لعازر المريض أخاها. فأرسلت الأختان إلى يسوع تقولان: يا سيد هو ذا الذي تحبه مريض … وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر، على أنه لبث في مكانه يومين بعدما عرَف أنه مريض» (يوحنا، ١١: ١–٦). نلاحظ في هذا المقطع أن المؤلف أكد مرتين على حب يسوع للعازر، فالأختان قالتا له: «الذي تحبه مريض»، وقال المؤلف: «وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر». وفيما يلي من هذه القصة هناك توكيدات أخرى على هذه المحبة التي جمعت بين الطرفين. فبعد يومين من تلقِّيه الخبر قال يسوع لتلاميذه: «لعازر حبيبنا قد نام، لكني أذهب لكي أوقظَه» (١١: ١١). وعندما وصل إلى بيت عنيا واستقبلَته مريم وهي تبكي ويبكي معها مَن تبعها من المعزِّين «بكى يسوع. فقال اليهود: انظروا كيف كان يحبه» (١١: ٣٥–٣٦). وفي إنجيل مرقس السري (راجع بحثنا السابق: إنجيل مرقس السري ولغز التلميذ المحبوب) نجد يسوع وقد اختلى بالتلميذ الحبيب بعد إحيائه الليلَ بطوله وهو «يعلمه أسرار ملكوت الله»، أي أنه كان يُفضي إليه بتعاليم خاصة كانت وقفًا على المقربين منه.

    هذا الظهور الثاني للتلميذ المحبوب في آخر حياة يسوع التبشيرية، لا يعني أن يسوع لم يجتمع به منذ الظهور الأول في رواية دعوة التلاميذ. وسوف نرى لاحقًا كيف أن يسوع خلال إقامته الطويلة في أورشليم والتي سبقَت الفصح الأخير وأسبوع الآلام، كان في كل يوم ولمدة ثلاثة أشهر يترك أورشليم حيث كان يُعلم في النهار، ويتوجه إلى بيت عنيا في جبل الزيتون لقضاء الليل هناك. وقد حفظت لنا الأناجيل الإزائية التي أغفلَت ذكْرَ التلميذ المحبوب أثرًا من هذه العلاقة المميزة التي جمعت بين يسوع وأسرة بيت عنيا: «وبينما هم سائرون دخل قرية فأضافته امرأة اسمها مرتا، وكان لها أخت تُدعى مريم جلست عند قدمَي يسوع تستمع إلى كلامه. وكانت مرتا مشغولة بأمور كثيرة من الضيافة فأقبلت وقالت: يا رب، أما تبالي أن تتركني أختي أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعينني. فأجاب يسوع وقال لها … إلخ» (لوقا، ١٠: ٣٨–٤٢).

  • (٣)

    في زيارته الأخيرة لأورشليم، وصل يسوع قادمًا من الجليل قبل الفصح بستة أيام وتوقَّف في بيت عنيا؛ حيث بات ليلته هناك. فأعدَّت له الأسرة عشاءً، «وأخذت مرتا تخدم، أما لعازر فكان في جملة المتكئين معه. فأخذت منًّا من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمَي يسوع ثم مسحَتهما بشعرها، فعبق البيت بالطيب … إلخ» (يوحنا، ١٢: ١–٨).

  • (٤)

    ويبدو أنه كان للعازر دورٌ مهمٌّ في الترتيبات التي أعدَّها يسوع لدخوله أورشليم. والشهادة هنا تأتينا من إنجيل لوقا: «وإذا قَرُب من بيت فاحي وبيت عنيا عند الجبل الذي يُدعى جبل الزيتون، أرسل اثنين من تلاميذه قائلًا: اذهبا إلى القرية التي أمامكما، وحين تدخلانها تجدان جحشًا مربوطًا لم يركبه أحدٌ من الناس قط، فحُلَّاه وأتيا به. وإن سألكما أحدٌ لماذا تحلَّانه فقولا له إن السيد محتاج إليه … فأَتَيَا به إلى يسوع وطرحَا ثيابهما على الجحش وأركبا يسوع …» (لوقا، ١٩: ٢٨–٣٦). من الواضح هنا أن يسوع قد عَهِد إلى شخص من بيت عنيا مهمةَ تأمين الجحش الذي سيركب عليه وهو داخل إلى أورشليم، وهذا الشخص ليس سوى لعازر الذي يثق به يسوع، وقد أعطاه كلمةَ السر التي سيقولها مَن يأتي لاستلام الجحش، وهي: «الرب محتاج إليه».

  • (٥)

    خلال الأيام الخمسة الأخيرة التي قضاها يسوع في أورشليم قبل القبض عليه كان ينسحب من المدينة في المساء ليبيت في بيت عنيا. نقرأ في إنجيل مرقس: «فدخل يسوع أورشليم والهيكل، وتفقَّد كلَّ شيء فيه. وكان الوقت قد أمسى فخرج إلى بيت عنيا مع الاثنَي عشر» (مرقس، ١١: ١١). وفي إنجيل متَّى: «ثم تركهم وخرج من المدينة إلى بيت عنيا فبات فيها. وبينما هو راجع إلى المدينة صباحًا … إلخ» (متَّى، ٢١: ١٧–١٨). ومن المؤكد هنا أن يسوع كان يبيت في دار لعازر وأختَيه لا في أي مكان آخر.

  • (٦)

    بعد أن أفصح مؤلف إنجيل يوحنا عن اسم التلميذ الآخر الذي أغفل ذِكر اسمه في رواية دعوة التلاميذ، وعرفنا أنه لعازر الذي أحبه يسوع، يعود إلى ذكره في قصة العشاء الأخير تحت لقب «التلميذ الذي أحبه يسوع». فأثناء العشاء قال يسوع لتلاميذه: «الحق، الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني. فكان التلاميذ ينظرون إلى بعضهم بعضًا وهم محتارون فيمَن قال عنه. وكان أحد التلاميذ متكئًا على حضن يسوع وهو الذي كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل مَن عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ على صدر يسوع، وقال له: يا سيد مَن هو؟ أجاب يسوع: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه» (يوحنا، ١٣: ٢١–٢٦).

    ويبدو أن هذا الاجتماع للعشاء الأخير قد حدث في بيت بأورشليم يملكه التلميذ الغني لعازر، وأن يسوع قد أوكل إليه أمرَ ترتيب هذا العشاء بسرية تامة كي لا يعرفَ اليهود مكانه. هذه الترتيبات السرية يتحدث عنها إنجيل مرقس حيث نقرأ: «فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء فاتبعاه، وحيثما يدخل فقولا لرب البيت: إن المعلم يقول أين غرفتي التي آكل فيها عشاء الفصح مع تلاميذي؟ فيريكما في أعلى البيت غرفة واسعة مفروشة، فهيِّئاه لنا هناك» (مرقس، ١٤: ١٢–١٥). يتضح لنا من قول يسوع للتلميذين: «فيريكما في أعلى البيت غرفة … إلخ»، أن يسوع قد رتب مسبقًا للعشاء، وتفقَّد المنزل الذي اختاره للعشاء واتفق مع صاحبه بخصوص الموضع الذي سيتم فيه الاجتماع.

    ولعل مما يؤكد لنا أن العشاء قد حصل في بيت لعازر، هو جلوسه إلى جانب يسوع في صدر المائدة كما يجلس المضيف إلى جانب ضيفه الرئيس. كما تُفصح جلسة لعازر وهو يتكئ بمرفقه على ساق يسوع المطوية تحته، عن مدى قربه من معلِّمه وغياب الرسميات في العلاقة بينهما. من هنا فقد كان الأجرأ على طرح أسئلة لا يجرؤ الآخرون على طرحها. وهذا ما حفَّز بطرس وهو رئيس الاثنَي عشر على الإيماء له لكي يسأل يسوع عن هوية الخائن. فقام لعازر بحركة تدل ثانية على دفء العلاقة بينهما عندما اتكأ على صدر يسوع وهو يُوجِّه السؤال إليه.

    ولكي نأخذ فكرةً واقعيةً عن مشهد العشاء الأخير، يجب أن ننسى لوحات عصر النهضة الأوروبية التي تصوِّر يسوع والاثنَي عشر جالسين على كراسي إلى طاولة مستطيلة عليها عددٌ من الصحفات الحاوية على أطعمة متنوعة يُسكب منها في صحون إفرادية، ونتصور بدلًا من ذلك جلسة على الأرض حيث يتربع التلاميذ حول غطاء مفروش أو طبلية قليلة الارتفاع عليها صحفة واحدة أو اثنتان يغمس فيها الجلوس بقطع صغيرة من الخبز المرقوق دون ملاعق أو شوكات وسكاكين. وهذا ما يدل عليه جواب يسوع عندما قال: «هو ذاك الذي أغمس اللقمة وأعطيه.» وفي إنجيل مرقس: «هو واحد من الاثنَي عشر، الذي يغمس معي في الصحفة» (مرقس: ١٤–٢٠).

  • (٧)

    في قصة القبض على يسوع وسَوقه إلى دار رئيس الكهنة من أجل استجوابه، يعود مؤلف الإنجيل إلى استخدام لقب «التلميذ الآخر» الذي استخدمه في مطلع الإنجيل بدلًا من لقب التلميذ الذي أحبَّه يسوع. فقد تفرق التلاميذ بعد القبض على يسوع مثل خراف ضُرب راعيها، ولم يتبعه إلى دار رئيس الكهنة إلا اثنان: «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفًا عند رئيس الكهنة فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة، وأما بطرس فكان واقفًا عند الباب خارجًا. فخرج التلميذ الآخر الذي كان معروفًا عند رئيس الكهنة وكلَّم (الجارية) البوابة فأدخل بطرس» (يوحنا، ١٨: ١٥–١٦). فمَن من بين تلاميذ يسوع «كان معروفًا عند رئيس الكهنة» على حدِّ قول المؤلف، ويملك حقَّ إدخال مَن شاء إلى بيته؟ هل هو يوحنا بن زبدي صياد السمك المتواضع من الجليل، أم لعازر الأورشليمي ابن الأسرة الغنية التي تُقيم في ضاحية بيت عنيا ولها بيتٌ آخر في أورشليم؟

    ويبدو أن صداقة لعازر الشاب مع رئيس الكهنة لم تكن صداقةً شخصية، وإنما صداقة عائلية تقليدية وَرِثها لعازر عن أبيه الذي كان رئيس الكهنة يحمل له مودة شخصية قبل وفاته، ثم تابع بعد ذلك اهتمامه بلعازر وأختَيه وفاءً لذكرى والدهم. وقد كشفنا سابقًا عن شخصية أبي لعازر باعتباره سمعان الأبرص من بيت عنيا، والذي جرَت في بيته بعد وفاته قصةُ قيام امرأة بسكب زجاجة عطر على يسوع (راجع مرقس، ١٤: ٣–٩؛ ومتَّى، ٢٦: ٦–١٣؛ ويوحنا، ١٢: ١–٨)، وذلك في بحثنا «لغز مريم المجدلية»، فليراجع في موضعه.

  • (٨)

    وقد سمح القائمون على عملية الصلب للتلميذ الحبيب ومعه أمُّ يسوع وامرأتان من التلاميذ بالوقوف تحت صليب يسوع، أما الباقون فكانوا ينظرون من بعيد: «فلما رأى يسوع أمه وإلى جانبها التلميذ الذي كان يحبُّه قال لأمه: يا امرأة هو ذا ابنك، ثم قال للتلميذ: هو ذا أمك. فأخذها التلميذ إلى بيته من تلك الساعة» (يوحنا، ١٩: ٢٥–٢٧). هذا التلميذ الذي أخذ أم يسوع إلى بيته، لا يمكن أن يكون إلا لعازر، لأنه الوحيد بين تلاميذ يسوع الذي يملك بيتًا في ضواحي المدينة، وربما بيتًا آخر في أورشليم نفسها على ما استنتجنا أعلاه.

  • (٩)

    عندما طُعن يسوع بحربةٍ في جنبه فظهر على إثرها دم وماء، يقول مؤلف الإنجيل: «يشهد بذلك الذي رأى، وشهادته صحيحة، ويعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا مثله» (يوحنا، ١٩: ٣٥). والمقصود ﺑ «الذي رأى» في هذا الخبر هو التلميذ الحبيب لأنه الوحيد من بين التلاميذ الذي كان حاضرًا واقعةَ الصلب وعاينَها عن قرب.

  • (١٠)

    في قصة ظهور يسوع للمجدلية بعد قيامته، يستخدم المؤلف لقبَ «التلميذ الآخر» مضافًا إليه لقب «الذي أحبه يسوع». فعندما جاءت المجدلية لتتفقَّد القبر فوجدَته فارغًا وقد أزيح الحجر عن مدخله: «ركضَت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي أحبَّه يسوع وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه. فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيَا إلى القبر، وكان الاثنان يركضان معًا فسبق التلميذ الآخر بطرس، وجاء إلى القبر فانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل، ثم جاء بطرس يتبعه ودخل القبر … فحينئذٍ دخل التلميذ الآخر الذي جاء أولًا ورأى فآمن» (يوحنا، ٢٠: ١–١٠).

  • (١١)

    في آخر ظهور ليسوع بعد قيامته، وفق إنجيل يوحنا، يَرِد ذِكرُ التلميذ الآخر أو الذي أحبَّه يسوع ثلاث مرات في المرة الأولى نفهم أنه واحد من اثنين لم يذكر المؤلف اسمَيهما: «بعد هذا أظهر يسوع نفسه للتلاميذ على بحيرة طبرية. ظهر هكذا: كان سمعان بطرس، وتوما الذي يقال له التوءم، ونثنائيل الذي من قانا الجليل، وابنا زبدي (= يوحنا، ويعقوب)، واثنان آخران من تلاميذه مع بعضهما» (يوحنا، ٢١: ١–٢). لمعرفة هوية التلميذين اللذين لم يذكر المؤلف اسمَيهما، علينا أن نرجع إلى رواية دعوة التلاميذ، إلى أول تلميذين استجابَا ليسوع؛ أحدهما ذَكر لنا المؤلفُ اسمَه على أنه أندراوس أخو سمعان بطرس، والثاني ترك اسمَه مغْفلًا ودعاه فيما بعد التلميذ الآخر، أو الذي أحبَّه يسوع، أو باللقبَين معًا: «وفي الغد أيضًا كان يوحنا واقفًا هو واثنان من تلاميذه. فنظر إلى يسوع ماشيًا، فقال: هو ذا حمل الله. فسمعه التلميذان يتكلم فتَبِعَا يسوع … وكان أندراوس أخو سمعان بطرس واحدًا من الاثنين اللذين سَمِعَا يوحنا وتَبِعَاه» (يوحنا، ١: ٣٥–٤٠). وبالطريقة نفسها فإن المؤلف في قصة الظهور الأخير يغفل اسم أندراوس، وفي المشهد التالي يُفصح عن هوية الثاني باعتباره التلميذَ المحبوب. وفي كلتا الحالتين فإن التلميذَين المقصودَين هما أندراوس ولعازر، أما يوحنا بن زبدي فقد أشار المؤلف إلى وجوده مع أخيه يعقوب عندما أشار إلى وجودهما معًا كابنَي زبدي دون ذكْرِ اسمَيهما، وبالتالي فإن التلميذ المحبوب لا يمكن أن يكون يوحنا بن زبدي.

ثم إن بطرس قال لزملائه: أنا ذاهب لأتصيَّد. فقالوا له: نذهب نحن أيضًا معك. فدخلوا السفينة وألقَوا بشباكهم ولكنهم لم يُمسكوا شيئًا. فلما طلع الصباح وقف يسوع على الشاطئ ولكن التلاميذ لم يعرفوه. فقال لهم: أيها الفتيان، أعندكم شيء يؤكل؟ أجابوه: لا. فقال لهم: ألقوا الشبكة إلى يمين السفينة تجدوا. فألقوا ولم يقدروا على سحبها من كثرة السمك. عند ذلك: «قال التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس: هو الرب. فلما سمع بطرس أنه الرب ائتزر بثوبه لأنه كان عريانًا وألقى نفسه في البحر.» ولما وصلوا إلى الشاطئ، وكانوا قريبين منه نحو مائتي ذراع، قال لهم يسوع: هلمُّوا إلى الطعام ثم أكل معهم. وبعد الطعام قال يسوع لبطرس: «يا سمعان بن يونا، أتحبُّني أكثر من هؤلاء؟ فأجابه: نعم يا رب. أنت تعرف أني أحبك. فقال له: ارعَ غنمي … ثم قال له اتبعني. فالتفت بطرس فرأى التلميذ الذي كان يسوع يحبه يسير خلفهما، ذاك الذي اتكأ على صدر يسوع وقت العَشاء وقال: يا سيد مَن هو الذي يسلمك؟ فلما رآه بطرس قال ليسوع: وهذا ما هو مصيره؟ فأجابه يسوع: لو شئتُ أن يبقى إلى أن أعود فماذا يعنيك؟ فشاع بين الإخوة أن هذا التلميذ لا يموت، مع أن يسوع لم يَقُل لبطرس أنه لا يموت، بل قال له: لو شئتُ أن يبقى إلى أن أعود فماذا يعنيك، وهذا التلميذ هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدوِّنها، ونحن نعلم أن شهادته صادقة» (يوحنا: ٢١).

(١) التلميذ الذي لا يموت

وصناعة الإنجيل الرابع
إن الجملة التي قالها مؤلف الإنجيل في سطوره الأخيرة: «فشاع بين الإخوة أن هذا التلميذ لا يموت» لَذات أهمية في استقصائنا هذا. فهذا التلميذ قد عاش حياةً مديدةً، وأدرك مطلع القرن الثاني الميلادي، وفق ما نقله إلينا مصدرٌ مسيحي موثوق وهو بوليكراتيس أسقف إفسوس، في رسالة له موجهة إلى أسقف روما في أواخر القرن الثاني الميلادي، لم تَصِلنا ولكنها وردَت مقتبسةً من قِبل أوزيب القيساري في كتابه «التاريخ الكنسي». وقد أمضى هذا التلميذ وفق بوليكراتيس العقود الأخيرة من حياته في مدينة إفسوس اليونانية بآسيا الصغرى ودُفن فيها بعد موته. وفي سِنِيه الأخيرة أقنعه داعية مسيحي كان ناشطًا في مطلع القرن الثاني يُدعى يوحنا الشيخ (أو القس) بأن يُمليَ عليه ذكرياته باعتباره آخر تلاميذ يسوع الأحياء والشاهد المتبقي على أحداث الإنجيل.٥ وهكذا ظهر الإنجيل الرابع الذي جاء نتيجة لتلاقي ذكريات التلميذ الحبيب وأسلوب يوحنا الشيخ في صياغتها وطريقة فهمه لما سمعه من أحداث وأقوال. ولكن بوليكراتيس يدعو هذا التلميذ يوحنا، وذلك انسجامًا مع الفكرة المسيطرة آنذاك بأن مؤلف الإنجيل الرابع هو يوحنا بن زبدي، ولكننا ندعوه لعازر وأثبتنا وجهة نظرنا بالقرائن.
كان التلميذ الحبيب يُملي ذكرياته على يوحنا الشيخ بعد مُضيِّ نحو ٦٥ عامًا على الأحداث المروية. ولهذا يجب أن نتوقع أنه عانى بعض الصعوبة وعدم اليقين التام في تذكُّر وقائع معينة وفي التحديد الدقيق للأزمنة والأمكنة. ومع ذلك فقد أبدى في سرده معرفةً صحيحة بطبوغرافية أورشليم وفلسطين لا تجدها عند غيره، وأورد لنا أحداثًا مهمة لم تَرِد في بقية الأناجيل، وأتى على ذكْرِ شخصيات ذات شأن لم يتعرض لها الآخرون. والأهم من ذلك أنه كان يتحدث في كثير من الأحيان كشاهد عيان على ما يروي، وأنه أوصل إلى يوحنا الشيخ الكثيرَ من التعاليم السرية التي كان يسوع يبيحها للحلقة الداخلية الضيقة من تلاميذه. وهذا هو السبب في احتواء الإنجيل الرابع على ملامح عامة من هذه التعاليم التي توضحت فيما بعد بشكل أكثر دقة في فكر مرقيون مؤسس الكنيسة البديلة (راجع بحثنا السابق عن مرقيون). وفي الحقيقة فإن هنالك ما يُشير إلى صلة غامضة بين التلميذ الحبيب ومرقيون. وبعض الموروثات المسيحية تقول: إن مرقيون كان المبادرَ إلى الاتصال بالتلميذ الحبيب، وأنه أخذ بالفعل بتدوين ذكرياته عن يسوع قبل أن يختلف الاثنان، ويقرر التلميذ إيقافَ تعاونِه معه وقبول يوحنا الشيخ بدلًا عنه.٦

هذا التلميذ الذي نقل إلينا تعاليم يسوع السرية، كان واحدًا من القلة التي اطلعت على الأسرار بعد المرور بطقس استسراري عظيم كان يسوع يقوده من أجل المختارين من تلاميذه، وهو طقس الموت الرمزي الذي يليه الانبعاث إلى حياة لا ترى الموت، طقس موت التلميذ عن نفسه ثم الحياة الأبدية في يسوع المسيح. وقد كان تلاميذ يسوع تواقين إلى ممارسة هذا الطقس، ولهذا قال توما لزملائه عندما قال لهم يسوع بأن لعازر قد مات: «لنذهبْ نحن أيضًا ونَمُت معه» وهذا ما سوف نبسطه في البحث المقبل عن: «طقوس الاستسرار ولغز إحياء لعازر».

على أن السؤال المحير الذي قد لا نستطيع إيجادَ جوابٍ شافٍ عليه هو: لماذا تجاهلَت الأناجيل الإزائية وجودَ التلميذ الحبيب على الرغم من دوره البارز في إنجيل يوحنا، لا سيما إنجيل مرقس الذي كان المصدرَ الرئيس للإنجيلَين الآخرَين؟ فمرقس كان مقرَّبًا من بطرس وعلى يديه تتلمذ وسمع من فمه أخبارَ يسوع وأقواله، حتى إنه كان يدعوه ابني مرقس (رسالة بطرس الأولى، ٥: ١٣). وعندما هرب بطرس من السجن لم يجد مكانًا آمنًا يلجأ إليه سوى بيت مريم أم مرقس (أعمال، ١٢: ١٢–١٧). وقد رافق مرقس بطرس في بعض رحلاته. ويؤكد الموروث المسيحي على أن مرقس كان مترجمًا لبطرس وأنه كتب إنجيله بإشرافه وتوجيهه. فكيف لم يروِ له عن أحداث الأسبوع الأخير من حياة يسوع الواردة في إنجيل يوحنا، حيث نجد بطرس والتلميذ الحبيب معًا في أربعة مواقف مهمة. فهو الذي أومأ للتلميذ الحبيب أثناء العَشاء الأخير ليسأل يسوع عن هوية الخائن. وبعد القبض على يسوع تَبِعه الاثنان معًا إلى بيت الكاهن الأعلى حيث توسَّط له التلميذ بالدخول. وإليهما جاءت مريم المجدلية تُخبرهما بفقدان جثمان يسوع من القبر، فركضَا معًا وسبقه التلميذ الآخر إليه. وفي آخر ظهور ليسوع بعد قيامته يسأله بطرس عن الدور الذي سيلعبه التلميذ في المستقبل. فهل كان التلاميذ وعلى رأسهم بطرس يغارون من محبة يسوع للعازر وتفضيله عليهم؟ وهل كانت هذه الغيرةُ وراء تعمية بطرس على شخصية التلميذ الحبيب وإسقاطه له من روايته؟ أسئلة تبقى مفتوحة على المجهول.

١  Geza Vermes, The Changing Faces of Jesus, Penguin Compass, 2002, p. 10.
٢  Hugh Schonfield, Those Incredible Christians, Bantam, N.Y. 1969, p. 191.
٣  Geza Vermes, Op. Cit., p. 11.
٤  Hugh Schonfield, Op. Cit., p. 192.
٥  H. Schonfield, The Passover Plote, Op. Cit., pp. 290–291.
٦  المرجع نفسه ص٢٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤