طقوس الاستسرار

ولغز إحياء لعازر
«الأسرار» أو Mysteria باللغة اليونانية، وMysteries بالإنكليزية، هي العبادات السرية التي تمارس طقوسها في الخفاء. وهي تختلف عن العبادات التقليدية الظاهرية، سواء في ممارساتها الشعائرية، أم في مفاهيمها اللاهوتية التي لا تُكشَف إلا للمريدين الذين تم قبولهم فيها وتعديتهم إلى أسرارها بعد المرور بالطقوس الإدخالية، أو طقوس الاستسرار (Initiation =). وهذه الطقوس هي التي تَعْبر بالمريد إلى الحلقة الداخلية للعارفين بالألوهة المعبودة، وذلك على عدة مراحل ترتقي بالمنتسب الجديد تدريجيًّا، وعبر فترات زمنية تطول أو تقصر تبعًا لاستعداده الروحي، حتى تَصِل به إلى الدرجة العليا التي تكتمل عندها معارفُه ويغدو حكيمًا. وعلى المنتسب بعد عبوره إلى أسرار العبادة ألَّا يبوحَ بمعارفه التي اكتسبها لمَن هم من خارج أو لمَن هم دونه في المرتبة. ومثل هذا الارتقاء عبر درجات المعرفة ما زال معمولًا به لدى الجماعات السرية الحديثة مثل الماسونية والصليب الوردي.

وعلى الرغم من قِدَم عبادات الأسرار، إلا أنها لم تبلغ أوج قوتها وازدهارها إلا في القرن الأول الميلادي حيث شاعت في جميع أصقاع الإمبراطورية الرومانية، ومنها أسرار ديمتر المعروفة بأسرار إيليوسيس، وأسرار ديونيسيوس، وإيزيس، وسيرابيس، وميترا. وكانت بعض هذه العبادات تحظى بتعاطف شعبي واسع، مثل أسرار إيليوسيس التي كان جمهور كبير من اليونانيين غير المنتسبين يشاركون في الجزء الظاهري من احتفالاتها الدورية. كما كانت تحظى أحيانًا بتأييد إمبراطوري عندما كان بعض الأباطرة يميلون إلى واحدة من هذه العبادات أو تلك.

ونظرًا للطابع السري لطقوس الأسرار، فإن أحدًا لم يُعطنا صورةً دقيقةً عنها، واكتفى المؤلفون القدماء بإيراد ما سمعوه عنها، أو بتقديم القليل العام إذا كان أحدهم قد اطلع على جوانب منها أو جرى تنسيبه إليها. فالمؤرخ الإغريقي هيرودوتس الذي يدَّعي اطلاعه على أسرار أوزوريس وأسرار إيليوسيس يكتب ما يلي: «في ذلك الزمان، وعلى تلك البحيرة في الدلتا، يقيم المصريون طقوسهم المكرسة لإلههم الذي لن أنطق اسمه. وعلى الرغم من شهودي لكل ما جرى في ذلك المكان، فإني لن أزيد في الكلام عنه شيئًا وأُمسك لساني عن البوح بما رأيت، كما أمسكته عن البوح بما رأيت من طقوس الإلهة ديمتر في إيليوسيس. ولكني أستطيع القول فقط، ودون أن أقع في التجديف، إن بنات دناوس (وهو سلف سكان آرجوس في اليونان، وجاء إليها من مصر) هن مَن آتي بهذه الطقوس من مصر ودربن نساء بيلاسيان عليها».١ وهيرودوتس هنا يؤسس للفكرة القائلة بأن عبادات الأسرار قد جاءت إلى اليونان من أقطار الشرق القديم، وهذا ما يتبناه اليوم العديدُ من الباحثين في تاريخ الأديان.

على أننا نستطيع الكلام بشكل عام عن نوعين من الطقوس كانَا غالبَين في عملية تنسيب المريدين الجدد والعبور بهم إلى أسرار العبادة، وهما طقس العماد بالماء وطقس الموت الرمزي، وكلاهما يتضمن مفهومَ الفناء عن الذات القديمة المنذورة للموت، والانبعاث إلى حياة جديدة تقهر الموت. وهذان الطقسان يلتقيان أحيانًا في طقس العماد بالدم، كما هو الحال في أسرار ديونيسيوس؛ حيث يُوضَع المريد في حُفرٍ تمثِّل القبر تُختَم فوهتُها بغطاء شبكي، ثم يؤتَى بثور يمثِّل الإله ديونيسيوس الذي قُتل في هيئة الثور، فيُذبح عند فوهة الحفرة وتُترك دماؤه لتسيل على المريد الذي يدهن نفسه بها ويأخذ بعضها في فمه، ثم يخرج وكأنه قام من بين الأموات.

ويصف لنا الكاتب الروماني أبوليوس في روايته المعروفة «الحمار الذهبي» طقوسَ الاستسرار في عبادة الإلهة إيزيس السرية في روما، وصف شاهد عيان لأنه مرَّ بها هو نفسه عندما جرى تنسيبه إلى العبادة وصار بعد ذلك كاهنًا للإلهة.

فبعد وصفِه للطقوس الاستهلالية التي تتضمن العماد بالماء، مما اقتبسناه في دراستنا السابقة عن معمودية يسوع، ينتقل إلى القسم الثاني وهو طقس الموت والانبعاث، فيقول دون الدخول في التفاصيل السرية:

«وعندما حلَّ مساء اليوم الأخير وأنا في موضعي، رأيت الكهَّان يتقاطرون عليَّ من كل زوايا المعبد وفي يدِ كلٍّ منهم هدية تهنئة لي، ثم جاء الكاهن الأعظم وألبسني عباءةً قطنية وقادني إلى قدس أقداس المعبد. وإني لأعتقد الآن بأن قارئ كلماتي هذه قد هاجه الشوق لمعرفة ما جرى لى هناك. ولكني لو سمحتُ للساني بالنطق وسمحتَ أنت لأُذُنِك بالسمع، سيلقَى لساني جزاءً بما نطق وتلقَى أُذُنُك جزاءً بما سمعَت، ومع ذلك فإنني أستطيع الإفضاءَ بما هو مسموح لي بإفضائه، شريطةَ أن تكون مستعدًّا لتصديقِ كلِّ كلمة مما أقول. لقد دنوتُ من حافة الموت الفعلي ووضعتُ قدمي على عتبة بيرسيفوني (إلهة العالم الأسفل)، ثم سُمح لي أن أعودَ سابحًا عبر العناصر كلها. في منتصف الليل شهدتُ الشمس ساطعةً كوقت الهاجرة. مَثُلتُ في حضرة آلهة العالم الأسفل؛ حيث كان آلهة العالم الأعلى يقدِّمون لهم الولاء. وعندما انتهى الطقس الجليل، خرجت من قدس الأقداس وعليَّ اثنا عشر ثوبًا، فأمرني الكاهن أن أرتقيَ المنبر القائم في وسط المعبد أمام تمثال الإلهة، وأمسكني مشعلًا بيدي اليمنى ووضع إكليلًا على رأسي من أغصان النخيل.»٢

في هذا المناخ الديني الذي كان يموج بعبادات الأسرار، ظهرَت الكنيسة المسيحية الأولى التي أسَّسها يسوع. وفي الحقيقة، فإن قراءة ما وراء السطور في أسفار العهد الجديد، تدلُّنا على أن أتباع يسوع الأوائل كانوا يشكِّلون حلقةً مغلقة من المريدين لا يمكن دخولها إلا لمن يمتلك الرغبة والقدرة على الارتقاء الروحي، وذلك بعد مروره بطقوس استسرار وتنسيب تَعبر به إلى تلك الحلقة.

هذه الطبيعة السرانية للجماعة المسيحية الأولى، هي التي تفسر لجوء يسوع إلى التعبير عن أفكاره من خلال الأمثال التي غمضت أحيانًا حتى على تلاميذه أنفسهم. نقرأ في إنجيل متَّى: «ثم دعا الجموع وقال لهم: اسمعوا وافهموا: ما يدخل الفم لا يُنجِّس الإنسان بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجِّسه. فدنا منه التلاميذ وقالوا له: أتعلم أن الفريسيين استاءوا عندما سمعوا هذا الكلام؟ فأجابهم: كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلع. دعوهم وشأنهم إنهم عميان يقودون عميانًا. وإذا كان الأعمى يقود أعمى سقطَا معًا في حفرة. فقال له بطرس: فسِّر لنا المَثل. فأجابه: أوَأنتم حتى الآن لا فهمَ لكم …» (متَّى، ١٥: ١١–١٦). وعندما قال للجموع مَثله المعروف عن الزارع، انفرد به تلاميذه وسألوه عن مغزى المثل، قال لهم: «أنتم أُعطيتم سرَّ ملكوت الله، وأما الذين من خارج فيسمعون كل شيء بالأمثال، حتى إنهم مهما نظروا لا يبصرون ومهما سمعوا لا يفهمون» (مرقس، ٤: ١٠–١٣). ويسوع يستخدم هنا تعبيرَين مهمَّين يدلان على الطبيعة المغلقة والاقتصارية للجماعة المسيحية الأولى. فقد وصف مريديه بأنهم «قد أُعطوا أسرار ملكوت الله» أي أنهم قد عبروا إلى أسرار الدين، ووصف الآخرين بأنهم «من خارج» أي من خارج حلقة العارفين. وهؤلاء الذين «من خارج» هم موتى مقارنةً بالذين هم «من داخل». فعندما اختار تلميذًا جديدًا ليضمَّه إلى جماعته قال له التلميذ: «يا سيد، ائذن لي أن أمضيَ أولًا وأدفن أبي. فقال له يسوع: دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله» (لوقا، ٩: ٥٩–٦٠). وقال بعدم إفشاء أسرار الدين إلى الذين هم من خارج: «لا تعطوا الكلاب ما هو مقدس، ولا تُلقوا بدرركم قدام الخنازير لئلا تدوسَها بأقدامها ثم ترتد إليكم فتمزقكم» (متَّى، ٧: ٦).

ويقول في اقتصار المعرفة الحقَّة على حلقة المريدين الذين عبروا إلى الأسرار: «كل شيء قد دُفع إليَّ من أبي. وليس أحد يعرف مَن هو الابن إلا الآب، ولا مَن هو الآب إلا الابن، ومَن أراد الابن أن يكشف له» (لوقا، ١٠: ٢٢). ويقول بالمعنى نفسه في إنجيل توما: «أكشف أسراري لمَن هو أهلٌ لأسراري» ثم يوصي من كُشفت له الأسرار بحفظها قائلًا: «لا تدَع يدك اليسرى تعلم بما تفعله يدك اليمنى» (إنجيل توما، الفقرة ٦٢).٣

ويتحدث بولس الرسول في رسائله عن الحكمة الخفية التي لا تُعطى إلا للناضجين في الروح، أي لمَن هم «من داخل»: «هنالك حكمة نتكلم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم … بل هي حكمة الله السرية الخفية التي أعدَّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا … الذي ما رأَته عينٌ ولا سمعَت به أذنٌ ولا خطر على قلب بشر أعده الله للذين يحبونه وكشفه لنا بالروح. لأن الروح يفحص كلَّ شيء حتى أعماق الله … وما نلنا نحن روح هذا العالم، بل نلنا الروح الذي أرسله لنا الله لنعرف ما وهبه الله» (١ كورنثة، ٢: ٦–١٣).

ويميز بولس بين ما يدعوه بالإنسان البشري الذي لم يتهيأ بعدُ لتلقِّي حكمة الله، وما يدعوه بالإنسان الروحاني المستعد لتلقي هذه الحكمة: «ونحن لا نتكلم عن حكمة الله بكلام تعلمه حكمة البشرية بل بكلام يعلمه الروح القدس، فنشرح الحقائق الروحانية بعبارات روحانية. فالإنسان البشري لا يقبل ما هو من روح الله لأنه يعتبره حماقة، ولا يقدر أن يفهمه لأن الحكم فيه لا يكون إلا بالروح» ثم يلتفت بولس إلى مستمعيه ممن لم يتعمقوا بعدُ في أسرار الدين، فيُشبِّه خطابه إليهم بالحليب الذي يقدَّم للصغار لا بالطعام الذي يقدَّم للكبار، لأنهم غير مستعدين بعدُ للفهم: «ولكنني أيها الإخوة ما تمكنت أن أكلمكم مثلما أكلم أناسًا روحانيِّين، بل مثلما أكلِّم أناسًا جسديِّين هم أطفال بعدُ في المسيح. غذيتكم باللبن الحليب لا بالطعام لأنكم كنتم لا تطيقونه ولا أنتم تطيقونه الآن. فأنتم بعد جسديون» (١ كورنثة، ٢: ١٣–١٤، و٣: ١–٣).

إن الاطلاع على الأسرار هو الذي ينقل الفرد من حالة دنيا من الوجود يكون فيها جاهلًا بطبيعة روحه التي هي قبس من نور الله، إلى حالة عليا من الوجود تتحقق فيها معرفة الفرد بمَن هو ومَن هو ربه. وهذا الانتقال يُعرِّيه من جسد الموت ويُلبسه جسدَ الحياة الخالدة. ومع تَحقُّق هذه الحالة من العرفان، ليس علينا أن ننتظر واقعةَ الموت حتى نُبعث إلى حياة جديدة، بل إننا نبعث هنا والآن ونلبس الجسد الروحاني فوق الجسد الأرضي، ونكتشف «طبيعة المسيح» فينا، وهي طبيعة لم تفارقنا قط ولكنها كانت بحاجة إلى تلمُّس وإيقاظ. وفي هذا يقول بولس: «فمع أن الإنسان الظاهر فينا يسير إلى الفناء، إلا أن الإنسان الباطن يتجدد يومًا بعد يوم … ونحن نعرف أنه إذا تهدمت خيمتنا الأرضية التي نحن فيها (= الجسد)، فلنا في السماء بيت أبدي من بناء الله غير مصنوع بالأيدي. وكم نتأوه أن نلبس فوق خيمتنا الأرضية هذه بيتنا السماوي، لأننا متى لبسناه لا نكون عراة، وما دمنا في هذه الخيمة الأرضية فنحن نئن تحت أثقالنا، لا لأننا نريد أن نتعرى من جسدنا الأرضي بل لأننا نريد أن نلبس فوقه جسدنا السماوي إلى أن تبتلع الحياة ما هو زائل فينا» (٢ كورنثة، ٥: ١–٤).

وقد طبق يسوع على تلاميذه نوعين من طقوس الاستسرار، النوع الأول هو طقس العماد بالماء من أجل الولادة الثانية. فكل إنسان يُولَد ولادةً بشرية من جسد بشري آخر، ولكن الساعين إلى الكمال عليهم أن يولَدوا مرةً ثانية ولادةً روحية قوامها الماء والروح القدس ليكونوا مستعدين لتلقي أسرار حكمة الله. وهذا هو مؤدى قول يسوع لواحد من معلمي اليهود، وهو نيقوديمس الذي صار فيما بعد تلميذًا سريًّا ليسوع: «الحق، الحق أقول لك. ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا وُلد من علٍ، فقال له نيقوديمس: كيف يمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ كبير؟ أيستطيع أن يدخل في بطن أمه ثانيةً ثم يولد؟ أجاب يسوع: الحق، الحق أقول لك. ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا وُلد وكان مولده من الروح والماء. فمولود الجسد يكون جسدًا ومولود الروح يكون روحًا» (يوحنا، ٣: ٣–٦).

أما النوع الثاني فهو طقس محاكاة الموت، حيث يُدفن المريد في قبر لفترة من الزمن ثم يقوم منه إلى حياة جديدة. ويبدو أن قلةً فقط من تلاميذ يسوع قد خضعوا لهذا الطقس. ولكننا لا نملك عنه إلا شاهدًا واحدًا في قصة إحياء لعازر، التي أوردها لنا إنجيل يوحنا وإنجيل مرقس السري. ولنبدأ بإنجيل يوحنا ونقرأ بين سطور القصة.

«وكان رجل مريض يُدعى لعازر من بيت عنيا، من قرية مريم وأختها مرتا. ومريم هي التي دهنت الرب بالطيب ومسحت قدميه بشعرها، وكان لعازر المريض أخاها. فأرسلت أختاه إلى يسوع تقولان: يا سيد إن الذي تحبه مريض. فقال يسوع حين بلغه الخبر: ليس هذا مرض الموت بل مآله إلى مجد الله ليتمجد ابن الله» (يوحنا، ١١: ١–٤) نلاحظ هنا كيف نفى يسوع أن يكون مرض لعازر هو مرض الموت، وكيف وجَّه أنظار مستمعيه إلى وجود خطة ما وراء ما يجري.

«وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر. على أنه لبث في مكانه يومين بعدما عرف أنه مريض، ثم قال لتلاميذه: لنعد إلى اليهودية (وكانوا حينها في عبر الأردن). فقال له تلاميذه: يا معلم، أتعود إلى هناك وقد أراد اليهود رجمك منذ قريب؟ … فقال لهم: إن حبيبنا لعازر قد نام وأنا ذاهب لأوقظه. فقال له تلاميذه: يا سيد إن كان قد نام فسيُشفَى. وكان يسوع يعني موتَه وهم ظنوا أنه يقول عن رقاد النوم. فقال لهم يسوع علانية: لعازر مات. ويسرُّني لأجلكم أني لم أكن هناك لتؤمنوا، فلنمضِ إليه. فقال توما الذي يقال له التوءم لإخوانه التلاميذ: لنذهب نحن أيضًا لكي نموت معه» (يوحنا، ١١: ٥–١٦).

على عكس ما هو متوقع، فقد تلكأ يسوع في التوجه إلى بيت عنيا لشفاء لعازر مدة يومين، وهذا يدل على عدم شعوره بالقلق حيال مرض لعازر. ثم ألمح ثانية لتلاميذه بأن اضطجاع لعازر ليس اضطجاع موت عندما قال لهم إنه نائم. وعندما لم يفهم التلاميذ قصده قال لهم: لعازر مات. وهنا فهم واحد من التلاميذ ما كان يجري فقال لزملائه: لنذهب نحن أيضًا لكي نموت معه. وبالطبع فإن توما في قوله هذا لم يكن يدعو رفاقه إلى القيام بعملية انتحار جماعي من أجل اللحاق بلعازر، وإنما كان يعبِّر عن رغبة في المرور بالطقس نفسه لكي يغدوَ أقرب إلى معلمه. وصل يسوع إلى بيت عنيا في اليوم الرابع لموت لعازر ودفنه في قبر منحوت في الصخر قرب بيت الأسرة. وعندما استقبلَته الأختان عند مشارف البيت، طلب منهما أخذه إلى موضع الدفن: «وكان القبر مغارة وعلى مدخلها حجر. فقال يسوع: أزيحوا الحجر … وصاح بأعلى صوته لعازر، اخرج. فخرج الميت مشدودَ اليدين والرجلين بالأكفان معصوبَ الوجه بمنديل. فقال لهم يسوع: حُلُّوه ودعوه يذهب» (يوحنا، ١١: ١٧–٤٥).

إن ما حدث في بيت عنيا لم يكن سوى مرحلة متقدمة من طقوس الاستسرار خصَّ بها يسوع تلميذه الحبيب لعازر. ولكن القصة بعد أن جرى تداولها فيما بعد تحولت إلى معجزة إحياء حقيقي لتلميذ ميت. ولعل رواية إنجيل مرقس السري للقصة نفسها (راجع ما أوردناه عن هذا الإنجيل في بحث سابق) تؤيد ما نذهب إليه هنا، لأنها تصف لنا استمرار طقس الاستسرار بعد الخروج من القبر، عندما بقيَ يسوع مع التلميذ يعلِّمه أسرار ملكوت الله. وفي الروايتين عدد من نقاط الاختلاف، لعل أهمها ما ورد في الإنجيل السري عن سماع صيحة عالية من القبر لدى اقتراب يسوع منه، الأمر الذي يدل على أن المدفون كان حيًّا:

«ثم جاءوا إلى بيت عنيا، فحضرَت إليه امرأة هناك مات أخوها وسجدَت أمامه قائلة: يا ابن داود، ارحمني، فانتهرها التلاميذ، ولكن يسوع غضب ومضى معها إلى البستان حيث القبر الذي دفن فيه. ولدى اقترابه صدرَت من داخل القبر صيحةٌ عظيمة، فدنا يسوع ودحرج الحجر عن مدخل القبر وتوجَّه لفوره إلى حيث كان الفتى، فمدَّ ذراعه إليه وأقامه ممسكًا بيده. ولما رآه الفتى أحبَّه وتوسَّل إليه البقاء معه. وبعد خروجهما توجهوا إلى بيت الفتي لأنه كان غنيًّا. وبعد ستة أيام لقَّنه يسوع ما يتوجب عليه فعله. وفي المساء جاء إليه الفتي يرتدي إزارًا من الكتان على جسده العاري وبقيَ معه تلك الليلة، لأن يسوع كان يعلِّمه أسرار ملكوت الله. وعندما قام عاد إلى الجهة الأخرى من نهر الأردن.»٤

بعد وفاة يسوع غاب طقس الموت الرمزي والانبعاث منه إلى حياة جديدة لا خطيئة فيها ولا موت، واندمج بطقس المعمودية في مضمونه البولسي الجديد، طقس المعمودية بدم يسوع والاتحاد به. فيسوع قد مات نيابةً عن البشرية جمعاء ثم قام من بين الأموات من خلال طقس استسراري ذي طبيعة كونية. وطقس المعمودية يجعلنا مشاركين ليسوع في موته وبعثه، ويجعلنا أحرارًا من الخطيئة والموت وسلطة الشيطان سيد هذا العالم. نقرأ في الرسالة إلى أهالي غلاطية:

«فقبل أن يأتيَ الإيمان، كان مغلقًا علينا بحراسة الشريعة (التوراتية) إلى أن يتجلى الإيمان المنتظر. فالشريعة كانت مؤدبةً لنا إلى مجيء المسيح لننال البر بالإيمان، فلما جاء الإيمان لم نبقَ في حراسة المؤدب لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. فإنكم وقد اعتمدتم جميعًا في المسيح قد لبستم المسيح. فلم يبقَ بعدُ من يهودي أو يوناني، عبد أو حر، ذكر أو أنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع» (غلاطية، ٣: ٢٣–٢٨).

وفي الرسالة إلى أهالي روما:

«أوَتجهلون أنَّا وقد اعتمدنا في يسوع المسيح إنما اعتمدنا في موته، فدُفنَّا معه بالمعمودية لنموتَ فنحيا حياةً جديدة كما أُقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب. فنحن إذا اتحدنا به بموت يُشبه موته فكذلك تكون حالنا في قيامته. وإنَّا نعلم أن إنساننا القديم (= الخاطئ) قد صُلب معه ليزول هذا البشر الخاطئ، فلا نظل عبيدًا للخطيئة لأن الذي مات تحرر من الخطيئة. فإذا كنَّا قد متنا مع المسيح فإنا نؤمن بأننا سنحيا معه. ونعلم أن المسيح بعدما أقيم من بين الأموات لن يموت ثانيةً ولن يكون للموت عليه من سلطان، لأنه بموته قد مات عن الخطيئة مرةً واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله. كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيئة ولكن أحياء لله في يسوع المسيح» (روما، ٦: ٣–١١).

«فليس بعد الآن من هلاك للذين هم في يسوع المسيح؛ لأن شريعة الروح الذي يهب الحياة في يسوع المسيح قد حررتني من شريعة الخطيئة والموت (= شريعة التوراة). فالذي لم تستطعه الشريعة، والجسد قد أوهنها، حققه الله بإرسال ابنه في جسد يُشبه جسدنا الخاطئ كفارة للخطيئة، فحُكم على الخطيئة في الجسد ليتمَّ ما تقتضيه منَّا الشريعة، نحن الذين لا يسلكون سبيلَ الجسد بل سبيل الروح» (روما، ٨: ١–٤).

وفي الرسالة إلى أهالي كولوسي:

«ففي المسيح يحلُّ جميع كمال الألوهية حلولًا جسديًّا، وفيه تدركون الكمال. إنه رأسُ كلِّ صاحب رئاسة وسلطان، وفيه اختتنتم ختانًا لم يكن من فعل الأيدي وإنما هو خلع الجسد البشري، إنه ختان المسيح. ذلك أنكم دفنتم معه في المعمودية وأُقمتم معه أيضًا لأنكم آمنتم بقدرة الله الذي أقامه من بين الأموات. كنتم أمواتًا بزلَّاتكم وقَلف أجسادكم فأحياكم الله معه وصفح لنا عن جميع زلاتنا، ومحَا ما كان علينا من صكٍّ للفرائض (= الشريعة التوراتية)، وألغاه مسمرًا إياه على الصليب، وخلع أصحاب الرئاسة والسلطة (= ملائكة الشيطان أمير هذا العالم)، وعاد بهم في ركبه ظافرًا … فأما وقد قمتم مع المسيح فاسعوا إلى الأمور التي في العلى حيث المسيح جالس عن يمين الله، ارغبوا في الأمور التي في العلى لا في الأمور التي على الأرض، لأنكم قد متم وحياتكم محتجبة مع المسيح في الله. فإذا ظهر المسيح الذي هو حياتكم تظهرون أنتم أيضًا عندئذٍ معه في المجد» (كولوسي، ٢: ٩–١٥، و٣: ١–٤).

وكما نلاحظ من هذه المقاطع ومن غيرها في رسائل بولس، فإن طقس المعمودية الذي يحرر المتعمد من الموت بعد اتحاده بالمسيح، يحرره أيضًا من شريعة وفرائض إله التوراة حاكم هذا العالم. وعلى عكس الرأي السائد بين الباحثين في تاريخ العقيدة المسيحية والذي يعزو إلى بولس ابتكار هذه الأفكار، فإننا نستبعد أن يكون بولس الذي نشأ وتربى على الثقافة الفريسية ودرس الشريعة على يد واحد من أهم معلِّميها، هو مصدرها، بل لا بد أن يكون قد تلقَّاها عندما تعمَّد ودخل الجماعة المسيحية الأولى عقب وفاة يسوع ببضعة أعوام، واطلع على تعاليم يسوع السرية التي كان يُبيحها لمَن عبر إلى الأسرار.

على أننا لسنا بحاجة إلى البحث في تعاليم يسوع السرية لنعثر على فكرة التحرر من الشريعة لمَن آمن بيسوع واتحد به. فقصص الإنجيل حافلةٌ بمواقف وأقوال ليسوع يُعلن فيها حريته وحرية تلاميذه من فرائض الشريعة: «بقيَت الشريعة وكتب الأنبياء إلى يوحنا المعمدان، ثم ابتدأت البشارة بملكوت الله، فأخذ كلُّ امرئٍ يبذل جهده ليدخله عنوة …» (لوقا، ١٦: ١٦). ورسالة يسوع أشبهُ بقطعة قماش جديدة لا يمكن خياطتها على قماش قديم لكيلا تنتزع الرقعة الجديدة شيئًا من الثوب القديم. أو مثل خمر جديدة لا يمكن صبها في زقاق (جمع زِقٍّ وهو وعاء جلدي) قديمة لكيلا تتلف الخمر والزقاق معًا (مرقس، ٢: ٢١–٢٢). والسبت جُعل لأجل الإنسان وما جعل الإنسان لأجل السبت، ويسوع هو سيد السبت (مرقس، ٢: ٢٧–٢٨). وفي مقابل شريعة التوراة التي لا يطيق حملها إنسان، فإن تعاليم يسوع تنسجم مع طبيعة الإنسان وعبؤها خفيفُ الحمل: «تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف» (متَّى، ١١: ٢٨–٣٠). والتاريخ النبوي اليهودي لم يَقُل للناس كلمة حق من الله ولكن يسوع فعل: «أنا الذي قال لكم الحق الذي سمعه من الله، وهذا لم يفعله إبراهيم» (يوحنا، ٨: ٤٠).

١  Georg Nagel, The Mysteries of Osiris. In: Joseph Campbell, edt, The Mysteries, New York, 1978, p. 132.
٢  Apuleius, The Golden Ass, Translated by Robert Graves Cambridge, 1974, pp. 240–241.
٣  راجع ترجمتي الكاملة لإنجيل توما وشروحاتي على المتن في مؤلفي «الوجه الآخر للمسيح» الفصل الثامن.
٤  راجع بحثنا السابق «إنجيل مرقس السري».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤