إلهي لماذا تركتني؟

البريء على الصليب

إنَّ الروايات التي وصلت إلينا عمَّا حدث في موقع الصلب المدعو بالجُلجُثة ليست على ما نشتهي من التوافق. فبعد مضيِّ أكثر من أربعين سنة على الحادثة، لم يكن من السهل الوصول إلى معلومات موثوقة ومتطابقة. ولهذا فقد انفرد كلُّ إنجيلي بإيراد تفاصيل لا نجدها لدى الآخر، واستخدم كلٌّ منهم خيالَه الخاصَّ في تفضيل هذه المعلومة عن تلك، أو في ابتكار عنصر لردم هذه الفجوة في القصة أو تلك. كما عمدوا إلى استذكار النبوءات التوراتية وحشدها من أجل إضفاء الجلالة على المشهد. فبعد أن جلد بيلاطس يسوع وأسلمه للصلب، نقرأ في الروايات الأربع ما يلي:

(١) رواية مرقس

«فمضى به العسكر إلى الدار التي هي دار الولاية، وجمعوا كلَّ السرية وألبسوه رداءً أرجوانيًّا وضفروا إكليلًا من الشوك ووضعوه عليه، وأخذوا يُحيُّونه قائلين: السلام يا ملك اليهود. وكانوا يضربونه على رأسه بقصبة ويبصقون عليه ثم يسجدون له جاثين على رُكَبهم. وبعدما استهزءوا به نزعوا عنه الأرجوان وألبسوه ثيابه ثم خرجوا به ليصلبوه. فسخَّروا لحمل صليبه رجلًا مجتازًا كان آتيًا من الحقل وهو سمعان القيرواني أبو إسكندر وروفُس، وساروا به إلى المكان المعروف بالجلجثة، أي موضع الجمجمة. وأعطوه خمرًا ممزوجةً بمُرٍّ ليشرب فلم يقبل. ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد. وكانت الساعة الثالثة حين صلبوه (= الساعة التاسعة صباحًا بتوقيتنا الحالي). وكُتب في علَّة الحكم عليه: مَلك اليهود. وصلبوا معه لصَّين أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، فتم الكتاب القائل: وأُحصي مع أثَمةٍ. وكان المارة يشتمونه ويهزُّون رءوسهم ويقولون: أَيا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلِّص نفسك وانزل عن الصليب. وكان الأحبار والكتبة يسخرون مثلهم فيقول بعضهم لبعض: خلَّص غيرَه وأما نفسه فما يقدر أن يخلِّصها. فلينزل الآن المسيح مَلك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن. وكان اللصَّان المصلوبان معه هما أيضًا يُعيِّرانه.»

«ولما بلغت الساعة السادسة (= الثانية عشرة ظهرًا) انتشر ظلام على الأرض كلها حتى الساعة التاسعة (= الثالثة بعد الظهر). وصرخ يسوع في الساعة التاسعة بصوت عظيم قائلًا: إلُوي، إلوي. لما شبقتني؟ الذي تفسيره: إلهي، إلهي. لماذا تركتني؟ فقال قوم من الحاضرين لما سمعوا: هوذا ينادي إيليا. فأسرع واحد منهم إلى إسفنجة وبلَّلها بالخل وجعلها على قصبة وقرَّبها ليشرب، وهو يقول: دعونا ننظر هل يأتي إيليا فيُنزله؟ فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح. فانشق حجاب الهيكل إلى شطرين من أعلى إلى أسفل. ولما رأى قائد المائة الواقف مقابله أنه صرخ هكذا وأسلم الروح قال: حقًّا كان هذا الإنسان ابن الله. وكانت أيضًا نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وسالومة. وهن اللواتي تَبِعنَه وخدمنَه حين كان في الجليل، وغيرهن كثيرات صعدنَ معه إلى أورشليم.»

«ولما كان المساء قد أقبل وهو وقت التهيئة، أي عشية السبت، جاء يوسف الرامي (= الذي من الرامة، وهي قرية على بعد خمسة أميال إلى الشمال من أورشليم)، وهو عضو وجيه في المجلس، وكان من الذين ينتظرون ملكوت الله، فتجاسر ودخل على بيلاطس وطلب جسد يسوع. فتعجب بيلاطس أنه مات كذا سريعًا، فدعا قائد المائة وسأله: أوَقد مات؟ فلما تحقق الخبر من القائد وهب الجسد ليوسف. فاشترى يوسف كتانًا فأنزله وكفنه بالكتان، ووضعه في قبر كان منحوتًا في الصخر ثم دحرج حجرًا على باب القبر. وكانت مريم المجدلية ومريم أو يوسي تنظران أين وُضع» (مرقس، ١٥: ١٦–٤٧).

نلاحظ من قراءة نص مرقس أن المؤلف قد استند إلى عدد من النبوءات التوراتية في بناء بعض عناصر قصته:
  • (١)

    فقد أعطَوه خمرة ممزوجة بمر ليشرب فلم يقبل. ثم رفعوا إلى فمه إسفنجة مبللة بالخل. وذلك تحقيقًا لما ورد في المزمور ٦٩: ٢٠–٢١ «يجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يسقونني خلًّا.»

  • (٢)

    وصلبوا معه لصَّين، واحد عن يمينه وآخر عن شماله، تحقيقًا لما ورد في سفر إشعيا ٥٣: ١٣ «من أجل أنه سكب نفسه للموت وأُحصي مع أثَمةٍ. وهو حمَل خطيئة كثيرين وشفع في المذنبين.»

  • (٣)

    ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كلُّ واحد. وذلك تحقيقًا لما ورد في المزمور ٢٢: ١٦–١٨ «جماعة من الأشرار اكتنفَتني … يُقسِّمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون.»

  • (٤)

    وكان المارة يشتمونه ويهزُّون رءوسهم، والأحبار والكتبة يسخرون مثلهم قائلين: «خلَّص غيره ولا يقدر أن يخلِّص نفسه. فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن.» وذلك تحقيقًا لما ورد في المزمور ٢٢: ٧–٨ «كل الذين يرونني يستهزءون بي، يفغرون الشفاه وينغصون الرأس قائلين: اتكل على الرب فليُنجه، ليُنقذه لأنه سُرَّ به.» وما ورد في سفر الحكمة: «إن كان الصدِّيق ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه. فلنمتحنه بالشتم والعذاب حتى نعلم حِلْمَه ونختبر صبره. ولنقضِ عليه بأقبح ميتة فإنه سيُفتقد كما يزعم» (٢: ١٨–٢٠).

  • (٥)

    وصرخ يسوع في الساعة التاسعة بصوت عظيم قائلًا: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ وذلك تحقيقًا لما ورد في المزمور ٢٢: ١–٢ «إلهي، إلهي، لماذا تركتني، بعيدًا عن خلاصي عن كلام زفيري» (١–٢).

(٢) رواية متَّى

يتَّبع متَّى بدقةٍ روايةَ مرقس، ولكنه لا يذكر الساعة التي صُلب فيها يسوع، وهي الثالثة كما أورد مرقس. كما أنه يعود إلى أجواء قصة الميلاد وما رافقها من أحداث ميثولوجية؛ فيتحدث عن ظواهر فوق طبيعانية رافقَت موت يسوع: «وصرخ يسوع أيضًا بصوت عظيم وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل انشق إلى شطرَين من أعلى إلى أسفل، وزُلزلت الأرض وتصدَّعت الصخور وتفتَّحت القبور، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين. وأما قائد المائة والذين معه يحرسون يسوع فإنهم لما رأوا الزلازل وما حدث خافوا خوفًا شديدًا وقالوا: حقًّا كان هذا ابن الله» (متَّى، ٢٧: ٥٠–٥٤).

ويضيف في نهاية روايته المقطع التالي: «وفي الغد، أي بعد التهيئة، ذهب الأحبار والفريسيون إلى بيلاطس قائلين: سيدي، قد تذكَّرنا أن ذلك المُضل قال وهو حيٌّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمُرْ بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتيَ تلاميذه فيسرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من بين الأموات، فتكون الضلالة الأخيرة أشد من الأولى. فقال لهم بيلاطس: عندكم حرَّاس، اذهبوا واضبطوه كما ترون. فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر» (متَّى، ٢٧: ٦٢–٦٦).

(٣) رواية لوقا

يتَّبع لوقا أيضًا رواية مرقس ولكنَّه يضيف إليها المقطعين التاليَين:

«وتَبِعَه جمعٌ كبير من الشعب ومن نساءٍ كُنَّ يضربنَ الصدور ويَنُحنَ عليه. فالتفت يسوع إليهن، وقال: يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن. فسوف تأتي أيامٌ يقال فيها: طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي الذي لم يُرضِع، ويقال للجبال انهدِّي علينا وللتلال ادفنينا. فإذا كان يُفعل هذا بالعود الرطب فكيف يكون حال العود اليابس؟ وسِيق معه إلى القتل أيضًا مجرمان» (لوقا، ٢٣: ٢٧–٣٢).

«وأخذ أحدُ المجرمين المعلَّقين على الصليب يشتمه ويقول: ألست أنت المسيح؟ فخلِّص نفسك وخلِّصنا. فانتهره الآخر قائلًا: أما تخاف الله وأنت تعاني العقاب نفسه؟ أما نحن فعقابنا عدلٌ لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، أما هو فلم يفعل سوءًا. ثم قال: اذكرني يا يسوع متى جئت في ملكوتك. فقال له يسوع: الحق أقول لك اليوم تكون معي في الفردوس» (لوقا، ٢٣: ٣٩–٤٣).

كما أن لوقا يضع على لسان يسوع عندما كانوا يصلبونه قوله: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لوقا، ٢٣: ٣٤). وهذا القول لم يَرِد عند بقية الإنجيليين. ثم يغيِّر الكلمات الأخيرة ليسوع من: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني» الواردة عند مرقس ومتَّى إلى: «يا أبتاه في يديك أستودع روحي» (لوقا، ٢٣: ٤٦).

(٤) رواية يوحنا

«… وكان ذلك اليوم يوم تهيئة للفصح والساعة نحو السادسة. فقال بيلاطس لليهود: هوذا ملككم. فصاحوا: اقتله، اقتله، اصلبه. قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم؟ فأجاب الأحبار: لا مَلك علينا إلا قيصر. فأسلمه إليهم ليُصلَب.»

«فأخذوا يسوع ومضَوا به. فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة ويقال له بالعبرية جلجثة؛ حيث صلبوه وصلبوا معه اثنين آخرَين كلٌّ منهما في جهة ويسوع في الوسط. وجعل بيلاطس على الصليب رقعةً مكتوبًا فيها: يسوع الناصري ملك اليهود. فقرأ كثير من اليهود ما كُتب في هذه الرقعة؛ لأن المكان الذي صُلب فيه يسوع كان قريبًا من المدينة، وكانت الكتابة بالعبرية واللاتينية واليونانية. فقال أحبار اليهود لبيلاطس: لا تكتب ملك اليهود بل اكتب هذا الرجل قال إني ملك اليهود. فأجاب بيلاطس: ما كتبتُ قد كتبت.»

«ولما صلَب العسكر يسوع أخذوا ثيابه وجعلوها أربعةَ أقسام، لكل عسكريٍّ نصيبٌ. وأخذوا القميص أيضًا وكان القميص بغيرِ خياطةٍ منسوجًا كله من أعلى إلى أسفل. فقال بعضهم لبعض: لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون. ليتم الكتاب القائل: اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة. هذا ما فعله العسكر. وكانت واقفاتٍ عند صليب يسوع أمُّه وأختُ أمِّه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية. فلما رأى يسوع أمَّه والتلميذ الذي كان يحبه واقفًا، قال لأمه: يا امرأة هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها إلى بيته. بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل، فقال بعد ذلك: أنا عطشان. ليتم الكتاب. وكان إناء موضوعًا مملوءًا خلًّا، فوضعوا إسفنجة مبتلة بالخل على قضيب من الزوفى وأدنوها من فمه. فلما ذاق يسوع الخل قال: تم كل شيء، ونكس رأسه وأسلم الروح.»

«وكان ذلك اليوم يوم التهيئة. فسأل اليهود بيلاطس أن تُكسر سيقانهم ويُرفعوا، لكيلا تبقى الأجساد على الصليب في السبت؛ لأن ذلك السبت كان عظيمًا عند اليهود. فأتى العسكر وكسروا ساقَي الأول والآخر اللذَين صُلبا معه. وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقَيه لأنهم رأوه قد مات. ولكن واحدًا من العسكر طعنه بحربة في جنبه فخرج على إثرها دم وماء. يشهد بذلك الذي رأى، وشهادته صحيحة ويعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم. وحدث هذا ليتم الكتاب القائل: عظمٌ لا يُكسر منه. وأيضًا يقول كتابٌ آخر: سينظرون إلى الذي طعنوه.»

«وبعدئذٍ جاء يوسف الرامي، وكان تلميذًا ليسوع يُخفي أمره خوفًا من اليهود، فسأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع، فأَذِن له بيلاطس. فجاءوا فأنزلوا جسد يسوع. وجاء نيقوديمس، وهو الذي ذهب إليه ليلًا من قبل، وكان معه خليطٌ من المر والعود يناهز مائة درهم، فحملوا جسدَ يسوع وطيَّبوه، وكفنوه كما جرَت عادة اليهود في دفنِ موتاهم. وكان في الموضع الذي صُلب فيه بستانٌ، وفي البستان قبرٌ جديد لم يُدفن فيه أحد، فوضعوا يسوع فيه، مراعاةً للتهيئة عند اليهود لأنه قريب» (يوحنا، ١٩: ٣٨–٤٢).

من قراءة هذه الرواية نلاحظ اختلافها عن الرواية الإزائية في النقاط التالية:
  • (١)

    يُقاد يسوع إلى الصلب في الساعة السادسة، أي عند منتصف النهار وفق رواية يوحنا، بينما يقول مرقس أنه صُلب في الساعة الثالثة، أي قبل ذلك بثلاث ساعات. أما متَّى ولوقا فلا يذكران شيئًا عن ساعة الصلب.

  • (٢)

    يسوع يحمل صليبه بنفسه أما في الرواية الإزائية فيحمله عنه سمعان القيرواني.

  • (٣)

    لا يُعطى يسوع خمرًا ممزوجة بمرٍّ ليشرب منه قبل الصلب على ما ورد في الرواية الإزائية.

  • (٤)

    لا تجري القرعة بين الجنود على جميع ملابس يسوع وإنما على القميص فقط. وهنا يقدِّم لنا النصُّ وصفًا دقيقًا لهذا القميص صادرًا كما يبدو عن شاهد عيان. فهو مصنوع بغير خياطة منسوج كله من أعلى إلى أسفل. أي أنه كان قطعةً ثمينةً مصنوعة بيدٍ ماهرة وليست مما يلبسه عامة الناس …

  • (٥)

    وقف تحت الصليب مباشرةً التلميذُ الحبيب ومعه أم يسوع ومريم المجدلية. أما في الرواية الإزائية فلم يكن تحت الصليب أحدٌ من أتباع يسوع، وكانت المجدلية مع بقية النسوة ينظرن من بعيد. ونلاحظ هنا أن أمَّ يسوع التي لم يذكر المؤلفُ اسمَها، قد ظهرَت للمرة الثانية في الرواية بعد ظهورها الأول قبل سنتين في عرس قانا.

  • (٦)

    يضع يوحنا على لسان يسوع قبل أن يُسلم الروح قوله: «تم كل شيء» بدلًا من: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني» عند مرقس ومتَّى، و: «يا أبتاه في يديك أستودع روحي» عند لوقا.

  • (٧)

    ينفرد يوحنا بذكر قيام الجنود بكسر سيقان المصلوبين من أجل التعجيل بموتهم. وهو خبرٌ واقعي إلى أبعد الحدود، ويصف إجراءً كان متَّبعًا في عمليات الصلب الرومانية، الغرض منه تقصيرُ مدة بقاء المحكومين على الصليب. بهذه الطريقة كان ثقل الجسم كله يقع على الذراعين اللذين يضغطان بشدة على الرئتين، فيغدو التنفسُ أكثرَ صعوبة ومستحيلًا بعد وقتٍ قصير. وقد تم العثور في منطقة القدس على ضريحِ شابٍّ مات مصلوبًا، وعلى ذراعَيه وقدمَيه آثارُ المسامير، وكانت عظام ساقيه مكسورة.

    ولكن المؤلف يستثني يسوع من عملية الكسر لأن الجنود لما وصلوا إليه وجدوه قد مات. وهنا تتحقق نبوءة الكتاب القائل: «عظمٌ لا يُكسر منه»، والتي وردت في سفر المزامير بالصيغة التالية: «كثيرة هي بلايا الصدِّيق ومن جميعها ينجيه الرب. يحفظ جميع عظامه، وواحد منها لا ينكسر» (المزمور، ٣٤: ١٩).

    وبعد ذلك ينفرد يوحنا أيضًا بخبر طعن يسوع بحربة في جنبه تحقيقًا للنبوءة القائلة: «سينظرون إلى الذي طعنوه»، والواردة في سفر زكريا بالصيغة التالية: «فينظرون إلى الذي طعنوه، وينوحون عليه كنائح على وحيد له، ويكونون في مرارة عليه كمَن هو في مرارة على بكره» (زكريا، ١٢: ١٠).

  • (٨)

    لا يقوم اللصان المصلوبان مع يسوع بتعييره كما هو وارد عند مرقس ومتَّى، ولا يُجري يسوع مع أحدهما حوارًا كما هو وارد عند لوقا.

  • (٩)

    في الروايات الإزائية يقوم يوسف الرامي وحده باستلام جثمان يسوع ودفنه، أما في رواية يوحنا فيساعده في عملية الدفن شخصٌ يُدعى نيقوديمس، وهو عضو في مجلس السنهدرين جاء إلى يسوع في زيارته الأولى إلى أورشليم ليلًا وتحاور معه (يوحنا، ٣: ١–١٠). ويبدو أنه آمن به سرًّا، لأنه دافع عنه أمام زملائه في المجلس عندما كانوا يتآمرون ضده (يوحنا، ٧: ٥٠–٥٣).

    ومن الملفت للنظر أن يوحنا لا يُعطينا أيَّ معلومات عن يوسف الرامي سوى اسمه، بينما قال مرقس إنه «عضو وجيه في المجلس، وكان من الذين ينتظرون ملكوت الله»، وقال متَّى إنه «غني من الرامة قد تتلمذ ليسوع»، وقال لوقا إنه «عضو في المجلس وهو رجلٌ صالح بارٌّ لم يوافقهم على خطئهم ولا أعمالهم. وكان من الرامة»، وهذه الصفات تنطبق في رواية يوحنا على نيقوديمس الذي كان عضوًا في المجلس ودافع عن يسوع أمامه، وكان تلميذًا سريًّا له يزوره ليلًا لكيلا ينكشفَ أمرُه. فمَن هو إذن يوسف الرامي؟ وكيف ظهر فجأةً في مشهد الصَّلب ثم اختفى بعد ذلك بالسرعة التي ظهر بها؟

  • (١٠)

    لا يترافق صلبُ يسوع وموته مع حدوث ظواهر فوق طبيعانية؛ فلا الشمس احتجبَت، ولا الظلام انتشر على الأرض مدة ثلاث ساعات، على ما ورد في الروايات الإزائية، ولم تتزلزل الأرض وتتصدع الصخور وتنفتح القبور على ما ورد في رواية لوقا.

  • (١١)

    لا يذكر لنا يوحنا ساعة موت يسوع على الرغم من أنه حدَّد ساعة الصلب بالسادسة (١٢ ظهرًا). ولكي نتوصل إلى نتيجة بخصوص المدة التي قضاها يسوع على الصليب، علينا أن نُلقيَ نظرة مقارنة على الروايات الأربع:

ساعة الصلب احتجاب الشمس ساعة وفاة يسوع
مرقس ٣ (٩ صباحًا) من ٦ إلى ٩ (١٢ ظهرًا–٣ عصرًا) ٩ (٣ عصرًا)
متى ؟ من ٦ إلى ٩ (١٢ ظهرًا–٣ عصرًا) ٩ (٣ عصرًا)
لوقا ؟ من ٦ إلى ٩ (١٢ ظهرًا–٣ عصرًا) ٩ (٣ عصرًا)
يوحنا ٦ (١٢ ظهرًا) ؟ ؟

من مقارنة الأوقات في الروايات الأربع، نخرج بنتيجة مفادها أن يسوع لم يبقَ على الصليب أكثر من ستِّ ساعات. وهذا لا يتفق مع الحقائق التي نعرفها عن الموت على الصليب. فقد كان الموت يأتي بطيئًا بسبب صعوبة التنفس الحاصلة جراء تثبيت الذراعين وثقل الجسم على الرئتين، وكان على المحكوم أن يضغط على قدمَيه المثبَّتتَين بأربطة أو مسامير لكي يخفف الضغط عن صدره. وبهذه الطريقة كان يمكن لأي محكوم أن يستمر معلقًا على الصليب مدة يومين أو ثلاثة على أقل تقدير، إذا لم تُكسَر ساقاه من أجل التسريع بموته. ويروي لنا يوسيفوس الذي كان شاهدَ عيان على اجتياح الرومان لأورشليم عام ٧٠م، أن عدد المصلوبين يوميًّا كان يصل إلى ٥٠٠ مصلوبًا، حتى إن أحراش المنطقة فرغت من أشجارها التي استُخدمت كصلبان، وأن المصلوبين كانوا يبقون أحياء لعدة أيام، وتشكِّل معاناتُهم مشهدًا مرعبًا للسكان اليهود وعبرة لمن يفكِّر بالتمرد على روما.

فكيف مات يسوع بعد ستِّ ساعات وما هي مسببات موته؟ هذا السؤال قائم منذ ألفَي عام، وكان بيلاطس أولَ مَن طرحه عندما وصله خبرُ موت يسوع، و«تعجَّب من أنه مات هكذا سريعًا»، ولم يصدِّق إلا بعد أن أرسل قائد المائة للتحقق من موته (مرقس، ١٥: ٤٤).

مرةً أخرى هنالك سؤال يتعلق بيوسف الرامي الذي هو أحد أكثر الألغاز في الإنجيل إثارةً للحيرة. فلماذا من بين كلِّ الناس تقدَّم يوسف الرامي لطلب جسد يسوع من بيلاطس؟ لقد كان التلاميذ مختبئين خوفًا من الملاحقة، ولكن التلميذ الحبيب المقرَّب من رئيس الكهنة كان حاضرًا عمليةَ الصلب وواقفًا تحت صليب يسوع عندما أُنزل. فلماذا لم يتطوع لهذه المهمة وهو أولى بها من تلميذٍ سريٍّ كان يخشى من افتضاحِ أمرِه ويحرص على مكانته كعضو في المجلس اليهودي؟ هل كان شخصيةً حقيقية أم شخصية خيالية تم ابتكارها لملْءِ الفجوات في قصة الصلب المشوشة التي وصلَت إلى الإنجيليِّين؟ وهل جرى استلهام هذه الشخصية من قصة أخرى يقوم فيها رجل بارز بطلبِ جسدٍ مصلوب من قائد روماني؟ إن ما يُثير هذا السؤال الأخير في الأذهان هو ما رواه المؤرخ يوسيفوس الذي يحمل الاسم نفسه (أي يوسف) في مذكراته، من أنه خلال الحروب اليهودية عام ٧٠م تعرَّف بين المصلوبين خارج أورشليم على ثلاثة من أصدقائه، فمضى إلى القائد الروماني تيتس وطلب أجسادهم ليدفنها، فأعطاه تيتس ما طلب، وعندما أنزل الأجساد وجد أن اثنين منهم فاقدان للحياة والثالث ما زال حيًّا، فعمل على إنعاشه ومعالجته حتى شُفيَ. فهل كانت هذه القصة أو ما يُشبهها وراء شبح يوسف الرامي؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤