معمودية يسوع

(١) يوحنا المعمدان وتاريخ طقس المعمودية

المعمودية، وهي طقسٌ ديني يتضمن غمرَ الجسد بشكل كامل في الماء، ممارسة موغلة في القِدَم. ففي الثقافة السومرية (الألف الثالث قبل الميلاد) كان إله الماء يُدعى إيا، أي إله بيت الماء، وكان معبده العلوي الذي يقيم فيه بين الناس نظيرًا لمسكنه السفلي في الأعماق المائية العذبة، ويُدعى بيت الطهارة؛ حيث كانت تجري طقوس الاغتسال بالماء.١ أما الرمزية الكامنة وراء هذا الطقس فمؤداها أن غسل الجسد بالماء هو مظهر خارجي لتطهير الروح، والمغتسل بالماء الذي يذهب بأدران الظاهر إنما يُعبر في الوقت ذاته عن غسله لأدران الباطن. كما أن الغطس الكامل في ماء نهرٍ مقدسٍ أو في جرن العماد الموضوع في المعبد ثم الصعود ثانية، يُعبر عن الموت والانبعاث، موت الفرد عن نفسه الأرضية والانبعاث في نفس روحانية.

وتتخذ المعمودية مركز البؤرة في طقوس ديانات الأسرار التي شاعت في العصر الهيلنستي والعصر الروماني، والتي تقوم عقائدها على الإيمان بإلهٍ مخلِّص يقود العابد الذي اتحد به إلى الخلاص من ربقة الموت وإلى خلود الروح. فمن خلال طقس المعمودية كان المنتسبون الجدد إلى الديانة يَعبرون إلى أسرارها التي كانت محجوبة المنتسبين. وسنسوق فيما يلي نموذجين من هذه الطقوس، الأولى طقوس إيليوسيس في العبادة السرية للإلهة اليونانية ديمتر وابنتها بيرسيفوني، والثانية طقوس الإلهة المصرية إيزيس كما كانت تمارس في روما.

وعرفتْ بلاد الإغريق نوعين من الطقوس الديمترية، النوع الأول يُدعى بالطقوس الصغرى وكانت تُقام سنويًّا في ذكرى عثور ديمتر على ابنتها بيرسيفوني التي اختطفها هاديس إله العالم الأسفل. ويغلب على هذه الطقوس طابعُ احتفالات الخصب؛ حيث يرمز صعودُ بيرسيفوني من العالم الأسفل إلى عودة الحياة إلى الطبيعة الميتة. أما النوع الثاني فيُدعى بالطقوس الكبرى، وكانت تُقام كل خمسة أعوام على شرف ديمتر لا باعتبارها مخلِّصة أرضية تتشارك مع ابنتها في إحياء الطبيعة سنويًّا، وإنما باعتبارها إلهةَ خلاصٍ روحاني. يشارك في هذه الاحتفالات الكبرى المريدون الجدد الذين تم اختيارهم لدخول أسرار الإلهة والعبور إلى حلقة عبادها الخاصة، فهي والحالة هذه طقوس تنسيب وعبور. كان موكب المحتفلين ينطلق من أثينا مشيًا على الأقدام إلى مدينة إيليوسيس مركز عبادة ديمتر، وعند الوصول إلى البحر ينزل المشاركون في الطقوس حيث يغمرون أنفسهم بالماء في عملية تطهير رمزي من شأنها إعدادهم للحياة الروحية الجديدة. وعند الوصول إلى إيليوسيس يخضع المشاركون الطقوس تنسيب تُكمل طقوس العماد بالماء لا نعرف عنها شيئًا، لأن مَن مروا بها حاذروا دومًا من البوح بحقيقة ما كان يجري هناك.٢ ويشير المؤرخ الإغريقي هيرودوتس إلى هذا الطابع السري لطقوس إيليوسيس في معرض حديثه عن أسرار الإله أوزيريس في مصر، وذلك في كتابه «التاريخ» فيقول: «على تلك البحيرة أمام المعبد في الدلتا يُقيم المصريون طقوسَهم المكرسة لإلههم الذي لن أنطق باسمه. وعلى الرغم من أني رأيت رؤية العين كلَّ ما جرى في ذلك المكان، فإني لن أزيدَ في القول شيئًا، وأُمسك لساني عن البوح بما رأيت مثلما أمسكته عن البوح بما رأيت في طقوس الإلهة ديمتر في إيليوسيس.»٣
أما عن طقوس التنسيب في عبادة الإلهة إيزيس بصيغتها الرومانية، فيحدِّثنا عنها الكاتب الروماني أبوليوس الذي تحوَّل فيما بعد إلى هذه العبادة وصار كاهنًا لإيزيس، وذلك في كتابه المعروف «الحمار الذهبي». وهو يصف هنا تجربتَه الشخصية عندما مرَّ بهذه الطقوس التي يتخذ الاعتماد بالماء مدخلًا إليها: «جاءني الكاهن الأعلى ومعه كُهَّان آخرون، فاقتادوني إلى الحمام حيث أُمرت بالاغتسال، وبعدها قام الكاهن الأعلى نفسه بسكبِ ماءٍ مقدس على جسدي كله وهو يتلو صلواتٍ وأدعيةً خاصة. ولما انتهيتُ أتى بي إلى المعبد وأجلسني عند قدمي تمثال الإلهة وأعطاني تعليماتٍ مقدسةً لا أجرؤ على البوح بها. ثم ألزمني صيامًا خاصًّا فلم أقرب اللحم أو الخمر مدة عشرة أيامٍ، اقتصر طعامي خلالها على ما يسدُّ الرمق فقط. وعندما حلَّ اليوم الأخير جاءني الكاهن الأكبر فألبسني عباءةً بيضاءَ قطنية وقادني إلى قدس أقداس المعبد. أما ما حدث هناك فإن لساني لو نطق وسمحتَ لأُذُنِك أن تسمع، فإن لساني سيلقى جزاءً بما نطق، وستلقى أُذُنُك جزاءً بما سمعَت.»٤

وقد كانت الكنيسة المسيحية في طورها الأول، شأنها في ذلك شأن بقية ديانات الأسرار، عبارة عن حلقة مقتصرة على المنتسبين المؤهلين لتلقِّي أسرار الدين، أو أسرار ملكوت الله على حدِّ وصف يسوع نفسه. فعندما سأله التلاميذ عن مغزى أحد الأمثال التي كان يوردها أمام اليهود قال لهم: «لكم قد أُعطي أن تعرفوا أسرار ملكوت الله وأما للباقين فبأمثال، حتى إنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون» (لوقا، ٨: ٩–١٠). وكان التعميد الذي يتضمن الغطس الكامل بالماء ثم الصعود منه، هو طقس التنسيب الذي يتوجب على المريد الجديد أن يمرَّ به من أجل الولادة الثانية. وهذا مغزى قول يسوع في إنجيل يوحنا: «ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا وُلد وكان مولده من الماء والروح» (يوحنا، ٣: ٥). وكان يسوع وتلاميذه يُعمدون كل راغب في الانضمام إلى الجماعة المسيحية، على ما نفهم من إنجيل يوحنا ٣: ٣، وإنجيل متَّى ٢٨: ١٩. ويعود طقس المعمودية المسيحية إلى النبي يوحنا بن زكريا الملقب بالمعمدان الذي كان يعمد بالماء عند نهر الأردن لمغفرة الخطايا.

ويوحنا هذا شخصية غامضة يلفُّها الضباب، وهو يظهر فجأةً ودون مقدمات في أناجيل متَّى ومرقس ويوحنا، أما مؤلف إنجيل لوقا فيورد قصةً عن ميلاده من الكاهن زكريا وامرأته العاقر اليصابات، تُشبه قصص الميلاد الإعجازي للشخصيات التوراتية الرئيسية مثل إسحاق وصموئيل وشمشون، ولكنه يصمت بعد ذلك عن حياة المعمدان بين ميلاده وظهوره على شاطئ نهر الأردن يُعمد الناس. أما عن رسالته وتعاليمه، فإن مؤلفي الأناجيل يجعلون منه خاتمة النبوة في إسرائيل. وهذا مؤدَّى قول يسوع في إنجيل لوقا: «كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا المعمدان ثم ابتدأت البشارة بملكوت الله» (لوقا، ١٦: ١٦). من هنا فقد عمد هؤلاء إلى إعطائه دور النبي الذي يظهر في آخر الأزمان من أجل التمهيد لظهور المسيح على ما ردَّدَته النبوءات المسيانية في كتاب التوراة. ونبيُّ آخر الأزمنة هذا هو شخص تَحُلُّ عليه روح النبي إيليا أعظم أنبياء التوراة بعد موسى، على ما نقرأ في سفر ملاخي: «ها أنا ذا أُرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على الآباء» (ملاخي، ٤: ٥–٦). وأيضًا: «ها أنا ذا أُرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي، ويأتي إلى هيكله السيد الذي تطلبونه، وملاك العهد الذي تُسرون به» (ملاخي، ٣: ١). وهو يوصَف في سفر إشعيا بأنه: «صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، قومِّوا في القفر طريقًا لإلهنا» (إشعيا، ٤٠: ٣). وهو في مظهره ونمط حياته يُشبه إيليا الذي كان رجلًا أشعر يتمنطق بمنطقة من جلد على حَقْوَيه، ويُمضي جلَّ وقته في البرية (١ ملوك، ١٧: ٥؛ و٢ ملوك، ١: ٨). وقد اقتبس مؤلفو الأناجيل هذه الأخبار والأوصاف وعزوها إلى يوحنا المعمدان باعتباره النبي المنتظر الذي يبشر بظهور المسيح. نقرأ في افتتاحية إنجيل مرقس.

«كما هو مكتوب في الأنبياء: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك. صوت صارخ في البرية، أعدُّوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة. كان يوحنا يُعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. (وهنا يضيف متَّي: فيقول توبوا قد اقترب ملكوت السماوات). وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا على يديه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم. وكان يوحنا يلبس وبرَ الإبل ومنطقة من جلد على حَقْوَيه، ويأكل جرادًا وعسلًا بريًّا. وكان يكرز قائلًا: يأتي بعدي مَن هو أقوى مني، الذي لستُ أهلًا أن أنحنيَ وأحلَّ سيورَ حذائه. أنا عمدتكم بالماء، وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس، في تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا من الأردن» (مرقس، ١: ١–١٠).

ويضيف متَّى ولوقا خطابًا يضعانِه على لسان يوحنا، نورده فيما يلي عن صيغة لوقا:

«وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا على يدَيه: يا أولاد الأفاعي، مَن علَّمكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ ألَا اصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة، ولا تقولوا إن أبانا هو إبراهيم، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أبناءً لإبراهيم. والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع وتُلقى في النار. وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟ أجابهم: مَن له ثوبان فليُعطِ مَن ليس له، ومَن له طعامٌ فليفعل كذلك. وجاء عشارون أيضًا ليعتمدوا على يدَيه فقالوا له: يا معلِّم ماذا نفعل؟ فقال لهم: لا تستوفوا أكثر مما فُرض لكم. وسأله أيضًا بعضُ الجنود: ونحن ماذا نفعل؟ فقال: لا تظلموا أحدًا ولا تشوا بأحد واكتفوا بأرزاقكم» (لوقا، ٣: ٧–١٤).

ولإنجيل يوحنا روايةٌ خاصة به سوف نعرضها عند الحديث عن معمودية يسوع.

لم تَدُم فترة كرازة يوحنا المعمدان طويلًا؛ فقد قبض عليه هيرود أنتيباس ملك الجليل لأنه كان يشجب زواجَه من هيروديا امرأة أخيه. وعندما كان هيرود يحتفل بعيد ميلاده رقصَت سالومي ابنة هيروديا أمام المدعوين فسُرَّ برقصها، وأقسم تحت تأثير الخمر أنه مهما طلبت يعطيها، فدفعَتها أمُّها أن تطلبَ رأس يوحنا، فأُسقط في يد هيرود وأرسل وقطع رأس يوحنا وأحضروه له على طبق (متَّى، ١٤: ٣–١٢).

ولدينا خبرٌ تاريخيٌّ واحدٌ عن يوحنا المعمدان يتقاطع مع الأخبار الإنجيلية أورده المؤرخ اليهودي يوسيفوس في كتابه «عاديات اليهود» الذي وضعه في روما نحو عام ٩٣ للميلاد، فقال «إن يوحنا الملقب بالمعمدان كان رجلًا بارًّا، يأمر اليهود بالمعاملة الطيبة تجاه بعضهم بعضًا وبتقوى الله. وكان يعمد بالماء من أجل تطهير الجسد بعد أن تطهرَت الروح بالبر والتقوى. ولأن الجميع كانوا يتقاطرون إليه ويسمعون كلماتِه خاف هيرود من تأثيره على الناس ومن فتنة محتملة، فقبض عليه وسجنه في قلعة مخايروس ثم أمر بإعدامه.»٥

إنَّ ما تقوله لنا هذه الأخبار الشحيحة هو أنَّ تعاليمَ يوحنا المعمدان لم تخرج عن الإطار العام للعقيدة اليهودية في أشكالها المتأخرة. فيوحنا كان يبشِّر بقرب حلول ملكوت الرب الذي بشَّر به كبارُ الأنبياء من قبله مثل إشعيا وإرميا، وهو مملكة أرضية يحكمها الإله يهوه بنفسه. وكان يعمد بالماء لمغفرة الخطايا استعدادًا لدخول المعتمدين في هذا الملكوت، ولاستقبال المسيح اليهودي الذي يُفتتح الملكوت بظهوره. ومثل هذه الأفكار لم تكن بالشيء الجديد، وكان الأسينيون يُبشِّرون بها، وهم طائفة يهودية طهرانية اعتزلَت المدن وأقامَت في البرية في انتظار قدوم المسيح، وكانت تمارس طقوس التعميد بالماء.

إلا أن ظهور بعض الطوائف الغنوصية منذ القرن الأول الميلادي، والتي تدَّعي انتسابَها إلى يوحنا المعمدان، وتنسب إليه تعاليمها وطقوسها، يزوِّدنا بمقاربة جديدة لتصوُّر التعاليم الأصلية ليوحنا. فالغنوصية هي منظومةٌ من الأفكار الدينية تبلورت فيما بين أواخر القرن الأول قبل الميلاد وأوائل القرن الأول الميلادي. وهي تقول بثنائية الجسد والروح؛ حيث ينتمي الجسد إلى عالم المادة المظلم، وتنتمي الروح إلى العالم الإلهي المنير، فهي قبسٌ من روح ملك الأنوار احتبسها الديميرج (أي الإله الآخر الذي صنع العالم) في جسدٍ صنعه من طين الأرض ونفخ فيه الحياة. وستبقى الروح أسيرةً في هذا الجسد المادي وفي هذا العالم المادي، وأسيرةَ دوراتِ تناسخٍ لا تنتهي، إلى أن يقودَها الغَنوص (أي العرفان الداخلي) إلى إدراك طبيعتها الإلهية، عندها فقط تستطيع الإفلات من دورة التناسخ والعودة إلى موطنها السماوي الذي جاءت منه.

وتُحدِّثنا كتب التراث العربي، مثل كتاب الفهرس لابن النديم، عن أكثر من طائفة معمدانية كانت حيةً في أيامهم، ومنها طائفة «المغتسلة» (وهي تسمية مشتقة من طقس العماد بالماء) التي نشأ فيها ماني ثم انشق عنها وأسَّس الديانة المانوية. وقد بقي من هذه الطوائف اليوم طائفةُ الصابئة المندائيين التي تقيم في جنوب العراق والمناطق العربية من إيران. وكلمة صابئة مشتقة من الجذر صبأ، الذي يدل في اللغة المندائية الآرامية على التعميد والتطهر بالماء، وهو طقس الدخول في الدين. أما كلمة المندائية فمشتقةٌ من كلمة مندا التي تعني معرفةً أو علمًا، ويعادلها في اليونانية كلمة غنوص (Gnosis). وعلى ما نستشفُّ من مصادر المندائيين أنفسهم، ومن كتب التراث العربي، ومن دراسات المستشرقين المحدثين، فإن الموطن الأصلي لهذه الطائفة كان في منطقة القدس وشواطئ نهر الأردن، ثم هاجروا شرقًا نحو وادي الرافدين عقب الاضطرابات التي رافقت وتلت الحروب اليهودية الرومانية فيما بين عام ٦٦ وعام ٧٠ للميلاد، والتي انتهت بدمار أورشليم على يد القائد الروماني تيتُس. وما زال اسم الأردن (أو يردنا باللغة المندائية) وهو النهر المقدَّس لديهم، يُطلق على الماء الجاري الذي يستخدم في طقوس التعميد. وقد عُثر في منطقة ميسان في الجنوب العراقي على قطع نقود تحمل كتابةً مندائية تعود بتاريخها إلى نحو ١٥٠م، الأمر الذي يدل على قِدَم هذه الطائفة وقربها زمنيًّا من العصر الذي عاش فيه يوحنا المعمدان.

ينتسب المندائيون إلى النبي يوحنا الذي يدعونه بلغتهم يهنا أو يهيا، وتُورِد كتبُهم المقدَّسة عن نسبِه وميلاده أخبارًا تُشبه قصة إنجيل لوقا والقصة القرآنية. نقرأ في إحدى تراتيلهم: «باسم الحي ربي، النور السني. وُلد يوحنا في القدس. أليصابات ولدت ولدًا من الأب الشيخ زكريا. يوحنا ولد ولمس الأردن وكان نبيًّا. نوَّر الإيمان قلبه، ونحن نتعمد بمائه، ونرتسم بالرسم الزكي. ونأكل من زاده ونشرب من مائه، فتنفتح قلوبنا إلى النور.» وطقس التعميد عندهم لا يتم إلا بالماء الجاري، وذلك على سُنَّة يوحنا الذي كان يعمد في ماء الأردن. ويخضع للتعميد الصغار في طفولتهم، والكبار قبل الزواج، كما يتعمد مَن شاء أن يكسب أجرًا. ويجري التعميد في يوم الأحد وهو اليوم المقدَّس عندهم. كما يجري في المناسبات الدينية. ويهدف هذا الطقس إلى تطهير الجسد والروح، ويكون الغطس الكامل في الماء رمزًا لفناء الجسد الخاطئ، والخروج من الماء رمزًا للجسد الذي انبعث روحيًّا. وخلال طقس المعمودية وبقية الاحتفالات الدينية يرتدي المندائي الثياب البيض التي ترمز إلى النور، ويتحاشى بشكل عام اللون الأسود الذي هو لون الظلام والخطيئة.

يقوم جوهر العقيدة المندائية على الإيمان بأن نفس الإنسان أو نَسْمَته (= نشمتا بالمندائية) هي نفحةٌ من الذات العليا، ولا بد لها وأن تعود يومًا إلى باريها وتتحد به في حياة باقية خالدة. وقد حلَّت هذه النسمة الإلهية أوَّل ما حلَّت في جسد آدم الأرضي ومعها شيء من جلال موطنها الأصلي وجماله، وفي الوقت نفسه حلَّت في ذلك الجسد الأرضي روح الشر (روها) ومعها كل ما في دنيا الظلام من خبثٍ وشرٍّ. ولكن من خلال العرفان، أو الماندا، يستطيع الإنسان اكتشافَ أصلِه السماوي ويصارع في داخله روحَ الشر، وبذلك يتحقق الانعتاق بعد الموت.٦

اعتمادًا على وجود هذه الطوائف الغنوصية المعمدانية التي تنتمي إلى يوحنا المعمدان وتنسب إليه تعاليمها، واستمرارها غير المنقطع منذ القرن الذي عاش فيه يوحنا، نستطيع الاستنتاج بدرجة عالية من الثقة أن هذه التعاليم هي التي سمعها تلامذة يوحنا الأولون ونقلوها إلى الأجيال اللاحقة، وأن يوحنا كان بحقٍّ واحدًا من مؤسسي المدرسة الغنوصية السورية التي كان سمعان ماجوس السامري أشهرَ ممثليها. وكلمة ماجوس، أي المجوسي، كانت تعني في العصر الهيلنستي والروماني الشخص الحكيم المتضلع بأمور الفلك والتنجيم والسحر، ومنهم المجوس الوارد ذكرهم في قصة الميلاد عند لوقا، والذين كانوا يرصدون النجوم عندما رأوا نجم المخلِّص ساطعًا في السماء فتَبِعوه إلى بيت لحم.

يلفُّ الغموض شخصية سمعان ماجوس؛ لأن مؤلفاته قد ضاعت ولم يبقَ منها سوى شذراتٍ أورها نقاده المسيحيون، لا سيما هيبوليتوس في كتابه «تفنيد كل الهرطقات» الذي وضعه في مطلع القرن الثالث الميلادي. نشط سمعان خلال أواسط القرن الأول الميلادي، وهذا يعني أنه عاصر كلًّا من يسوع ويوحنا المعمدان. وقد ورد ذكره في سفر أعمال الرسل وهو السفر الرابع في الكتاب المقدَّس المسيحي (العهد الجديد)، وفي سفر أعمال بطرس المنحول. يقول سمعان وفق ما ينقله عنه ناقده هبوليتوس، بأن الله قوة أزلية وغير متمايزة منغلقة على نفسها في صمتٍ وسكونٍ تامٍّ. ثم إن هذه القوة انقسمت على نفسها، فظهر العقل Nous– وهو مذكرٌ، والفكرة Enoia– وهي مؤنثٌ. وبذلك انشطرَت الألوهة إلى قسمٍ علويٍّ هو عالم الروح وقسمٍ سفليٍّ هو عالم المادة. ولقد امتصَّت الفكرة إينويا القوى الخلاقة للأب وأنتجت ملائكة وقوًى عملَت من خلالهم على خلق العالم المادي. ولكن إينويا فقدَت السلطة على القوى التي نتجَت عنها وصارت أسيرة لها ولا تستطيع الرجوع إلى الآب. ثم ظهر سمعان ماجوس كتجسيد لله على الأرض لكي يحررَ إينويا من قيودها، ويقدِّم الخلاص من العالم المادي لكلِّ مَن يتعرف عليه من البشر بصفته هذه.٧
لقد اعتبر بعض الباحثين أن سمعان ماجوس هو المعبِّر الأقدم عن الفكر الغنوصي، ولكن الاتجاهات الأحدث في البحث لم تَعُد تؤيد هذا الطرح مع اعترافها بأن أعماله هي أبكر ما وصلنا من نتاجات هذا الفكر. وهنالك أخبارٌ متداولة تقول بأن سمعان قد تلقَّى علومه في الإسكندرية ثم عاد إلى فلسطين حيث تتلمذ على يد يوحنا المعمدان الذي اعتبره أنجب تلاميذه، وكان عازمًا على تعيينه خلفًا له. ولكن سمعان كان في رحلة إلى مصر عندما جرى القبض على يوحنا وإعدامه، فاستلم المنصب سامريٌّ آخر من أتباع يوحنا اسمه دوتيسيوس. وعندما عاد سمعان إلى فلسطين جمع حوله ثلاثين تلميذًا وراح يطوف معهم إلى أن لقيَ حتفه في ظروف غامضة في روما. وقد خلفه في زعامة الطائفة اثنان من تلاميذه، الأول ميناندر وهو سامريٌّ أيضًا ولكنه أمضى النصف الثاني من حياته في أنطاكية حيث تُوفِّي نحو عام ٨٠م. أما الثاني وهو ساتورنيلوس فكان من مواطني مدينة دافنة إلى الشمال من السامرة حيث منابع نهر الأردن، وقد عاش حتى أواسط القرن الثاني الميلادي.٨
أما سفر أعمال الرسل فيورد عن سمعان ماجوس ما يلي: «فنزل فيليبس الرسول مدينة سامرية وجعل يبشِّر بالمسيح … وكان في المدينة قبل ذلك رجلٌ اسمه سمعان يفتري السحر ويفتن أهل السامرة زاعمًا أنه رجلٌ عظيم. فكانوا يَلزمونه من صغيرهم إلى كبيرهم ويقولون: هذا قوة الله العظيمة. وإنما لزموه لأنه أخذ يفتنهم بأساليب سحره من زمن طويل. فلما آمنوا بكلام فيليبس الذي بشَّرهم بملكوت الله واسم يسوع، اعتمدوا رجالًا ونساءً وآمن سمعان أيضًا» (أعمال، ٨: ٤–١٢). ولكن سفر أعمال بطرس المنحول يعطينا صورةً أخرى؛ حيث نجد سمعان ماجوس قد سبق الرسول بطرس إلى روما وراح يبشِّر بمعتقده هناك مدَّعيًا أنه ابن الله ومجترحًا المعجزات التي استمالت الناس، وكان بطرس من ناحيته يشفي المرضى والعميان والمقعدين بقوة الروح القدس. ثم اجتمع الاثنان للمنافسة بحضور الإمبراطور نيرون وحشْدٍ من أهل روما، فقام سمعان بصعودِ برجٍ عالٍ وطار فوق أحياء المدينة، ولكن بطرس صاح بصوتٍ عالٍ: أناشدكم يا ملائكة الشيطان الذين تحملونه أن تُفلتوه. وعلى الفور سقط سمعان على الأرض وتحطم جسده.٩

تُعبِّر أخبار العهد الجديد عن المنظور الذي رأى من خلاله الإنجيليون تعاليمَ يوحنا المعمدان باعتباره معلِّمًا يهوديًّا اختطَّ لنفسه نهجًا خاصًّا لا يتعارض جذريًّا مع العقيدة اليهودية. أما تعاليم الطائفة المندائية فيبدو أنها قد حفظت لنا الكثير من جوانب فكر يوحنا المعمدان باعتباره معلمًا غنوصيًّا ينتمي إلى المدرسة الغنوصية السورية التي ضاعَت معالمها من خلال ما نقله لنا أعداؤها المسيحيون، ومن خلال مؤلفي أسفار العهد الجديد الرسمية منها والمنحولة، الذين لم يكن بين أيديهم، على ما يبدو، معلوماتٌ كافية عن شخصية المعمدان وطبيعة رسالته.

بعد هذا المدخل عن يوحنا المعمدان وتاريخ طقس المعمودية، ننتقل إلى خبر اعتماد يسوع كما ورد في الأناجيل ومدلولاته.

(٢) المعمودية كبوابة للاستنارة

إذا نحَّينا قصة الميلاد التي وردَت في إنجيلَي متَّى ولوقا (ولم تَرِد في إنجيلَي مرقس ويوحنا) باعتبارها مقدمة مقحمة على سيرة يسوع اقتضَتها طبيعةُ التغييرات اللاهوتية التي حصلَت خلال فترة امتدَّت قرابة نصف قرن بين حادثة الصلب وظهور الأناجيل، فإن سيرة يسوع تبدأ من اعتماده في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، وهو العمل العلني الأول ليسوع. فعندما رأى يسوع أن الكل يقصد يوحنا جاء من الجليل هو أيضًا للاعتماد على يديه. وهنا يروي لنا الإنجيليون أربعَ قصصٍ تختلف في التفاصيل أحيانًا وتتعارض في أحيان أخرى.

ونبدأ كالعادة بإنجيل مرقس، وهو الأقدم وربَّما الأقرب إلى الواقعة التاريخية:

«وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن. وللوقت وهو صاعدٌ من الماء رأي السماوات قد انشقَّت والروح مثل حمامة نازلًا عليه، وكان صوت من السماوات: أنت ابني الحبيب الذي به سُررت.» (مرقس، ١: ٩–١٠)

نلاحظ من هذا الخبر المقتضب الخالي من التفاصيل والخيال الأدبي، أن يسوع قصد يوحنا مثال بقية الناس، وربما مرَّ بين المنتظرين دورهم للعماد دون أن يلحظه يوحنا، بدليل أن اللقاء بين الطرفين كان موضوعيًّا ولم يجرِ بينهما أيَّ حديث متبادل.

ونقرأ في إنجيل متَّى:

«حينئذٍ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه، ولكن يوحنا منعه قائلًا: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليَّ؟ فأجاب يسوع وقال له: اسمح الآن؛ لأنه هكذا يليق بنا أن نُكملَ كلَّ بِرٍّ. حينئذٍ سمح له. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحَت له فرأى روح الله نازلًا مثل حمامةٍ وآتيًا عليه، وصوت من السماوات قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت» (متَّى، ٣: ١٣–١٧).

في قصة متَّى هذه يتحول اللقاء الموضوعي كما وصفه مرقس إلى لقاء درامي يتخلله حوارٌ مفعمٌ بالمعنى. فلقد أدرك متَّى المأزق اللاهوتي لقصة اعتماد يسوع على يد يوحنا، وهو مأزقٌ ذو شقَّين؛ الشق الأول يتعلق بمضمون طقس المعمودية كما مارسه يوحنا وهو مغفرة الخطايا استعدادًا لحلول ملكوت السماء، وهذا المضمون يعني أن يسوع كان كغيره من البشر خاطئًا في الجسد ويرنو إلى الغفران. أما الشق الثاني فيتعلق بالمرتبة النسبية لكلٍّ من المعمِّد ومتلقي العماد؛ حيث يتخذ المعمِّد المرتبة الأعلى من الناحية الروحية ومتلقي العماد المرتبة الدنيا، ويكون يوحنا معلمًا ويسوع تلميذًا. ولكي يتلافى متَّى هذا المأزق اللاهوتي المزدوج، فقد جعل المعمدان يدرك لفوره أنه أمام الشخص الذي كان يقول عنه «يأتي بعدي مَن هو أقوى منِّي، الذي لست أهلًا لأن أنحنيَ وأحلَّ سيور حذائه» (مرقس، ١: ٧–٨). ولهذا فقد أحجم عن تعميده قائلًا: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليَّ؟» ثم نزل عند رغبته بعد أن أصرَّ يسوع على إتمام المعمودية على يديه.

وفي الحقيقة فإن موقف يوحنا كما عرضه متَّى غير مفهومٍ، لأن الروح القدس لم يكن بعد قد هبط على يسوع، ويسوع نفسه لم يكن يعرف أنه المسيح المنتظر قبل سماعه للصوت السماوي. فكيف تأتَّت ليوحنا هذه المعرفة المسبقة؟ يضاف إلى ذلك أن الجملة التي استخدمها كلٌّ من مرقس ومتَّى: «وللوقت وهو صاعدٌ من الماء رأي السماوات قد انشقَّت والروح مثل حمامةٍ نازلًا عليه» (مرقس، ١: ١٠–١١) تدلُّ على أن يسوع وحده قد رأى ما رأى وسمع ما سمع، وذلك في حالة كشف باطني لم يستشعرها أحدٌ غيره.

هذا الحوار بين يوحنا ويسوع لم يَرِد عند بقية الإنجيليِّين؛ فيسوع لم يلتقِ بيوحنا عند لوقا، لأنه عمد نفسه بنفسه عندما كان يوحنا في السجن، أما مؤلف إنجيل يوحنا فقد تجاهل تمامًا قصة اعتماد يسوع على يد يوحنا.

نقرأ في إنجيل لوقا:

«وإذا كان الشعب ينتظر والجميع يفكِّرون في قلوبهم عن يوحنا لعلَّه المسيح، أجاب يوحنا الجميع وقال: أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي مَن هو أقوى منِّي، الذي لست أهلًا لأن أحلَّ سيور حذائه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار … أما هيرودس رئيس الرُّبع فإذا توَبَّخ منه لسبب هيروديا امرأة فيليبس أخيه ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها، زاد هذا أيضًا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن. ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضًا. وإذا كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس … إلخ» (لوقا، ٣: ١٥–٢٢).

في هذا النص يقول لنا لوقا بأن هيرودوس ملك الجليل زجَّ يوحنا في السجن، ثم يقول بعد ذلك «ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضًا». فهل يعني هذا أن يسوع قد عمد نفسه بنفسه؟ أم أن صياغة لوقا تتضمن بعض التقديم والتأخير؟

ونقرأ في إنجيل يوحنا:

«وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه مَن أنت؟ فاعترف ولم يُنكر وأقرَّ: إني لست المسيح.» فسألوه: إذن ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا. فقالوا: مَن أنت لنعطيَ جوابًا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية، قوِّموا طريق الرب كما قال النبي إشعيا. وكان المرسلون من الفريسيِّين، فسألوه وقالوا له: فما بالك تُعمِّد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ فأجابهم يوحنا قائلًا: أنا أعمد بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي، الذي صار قدامي، الذي لستُ بمستحق أن أحلَّ سيور حذائه. هذا كان في بيت عبرة في عبر الأردن حيث كان يوحنا يُعمِّد.

«وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلًا إليه، فقال: هذا هو حَمَل الله الذي يرفع خطيَّة العالم، هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي الذي صار قدامي لأنه كان قبلي، وأنا لم أكن أعرفه، ولكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء. وشهد يوحنا قائلًا: إني رأيت الروح مثلَ حمامةٍ نازلًا من السماء فاستقرَّ عليه. وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلًا ومستقرًّا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت بأن هذا هو ابن الله» (يوحنا، ١: ١٩–٢٤).

من قراءة هذا النص نخرج بالملاحظات التالية:
  • (١)

    يسوع لم يعتمد على يد يوحنا. وهذا يأتي في انسجام مع لاهوت الإنجيل الرابع الذي رفع يسوع إلى مرتبة «كلمة الله» التي كانت عنده منذ البدء. وهذا هو مؤدَّى قول المعمدان: «يأتي بعدي رجلٌ صار قدامي لأنه كان قبلي» فالقادم من السماء لا يعتمد على يد رجل أرضي، إنه يُعمد ولا يتعمد لأنه بلا خطيئةٍ.

  • (٢)

    كما هو الحال في رواية مرقس، فإن يسوع والمعمدان لم يتبادلا كلمةً واحدة، على الرغم من أن يسوع قد جاء إلى المكان الذي كان يوحنا يُعمِّد فيه، ورآه يوحنا مقبلًا إليه. فلماذا أقبل يسوع إلى يوحنا إذا كان عازفًا عن الاعتماد؟ ولماذا بالدرجة الأولى ترك موطنه في الجليل وقصده؟

  • (٣)

    تغيب من رواية إنجيل يوحنا عبارة «وصوت من السماوات قائلًا هذا هو ابني الحبيب (أو أنت ابني الحبيب) الذي به سُررت»، وتُستبدل بها شهادة المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله».

  • (٤)

    من مجريات روايات مرقس ومتَّى ولوقا، يتضح لنا أن يسوع والمعمدان لم يكونا على معرفة سابقة. ثم تأتي رواية إنجيل يوحنا لتؤكد لنا هذه الواقعة بصريح العبارة، عندما يكرر المعمدان مرتين أنه لم يكن يعرف يسوع. وهذا يتناقض مع رواية الميلاد عند لوقا الذي جعل من أليصابات أم يوحنا قريبةً لمريم أم يسوع (وفي التقاليد الكنسية ابنة خالتها)، وجعل مريم تترك موطنها في الجليل عقب البشارة بالحمل، تسافر إلى أورشليم حيث مكثت عند زكريا وأليصابات مدة ثلاثة أشهر (لوقا، ١: ٣٩–٥٦).

  • (٥)

    عندما رأى المعمدان يسوع مقبلًا قال: «هذا هو حَمَل الله الذي يرفع خطيَّة العالم». ولقَبُ «حمل الله» الذي ينفرد به مؤلف إنجيل يوحنا، يحمل في طيَّاته نوعًا من المشابهة بين «حمل الفصح» الذي يُريق اليهود دمَه بعد ظهر اليوم السابق للفصح اليهودي وبين يسوع. فكما أن دمَ حمل الفصح يغسل خطايا اليهود في العيد، كذلك هو دم يسوع المسيح الذي قدَّم نفسه قربانًا من أجل رفع خطيئة البشر أينما كانوا وتقديم الخلاص لهم. ولهذا فإن مؤلف إنجيل يوحنا يجعل حادثة صلب يسوع في اليوم السابق للفصح اليهودي لا في يوم الفصح نفسه كما فعل بقية الإنجيلين، ويجعل موته بعد ظهر هذا اليوم في توافق مع إراقة دم حمل الفصح في باحة هيكل أورشليم.

هذه الرمزية تترسخ بعد ذلك في فكر بولس الرسول المؤسس الحقيقي للاهوت المسيحي، فبولس يرى أن «عقاب الخطيئة هو الموت» (روما، ٦: ٢٣)، وبما أن مآل البشر جميعًا إلى الموت، فإن ذلك يستتبع أن البشرَ كلَّهم خُطاة. ولكن موت المسيح على الصليب قد حرَّر البشر من الخطيئة ومن الموت: «ألَا تعلمون أننا حين تعمدنا لنتحد بالمسيح يسوع تعمدنا لنموت معه، فدُفنا معه بالمعمودية وشاركناه في موته، حتى كما أقامه الآب بقدرته المجيدة من بين الأموات، نسلك نحن أيضًا في حياة جديدة، فإذا كنَّا اتحدنا به في موت يُشبه موته فكذلك نتحد به في قيامته. ونحن نعلم أن الإنسان القديم فينا (=جسد آدم) صُلب مع المسيح حتى يزول سلطان الخطيئة في جسدنا … فإذا كنَّا متنا مع المسيح فنحن نؤمن بأننا سنحيا معه» (روما، ٦: ١–٨).

بعد هذا اللقاء الأول والأخير بين يسوع والمعمدان، تم إلقاء القبض على المعمدان وأُودع السجن، ولم يُقيض للاثنين أن يلتقيا ثانية. وبعد أن سَمِع يسوع بالقبض على المعمدان باشر نشاطه التبشيري العلني. وعلى حدِّ قول مرقس: «وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس، ١: ١٤). أي إن يسوع قد تبنَّى رسالة يوحنا الذي قال قبله: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات» مضيفًا إليها بشارته الخاصة. وعندما بدأ يسوع يُظهر المعجزات، جاء تلاميذ يوحنا وأخبروا معلِّمَهم بما رأوا وسمعوا. فدعا يوحنا اثنين من تلاميذه وأرسل إلى يسوع يسأله عما إذا كان المسيح المنتظر: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما. إن العُمي يبصرون والعُرج يمشون والبُرص يطهرون والصُّم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يُبشَّرون، وطوبى لمن لا يشكُّ فيَّ» (متَّى، ١١: ١–٦). ويسوع هنا إنما يُلمح إلى ما ورد في النبوءات التوراتية بخصوص مجيء المسيح (راجع سفر إشعيا، ٢٦: ١٩، و٢٩: ١٨، و٣٥: ٥، و٦٠: ١)، ويرد على سؤال يوحنا بطريقة غير مباشرة. على أن المشكلة في هذا الخبر هي أن متَّى الذي جعل يوحنا يسأل يسوع عما إذا كان المسيح المنتظر (متَّى، ١١: ٣)، كان قد جعله في خبر العماد يتعرف على يسوع بصفته هذه عندما مانع في تعمده قائلًا: وأنا محتاج أن اعتمد منك، وأنت تأتي إليَّ؟ (متَّى، ٣: ١٤).

بعد انصراف تلميذي يوحنا يتوجَّه يسوع بخطاب لمَن حوله من الناس ينطوي على مغزًى يتعلق بطبيعة رسالته: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تُحركها الريح؟ … بل ماذا خرجتم تنظروا؟ أنبيًّا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي … لأني أقول لكم إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه» (لوقا، ٧: ٢٤–٢٨). في هذا الخطاب يعترف يسوع بدور يوحنا المعمدان، ولكنه في الوقت نفسه يُعلن أن رسالته قد تجاوزت يوحنا، لأن أصغر المؤمنين بالبشارة، المؤهلين لدخول الملكوت القادم، هو أعظم من يوحنا.

هذا التجاوز يعبر عنه مشهد التعميد نفسه؛ فيسوع قد غطس في الماء ثم خرج منه تاركًا يوحنا وراءه وراح يصلي في خلوة، وأثناء الصلاة انفتحت السماء ونزل عليه روح الله مثل حمامة واستقرَّ عليه، وسمع صوتًا من السماء قائلًا: هذا هو النبي الحبيب الذي به سُررت. وهنا يمثل المعمدان الحكمة القديمة التي تجاوزها يسوع بعد أن خرج من الماء، أما الحمامة والصوت السماوي الذي سَمِعه يسوع بينما هو يصلي، فيعبِّران عن حالة الكشف الداخلي التي توصَّل إليها يسوع وهو في غمرة التأمل الباطني العميق. وهكذا فقد عَبَر العتبة التي تؤدي إلى طريق لا عودة منها، طريق حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم ويقدِّم الخلاص لبني البشر.

مثل هذا الكشف قد حصل لبوذا وهو في حالة تأمل عميق تحت شجرة الاستنارة، على ما تُخبرنا به قصة استنارة البوذا التي تشترك في عناصرها مع قصة استنارة يسوع، أو بالتعبير الظاهري هبوط الروح القدس عليه. فبعد أن ترك الأمير الشاب سيدهارتا (البوذا المقبل) قصرَ أبيه الملوكي وزوجته الشابة، شرع في رحلة طويلة بحثًا عن أجوبة على الأسئلة الوجودية الكبرى التي كانت تؤرِّقه، نشَد خلالها عددًا من المعلِّمين الهندوس واستمع إليهم محاولًا اتِّباع طرقهم الصوفية، ولكنه لم يَصِل إلى نتيجة تُرضي فكرَه الحائر، فقرر السير وحيدًا في طريق المعرفة. وصل سيدهارتا إلى غابة يجري عبرها نهرٌ صافٍ، وهناك ألزم نفسه تدريباتٍ نسكية قاسية مدة خمس سنوات، معتقدًا أن الصوم وتعذيب الجسد سوف يجلب له صفاء الذهن الذي يقود إلى كشف البصيرة. وفي هذه الأثناء انضم إليه خمسة من النُّسَّاك الذين ساروا على نهجه آملين منه أن يشاركَهم معرفته. وأخيرًا هزل جسده وتحوَّل إلى عظم وجلد وبلغ حافة الموت دون أن يبلغ غايته، ثم سقط مغشيًّا عليه من شدة الضعف، وعندما أفاق عرف أن طريقة قهر الجسد قد أخفقت؛ فقبل قصعة من الأرز المسلوق بالحليب من يد فتاة تسكن قرية قريبة، وأكل منها فشعر بقوة في جسده. وهنا انفض عنه النساك الخمسة الذين اتهموه بالخور والضعف، أما هو فقد قام إلى النهر حيث غطس في الماء وانتعش، ثم تجاوزه إلى الضفة الأخرى وقصد شجرةَ تين هندي وارفةً وجلس تحتها مستغرقًا في تأمل باطني عميق، عازمًا ألَّا يبرح موضعه حتى يَصِل إلى المعرفة. وما إن حلَّ المساء حتى بدأ قلبه يضيء بالاستنارة الكاملة، وتحوَّل إلى بوذا، أي «المستيقظ» أو المستنير الذي أفاق من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وعرَف سرَّ الحياة وغايتها ومآلها.

وهنالك تفسير كوكبي لقصة معمودية يسوع يقول به بعض المفسرين الذين يرون أن المستويات السرانية الباطنية في فهم سيرة يسوع قد ربطَته منذ البداية بالشمس التي تُولد في يوم ٢٥ ديسمبر، عندما تدخل في برج الجدي ويأخذ النهار بالطول على حساب الليل. فقد كان برج الجدي (Capricon) هو الشارة السماوية لإله الماء إنكي في ثقافة الشرق القديم، الذي كان يُدعى منذ الفترة الهيلينستية أوانِّس، المعادل لاسم يوحنا الذي يلفظ باللغة اليونانية يوانِّس وباللاتينية جوهانِّس وبالعبرية يوحنان. وبما أن معمودية يسوع تُعبر عن ولادته الثانية عقب لقائه بيوحنا المعمدان الذي يمثل هنا برج الجدي، فإن المشهد بكامله ليس إلا ترجمة ميثولوجية لدخول الشمس في برج الجدي وهو البرج العاشر في دائرة الأبراج السماوية، متوجهة نحو البرج الحادي عشر وهو برج الدلو. ثم يسير هؤلاء خطوة أبعد في هذا التفسير؛ فإذا كان يسوع وفق هذه الرمزية الكوكبية قد وُلد في ٢٥ ديسمبر، فإن مريم العذراء قد حبلت به قبل ذلك بتسعة أشهر أي في ٢٥ مارس/آذار في يوم الانقلاب الربيعي عندما تدخل الشمس في برج العذراء. وهنالك جملة غامضة يضعها مؤلف إنجيل يوحنا على لسان المعمدان يمكن فهمها على ضوء هذا التفسير عندما يقول لتلامذته عن يسوع: «إذن فرحي قد كمل. ينبغي أن ذلك (= يسوع) يزيد وأنا أنقص» (يوحنا، ٣: ٣٠)، وذلك في إشارة إلى طول النهار وقصر الليل عقب دخول الشمس (أو يسوع) في برج الجدي (أي المعمدان).١٠
١  Joseph Campbell, Oriantal Mythology, Penguin, 1977, p. 107.
٢  F. Guirand, Greek Mythology, Hymlen, London, 1969, p. 108.
٣  G. Negal, The Mysteries of Osiris. In: J. Campbell, edt, The Mysteries. Princeton, 1978, p. 132.
٤  Apuleius, The Golden Ass, Penguin, 1980, pp. 240–241.
٥  Joseph Campbel, Occedental Mythology, Penguin, 1977, pp. 348–349.
٦  هذه المعلومات عن عقائد وطقوس المندائيين تستند إلى كتاب: ناجية مراني: مفاهيم صابئية مندائية، بغداد ١٩٨١م، الفصل الثاني.
٧  Willis Barnstone, The Other Bible, Harper, New York, 1986, pp. 608–609.
٨  Kurt Rudulph, Gnosis, Harper, 1987, pp. 296–298.
٩  أعمال بطرس، ترجمة إسكندر شديد في كتابه (الأعمال والرسائل المنحولة)، لبنان ١٩٩٩م، الفصل الأول.
١٠  Joseph Campbell, Occidental Mythology, Penguin, 1977, pp. 349–350.
Joseph Campbell, Oriental Mythology, Penguin, 1977, p. 107.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤