من الذي خدع الآخر؟

كانت «لوزة» هي دائمًا صاحبة المفاجآت … ولكن هذه المفاجأة كانت سيئةً للغاية … فهذا يعني فقدان أحد الخيوط التي ستحل لغز «بائع البالونات» … ولكن «تختخ» لم يفقد أعصابه وقال: لا بأس … لقد طلبنا من ممثِّل القانون الشاويش «علي» … أن يُحاول الحصول على معلومات منه، ولكنه لم يستمع إلى نصيحتنا … بقي أن نعتمد على أنفسنا … هذا المساء سأذهب مع «عاطف» للبحث عن الولد المتشرِّد … وقد نتمكَّن عن طريقه من الوصول إلى شيء.

عندما هبط المساء في ذلك اليوم … كان «تختخ» و«عاطف» في طريقهما إلى الشارع الثالث الذي وقعت فيه سرقة التحفة الغالية … حيث جاء الولد المتشرِّد وسلَّم الرسالة ﻟ «عاطف» … وكان الاثنان مصمِّمَين على الوصول إلى هذا الولد … وتحدَّث «تختخ» إلى «عاطف» قائلًا: أنت تذكر بالطبع المكان الذي جاءك فيه الولد المتشرِّد؟

عاطف: طبعًا … لقد كان قريبًا جدًّا من المنزل المسروق.

تختخ: ببساطة فإن الذي أرسل لكَ الرسالة يسكن في هذه المنطقة … فمن المستحيل أن يكون قد مرَّ في هذا المكان … في هذه الساعة … بالمصادفة!

عاطف: هذا استنتاج صحيح!

تختخ: إذن فإن مجال بحثنا سيكون في هذا المكان بالضبط.

ووصل الاثنان إلى المكان وقد بدأ الظلام يهبط … وكان الحظ حليفهما من اللحظة الأولى … فقد لاحظ «عاطف» ولدًا صغيرًا يدخل إحدى العمارات وهو يحمل كميةً من الخبز، فأمسك بذراع «تختخ» مسرعًا وصاح بانفعال: هذا هو الولد!

تختخ: عظيم … لقد بدأنا العمل الجدي.

أسرع الاثنان إلى مدخل العمارة، وقال «تختخ» ملاحظًا: من المدهش أنها نفس العمارة التي وقعَت بها السرقة.

وقف لحظات … وكان «تختخ» يُتابع بعينَيه أرقام المصعد وهي تُضيء … وعرف أن الولد قد ركب المصعد إلى الطابق الخامس … وقال في نفسه: من المدهش أنه نفس الطابق الذي وقعَت به السرقة.

أخذ ذهن «تختخ» يدور بسرعة … إن المسألة تحتاج إلى مزيدٍ من الاستنتاجات، ولاحظ «تختخ» أن المصعد بدأ يهبط مرةً أخرى … ووقف هو و«عاطف» … ينتظران … وهبط المصعد … ولكن الولد لم يهبط … لقد نزلَت سيدة عجوز نظرت إليهما لحظات، ثم مضَت في طريقها.

مضت فترة … وظهر بوَّاب ضخم الجسم قادمًا من غرفة داخلية، ونظر إلى «تختخ» و«عاطف»، ثم قال: ماذا تريدان؟

كانت لحظات حرجة، ولكن «تختخ» أسرع يقول: هل هذه العمارة رقم ١٦؟

قال البوَّاب: لا … إنها العمارة المجاورة.

تختخ: شكرًا لك.

وخرج الصديقان، ووقفا في مكانٍ مظلم يرقبان باب العمارة … وقال «عاطف»: من سوء الحظ أن «زنجر» مريض … لقد كان من المفيد جدًّا لنا لو أنَّه موجود.

تختخ: نعم … لا أدري ماذا أصابه؟ … إنه يرفض أن يُغادر كوخه الصغير وقد بدا عليه الهزال.

عاطف: لا بد أن نذهب به إلى الطبيب البيطري غدًا.

في هذه اللحظة ظهر الولد المتشرِّد مرةً أخرى … كان يُمسك بيده شنطةً من البلاستيك، وعرف الصديقان أنه ذاهب لشراء شيء ما.

تحرَّك الولد في اتجاه السوق … وخلفه «تختخ» و«عاطف»، وهمس «تختخ»: هل أنتَ متأكِّد أنه هو؟

عاطف: هل تظن أنني أنسى في موقفٍ كهذا؟!

وصل الولد إلى السوق، وأخذ يشتري بعض الأطعمة والفاكهة … وعندما انتهى من الشراء، وأخذ طريق العودة، قرَّر «تختخ» أن يبدأ، فاتجه إليه وقال: إنني أُريد أن أتحدَّث معك.

نظر الولد إليه باستهتارٍ وقال: ماذا تُريد؟

تختخ: إن «بائع البالونات» أرسلنا لك.

اتسعَت عين الولد ببريق الدهشة وقال: عم «سعيد»؟!

تختخ: نعم.

الولد: ولكنه كان هنا هذا الصباح … لماذا لم يقل لي؟!

تختخ: لا نعرف … لقد طلب منَّا أن نحضر إلى هنا، ونطلب منكَ أن تأتي معنا إليه، إنه يُريدكُ في مسألة هامة.

الولد: ولكن لا بد أن أذهب أولًا لتسليم هذه المأكولات إلى أصحابها!

تختخ: سننتظركَ حتى تنتهي من مهمَّتك.

وسار الثلاثة معًا … وكان «تختخ» يتمنَّى أن يسأل الولد عمَّن أعطاه الرسالة في الصباح لتوصيلها إلى «بائع البالونات»، ولكنه كان يخشى أن يستريب الولد فيه ولا يأتي معه …

وصلوا إلى الشارع الخامس … وذهب الولد لتسليم الطعام، ووقف «تختخ» و«عاطف» في الانتظار … ومضَت مدة أكثر من اللازم، وبدأ المغامران يشعران بالقلق. هل اختفى الولد؟ هل أحسَّ بشيء غير عادي؟ هل خرج من باب آخر في العمارة؟

ولكن بعد ثوانٍ قليلة من هذه الأسئلة ظهر الولد مرةً أُخرى في مدخل العمارة … وأخذ ينظر حوله، ثم خرج إلى الشارع، واتجه إلى حيث يقف الصديقان، وقال: هل طلب عم «سعيد» منكما أن تأتيا معي؟

تختخ: نعم.

الولد: أنتما إذن تعرفان مكانه؟

تختخ: لا لقد قابلنا بالمصادفة.

الولد: ولماذا تأتيان معي؟

تختخ: لا نعرف … هذا هو ما طلبه!

الولد: إذن هيا بنا.

وسار الثلاثة … وبعد دقائق خرج من الشوارع الواسعة إلى بعض الحواري الضيقة … وعرف «تختخ» من الاتجاه أنهما يسيران إلى عزبة «فهمي» في نهاية المعادي … حيث المنازل الصغيرة، والعشش، والأكواخ … وأحسَّ «تختخ» ببعض القلق … شيء ما في نفسه كان يُحدِّثه أنهم متبوعون بشخصٍ ما … كان يشعر أن ثمَّة نظراتٍ تتبعه … ولكنه قرَّر ألَّا يلتفت حوله مطلقًا حتى لا يُنبِّه من يتبعهم أنه أحسَّ بوجوده.

ظلُّوا يسيرون داخل عزبة «فهمي» حتى مشارف الصحراء الواسعة … وقلَّت حركة المارَّة حتى انعدمَت، وأصبحوا وحدهم …

وأحسَّ «تختخ» بمن يتبعهم وهو يقترب منهم سريعًا، وقرَّر أن يلتفت، ولكن بعد فوات الأوان … فعندما أدار رأسه شاهد وجه الرجل في الظلام … لم يتبيَّن ملامحه جيدًا … كل ما رآه منه عيناه اللتان كانتا تتوهَّجان بالغضب والشراسة … ثم فاجأته ضربة موجعة من عصًا على رأسه … وسقط على الأرض وغاب عن وعيه تمامًا.

عندما استيقظ «تختخ» بعد فترة لا يعرف مداها، وجد نفسه مقيَّدًا وملقًى على الأرض في غرفةٍ من الصفيح، وبجواره «عاطف» … أخذَت عيناه تألفان الظلام تدريجيًّا … وشاهد ما حوله … كانت هناك أشياء كثيرة قديمة متناثرة في كل مكان … إطارات سيارات، ودرَّاجات قديمة … كمية من الأسلاك والحبال معلَّقة … عشرات من الأحذية البالية … صناديق خشبية مكسَّرة … وقُرب وجهه رأى فأرًا يُنظِّف أنفه بيدَيه … وأخذ هو والفأر يتبادلان النظرات لحظات … ثم قفز الفأر مبتعدًا …

كانت يداه مربوطتَين خلف ظهره، وساقاه مقيَّدتَين جيدًا … وعلى فمه منديل مربوط بشدة … وكان رأسه يُؤلمه من أثر الضربة … وأخذ يُفكِّر في الساعات التي مضت … وعرف أنه كان يجب أن يتصرَّف قبل أن يُهاجمهما ذلك الشخص، ولكن رغبته في الوصول إلى «بائع البالونات» جعلَته ينسى حذره.

بعد لحظات بدأ «عاطف» يفتح عينَيه … وأخذ يُحدِّق لحظات حوله حتى التقَت عيناه بعينَي «تختخ» … وتفاهما دون كلمات … إنهما في مأزق مخيف فلا أحد يدري أين هما الآن!

سمعا صوت حديثٍ يدور في الغرفة المجاورة … كان حديثًا هامسًا في البداية، ثم بدأت الأصوات ترتفع بكلمات … كان شخصان يتبادلان الاتهامات … وكلٌّ منهما يُلقي بالتهمة على الآخر.

كان أحدهما يقول: كيف تفعل ذلك؟

ردَّ الآخر: لقد كان بعيدًا عني … وكان يلبس نفس ملابسك!

الأول: أنت أعمى إذن!

الثاني: قلتُ لك … كان بعيدًا عني!

الأول: نحن الآن في مأزق حقيقي!

الثاني: لا تخَف … سأُعطيك مبلغًا كبيرًا وتستطيع الفرار بعيدًا أنتَ والولد … كل ما أطلبه منكما التخلُّص من هذَين الولدَين … إنهما يعرفان الكثير!

الأول: وكيف نتخلَّص منهما؟!

الثاني: هذه مهمَّتك … إنني أحتاج إلى أسبوع واحد أُجهِّز نفسي للسفر خارج البلاد … ولن أعود مرةً أخرى.

الأول: الحل أن نتركهما هنا.

الثاني: هذا خطر؛ فيحتمل أن يكون قد شاهدهما أحدٌ ونحن نحملهما إلى هنا!

تحدَّث الولد فقال: لم يكن هناك أحد.

الثاني: من الأفضل نقلهما بعيدًا … وأنا أقترح أن ننقُلهما إلى بلد «مصطفى» في الصعيد.

الأول: لقد هرب «مصطفى» ولا أظن أنه سيذهب إلى بلده … فمن السهل جدًّا على رجال الشرطة متابعته والوصول إليه.

الثاني: إذن سأُحضر لكما سيارة نقل مغطَّاة، تنقلان فيها الولدَين إلى مكانٍ بعيد، ثم يبقيان معكما أسبوعًا، وتهربان، وعند عودتهما إلى المعادي نكون جميعًا ابتعدنا بما يكفي.

الأول: ومتى تأتي السيارة؟

الثاني: بعد ثلاث ساعات، والسائق كان يعمل عندي وهو موضع ثقتي تمامًا، ولن يتحدَّث بما سيُشاهده.

الأول: والنقود؟

الثاني: سأُحضرها معي.

وسمع «تختخ» و«عاطف» صوت أقدام تبتعد، ثم ساد الصمت من جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤