قطعة المنشار الصدئة

كان على المغامرَين أن يتصرَّفا بسرعة … فإذا تمَّ نقلهما إلى السيارة المغلقة وسارت بهما بعيدًا إلى حيث لا يدريان … فلا أحد يمكن أن يتبعهما ويعرف مكانهما، وهما لا يعرفان إلى أين ستذهب السيارة … وما هي النهاية بعد كل ذلك!

أخذ «تختخ» و«عاطف» يتبادلان النظرات … كانت كافيةً ليفهم كلٌّ منهما الآخر …

وهكذا بدأ كلٌّ منهما يُحاول التخلُّص من قيده … ولكن ذلك كان عبثًا … فقد كانت الأربطة قويةً ومحكمة … ودارت برأس «تختخ» فكرة … ففي مثل هذه الغرفة التي تُشبه المخزن لا بد من وجود شيء حاد … شيء قديم يمكن استخدامه للتخلُّص من هذه القيود … وأخذ ينظر في الظلام ويُدير رأسه هنا وهناك … وفهم «عاطف» ما تعني هذه الحركة … فأخذ هو الآخر ينظر حوله باحثًا عن شيء مماثل لما فكَّر فيه «تختخ» …

كانت خيوطٌ من الضوء تنفذ خلال جدران الغرفة الصاج … وتتبَّع «تختخ» بعينَيه هذه الأشعة الرفيعة … وفي نهاية إحداها شاهد شيئًا يلمع … أخذ يُدقِّق النظر فيه … ووجد أنه قطعةٌ من منشارٍ قديم قد علت أجزاءً منه طبقةٌ من الصدأ … وبقي الجزء الآخر يلمع. وأخذ «تختخ» يزحف على جانبه إلى حيث قطعة المنشار … كانت محاولةً مضنية؛ لأنه كان يزحف كثعبان مضروب … وكانت المسافة بعيدة … وجسده يتألَّم من القيد … ومن بعض الأشياء المدبَّبة التي كان يمر عليها … ولكنه في النهاية وصل إلى قطعة المنشار … واستجمع كلَّ قوته، ومدَّ يدَيه المربوطتَين وأمسكها بأصابعه … ولكن قطعة المنشار كانت تحت مجموعة من قطع الحديد الثقيل … وأخذ يُحاول جذبها … فأدمَت أصابعه … ولكنه استمرَّ في المحاولة والعرق ينضح من جسده ووجهه، ويسقط في عينَيه فيلهبهما … ولكنه استمرَّ في المحاولة.

وأخيرًا استطاع أن ينتزعها من مكانها، وأحسَّ بارتياحٍ شديد … كانت لا تزال تحتفظ بحِدَّتها برغم الصدأ، وكان طولها نحو عشرة سنتيمترات. أمسكها بأصابعه، ثم أخذ يزحف عائدًا إلى مكانه … واقتضى هذا بعض الوقت وكثيرًا من الجهد … ولكن لا بد أن يعود … ولحسن الحظ أنه عاد إلى مكانه في نفس الوقت الذي فُتح فيه الباب، وظهر رجل مخيف لم يشكَّ الاثنان لحظةً أنه «بائع البالونات» … وتذكَّرا قول «حسام» إنه يُشبه الفأر … لقد كان يُشبه الفأر فعلًا … اطمأنَّ الرجل إلى وجودهما، ثم أغلق الباب الفاصل بين الغرفتَين، وعاد يتحدَّث إلى الصبي حديثًا هامسًا لم يستطِع المغامران أن يسمعاه.

مرَّ الوقت بطيئًا، واستطاع «تختخ» بالنظر إلى ساعته الفسفورية أن يعرف أن الساعة قد تجاوزَت الواحدة صباحًا … فإذا كان الرجل الذي سيحضر السيارة قد انصرف منذ ساعة … فمعنى هذا أنه سيأتي في الثالثة صباحًا تقريبًا.

كان المغامران يشعران بالتعب والجوع … ولكن «عاطف» عندما شاهد قطعة المنشار الصدئة في أصابع «تختخ» أحسَّ بقدرٍ من الانتعاش … ففي إمكانهما الآن أن يهربا … ولكن … «تختخ» كان يُفكِّر في شيء آخر … فإنهما إذا هربا الآن، فهناك احتمالان؛ الأول: أن يشعر بهما الرجل والولد فيقع صراع لا أحد يدري كيف ينتهي … والثاني: أن يتمكَّنا من الهرب فيهرب الولد والرجل «بائع البالونات»، وربما لا يُعثر لهما على أي أثر بعد ذلك … كان الحل الذي فكَّر فيه «تختخ» هو الحل الأفضل … أن يركبا السيارة، ثم يُحاولان الهرب منها … وتخيَّل سيارة النقل المغلقة … إنها في العادة تُغلَق بلسانٍ من الحديد يمكن تحريكه من الداخل … فإذا استطاع أن يُحرِّر يدَيه وقدمَيه هو و«عاطف»؛ فسوف يتمكَّنان من الهرب من السيارة ومتابعتهما …

وعندما وصل تفكيره إلى هذا الحد استسلم للنوم … وعرف «عاطف» أنه وصل إلى خطةٍ محدَّدة … فنام هو الآخر.

استيقظ «تختخ» و«عاطف» على الأيدي وهي تحملهما إلى السيارة … كان «تختخ» قد أخفى قطعة المنشار تحت قميصه … وسرعان ما كانا موضوعَين داخل صندوق السيارة، وأخذ «تختخ» يستمع بقلب واجفٍ إلى طريقة إغلاق السيارة … هل كان هناك قفل؟ … لا … إنه اللسان الحديد العادي الذي تُغلَق به سيارات النقل … ورقص قلبه طربًا … لقد نجح نصف خطته … وبقي النصف الأهم.

بعد لحظات تحرَّكت السيارة … وأخذت تهتزُّ في الطريق غير الممهَّدة فترة، قبل أن تصل إلى الشوارع المرصوفة … وكان ذهن «تختخ» يعمل بسرعة … لقد أفادته ساعات النوم … كان يُحس بالجوع حقًّا وبالآلام في جسده، ولكن ذهنه كان يقظًا … كانت خطته الأولى أن يهرب هو و«عاطف»، ولكنه أخذ يُعدِّل في خطته … فلو هربا معًا فقد تُفلت منهما السيارة … صحيح أنهما سيأخذان رقمها، ولكن البحث عنها بعد ذلك سيأخذ وقتًا طويلًا، أو قد يكون الرقم مزيَّفًا فلا يستطيعون الوصول إليها … وعلى هذا فقد قرَّر أن يبقى هو ويذهب «عاطف» لإخطار الشاويش وبقية المغامرين.

وعندما استقرَّ على هذا الرأي أخرج قطعة المنشار من تحت القميص بتحريكها بإصبع واحدة حتى خرجَت من فتحة القميص، ثم أمسكها بأصابعه، وقرَّر أن يفك وثاق «عاطف» أولًا … ولم يأخذ هذا منه إلا بضع دقائق، واستطاع قطع الحبل … ولم يكَد «عاطف» يفك يدَيه حتى سارع برفع المنديل المربوط على فمه … فقد كان يُحس أنه يكاد يختنق … وفي لحظاتٍ كان المغامران قد فكَّا جميع الأربطة … وتبادلا ابتسامةً في ظلام السيارة التي كانت تقطع الطريق بسرعة.

همس «تختخ»: إنني أكاد أتصوَّر الطريق الذي تقطعه السيارة.

عاطف: وأنا أيضًا … إنها الآن في الطريق إلى مزلقان السكة الحديد، وسوف تعبره وتسير رأسًا إلى كورنيش المعادي … بعدها سيكون أمامها أن تتجه إلى القاهرة أو حلوان.

تختخ: أُرجِّح أنها ستأخذ طريق حلوان … فهناك يمكن أن تغوص جنوبًا في القرى الكثيرة المنتشرة على طريق «المرازيق-الجيزة»، كما أنها يمكن أن تتجه إلى بني سويف.

عاطف: وما هي خطتك؟

تختخ: ستنزل أنت عند المزلقان … لأن السيارة ستُضطر إلى تخفيض سرعتها هناك، سواء كان القطار قادمًا أو غير قادم … فقضبان القطار لا تسمح بالسرعة … خاصةً أنها سيارة قديمة.

وقف الصديقان عند باب السيارة الخلفي … وأمسك «تختخ» بقطعةٍ المنشار وأخذ يجس بها مكان اللسان الحديدي الذي يُغلق الباب حتى عثر عليه … وانتهز فرصة سير السيارة على بعض المطبات، وارتفاع صوتها، فحرَّك اللسان فخرج من مكانه وتدلَّى جانب السيارة.

وصلت السيارة إلى المزلقان كما توقَّع «تختخ»، وبدأت تُهدِّئ من سرعتها، وقال «تختخ» ﻟ «عاطف»: اذهب فورًا إلى منزل الشاويش … ومعك رقم السيارة، واطلب منه الاتصال بقسم حلوان حيث الرائد «سيد هندي» … إنني متأكِّد أن السيارة ستتجه إلى حلوان وليس القاهرة … وبعدها اذهب أنت إلى منزلنا، إذا وجدتَ والدي مستيقظًا فقل له إنني بخير … وسأحضر في الصباح … وحاول أن تجعل «زنجر» يأتي معكم في اتجاه حلوان … إنه سيعرف أنني مخطوف ما دمت لم أمرَّ به في المساء.

هدَّأَت السيارة من سرعتها حتى غدَت تمشي ببطء من فوق القضبان، وارتفع صوت العجلات فغطَّى على صوت باب السيارة وهو يُفتح، وقفز «عاطف» وأغلق «تختخ» الباب، وانحنى «عاطف» تحت السيارة وحفظ الرقم سريعًا، وكان بسيطًا لا يمكن نسيانه؛ ٩٦٠٠٦، نقل جيزة … وانتظر «عاطف» على جانب الطريق حتى ابتعدت السيارة، ثم أطلق ساقَيه للريح … وفضَّل أن يذهب أولًا إلى منزلهم لإحضار درَّاجته … كان منزله أقرب من منزل الشاويش.

عندما وصل إلى هناك كان الضوء يشع من غرفته، وعرف أن «لوزة» لا تزال ساهرة، فأطلق نعيب البومة المعتاد، وسرعان ما أطلَّت من النافذة، ثم نزلت مُسرعة … كان «عاطف» يُخرج درَّاجته عندما أحاطته «لوزة» … بذراعَيها وهي تكاد تبكي.

قال «عاطف» بسرعة: «توفيق» مخطوف في سيارة رقم ٩٦٠٠٦ نقل جيزة، تتجه الآن إلى حلوان وبها «بائع البالونات» … خذي درَّاجتك وأسرعي إلى «محب» و«نوسة»، وهاتي «زنجر» معك … واتجهوا جميعًا إلى حلوان … وقابلوا الرائد «هندي».

لوزة: لحسن الحظ أنهما مستيقظان.

قفز «عاطف» إلى درَّاجته، وأطلقها بأقصى سرعة إلى منزل الشاويش «علي»، وسرعان ما كان يقف أمام الباب، فقفز وأخذ يدق الباب بشدة … مضت فترة دون أن يفتح أحد … وأحسَّ «عاطف» بالقلق … هل الشاويش خارج منزله؟!

ولكن بعد دقَّات أخرى قوية شاهد الضوء في غرفة الشاويش … ثم سمع أقدامه … وسمع صوته وهو يسب ويلعن هذا الطارق في هذه الساعة من الليل.

وصاح «عاطف»: افتح بسرعة أيها الشاويش!

فتح الشاويش الباب وهو في ملابس النوم وقد بدا الغضب على وجهه، وقال «عاطف» دون مقدمات: «بائع البالونات» اللص خطف «توفيق» في سيارة نقل رقم ٩٦٠٠٦ نقل جيزة، وهي تتجه الآن إلى حلوان … اتصل بالرائد «هندي»!

صاح الشاويش: إنكم تُقلقون نومي … هذا كلام فارغ.

لم ينتظر «عاطف» ليسمع صياح الشاويش … كان جائعًا ومتعبًا، لكن صديقه الآن في طريق مجهول لا يعرف أين يذهب … وعليه أن يبذل أقصى ما في جهده … وهكذا أطلق درَّاجته مرةً أخرى في طريق حلوان، وكان يُسابق الريح …

في هذه الأثناء كان «تختخ» يحسب المسافة التي تقطعها السيارة … وكان يعرف من المنحنيات والملفَّات إلى أين تتجه السيارة … لقد صدق حسه وهو الآن في الطريق إلى حلوان، ثم المرور ببطء على كوبري حلوان العالي؛ فالكوبري ضيق، السيارات تسير في اتجاهَين … ثم مضت السيارة مرةً أخرى بعد أن غادرَت الكوبري … ثم انحرفَت يمينًا وسارت نحو كيلومترَين، ثم انحرفَت بشدة، ومضَت في طريق نصف ممهَّد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤