الفصل الخامس والثلاثون

الكتب والصحافة

تكثر الجرائد بيننا ويغمرنا الروح الصحفي كُتابًا وقُراء، حتى إننا لنبحث عن الخبر الأخير وليس عن الخبر الخطير، ونشتري الجريدة في الصباح ثم نشتري أخرى في المساء، ونقرأ في هرولة ثم ننسى في هرولة.

وأنا آخر من ينتقص قيمة الجرائد التي تصل بيننا وبين أنحاء العالم، والتي تبسط لنا التاريخ العصري وتزيد وجداننا حتى لكأنها حاسة جديدة قد جعلتنا على عرفان بأحوال البشر في ستين أو سبعين قطرًا غير قطرنا.

ولكن هذه الرغبة في الخبر الأخير، وهذه الهرولة في القراءة، كلتاهما قد باعدت بيننا وبين الكتاب الذي لا يزودنا بالخبر الاخير ولكن بالخبر الخطير الذي يحتاج إلى التأني والتأمل في القراءة.

إذا كانت الجريدة العظيمة تقدم لنا آخر الأخبار فإن الكتاب العظيم يقدم لنا أهم الأخبار، أخبار البشر عبر القرون، وإذا كانت الجريدة تروي لنا حماقات الناس في جرائمهم فإن الكتاب ينقل إلينا حكمة الحكماء وأغاني الشعراء وإنسانية الأدباء التي تعلمنا جميعها كيف نعيش ونتأنق في أفكارنا ونحس الإخاء البشري ونتوسم الخير في المستقبل.

وإنها لرؤيا رائعة تلك التي يراها القارئ المصري حين يقرأ يوميات الجبرتي ويعرف منها كيف كان يعيش جدودنا قبل مئة وخمسين سنة، أو حين يقرأ التفاصيل لتلك المعارك الفكرية بين الغزالي وابن رشد، وإنها لنزهة للنفس أن ننتقل مع ابن بطوطة من المغرب الأقصى إلى الصين في القرن الثالث عشر، وهذا إلى متع القراءة للسيرة الحلبية أو معجم الأدباء أو غيرهما.

ولا أذكر هنا الكتب الأوروبية التي تنقلنا إلى جنات عدن عصرية.

إن الجريدة على خطورة ما تروي من التاريخ العصري تُقْرَأُ في الترام أو في القطار، إذ هي كتبت في عجلة ويجب أن نقرأها في عجلة، ولكن الكِتاب يحتاج إلى الاعتكاف نقرأه، لا بل ندرسه، في هدأة الليل كي نستقطر منه أكبر المعرفة والحكمة، وما أحسن أن نتحدث إلى أفلاطون في الليل على انفراد وكأن بيننا وبينه مؤامرة لتحقيق جمهوريته، وما أجمل أن نتحدث إلى إخناتون حين يخاطب الله بقوله: «أعطيت مصر نيلًا على الأرض وأعطيت الغرباء خارج مصر نيلًا في السماء» وهو يعني المطر.

ليكن للكتاب مكانه المحترم في كل بيت متمدن كي يدخل الإنسانية المثقفة في رءوس سكانه.

وبيت بلا كتب هو بيت واعر في الجهل يجب أن نخشى سكانه ونتجنبهم، أو بالأحرى يجب أن نتقرب إليهم ونربيهم.

•••

والصحف في أيامنا أكبر قوة للإيحاء الاجتماعي بين المتعلمين؛ وذلك لأنها يتكرر ظهورها كل يوم، والتكرار هو أساس الإيحاء.

وهي لذلك تستطيع بالخبر والصورة والمقال، بل أحيانًا بالكلمة الواحدة، أن تصوغ أخلاقنا وتعين أذواقنا، وهي بما تنشر، وأحيانًا بما لا تنشر، تربينا للخير أو للشر.

ثم هي فوق الإيحاء الذي يوجه عواطفنا ويصلحها أو يفسدها، تمد وجداننا وتخاطب أذهاننا، وقد رأينا حين تحرجت الحالة في كوريا أو في غيرها من الأماكن كيف انتقل وجداننا السياسي من عبث الأحزاب في مصر إلى شئون الصين وأمريكا، وإلى التفكير في الحرب والسلم ومحتملات القنبلة الذرية، بل لقد أصبح تفكيرنا لهذا السبب عالميًّا.

فنحن نكسب من الجريدة إيحاء ووجدانًا معًا؛ ولذلك يحمل الصحفي الأمين أعباء المسئولية أمام قرائه، وهو يحس أن للصحافة فلسفة من حيث إنه يستطيع أن يرشد ويضلل، فإذا كان يكتب بضمير بشري اجتماعي فإنه يحتاج إلى أن يتعب كثيرًا في اختيار الخبر والصورة وفي كتابة المقال، بل إن اختيار الكلمة الواحدة قد يحمله مسئولية ويبعث فيه قلقًا.

وتقتضينا الفلسفة الصحفية أن نكتب هادفين، فلا نبعث بالفكاهة السمجة، ولا نهرج بالألوان الصبيانية، ولا ننشر خبر الرجل الذي يأكل شقف الزجاج، ولا نجمش الغريزة الجنسية عند الشباب بنشر الصور النسوية، وخير لنا أن نبيع الطماطم والملوخية من أن نحترف صحافة هذا شأنها وهذا إفسادها.

وإنما الصحفي الفيلسوف هو الذي يهدف إلى ترقية القارئ بأن يختار له الخبر الدال والصورة المنيرة، وهو الذي يكتب المقال كي يربيه ويرفعه فيكسب العاطفة السخية النبيلة، والوجدان الذكي في الآفاق الواسعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤