مدخل

أطروحات كمال الصليبي ونتائجها

لقد كان الأمر عبارةً عن اكتشافٍ تمَّ بالصدفة، يقول المُؤلِّف فبينما كان يبحث عن أسماء الأماكن ذات الأصول غير العربية في غرب شبه الجزيرة العربية، فُوجئ بوجود أرض التَّوراة كلها هناك، وذلك في منطقة بطول يَصِل إلى ٦٠٠ كيلومتر وبعرض يبلغ حوالي ٢٠٠ كيلومتر، تَشمل ما هو اليوم عسير والجزء الجنوبي من الحجاز. (انظر خريطة الصليبي رقم ١ في آخر كتابنا). وكان أول ما تنبَّه إليه أن في هذه المنطقة أسماء أَمكِنة كثيرة تُشبه أسماء الأمكنة المذكورة في التوراة. وسرعان ما تبيَّن له أن جميع أسماء الأمكنة التوراتية العالقة في ذهنِه، أو جلَّها، ما زال موجودًا فيها، وأن الخريطة التي نَستخلصها من نصوص التوراة في أصلها العِبري، سواء من ناحية أسماء الأماكن أو من ناحية القرائن أو الإحداثيات، تتطابق تمامًا مع خريطة هذه الأرض وهي كما يرى حقيقة ذات أهمية أولية، نظرًا لأنه لم يثبت بعدُ، في رأيه، تطابق الخريطة الموصوفة في التوراة مع الخريطة التي اعتبرت حتى الآن أنها كانت بلاد التوراة. وبما أنه لم يستطع العثور على مثل هذا التجمع لأسماء الأمكنة التوراتية، في صيغتِها عادةً، في أي جزء آخر من الشرق القديم، فقد قدَّم الاستنتاج المُذهل نفسه بنفسه: فاليهودية لم تُولد في فلسطين بل في غرب شبه الجزيرة العربية، ومسار تاريخ بني إسرائيل كما رُوي في التوراة، كان هناك في غرب شبه الجزيرة العربية، وليس في أيِّ مكان آخر.١

وبما أن التوراة عبارة عن نصوص بالغة القدم كُتبت أصلًا بأحرف أبجدية خالية من الحركات والضوابط، ولأنَّ لغة هذه النصوص قد خرجت عن إطار الاستعمال العام من زمن يعود إلى ما قبل القرن السادس والخامس قبل الميلاد؛ أي إلى ما بعد استكمال نصوص التوراة، فإنه لا يُمكن لأحد أن يعرف كيف كانت هذه اللغة تُلفظ وتصوت في الأصل لدى الشعب الذي تكلمها. هذا بِغض النظر عن مَسائل أخرى تتعلَّق بالتهجئة والصرف والنحو. ولقراءة التوراة العبرية وفهمها يَتوجَّب على الباحث إما أن يَتبع تقليد العبرية المتأخِّرة، أو أن يسعى إلى الإرشاد عبر اللغات السامية التي ما زالت حيةً مثل العربية، والسريانية التي هي صيغة مُستمرَّة من الآرامية القديمة. وعلى العموم فإنَّ من الأضمن للباحث في التوراة أن يَعتبر لغتها لغة مجهولة علميًّا، ويجب تفكيك رموزها من جديد بدلًا مِن معاملتها كلغة مكشوفة الأسرار فيما عدا بعض الغوامض.

إلا أنه بفضل الأمانة العِلميَّة الدقيقة التي تحلَّى بها «الماسوريون»، وهم العلماء اليهود التقليديون القدماء، الذين ضبطوا النصوص التوراتية بالإشارات الصوتية فيما بين القرن السادس والتاسع الميلاديَّين، فإن النص المكتوب بالأحرف الساكنة للتوراة العبرية وصل إلينا من القدم دون أن يُمس تقريبًا، رغم أن إدخال الحركات والضوابط عليه، بصورة اعتباطية في أحيان كثيرة، قد غيَّر إعراب الجُمل وحوَّر المعاني، وأدخل على نص التوراة تحريفات هي أضخم بكثير مما يتصوَّره علماء التوراة. ذلك أن عمل الماسوريين قد بدأ بعد مُضيِّ ألف سنة على الوقت الذي كانت فيه العبرية لغةً حية ومتداولة. ومن هنا وصلتنا أسماء الأمكنة التوراتية بنصِّها العبري غير المصوت دون أن يَطالها تحريف أو تبديل. أما أسماء الأماكن في غرب شبه الجزيرة العربية فقد شهدت بعض التغيير في إطاري علم الأصوات وعلم التشكُّل الكلامي بعد حوالي ثلاثة آلاف سنة فصلت بين الصيغ التوراتية لهذه الأسماء ومَثيلاتها القائمة اليوم. وفي إطار التغييرات اللغوية التاريخية تبدو هذه الفترة الزمنية طويلة جدًّا، ولا بدَّ أنها استوعبت أكثر من تغيُّر لُغوي واحد جرى في بلاد الشرق القديم. ولكن المدهش فعلًا هو أن هذه الأسماء بقيَت في أكثرها قابلة للتميُّز الفوري في زيها العربي الراهن.

ولا يُمكن معرفة الكيفية التي كانت تُلفظ بها أسماء الأماكن التوراتية. وإذا أراد الباحث أن يُقارن بين الصيغتين المكتوبتين لهذه الأسماء بالعبرية التوراتية وبالعربية الحديثة، فعليه أن يأخذ في الاعتبار طبيعة الأبجدية السامية. هذه الأبجدية كانت تَقتصِر في الأصل على ٢٢ حرفًا ساكنًا، بما فيها الوقفة الحنجرية، أي الهمزة التي تُعتبر في اللغات السامية حرفًا ساكنًا، والحرفين شبه الصوتيين الواو والياء. ولكن النطق بهذه اللغات كان يَعتمِد حروفًا أكثر من هذه الحروف منذ البداية. وفي العبرية المتأخِّرة أُضيف حرف ساكن جديد إلى الأبجدية الأصلية بتنقيط الحرف المسمَّى سين، فصار يمكن تصويته كسين أو كشين. والعربية التي استعارت من شقيقاتها الساميات كتابتها استخدمت هي أيضًا الأبجدية ذات الأحرف اﻟ ٢٢ الأصلية في البداية، ومع مرور الزمن، أدخلت عليها لا أقلَّ من ستة أحرف جديدة بإضافة النقط إلى ستة أحرف كانت موجودة في الأصل. ولا شك أن الأمر نفسه كان ينطبق على العبرية في زمانها حيث عرفت لغة النطق عدة أحرف ساكنة لم تُكتب بأحرف مستقلة إلا في وقت مُتأخِّر. ولا بد أن الناطقين بالعبرية شأنهم شأن الناطقين بالعربية، كانوا يعُون العلاقة بين أحرف النطق وأحرف الكتابة هذه عن طريق الحدس. ولا يُستبعد إطلاقًا أن يكون المتكلمون بالعبرية في القِدَم قد تلفَّظوا بأحرف ساكنة لم يَكتبُوها، مثل الذال والضاد والظاء. وبناءً على هذا فلا بدَّ أن اللفظ العبري القديم لأسماء الأماكن التوراتية في غرب شبه الجزيرة العربية، كان أقرب إلى اللفظ العربي الحالي. والدراسة الميدانية للطريقة التي تُلفظ بها هذه الأسماء اليوم قد تُساعد كثيرًا على فهم طبيعة الفونولوجيا العبرية القديمة التي لم يُكشف سرها بعدُ.

ولكي يستطيع الباحث أن يتعرَّف على الأسماء التوراتية القديمة في صيغتها العربية والحديثة، لا بدَّ له من تتبُّع عملية القلب والاستبدال في الجذر المُشترك بين اللغتين العبرية والعربية، وهي ظاهرة مشهودة كثيرًا في اللغات السامية (زوج - جوز)، وكذلك عملية تحوُّلات الأحرف، فالأبجديتان تَشترِكان في ٢٢ حرفًا، وتَنفرِد العربية بستة أحرف هي: ث، خ، ذ، ض، ظ، غ. وهناك جذور كثيرة مُشتركة بين العبرية والتوراتية والعربية، وذلك دون تغيُّر في الأحرف في بعض الأحيان، ومع تحوُّل في الأحرف في أحيان أخرى. والتحولات في الأحرف التي يقرُّها علماء اللغات السامية بين اللغتين هي الآتية:

ء: و، ي ك: خ، ق
ج: غ، ق : ن (خصوصًا في لاحقة جمع المذكر)
د: ذ، ز : م (خصوصًا في لاحقة جمع المذكر)
وأحيانًا ض، ط ن: م
و: ء، ي ع: غ
ز: ذ، ي ف: ث
ض، ظ ص: س، ض، ز، ظ
ح: خ ق: ج، غ، ك
ط: ت ش: س، ث
ي: ء، و س: ش
ت: ث، ط

ويُلاحَظ مِن المُقابلة بين أسماء الأماكن التوراتية، وتلك الموجودة إلى اليوم في غرب شبه الجزيرة العربية أن مُعظم هذه الأسماء قد تَعَرَّب في اللفظ وليس في المعنى. ولذلك فإنَّ التغيير في معظم هذه الأسماء قد تمَّ إما عن طريق قلب الأحرف، أو عن طريق تغيير الأحرف شبه الصوتية (ء، و، ي) دون الأحرف الصحيحة. ولم يتعرَّب من هذه الأحرف في أكثر الأحيان إلا الأحرف العبرية التي تقابل الأحرف الصحيحة. ولم يُعرَّب من هذه الأحرف في أكثر الأحيان إلا الأحرف العبرية التي تُقابل الأحرف العربية الإضافية (ث، خ، ذ، ض، ظ، غ)، والميم عندما تكون لاحِقة المُذكر العبرية، فتنقلب نونًا في العربية. ومن ناحية أخرى هناك أسماء أماكن عبرية ما زالت موجودة اليوم بشكل مُترجم لا بشكل مُعرَّب، مثل «شعلبيم» والتي هي اليوم «الثعالب» في صفة جمع التكسير العربي بدلًا من جمع المذكر في الاسم التوراتي. ويُلاحظ أيضًا أن حرف اللام في الأماكن التوراتية، مهما كان موضعه في التركيب، كثيرًا ما ينقلب إلى «ال» التعريف في الاسم المعرَّب؛ فالاسم «جلعد» يُصبح «الجعد» و«المعله» يصبح «المعلاة». أضف أن أداة التعريف العبرية وهي الهاء تنقلب إلى أداة التعريف العربية في مُعظَم الأحيان. وهناك أيضًا أسماء الأماكن التوراتية على وزن «يفعل» و«تفعل» التي تتحوَّل إلى العربية على وزن «فعل» و«فعله»؛ فالاسم التوراتي «يقطن» يصبح في شكله الحالي «قطن». والاسم «تعنك» يُصبح «عنقه».

والمقابلة بين الألفاظ في اللغات السامية تكون بمُقابلة التركيب الأساسي لهذه الألفاظ بين لغة وأخرى دون النظر إلى اللواحق وأحرف العلة عندما تكون مُعتمِدة فقط للتصويت. فاسم المكان التوراتي «شمرون» هو في الأصل «شمرن» بدون تصويت، يُقابله في العربية اسم المكان «شمران» الذي هو أيضًا «شمرن». و«شبعة» التوراتية هي في الأساس «شبع» يُقابلها في العربية اسم «الشباعة» الذي هو أيضًا «شبع».

اعتمادًا على هذا المنهج في مقابلة الأسماء، عثر المؤلِّف على كامل الأرض التوراتية في غرب العربية. ولكي نُعطي فكرة عن هذه الأرض التوراتية التي وجدها كمال الصليبي، لا بدَّ من إيراد بعض الأمثلة عن أسماء الأماكن التوراتية التي عثر عليها هناك بأسمائها كما يقول، لنُوضِّح بشكل تطبيقي كيفية استخدامه لمنهجِه. وسنقوم فيما يأتي بتقسيم الأمثلة العشوائية التي أخذناها من الكتاب إلى زمرتَين. في الأولى أمثلة عن مقابلات تُؤدِّي إلى نتيجة فيها نظر، وفي الثانية أمثلة عن مقابلات جاءت نتيجة عمليات معقَّدة من القلب والاستبدال لا يُمكن تصور حصولها إلا نظريًّا.

الزمرة الأولي.
جرار «جرر» القرارة (ص١٠١)
كنعان «كنعن» القناع (ص١٠٢)
غزه «غز» آل عزة (ص١٠٠)
صيدون «صيدن» آل زيدان (ص٩٩)
صور «صر» زور الوداعة (ص٣٤)
جبيل «جبل» القابل (ص٣٥)
قادش «قدش» عين قديس (ص٩٣)
سدوم «سدم» دامس (ص٩٩)
عموره «عمره» الغمز (ص٩٩)
مجدو «مجد» مقدي (ص١١٩)
يافو «يف» وفيه (ص١٢٠)
الزمرة الثانية.
نتينم «نتين» طناطن (ص١٦١)
طباعوت «طبعوت» العثابيات (ص١٦١)
برقوس «برقس» الكرباس (ص١٦٤)
هسوفرت «ﻫ سفرت» رصفة (ص١٦٥)
أدونيفام «ء د - نيقم» القائم (ص١٦٨)
فرعوش «فرعش» الجعافر (ص١٧٠)
مغبيش «مجبيش» مشاجيب (ص١٧٢)
زكاي «زكي» الضيق (ص١٧٣)
نفتوحيم «نفتحيم» المفاتيح (ص٢٤٩)
فتروسيم «فترسيم» الشرفات (ص٢٥٠)
كفتوريم «كفتريم» الرفقات (ص٢٥٠)
عقرون «عقرون» الجرعان (ص٢٥٣)
أورشليم «أورشليم» آل شريم (ص١٨٣)

إضافة إلى هاتَين الزمرتين هنام زمرة ثالثة لا تَحتوي على الكثير من الكلمات، فعندما لا يجد المؤلِّف مَوقعًا مُقابلًا للاسم التوراتي، يَعمد إلى الجمع بين اسمَين لموقعَين مُتجاورَين. فكَّر كميش، الموقع المعروف تاريخيًّا على الفرات في الشمال السوري، يجده في القريتَين المُتجاورتَين «القر» و«القماشه» في منطقة الطائف (ص٣٧)، وكأحد البدائل المُقترحة لأورشليم يضع القريتَين المتجاورتين «أروي» و«آل سلام» قرب النماص (ص١٨٣).

وإذا كان من الأضمن للباحث في التوراة أن يَعتبر لغتها العبرية لغة مجهولة يجب تفكيك رموزها مِن جديد، كما يقول المؤلف، فإنه يَنظر إلى النص التوراتي بأحرفه الساكنة ويَقرُؤه بعيدًا عن التصويت التقليدي، مخالفًا في قراءته الخاصة للأمثلة التي يقدمها، ليس فقط النص الماسوري العبري المحرك، وهو النص العبري الكامل الوحيد، بل كلُّ الترجمات التي وضعت للكتاب منذ الترجمة اليونانية المعروفة بالسبعينية التي تمَّت أواسط القرن الثالث قبل الميلاد. ثم يُضيف إلى ذلك وجهات نظر خاصة جدًّا في نحوِ وصرف اللغة العبرية لم يَقُل بها أحد من علماء التوراة قديمهم وحديثهم، ويعمد إلى استنباط معانٍ جديدة لبعض الكلمات العبرية استنادًا إلى اللغة العربية أو الآرامية.

هذا الاكتشاف المذهل، كما يَصفُه المؤلف، والذي جاء نتيجة مقابلة الأسماء، قد قادَه إلى تقديم الأطروحة الرئيسة لكتابه. ففي دراسته تنقلب الأمور رأسًا على عقب، وبدلًا من أخذ جغرافية التوراة العبرية كمُسَلَّمة ومناقشة صحتها التاريخية، فإنه يأخذ تاريخيتها كمسلَّمة ويُناقش جغرافيتها. فمن بين شعوب الشرق الأدنى القديم، يبدو أن بني إسرائيل كانوا وحدهم المالكين لإحساس مرهف بالتاريخ، وتقدم كتبهم المقدسة رسمًا ذاتيًّا حيًّا ومُفصَّلًا. وعليه فليس هناك أدنى شك بأن أسلاف الإسرائيليين كانوا ذات يوم قومًا قبليًّا وقع في الأسر وأُجبر على العمل والسخرة في مكان يُسمى «مصريم»، لم يكن بالضرورة مصر، وأنهم خرجوا من هناك برعاية قائد يُسمَّى موسى نظمهم في مجتمع ديني وأعطاهم الشريعة، وأنهم عبروا نقطة معينة تُسمى «ﻫ يردن» ليست بالضرورة نهر الأردن ليستقرُّوا في أرض كانت لهم عليها أخيرًا السيطرة السياسية، وهي ليست من حيث المبدأ فلسطين. وبعد عصر القضاة والمملكة الموحدة تحت راية شاول فداود فسليمان، تابع التاريخ الإسرائيلي مساره كما ذكرت التوراة العبرية أنه فعل.

ولكن افتراض أن كل هذا التاريخ حصل في فلسطين، ودراسة النصوص التوراتية على هذا الأساس سيُؤدي إلى الإبقاء على بحر من الأسئلة بلا جواب. ولكن إذا نقلت جغرافية التوراة من فلسطين إلى غرب شبه الجزيرة العربية، لا تبقى هناك أي صعوبة وتُصبح الصورة التاريخية العامة للتوراة العبرية، التي هي الوحيدة التي تروي القصة الكاملة لأحد شعوب الشرق الأدنى القديم، مفتاح اللغز لكل الأحاجي الغامضة لتاريخ الشرق القديم، بدلًا من أن تكون هي نفسها الأُحجية وهي بعيدة كل البُعد عن كونها ذلك.

أما لماذا كانت نصوص التوراة بمثابة اللغز في تاريخ الشرق القديم فيرجع كما يرى المؤلف إلى أن الدراسات والأبحاث الضخمة التي أنتجها علماء الآثار والباحثون التوراتيون خلال مائة السنة الأخيرة، تَلفت النظر إلى أمر في غاية الغرابة. ففي حين أن تاريخية عدد مِن الروايات التوراتية بقيت عُرضةً للنقاش الحادِّ، فإنَّ جغرافية هذه الروايات استمرَّت معتبرةً من المسلَّمات، والحقيقة الساطعة هي أن الأراضي الشمالية للشرق الأدنى قد مُسحت وحُفرت من قِبَل أجيال مِن علماء الآثار، من أقصاها إلى أقصاها، وأن بقايا العديد من الحضارات المنسية قد نُبشت من تحت الأرض ودُرست وأُرِّخت، في حين أنه لم يُعثَر في أي مكان كان على أثر واحد يمكنه أن يُصنَّف جديًّا على أنه يتعلق مباشرة بالتاريخ التوراتي. وأكثر من ذلك، فإن التوراة العبرية تذكر الآلاف من أسماء الأمكنة، وليس بين هذه أكثر من قلة قليلة تماثَلَت لُغويًّا مع أسماء أمكنة في فلسطين. وحتى في هذه الحالة فإن الإحداثيات المُعطاة في النصوص التوراتية لا تنطبق على المواقع الفلسطينية.

ومع أنه قد جرى التحقيق في كامل ميدان التاريخ القديم للشرق الأدنى بعمق، وبالعلاقة مع دراسة التوراة العبرية، فإن هذا التاريخ، في الموقع الذي هو فيه حاليًّا، ما زال مليئًا بألغاز عدم اليقين، مثله مثل علم التوراة الحديث. وسجلات مصر والعراق القديمة التي قُرئت على ضوء النصوص التوراتية، والتي أُخذت تلميحاتها الطبوغرافية تقليديًّا على أنها تتعلَّق بفلسطين والشام ومصر والعراق، أُجبرت على إعطاء مُؤشِّرات جغرافية أو تاريخية تتوافَق مع الأحكام المُسبقة لدى الباحثين التوراتيين، والحملات المصرية والآشورية التي فُهمت على أنها كانت موجَّهة ضد فلسطين وبلاد الشام، كانت في الواقع موجَّهة نحو غرب شبه الجزيرة العربية. وأخبار هذه الحملات إذا قُرئت في نصوصها الأصلية، لا من خلال الترجمات التي وضعت لها حتى الآن، سوف تُساعد في كشف حقيقة مجريات الأحداث في الشرق القديم.

كل هذا لا يعني في رأي المؤلف، أن اليهود لم يكن لهم أي وجود في فلسطين خارج غرب شبه الجزيرة العربية في أيام التوراة، بل جلَّ ما يعني هو أن التوراة هي بالدرجة الأولى سجل التجربة التاريخية اليهودية في غرب شبه الجزيرة العربية في زمن بني إسرائيل. وفي غياب السجلات الضرورية لا بدَّ من التكهُّن بكيفية استقرار اليهودية في وقتٍ مُبكرٍ في فلسطين. وهنا يقول الصليبي أنه سيُغامر بتفسيرٍ يُقدِّمه.
  • فأولًا: يرى الصليبي أن بني إسرائيل قد طوَّروا في منطقة عسير منذ مطلع القرن العاشر قبل الميلاد ديانة قادِرة على اجتذاب المُهتدين إليها من خارج موقعها الأصلي؛ لا سيما وأنها كانت ديانة ذات كتاب طورها أناس قادرون على القراءة والكتابة. والمُرجَّح أن الانتشار المبكِّر لليهودية من موطنها الأصلي إلى فلسطين وبقاع أخرى في الشمال اتبع مسار القوافل التجارية؛ لأنَّ منطقة عسير كانت نقطة تقاطُع الخطوط التجارية الرئيسية في ذلك الزمن.
  • ثانيًا: بسبب مَواردها الطبيعية وموقعها التجاري كان غرب شبه الجزيرة العربية محطًّا لأنظار الفاتحين. وبعد كل هجوم شامل من ناحية مصر أو بلاد الرافدين، كانت موجات جديدة من المهاجرين تتَّجه نحو جنوب بلاد الشام.
  • ثالثًا: كانت للحروب التي نشبت بين ملوك يهوذا وملوك إسرائيل والتي لم تتوقَّف منذ انهيار مملكة سليمان الموحَّدة، أكبر الأثر في دفع الهجرات نحو فلسطين كما كانت هذه الهجرات تتعزَّز بالغزوات الخارجية.
  • رابعًا: في عام ٧٢١ق.م. قام الملك الآشوري صارغون الثاني بتصفية مملكة إسرائيل واستاق الأعيان من سكانها أسرى إلى بلاد فارس. ثم في العام ٥٨٧ق.م. قضى الملك البابلي نبوخذ نصر على مملكة يهوذا واقتاد الألوف من رعاياها إلى بابل. ويبدو أن وجودًا يهوديًّا، قويًّا كان قد قام خلال هذه المرحلة في فلسطين، فلمَّا ساءت أحوال الإسرائيليين في غرب شبه الجزيرة العربية صار اليهود هناك يتوسَّمون الخير في أرض الاستيطان الجديدة.
  • خامسًا: بعد انهيار الدولة البابلية الجديدة على يد الفرس الذين كانوا يَميلون إلى مصادقة اليهود، سمحوا لهم بالعودة فرجع منهم حوالي ٤٠ ألفًا مع عائلاتهم إلى غرب شبه الجزيرة العربية وفي نيتهم إعادة بناء مُجتمعهم هناك. غير أن الوضع الدولي الجديد كان قد عبَر مسالك التجارة من الجنوب إلى الشمال ممَّا أدى فجأةً بشبه الجزيرة العربية وشبكاتها التجارية إلى الركود الاقتصادي.
  • سادسًا: عندما عاد المنفيُّون إلى بلادهم وجدوا كل ما حولهم خرابًا وقفرًا، ولم تكن الأوضاع العامة في شبه الجزيرة العربية تَسمح لهم بإعادة بناء مجتمع متوازن اقتصاديًّا واجتماعيًّا. ويبدو أنهم أخفقوا في إعادة الروح إلى دولة ماتت وعفا عليها الزمن. وأما ما تلا ذلك فلا يُمكن اكتشافه إلا بالتكهُّن؛ لأنَّ الرواية التاريخية للتوراة تتلاشى وتنتهي عند هذه النقطة ويَنتهي معها تاريخ بني إسرائيل الذين زالوا من الوجود كشعب، أما اليهودية كدين فاستمرَّت. ويُحتمَل أن يكون معظم العائدين في المرحلة الأخمينية قد رجعوا إلى بلاد فارس والعراق. ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا وحتى تدمير الرومان لأورشليم الفلسطينية عام ٧٠ ميلادية تركَّز التيار الرئيسي للتاريخ اليهودي حول فلسطين. وقبل أن يمرَّ وقت طويل كانت أصول اليهودية في غرب شبه الجزيرة العربية قد دخلت غياهب النسيان.
  • سابعًا: منذ بدايات استيطانهم في فلسطين قادمين مِن غرب شبه الجزيرة العربية، أطلق اليهود على مُستوطناتهم التي أحدثوها وعلى مُستوطنات بائدة أحيوها أسماء مدنهم القديم في موطنهم الأصلي. وفعلت مثلهم الشعوب التي جاورتهم هناك والتي هاجرت أيضًا إلى فلسطين وبلاد الشام مثل الفلستيين والكنعانيين والآراميين والموآبيين.
  • ثامنًا: من العوامل التي ساعَدَت على طمس ذكرى الماضي اليهودي، ما يتعلَّق بالتطورات السياسية في غرب شبه الجزيرة العربية وفي فلسطين بعد انقراض بني إسرائيل. ففي غرب شبه الجزيرة العربية، أدَّى الضعف التدريجي الذي أصاب الإمبراطورية الأخمينية إلى نشوء كيانات سياسية جديدة، مثل دولة معين التي قامت في المنطقة ذاتها التي شهدت قبلًا قيام مملكة الإسرائيليِّين. وقد تشتَّت يهود شبه الجزيرة العربية بين هذه الكيانات المحلية. أما في فلسطين فقد رسمت فتوحات الإسكندر عام ٣٣٠ق.م. نهاية الإمبراطورية الفارسية، وبعد موته وإقامة المملكة السلوقية في سورية ومملكة البطالسة في مصر، خضعت فلسطين للسلوقيِّين بعد نزاع عليها مع البطالسة. وخلال القرن الثاني قبل الميلاد، اغتنمَ اليهود فرصة استمرار النزاع على فلسطين بين السلوقيِّين والبطالسة فقاموا بثورة ناجحة حوالي سنة ١٤٠ق.م.، وتمكَّن قادة الثورة من الحشمونيين الكهنة من السيطرة على أورشليم وتوسيع رقعة الأراضي اليهودية في فلسطين. وكان يهود العالم قد اعتادُوا على النظر إلى هيكل أورشليم الفلسطينية على أنه قدسهم الرئيسي، على ما يَبدو فاعتَبر الهشمونيُّون أنفسهم الورثة الشرعيِّين لإسرائيل القديمة واستمرت مملكتهم حتى مجيء الرومان الذين أنهوا استقلالهم.

وبِغضِّ النظر عما كان الاسم الأصلي لأورشليم الفلسطينية في الحقيقة، فمن المؤكد أنه قد تمَّ الاعتراف بها كأورشليم داود وسليمان الأصلية، وذلك في أيام الحشمونيِّين، إن لم يكن أبكر. وفي ذلك الوقت كان قد تمَّ أيضًا اعتبار فلسطين بأنها هي الأرض الأصلية لشعب إسرائيل البائد وللتوراة العبرية. وكان المسرح الجغرافي للروايات التوراتية قد أصبح يُفهم على أنه يضمُّ بشكل رئيسي بلاد الشرق الأدنى الشمالية، وليس غرب شبه الجزيرة العربية.

(١) نتائج أطروحات الصليبي

بعد هذا العرض المُوجز والوافي للأطروحات الرئيسية لنظرية كمال الصليبي، نُريد أن نبسط عددًا من النتائج الخطيرة التي تُوصِّلنا إليها النظرية. ونحن معنيُّون بهذه النتائج وحريصون على مُناقشتها أكثر من حرصنا على مناقشة مسألة أصل التوراة وتاريخ قدماء الإسرائيليين. وإذا كان لحوارنا المُقبل عبر صفحات هذا الكتاب أن يتركَّز حول مسرح الحدث التوراتي، فذلك من أجل المسألة الرئيسية التي أثارت نظرية الصليبي الشكوك حولها، وأعني تاريخ الشرق الأدنى القديم برمته وخصوصًا خلال النصف الثاني من الألف الثاني، وكامل الألف الأول قبل الميلاد.
  • أولًا: إنَّ النقاش الدائر داخل حلقات علماء التوراة والتاريخ والآثار حول مصداقية التوراة ككتاب تاريخي يمكن الركون إلى معلوماته المتعلقة بأحداث الشرق القديم، وهو نقاش لم يُحسَم بعدُ، قد حسمه كمال الصليبي لصالح كتاب التوراة الذي اعتبره كتابًا تاريخيًّا موثوقًا في جميع تفاصيله. فالإسرائيليون من بين جميع شعوب الشرق القديم كانوا وحدهم المالِكين لإحساس مُرهَف بالتاريخ، وتُقدِّم كتبُهم المقدَّسة رسمًا ذاتيًّا حيًّا ومُفصَّلًا، وهو رسمٌ فريد من نوعه بالنِّسبة إلى عصره (ص٥٣). ولم يأتِ هذا الحسم لصالح المسائل التي صمتَت عنها وثائق الشرق القديم وأوردها كتاب التوراة، بل تعدَّى ذلك إلى التشكيك في مصداقية كل وثائق الشرق القديم لصالح النصوص التاريخية التوراتية.
  • ثانيًا: تَضع نظرية كمال الصليبي تاريخ منطقة الشرق القديم على أرضية مُهتزَّة؛ لأنه يرى أن السجلات التاريخية للمنطقة قد قُرئت حتى الآن بشكلٍ مغلوط، وأُجبرت على إعطاء مؤشِّرات جغرافية أو تاريخية تتوافَق مع الأحكام المسبقة لدى الباحثين التوراتيِّين (ص٥١–٥٢). وبذلك يُسقط المؤلف من اعتباره كل الجهود المُضنية لعلماء اللغات القديمة، التي بذلت خلال أكثر من قرن ونصف القرن بكل دقة ودأب المناهج العلمية الحديثة، ويَضرب صفحًا عن شبكة المعلومات المتماسكة التي وصل إليها علم التاريخ استنادًا إلى وثائق الشرق القديم المكتوبة. وبذلك يُخرج كتاب التوراة من دائرة الشكوك لتدخل إليها ألواح الشرق القديم.
  • ثالثًا: أسقط المؤلف من حسابه كل نتائج علم الآثار في فلسطين وبلاد الشام، وكلَّ شبكة المعلومات المتماسِكة والمتقاطعة مع شبكة المعلومات التاريخية، التي رسمتْها بدقة أجيال متعاقبة من علماء الآثار خلال قرن ونصف القرن؛ وذلك لصالح معلوماته المتحصلة عن طريق مقابلة أسماء الأماكن. وهو يرى «أنَّ الدراسة اللغوية لأسماء الأماكن هي ضربٌ من علم الآثار» (ص١٨)، بل تتفوق عليه أحيانًا «لأن الاكتشافات الأثرية اكتشافات خرساء ما لم تتضمَّن كتاباتٍ منقوشةً، في حين أن أسماء الأماكن ناطقة، لا تُخبرنا بما هي فحسب بل تُخبرنا أيضًا بكيفية نطقها الفِعلي وبمعناها وباللغة أو نوع اللغة التي انبثقت عنها. وفي غياب الكتابات والنقوش تبقى الاكتشافات الأثرية صعبة التفسير، وإلى درجةٍ تجعل الجدل بين علماء الآثار حول المغزى التاريخي لاكتشافات معيَّنة كثيرًا ما يتدنى إلى مستوى الضغائن الشخصية» (ص٦٠). وهكذا تتحول كل انتصارات علم الآثار الحديث إلى معلوماتٍ مُتناقضةٍ، عند المؤلف تهبط إلى مستوى الضغائن الشخصية.
  • رابعًا: يرسم كتاب الصليبي خارطةً سياسية وبشرية فريدة من نوعها لبلاد الشام وغرب العربية، فبعدَ أن نقل مسرح الحدث التوراتي إلى غرب العربية، كان عليه أن يَنقُل معه كل مواطن الشعوب التي تشابكت أخبارها في الرواية التوراتية. وبما أن هذه الشعوب موجودة تاريخيًّا وآثاريًّا بأسمائها ومواطنها في منطقة مصر والهلال الخصيب، فقد عمل على إيجاد مَثائلها في غرب العربية. فالكنعانيُّون موجودون في فلسطين والساحل السوري وأيضًا في عسير وغرب العربية، ومُدنُهم تحمل الأسماء ذاتها هنا وهناك. والآراميون موجودون في بلاد الشام الداخلية وأيضًا في غرب العربية ومُدُنهم تحمل الأسماء ذاتها، وكذلك الفلستيون بمُدنِهم الخمس الرئيسية القائمة على الجهة البحرية من فلسطين، وفي أماكن مُتفرِّقة من غرب العربية، ومثلهم الآموريون والموآبيون والعمونيون وغيرهم. حتى لكأنها مرآة عاكسة وُضعت عند خطٍّ ما في شماليِّ شبه الجزيرة العربية تُلقي بصورة بلاد الشام نحو غرب العربية، لتخلق هناك طيفًا لا تظنُّه إلا وهمًا لا سند له.
  • خامسًا: غير أن تلك الصورة المعكوسة تغدو هي الأصل وَفق نظرية المؤلف، ونصوص الشرق القديم يجب إعادة دراستها من جديد في نصوصها الأصلية، لتظهر بما لا يدع مجالًا للشك بأنها كانت سجلات لوقائع جرت في غرب العربية لا في بلاد الشام. كل ذلك يَخلُق مُعضلة تاريخية لم يُحدِّد المؤلف أبعادها ولم يُعنَ بتقديم مفتاح واحد لحلها: فإذا كانت سجلات مصر وبلاد الرافدين (خصوصًا آشور) معنية بتاريخ غرب العربية، فأين الوثائق المعنية ببلاد الشام وهي الجار القرب سواء بالنسبة لمصر أم لآشور؟ وأين تاريخ بلاد الشام في أخبار الوثائق القديمة التي تتقاطَع فوقها دون أن تَحفل بها؟ إنَّ النتيجة التي لم يَنتبه إليها المؤلِّف لمثل هذا الطرح هي تغييب تاريخ بلاد الشام وإبراز تاريخ بني إسرائيل.

هذه النتائج هي موضوع حوارنا مع كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» عبر الصفحات المقبلة.

١  نحاول في هذا العرض الموجز والوافي لنظرية الصليبي اعتماد كلام المؤلِّف بحرفيته ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. وهو مأخوذ من مقدمته ومن الفصلين الأول والثاني من الترجمة العربية الصادرة عن مؤسسة الأبحاث العربية ببيروت ١٩٨٥م. وقد أعدنا ترتيب التسلسل في أفكار المؤلِّف بطريقة رأيناها أفضل لإعطاء صورة واضحة ووافية عن نظريته في هذا الحيز الضيق دون أن نُغفل، على ما نعتقد، فكرة أساسية واحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤