حول المنهج

سوف يعتمد منهجنا في هذا الكتاب، أساسًا على مناقشة النتائج لا على الدخول في جدل عقيم حول الوسائل. ففيما يتعلَّق بكل مسألة من المسائل الرئيسية التي أثارها كمال الصليبي، سوف نفترض الصحة في منهجه ووسائله، حتى نتوصَّل إلى نتائج معاكسة نستمدها من البيِّنة التاريخية والبيِّنة الأركيولوجية والبيِّنة النصِّية المستمَدة من كتاب التوراة ذاته ومن مواضع غير مُختلَف على قراءتها؛ أي إن هذا الكتاب سيكون بمثابة الفصل المفقود في كتاب الصليبي، الذي يُعنى باختبار النتائج المتحصلة وفق منهج مقابلة أسماء المواقع، ومقاطعتها مع النتائج المتحصلة باستخدام منهج مغاير.

ففي حالة بارزة هي حالة مدينة «صور» الوارد ذكرها مرارًا في التوراة، يصل الصليبي إلى نتيجة مفادها أن صور التوراتية ليسَت هي «صور» الفينيقية الواقعة على الساحل السوري، بل هي الواحة المُسماة اليوم «زور» أو «زور الوادعة» في منطقة نجران بمُحاذاة بلاد «يام» المجاورة للصحراء العربية الداخلية، وسفن صور التي تَروي عنها التوراة كانت في الحقيقة قوافل حيوانات محملة لا سفن تَمخر البحر (ص٣٤–٣٥). إن امتحاننا لهذه المسألة لن يَبتدئ بمُجادلة المؤلِّف في نوعية القلب والاستبدال التي طرأت على الاسم التوراتي ولا في الطريقة التي قرأ بها كلمة «سفن» بالعبرية، وما إلى ذلك من وسائل منهجِه، بل بالتعامُل مع النتيجة مباشرةً.

فإذا كانت وثائق وادي الرافدين التاريخية هي سجلات لأحداث جرَت في غرب العربية، كما يُؤكِّد المؤلف، فإننا واجدون فيها ولا شك ما يؤيد صحة نتائجه حول مدينة صور التوراتية. وهنا نبدأ في إجراء التقاطع الأول للنتيجة مع البينات التاريخية، فتأخذ في التفتيش عن صور في وثائق وادي الرافدين، فإذا تبيَّن لنا أن صور، أينما وردت في تلك الوثائق، هي مدينة بحرية وأنها تتألف من قسمين واحد يقع على جزيرة قرب الشاطئ والآخر على البر المقابل، حصلنا على الدليل الأول الذي يُشير إلى «صور» المدينة الفينيقية على الساحل السوري لا إلى «زور» الصحراوية في غرب العربية. ثم ننتقل بعد ذلك إلى إجراء التقاطع الآثاري، فإذا كانت الاكتشافات الأركيولوجية في موقع صور الفينيقية تُؤكد أن المدينة القديمة كانت مؤلَّفةً من قسمين واحد في البحر وآخر على البر المقابل، حصلنا على الدليل الثاني. أخيرًا يبقى أن نجد في نصوص التوراة ما يؤكد هذا أو ذاك. فإذا قرأنا في سِفر حزقيال: ٢٦ عن صور ما يأتي: [كيف بُدْت يا معمورة من البحار، المدينة الشهيرة التي كانت قوية في البحر هي وسكانها الذين أوقعوا رُعبَهم على جميع جيرانهم]، وفي سِفر زكريا: ٩ [… وقد بنَتْ صور لنفسها حِصنًا وكومت الفضة كالتراب والذهب كطين الأسواق. هو ذا الرب يمتلكها ويضرب في البحر قوتها، وهي تُؤكَل بالنار]. ثم إذا اتَّفقَت مُعظَم المواضع التي ورَد فيها ذكر صور مع ما ورد في سِفرَي حزقيال وزكريا من وصف لمدينة بحرية، نكون قد حصلنا على الدليل الثالث، وتوصلنا إلى نتيجة مدعمة علميًّا تُناقض نتيجة كمال الصليبي، التي تبدو عقب ذلك مُعلَّقة في الفراغ وفي حاجة إلى دفوع جديدة يقدمها صاحب النظرية، خارج منهجه في مقارنة أسماء المواقع والأمكنة.

وقد قسَّمنا هذا الكتاب إلى ثلاثة أبواب: واحد يُعنى بتقديم البيِّنة التاريخية وآخر بتقديم البيِّنة الآثارية (الأركيولوجية) وثالث بتقديم البيِّنة النصية. ولغرض تعميم الفائدة على جميع شرائح القرَّاء، فقد حاولنا أن نصوغ حوارنا بطريقة نَعرض من خلالها، بشكل سَلِس ومُتَتابع، المفاصل الرئيسية في تاريخ الشرق القديم وبعضًا من أهم معضلاته وإشكالاته، وغامَرنا بكلِّ حذر عِلمي في إبداء وجهات نظر شخصية نُبقيها مفتوحة للمناقشة والتعديل، لما قد نتعلَّمه من الزملاء الباحثين السباقين في هذا الميدان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤