الفصل الثاني

سجلات وادي الرافدين

كان السومريون أول مَن أسَّس لمجتمع المدينة في تاريخ الحضارة، إلا أنهم لم يُعنوا بتشكيل دولة قومية تجمع شتات دويلات مدنهم التي عاشت في شقاق دائم وحروب دامية فيما بينها. وعندما تنبَّه المجتمع السومري إلى ضرورة التوحيد كانت حضارته تقطع أشواطها الأخيرة في نهايات الألف الثالث قبل الميلاد، وكان الأكَّاديون الساميون الذين بدءوا بتنظيم مجتمعهم في شمال سومر يتحفَّزون لقطف ثمار الحضارة السومرية المتعبة. لقد جاءت الوحدة السومرية في وقت مُتأخِّر جدًّا وضمن شروط لم تسمح لها بالحفاظ على مُكتسباتها، فعندما قام ملك «أوروك» «لوغال زاغيري» (٢٣٧١–٢٣٧٤ق.م.) بتوحيد دويلات سومر وكامل بلاد الرافدين والاتجاه بأنظاره نحو بلاد الشام، انتزع الإمبراطورية الغضَّة من يده ضابط أكَّادي اسمه «صارغون» الذي يبدو أنه بدأ حياته حاكمًا لمدينة «كيش» السومرية، ثم أنشأ لنفسِه سُلطة في «أكَّاد» قرب الموقع المقبل لبابل.١
figure
الخارطة رقم ٦: أرض آشور.

وقد بدأت المحاولات التوسُّعية باتجاه بلاد الشام مع تكوين الدولة المركزية الموحدة في بلاد الرافدين. فمن سجلات «لوغال زغيري» نعرف أن سُلطته قد امتدَّت من البحر الأدنى إلى البحر الأعلى الذي جلب من جباله خشب الأرز. وهاتان التسميتان تُشيران، كما هو معروف في كل سجلات وادي الرافدين، إلى الخليج العربي وهو البحر الأدنى، والبحر المتوسط وهو البحر الأعلى. ولكن يبدو أن حملات هذا الملك السومري ضد بلاد الشام لم تكن بهدف توسيع حدود إمبراطوريته، بل لتزويد سومر بالموادِّ الأولية المفقودة في البلاد مثل الأخشاب. أما الاجتياح المنظَّم لبلدان شرق الرافدين فقد بدأ منذ عهد خليفته «صارغون الأول» (٢٣٧١–٢٣١٦ق.م.)، نقرأ في أول وثيقة أكادية عن الحروب في بلاد الشام ما يلي:

[صارغون، ملك أكَّاد، ناظر الإلهة عشتار، ملك «كيش»، كاهن الإله آنو الممسوح، ملك البلاد، «إنسي»٢ الإله إنليل. هزم «أوروك» وهدم أسوارها وانتصر في معاركه على أهلها. قبض على «لوغال زاغيري» ملك أوروك، في القتال، وجرَّه بحبلٍ في رقبته حتى بوابة إنليل. صارغون ملك أكاد انتصر في معاركه على أهل «أور» وهدم أسوار مدينتِهم. هزم مدينة «أنمار» وهدم أسوارها، وهزم المناطق التابعة لها من «لجش» وحتى البحر. انتصر في معاركه على أهل «أوما» وهدم أسوارها الإله إنليل جعل الكل يخضعون لحكم صارغون ملك البلاد، وأعطاه السلطان من البحر الأدنى إلى البحر الأعلى، وقد وقفت «عيلام» و«ماري» طائعة أمام صارغون ملك البلاد. استعاد «كيش» وأمر أهلَها بتولي مقاليدها.
صارغون، ملك «كيش» أحرز نصرًا في أربع وثلاثين حملة، وغنم البلدان كلها حتى شاطئ البحر. عند رصيف أكاد صنع سفنًا أكثر من سفن «ملوحه» Meluha و«ماجان» Magan و«تيلمون» Telmun. صارغون سجد في صلواته أمام الإله «داجان» في «توتول» Tutul فأعطاه حكم الأقاليم العُليا: «ماري» و«لارموتي» Larmuti و«إيبلا» إلى غابة الأرز والجبل الفضي …]٣
تُحدِّد هذه الوثيقة التاريخية منذ البداية المجال الحيوي للإمبراطورية الناشئة في بلاد الرافدين، التي أسماها الأكَّاديون ثم ورثها البابليون فالآشوريُّون. فنحو الشرق كان توسعها باتجاه «عيلام» والهضبة الإيرانية، ونحو الغرب باتجاه الجزيرة العُليا والأناضول وبلاد الشام. في النص أعلاه نجد صارغون يَستولي على المدن السومرية واحدة تلو الأُخرى: أوروك وأور وإنمار ولجش وأوما وكيش. بعد ذلك يتوجَّه شرقًا فيستولي على عيلام العدو التقليدي للمَمالك السومرية. ويَنقلِب غربًا نحو الفرات حيث يسجد أمام الإله «داجان» أحد الآلهة الرئيسية للساميين الغربيين، وذلك في مدينة توتول الواقعة على رافد «البليخ»،٤ فيُعطيه حكم الأقاليم العليا بحاضرتَيها الرئيسيتَين ماري وإبيلا.
وكانت مدينة ماري في ذلك الوقت عاصمة لدولة سورية قوية مُزدهِرة شملت حوض الفرات الأوسط والأعلى، وقد تمَّ اكتشافها على الضفة اليُمنى لنهر الفرات تحت تلِّ الحريري قرب مدينة «أبو كمال» عام ١٩٣٣م من قِبَل بعثة فرنسية. وكان أهم ما عثر عليه المنقِّبون بين أنقاضها أرشيفات القصر الملَكي التي ضمَّت خمسة وعشرين ألف لوح مكتوب، مُعظمها سجلات تجارية وسياسية ساعدت على فهم وتعديل الكثير من معلوماتنا التاريخية.٥ أما مدينة إيبلا التي تقع في قلب السهول السورية الشمالية، فكانت عاصمة لدولة مُترامية الأطراف امتدَّت من حوض الفرات شرقًا إلى حوض العاصي غربًا، ومن جبال طوروس شمالًا إلى حدود مملكة «حماة» في أواسط سورية جنوبًا. وقد تمَّ اكتشافها تحت «تل مرديخ» الواقع إلى الجنوب من مدينة حلب بحوالي ٥٠كم، خلال التنقيبات التي ابتدأت في الموقع منذ عام ١٩٦٤م. وقد عثر المُنقِّبون في أنقاض قصرها الملَكي أواخر السبعينيات على أرشيف ملَكي يضمُّ حوالي ١٦٠٠٠ لوحًا مكتوبًا أحدثت انقلابًا في معلوماتنا عن تاريخ سورية خلال الألف الثالث قبل الميلاد. وتُرجِّح القراءات الأولى لوثائق إيبلا وُرود اسم صارغون وأكاد، حيث يرد اسم صارغون بالتهجئة الإيبلائية «شارغينو» Sharginuu.٦

بعد ماري وإيبلا يُتابع صارغون الأكادي في حملته الموثقة أعلاه، مسيرته غربًا إلى غابة الأرز في جبل «الأمانوس» على الساحل السوري الشمالي، وهو جبل ما زال إلى يومنا هذا مُمتلئًا بشجر الأرز.

ثمَّ أعقب صارغون الأول ابنه «نارام سن» الذي وطَّد أركان الإمبراطورية بحَملاته الشَّرِسة. ولدينا نصٌّ يتحدَّث عن إعادة فتح المناطق الغربية التي اجتاحها صارغون من قبله: [… منذ عهد البشرية الأول، لم يَتسنَّ لملك أن يُدمِّر مدينتي «إيبلا» و«عرمان» Araman، ولكن الإله «نرجال» قد فتح الطريق أمام نارام سن العظيم وأعطاه إيبلا وعرمان وأهداه جبل الأرز والبحر الأعلى].٧ وهكذا نجد أنَّ أبكر الحملات التي قام بها حكام وادي الرافدين، غربًا، كانت موجهة ضد بلاد الشام. ولسوف نُثبت بالدليل القاطع فيما يأتي من هذا الفصل أن الحملات التي تلتْ كلها كانت في الاتجاه نفسه، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بمناطق غرب شبه الجزيرة العربية.
لم تكد الأسرة الصارغونية تُكمِل قرنها الثاني في الحُكم حتى هاجَمَها البرابرة «الجوتيون» Gutiau القادمون من المناطق الجبلية الشمالية الشرقية حوالي عام ٢٢٣٠ق.م.، واستولوا على سُومر وأكاد قرابة قرن من الزمان. وخلال هذه الفترة تسلَّل العموريون الساميون إلى أكَّاد وأخذوا يَتمركَزُون بشكلٍ رئيسي في منطقة «بابل». وعندما قاد السومريون الجنوبيون حملات التحرير ضد الجوتيِّين وطردُوهم من وادي الرافدين، كانت مدينة بابل هي وريثة أكاد كعاصِمة للدولة الموحِّدة الجديدة التي أقامتها الأسرة العمورية الأولى. وقد قام «حمورابي» (١٧٩٢–١٧٥٠ق.م.) أقوى ملوك هذه الأسرة بتوحيد كلِّ وادي الرافدين واستعادة ما فقده الأكاديون في الشرق وفي الغرب. ولكن دور بابل في بلاد الشام قد أخَذ بالتراجُع أمام القوة الصاعدة لمملكة ميتاني ومملكة الحيثيين من بعدها. وعندما هاجم الحيثيون بابل نفسها ونهبوها عام ١٥٩٥ق.م. فتحوا المجال أمام البرابرة الشرقيِّين المُتربِّصين بها، فهاجَمَها «الكاشيون» الذين حكمُوا سومر وأكاد حتى عام ١١٦٩ق.م.٨

وفي هذه الأثناء كانت الحملات المُنظَّمة التي شنَّها فراعنة الأسرة الثامنة عشرة بعد طرد الهكسوس قد بدأت، ممَّا أدَّى إلى اصطدامِهم بالميتانيِّين أولًا ثمَّ بالحيثيِّين، ممَّا رأيناه في الفصل السابق. وعندما انهارت الدولة الحيثية أمام ضربات شُعوب البحر حوالي ١٢٠٠ق.م.، ودخلت مصر مرحلة كُمونِها الطويل بعد رمسيس الثالث المعروف بحُروبِه ضد شعوب البحر، أصبح الطريق مُمهَّدًا أمام الدولة الآشورية لاستعادة وحدة وادي الرافدين والتطلُّع نحو المناطق السابقة للنفوذ البابلي في بلاد الشام (من أجل أرض آشور، انظر الخريطة رقم ٦).

(١) سجلات آشور: تغلات فلاصر الأول

تُقدم لنا السجلات الآشورية أكثر النصوص غزارة وأهمية بالنِّسبة إلى موضوعنا، وتأتي مُدوَّنات الملك «تغلات فلاصر الأول» (١١١٤–١٠٧٦ق.م.) فاتحةً لوثائق حروب آشور في بلاد الشام. نقرأ في نصٍّ وُجد في معبد الإلهين «حدد» و«آنو» بمدينة آشور ما يلي:

[تنفيذًا لأوامر إلهي «آشور» فقد قهرت البلدان الواقعة بين الزاب الأدنى والبحر الأعلى الذي في الغرب … مضيت إلى «لبنان» Lab-na-a-ni حيث قطعت أخشاب الأرز لبناء معبد آنو وحدد، ثم تابعت التحرُّك نحو «آمورو» وأخذت كل بلاد آمورو. تلقَّيت الجزية من «جبيل» Gu-bal و«صيدون» Si-Du-ni و«أرواد» Ar-ma-da. عبرتُ بسفن أرواد عند شاطئ البحر إلى مدينة «سيميرا» Samuri التي في بلاد آمورو على مسافة ثلاثة أميال مضاعفة داخل البر … وفي طريق عودتي أخضعت جميع بلاد حاتي وفرضت على ملكِها «إيلي تيشوب» جزيةً …]٩
يُقدِّم لنا هذا النص صورةً جغرافية وطبوغرافية مُطابقة للصورة التي قدمتها لنا السجلات المصرية، فالملك الآشوري يتَّجه نحو الغرب إلى البحر الأعلى، البحر المتوسط، حيث جبال لبنان (بالأكادية كما ورَد في النص «لبناني») فيقتطع من هناك خشب الأرز، وتأتيه من الموانئ الكنعانية القريبة جزية مدينة «جبيل» (بالأكادية جُبَل) وصيدون (بالأكَّادية صيدوني) وأرواد (بالأكادية أرمادا). بعد ذلك يُبحر على السفن الأروادية إلى سيميرا (بالأكَّادية سموري) عاصمة مملكة آمورو مسافة ثلاثة أميال مضاعفة، وهي المسافة الحقيقية بين أرواد و«تل الكزل»١٠ حيث تَجري التنقيبات الآن عن مدينة سيميرا القديمة. وفي طريق عودته يُخضِع بلاد حاتي التي يُقصَد بها في النصوص الآشورية دويلات الشمال السوري مثل «كركميش» و«حداتو» (أرسلان خاش) و«شمال» (تل زنجرلي على السفح الشرقي لجبل الأمانوس في أقصى الشمال السوري)، وغيرها مما سيمرُّ ذكره معَنا لاحقًا. وقد كانت هذه الدويلات واقعةً تحت النفوذ الحثِّي قبل انهيار الإمبراطورية الحثِّية أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، واستمرَّت تسمية «حاتي» تُطلق عليها بعد ذلك. وقد انساق المؤرِّخون الحديثون في إطلاق اسم الدُّويلات الحثِّية الجديدة على هذه المناطق وهي تسمية خاطئة (كما ألمَحنا سابقًا) مُستمرَّة بحكم التعوُّد، ذلك أن اكتشاف مُعظَم المواقع القديمة لهذه الدويلات وقراءة سجلاتها ودراسة فنونها، قد أثبتت بطلان التسمية، فالمنطقة سورية بشتى مناحي ثقافتها رغم استيعابها لعدد لا بأس به مِن القادمين من بلاد حاتي الأصلية بعد دمار مَراكزهم الحضرية على يد شعوب البحر.

هذه الحملة الآشورية المبكِّرة، لا يُمكن بحالٍ من الأحوال أن تكون موجَّهة ضد غرب شبه الجزيرة العربية؛ فالملك الآشوري يتوجَّه غربًا نحو البحر الأعلى، البحر المتوسط، لا جنوبًا نحو جزيرة العرب. و«لبنان» الذي يَحتطِب منه خشب الأرز هو لبنان الشام القريب من الموانئ البحرية، لا «لبينان» شمال اليمن في المناطق الداخلية (انظر خريطة الصليبي رقم ٣). و«أرواد» التي يَركب الآشوريون على سفنها هي أرواد الشام وليسَت «رواد» مُرتفعات عسير (انظر ص٣٥) لأنَّ النصَّ صريح في الإشارة إلى الموقع البحري للمدينة، وإلى سفنها.

(٢) آشور ناصر بال الثاني

بعد تغلات فلاصر الأول، مرَّت حركة التوسُّع الآشوري بفترة ركود لتبدأ من جدِّي على يد «آشور ناصر بال الثاني» (٨٨٣–٨٥٩ق.م.). نقرأ في نص لهذا الملك عُثر عليه في معبد الإله «ننورتا» في موقع «نمرود» الآشورية:

[غادرت بلاد «بيت عديني» وعبرت الفرات في ذروة فيضانه على قوارب مصنوعة من الجلود (المنفوخة بالهواء) إلى «كركميش»، حيث تلقَّيت جزية ملك الحيثيين (تعداد للوزنات الذهبية والفِضية والمواد الثمينة الأخرى). ملوك البلاد المجاورة جميعًا أتوا إليَّ فأمسكوا قدمي. أخذت منهم رهائن مشوا معي إلى «لبنان» Lab-na-ni مُشكِّلين طليعة جيشي. غادرت كركميش مُتحركًا على الطريق الذي يقع بين جبال «منزيغاني» Manzigani و«هامورجا» Hamurga، تاركًا بلاد «أهانو» Ahanu على يساري، وتقدَّمت نحو مدينة «حزازو» Hazazu التي تخصُّ «لوبارنا» ملك حطينة Hattina؛ حيث تلقَّيت الذهب وعباءات الكتان. ثم تابَعت فعبرت نهر «عبري» حيث قضيت الليل، ثم غادرت شاطئ نهر عبري نحو مدينة «كونولو» Kunulu المقر الملكي للوربانا ملك حطينة، الذي لخوفه من أسلحة جيشي الفتاكة، وقع على قدمي طالبًا حياته (تعداد لأصناف الجزية المقدمة) في ذلك الوقت وصلَتْني جِزية «جوشي» Gusi من بلاد «ياهاني» Iahani (تعداد لأصناف الجزية).
[غادرت «كونولو» المقر الملَكي للوربانا وعبرت نهر «العاصي» Arantu حيث قضَيت الليل، ثم تحرَّكت آخذًا الطريق بين جبل «يراكي» Iraki وجبل «يعتوري» Ia’turi، ثم عبرتُ جبل … لقضاء الليل عند نهر «سنجارا» Sangara. من هناك تابعت المسير آخذًا الطريق بين جبل «ساراتيني» Saratini وجبل «دوباني» Duppani حيث قضيت الليل على ضفة بحيرة … دخلت «أريبو» Aribu حصن لوربانا ملك حطينة وضمَمتُها إليَّ حصدتُ قمح وقش منطقة «لوحاتي» Luhati وخزَّنتُ ما حصدتُ هناك وتركت في المكان مواطنين آشوريِّين للإقامة. وخلال إقامتي في أريبو فتحت مدن لوحاتي الأخرى وهزمتُ أهلها وهدمتُ أسوارها وأحرقتها بالنار. أما الناجون فقد رفعتهم على الخوازيق أمام مُدنِهم. بعدها أخذت كل جبل لبنان ووصلت إلى بحر آمورو العظيم حيث غسلت أسلحتي في المياه العميقة، وقدمت ذبائح إلى الآلهة. هناك جاءتني الجزية من ساحل البحر من سكان «صور» و«صيدون» و«جبيل» و«محلِّلاتا» Mahallata و«ميزا» Maiza و«كيزا» Kaiza و«آمورو» و«أرواد» التي في البحر (تعداد لما حصل عليه)]١١

يرسم هذا النص الفريد خريطة مُفصَّلة لممالك بلاد الشام الشمالية والغربية، استطاع علم الآثار وعلم التاريخ إثبات صحتها وصدقها. ولسوف نتابع فيما يأتي مسار حملة آشور ناصر بال الثاني خطوة بخطوة.

figure
الخارطة رقم ٧: حملة آشور ناصر بال الثاني.
في هذا النص، يبدأ الجيش الآشوري حملته على بلاد الشام، التي تدعوها النصوص الآشورية عادةً ببلاد ما وراء النهر «عبر ناري»،١٢ بعبور نهر الفرات. وهذا الفرات لا يُمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون «فرات» كمال الصليبي في غرب العربية، الذي وجده في وادي أضم أحد أكبر الوديان في غرب شبه الجزيرة العربية، الذي تَصدُر مياهُه من مُرتفعات الطائف ثم يجري نحو البحر الأحمر، والذي ما زال اسمه القديم قائمًا، في رأيه، في قرية «فرت» الواقعة على مَقرُبة منه (الصفحات ٣٨، ٢٦٠، ١٩٩، ٣٠٢. انظر أيضًا خريطة الصليبي رقم ٣). فعبور نهر الفرات يتمُّ من «بيت عديني» إلى كركميش. وبيت عديني هي إحدى الممالك الآرامية التي ازدهرت في مطلع الألف الأول ق.م. وقد امتدَّت أراضيها بين الفرات ورافد البليخ، ووصل نفوذها في أوج قوتها إلى المناطق الغربية من الفرات. تمَّ اكتشاف عاصمتها «تل برسيب» في موقع «تل الأحمر» وعلى الضفة اليسرى (الشرقية) للفرات، على مسافة ٢٠كم إلى الجنوب من كركميش (جرابلس الحالية). وقد عَثر في الموقع على كتابات بالهيروغليفية اللوفية١٣ تذكر اسم ملكها «آخوني» المعروف في السجلات الآشورية، وخصوصًا في سجلات «شلمنصر الثالث». كما عُثر في بوابة قصر برسيب على أسود بازلتية عليها نقوش تَذكُر الحاكم الآشوري «شمسي إيلو» الذي ولِي المدينة بعد أن ألحقها شلمنصر الثالث بآشور وأسماها «كار شلمنصر» أي حصن شلمنصر.١٤

وقد ورد ذِكر بيت عديني في كتاب التوراة كمَملكة آرامية تحت اسم «بيت عدن»، نقرأ في سِفر عاموس ١: ٣–٥ [هكذا قال الرب من أجل ذنوب دمشق الثلاثة والأربعة، لا أرجع عنهم … فأرسل نارًا على بيت «حزائيل» فتأكل قصور «بن حدد» وأكسر مِغلاق دمشق وأقطع الساكن من بقعة «آون» وماسك القضيب من «بيت عدن»]. ودمشق الواردة في هذا النص هي دمشق الشام لا دمشق عسير التي وجدها الصليبي في موقع «ذا مسك» في منطقة جيزان بعَسير (ص٣٠)؛ لأن «حزائيل» و«بن حدد» المذكورَين هنا كانا ملكَين تعاقبا على حكم دمشق كما نَعرف من الوثائق الآرامية التي اكتشفت في بلاد الشام. وفي مواضع أخرى في التوراة تذكر بيت عدن بالترافُق مع عدد من الدويلات الآرامية المعروفة وخصوصًا «جوزان» التي تم اكتشافها في أقصى الشمال السوري بموقع تلِّ حلف الحالي، كما سنُفصِّل لاحقًا (انظر سفر الملوك الثاني ١٩ : ١٢؛ وإشعيا ٣٧ : ١٢).

يتم عبور الفرات إذن من بيت عديني على الجهة الشرقية للفرات إلى كركميش الواقعة على الجهة الغربية، مما يَستتبِع أن تكون كركميش هذه هي كركميش الشام لا «قر – قماشة» غرب العربية التي وجدها الصليبي في جنوب «الطائف» بالحجاز (ص٣٧ و١١٤)؛ ذلك أنَّ موقع قريتي «القر» و«القماشة» المُتجاورتَين لا يُمكن العبور إليه من أيِّ جهة من «وادي أضم» الذي يرى فيه الصليبي فرات التوراة وسجلات الشرق القديم (انظر خريطة الصليبي رقم ٣). ويَستتبِع ذلك أيضًا أن المواجهة بين الفرعون «نخو» والبابليين الواردة في سفر أخبار الأيام الثاني ٣٥: ٢٠؛ وإشعيا ١٠: ٩؛ وإرميا ٤٦: ٢ قد جرَت عند فرات كركميش الشام لا قرب الطائف في جنوب الحجاز (ص٣٧) تقرأ في إرميا ٤٦: ١–٢ [كلمة الرب صارت إلى إرميا النبي عن الأمم، عن مصر عن جيش فرعون. نخو ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش، الذي ضربه نبوخذ راصر ملك بابل …]

في كركميش، يتلقَّى آشور ناصر بال الجزية من ملكها ويُتابع مسيرته غربًا وهدفه الأخير لبنان، دون أن يتعرَّض لمملكة «بيت أجوشي» (أو ياهاني) (انظر الخريطة ٧) التي وافقت على ما يبدو على دفع الجزية التي تصلُه لاحقًا. فيصل إلى مدينة «حزازو» وهي «إعزاز» الحالية عند السفوح الشرقية لجبل «سمعان»،١٥ حيث يتلقَّى الجِزية ثم يُتابع فيجتاز نهر «عبري» الذي هو نهر «عفرين»١٦ اليوم، إلى مدينة «كونولو» عاصمة مملكة «حطينة»، وهي مملكة آرامية شغلت منطقة سهل العمق وخوض عِفرين.١٧ ويَعتقد بعض البحَّاثة، أن كونولو هي موقع «عين دارا» الحديث حيث تقوم بالتنقيب منذ عدة سنوات بعثة المديرية العامة للآثار بسورية.١٨ إلا أنَّ الدكتور علي أبو عساف رئيس البعثة التنقيبية إلى عين دارا لا يستطيع عند هذه المرحلة توكيد الاسم القديم للمدينة بسبب عدم توفُّر النصوص الكتابية في الموقع حتى الآن.١٩ في كونولو يستسلم ملك حطينة للملك الآشوري، كما تأتي إلى هناك أيضًا جزية «جوشي» ملك «ياهاني».
ومملكة «يا هاني» هي مملكة آرامية امتدَّت من حدود الفرات شرقًا إلى أطراف سهل العمق غربًا (انظر الخريطة رقم ٧)، وجاورتها من الجنوب أراضي مملكة حماة، ومن الشمال أراضي مملكة كركميش. وقد دُعيت بمملكة «ياهاني» نسبة إلى مؤسسها الأول «ياهان» ثم صار اسمها مملكة «بيت جوشي» أو «بيت أجوشي» نسبةً إلى أشهر ملوكها جوشي المذكور في هذا النص. وقد تمَّ اكتشاف عاصمتها «أرفاد» تحت «تل رفعت» على مسافة ٣٥كم إلى الشمال الشرقي من مدينة حلب. ورغم أنَّ الموقع نفسه لم يُعطِ الكثير من الآثار المهمَّة، إلا أنَّ مواقع أخرى في المملكة قد أعطتنا آثارًا فنية وكتابية على جانب كبير من الأهمية، ففي قرية «السفيرة» إلى الجنوب الشرقي من حلب، تمَّ العثور على ثلاثة أنصاب حجرية نُقشت عليها مُعاهَدة بين ملك أرفاد المدعو «متع إيل» و«برجاية» ملك «كتك» وهي الآن موزَّعة بين متحف دمشق ومتحف بيروت.٢٠

وقد ورد في التوراة ذكر أرفاد مرارًا. ففي سِفر الملوك الثاني ١٨: ٣٣–٣٥، حيث يتفاخر قائد شلمنصر الثالث عند أسوار أورشليم المحاصرة بإخضاع الآشوريِّين لأرفاد وغيرها: [هل أنقذ آلهة الأمم كل واحد أرضه من يد ملك آشور؟ أين آلهة أرفاد وحماة، أين آلهة سفروايم وهينغ وعوًا؟] وفي نبوءة إرميا عن دمشق: [عن دمشق. خربت حماة وارفاد، قد ذابوا … ارتخَت دمشق والتفتت للهرب] (إرميا ٤٩: ٢٣–٢٤).

يترك الملك الآشوري كونولو ويتَّجه جنوبًا فيعبر نهر العاصي (أرانتو في النصوص الآشورية ويُرنت في النصوص المصرية وأورونتس عند الإغريق) إلى منطقة أنطاكيا. ومنها يأخذ الطريق بين جبل «يراكي» وجبل «يعتوري» وهما على الأغلب جبل «حارم» وجبل «الأقرع»، فيَقضي الليل على نهر «سنغارا» وهو على الأغلب «نهر الكبير الشمالي» ثم يأخُذ الطريق بين جبل «ساراتيني» وجبل «دوباني» وهما جبل «الزاوية» و«جبال العلويين»، وصولًا إلى جبل لبنان حيث يغسل أسلحته في «بحر آمورو» أي بحر الغرب، وهو البحر المتوسط. وهناك تأتيه الجزية من مدن ساحل البحر (حسب تعبير النص)، من «صور» و«صيدون» و«جبيل» و«أرواد» (التي في البحر حسب تعبير النص)، ومن «محللاتا» و«كيزا» ومن «ميزا» التي يعتقد أنها حمص (إميسا).

وهكذا تنتهي حملة آشور ناصر بال الثاني، كما انتهت سابقتها حملة تغلات فلاصر الأول، عند مدن الساحل الفينيقي بمُدنِه القديمة المعروفة أرواد وجبيل وصيدون وصور، لا عند المناطق الداخلية والجبَلية من غرب شبه الجزيرة العربية. وتتقاطع أخبار العديد من الممالك والمدن الواردة في النص مع أخبارها التوراتية.

(٣) شلمنصر الثالث وفترة المد الآشوري

إنَّ مسرح الأحداث الذي ترسمُه السجلات الآشورية في بلاد الشام منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد، يختلف في ترتيبة الديمغرافي والسياسي عن مسرح الحدث الذي عرفناه من السجلات المصرية. فالممالك الكنعانية القديمة مثل مَملكة قطنا وقادش وموكيش (ألالاخ) وتونيب وصوبة وغيرها قد غابت لتحلَّ محلَّها في سورية الداخلية الممالك الآرامية الحديثة العهد مثل مملكة بيت عديني وبيت أجوش وحطينة وشمأل وحماة ودمشق. ولم يبقَ في منأى عن المد الآرامي سوى دويلات الساحل الكنعاني المحصورة بين جبل لبنان والبحر المتوسِّط، من جزيرة أرواد إلى صور. وقد حافظت هذه المنطقة على طابعها الكنعاني لغةً وثقافةً، وطورت بشكل مُشترك نمطًا حضاريًّا ذا طابع خاص ضمن الوحدة الحضارية العامة لبلاد الشام، ودُعيَ أهلها بالفينيقيِّين من قِبل الإغريق الذين كانوا على احتكاك بهم. كما حافظت منطقة فلسطين الداخلية وشرقي الأردن على ثقافتها الكنعانية القديمة دون أن يَترك الحُكم السياسي الإسرائيلي القصير الأمد بصمتَه على أيِّ منحًى من مناحي حياتها. وقد انقسمت السلطة السياسية على نفسها في فلسطين الداخلية بعد موت الملك سليمان عام ٩٢٥ق.م. إلى مركزَين واحد في الشمال استقر أخيرًا في «السامرة» وآخر في الجنوب في أورشليم وما تلاها. أما الفلستيون الذين وفدوا مع شعوب البحر وتركزوا في الساحل الفلسطيني منذ مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ فقد ذابوا في خضمِّ الثقافة الكنعانية الراسخة بعد أن أظهرت آثارهم الأولى التي تمَّ الكشف عنها في المنطقة عناصر متميزة من ثقافة بحر إيجة (انظر الفصل ٧ لاحقًا).

ومع مطلع الألف الأول قبل الميلاد كانت القوى العظمى التقليدية في المنطقة قد غابت، فبابل قد التزمَت حدودها ضمن وادي الرافدين، ومملكة الحيثيِّين التي أنهت إلى الأبد مملكة ميتاني، جاء دورها لتشرب الكأس نفسها على يد شعوب البحر، ومصر الفرعونية قد انتابتها أمراض الشيخوخة الطويلة التي عاشتها حتى الفتح الروماني. وقد أعطى هذا الوضع الفريد فرصة لانتعاش الدويلات الآرامية والكنعانية فيما بين القرن الثاني عشر والقرن التاسع قبل الميلاد. غير أنَّ الحملات الآشورية التي بدأت بشكلٍ مُتفرِّق وغير منظَّم بهدف جمع الجزية واستعراض القوة، قد تحوَّلت إلى حروب منظَّمة منذ عهد «شلمنصر الثالث» خليفة آشور ناصر بال الثاني، وهدفت إلى توطيد أركان إمبراطورية مُترامية الأطراف، الأمر الذي أدخل عنصرًا جديدًا إلى الصورة استمر خلال كامل النصف الأول من الألف قبل الميلاد.

وكما لم يَدفع التهديد المصري القديم دُويلات بلاد الشام إلى أي نوع من أنواع الوحدة فيما بينَها، كذلك كان شأن التهديد الآشوري الجديد الذي واجهته كل دويلة على انفراد، أو من خلال أحلاف مؤقَّتة ما تلبث أن تنحلَّ عشية المعركة. ولعلَّ أكثر الأحلاف التي واجهها الآشوريون خطرًا، كان حلف معركة «قرقرة» الذي انعقد في مواجهة «شلمنصر الثالث» عام ٨٥٤ق.م.

أمضى «شلمنصر الثالث» فترة حكمِه الطويلة (٨٥٨–٨٢٤ق.م.) في حملات مُتواصِلة على بلاد الشام، كان أهمها الحملة التي شنَّها في السنة السادسة من حكمه ضد مُتحالفي «قرقرة» في منطقة حماة على نهر العاصي.٢١ نقرأ في أخبار هذه الحملة:
[غادرت نينوى فعبرت نهر «دجلة» وتقدَّمت إلى مدن الملك «غيامو» على نهر «بليخ» فتملكهم الخوف مِن هيبتي ومِن أسلحتي الفتاكة، فقتلوا سيدهم غيامو بأسلحتهم (يلي ذلك تعداد للمدن التي أخذها وللجِزية التي حصل عليها). من «سحلالا» Sahlala توجَّهت إلى «كار - شلمنصر»، وعبرت الفرات في ذروة فيضانِه على أطواف من جلد الماعز. وفي المدينة التي يدعوها أهل حطينة ﺑ «بيترو» Ptru على الجهة الأخرى للفرات عند نهر «ساجور» Sagur تلقيت الجزية من ملوك الجهة الأخرى للفرات، من «سنغارا» ملك «كركميش» ومن «كونداشبي» ملك «كوماجين» ومن «آرام» ملك «جوشي» … (تعداد لبقية المدن وأصناف الجزية). ثم غادرت الفرات نحو حلب Halman، التي خاف أهلها وخروا عند قدمي. فتلقيت منهم فضة وذهبًا جزيةً، وقدمت قربانًا إلى «حدد» (إله) حلب. من حلب توجَّهت إلى مدن «إرخوليني» Irhuleni ملك «حماة» Amat، فتحت مدن «أدينو» Adinu و«برغا» Barga، ومقره الملكي في «أرغانا» Argana. وحررتها من سلطته وأضرمت النار في قصره. غادرت أرغانا وأتيت إلى «قرقرة» فدمَّرتُها وأحرقتها.
هبَّ إلى ساح المعركة «حدد - عدري» Adad-idri ملك «إميريشو» (دمشق) Imerisu، ومعه ١٢٠٠ عربة، و١٢٠٠ فارس و٢٠٠٠٠ جندي. و«إرخوليني» Irhuleni ملك «حماة» Amat ومعه ٧٠٠ عربة و٧٠٠ فارس و١٠٠٠٠ جندي. و«آخاب الإسرائيلي» Aha-ab-bu-Sir-i-la-a ومعه ٢٠٠ عربة و١٠٠٠٠ جندي. ومن «موصري» Musri جاء ١٠٠٠٠ جندي. ومن «قوع» Que ٥٠٠ جندي. ومن «عرقاتا» Arqanata ١٠٠ عربة و١٠٠٠٠ جندي. وجاء «ماتينو بعل» من «أرواد» ومعه ٢٠٠ جندي، وأمير «أشناتو» Usanata ومعه ٢٠٠جندي، و«أدنو بعل» من «سيانو» Shian ومعه ٣٠ عربة و١٠٠٠ جندي، و«جنديبو» العربي ومعه ١٠٠٠ جمل، و«بعشا» أمير «حوبي» ومعه … ومن «عمون» … فكانوا اثني عشر ملكًا هبُّوا في وجهي للمعركة الحاسمة، فحاربتهم بما وهبني الإله «آشور» من قوة، وبما وهَبني الإله «نرجال» من سلاح فتاك، وهزمتهم بين مدينتي «قرقرة» و«جيلزو» Gilzu … وملأت نهر العاصي بجثثهم …]٢٢

يقول كمال الصليبي عن معركة قرقرة ما يلي (ص٣٧): [وكما هو الأمر بالنِّسبة لمعركة كركميش، فإن معركة قرقرة التي حاربها الآشوريون ضد ملوك «أمت» و«إمرشو» وحلفائهم «جنديبو العربي» و«آخبُّو سِرئلِا» في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، كانت قد جرت فعلًا في غرب شبه الجزيرة العربية وليس على امتداد نهر العاصي في بلاد الشام كما يُعتقَد عادةً. و«أمت» التي اعتُبرت حتى الآن إشارة إلى «حماة» في وادي العاصي، هي عمليًّا قرية «أمط» الحالية في منطقة الطائف. و«إمرشو» ليسَت دمشق الشام كما تُعتبر حتى الآن. ودون أي أساس لهذا الاعتبار، بل ربما كانت «المراشا» في جنوب مرتفعات عسير. و«جنديبو أربي» يفترض عادةً كونه زعيمًا عربيًّا من بادية الشام، وعمليًّا هناك قبيلة تُدعى بنو جندب ما زالت تعيش في وسط مُرتفَعات عسير، و«أربي» قد تكون اليوم «عربة» أو «عرابة» من قُرى بلاد عسير. «وكركرة» نفسها في هذه الحالة يُمكن أن تكون حاليًّا «قرقرًا» في منطقة القنفذة في تهامة الحجاز المحاذية لعسير وليس أي مكان في وادي العاصي من الشام]. فإلى أيِّ حد يَنطبق مسار حملة شلمنصر الثالث على هذا الكلام؟ (تابع مسار حملة قرقرة على الخريطة رقم ٨).

figure
الخارطة رقم ٨: معركة قرقرة.
يُغادر الملك الآشوري مدينة «نينوى» في آشور فيجتاز نهر دجلة، ويَصل إلى نهر بليخ الذي يرفد الفرات، وهناك يَقضي على عدد من المدن ثم يأخُذ طريقه إلى «كارشلمنصر» وهي مدينة «برسيب» عاصمة مملكة بيت عديني على الضفة الشرقية للفرات. ومن هناك يَعبر نهر الفرات إلى ضفَّته الغربية ويسير إلى مدينة «بيترو» عند نهر «الساجور» إلى الجنوب من كركميش. وهذه المدينة معروفة في النصوص الآشورية الأبكر بأنها مِن المراكز الأولى لاستقرار الآراميِّين في شمال بلاد الشام.٢٣ أما نهر «الساجور» فما زال باسمه إلى اليوم، يصبُّ في نهر الفرات إلى الجنوب من جرابلس الحالية (كركميش القديمة). في بيترو يتلقى شلمنصر الثالث جزية عدد من الدويلات القريبة، منها كركميش، وجوشي الواردة الذِّكر أعلاه، ثم يتابع سيره إلى حلب حيث يتلقى الفضة والذهب من أهلها الذين استسلموا دون قتال، وبعد تقديمه قربانًا للإله حدد إله مدينة حلب، يهبط جنوبًا نحو سهول مملكة حماة للقاء ملكها «إرخوليتي».
وكانت حماة في ذلك الوقت أقوى مملكة آرامية في بلاد الشام بعد مملكة دمشق. جاورتها في الشمال مملكة «بيت أجوشي» و«حطينة» وفي الجنوب مملكة دمشق. أما في الغرب فقد وصلت حدودها إلى سلسلة الجبال الساحلية، بينما امتدت حدودها الشرقية عبر البادية. وقد هاجرت إليها من بلاد الأناضول جماعات هندوأوربية وامتزجَت بالآراميِّين الذين حلُّوا فيها قبلهم، وأسسوا جميعًا مملكة قوية كان لها شأن في الأحداث التي تتابعَت على بلاد الشام خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد.٢٤ وكان «إرخوليني» الوارد ذكره في نص معركة قرقرة أحد ملوكها الأقوياء المَعروفين، وقد أخبرتنا عنه نصوص مملكة حماة المُكتشفة في عدد من مواقعها القديمة. فقد تمَّ العثور حديثًا على عدد من النقوش المكتوبة بالخطِّ الهيروغليفي اللوفي في حماة نفسها، وفي أماكن قريبة منها كانت تابعة للمَملكة القديمة مثل «محردة» و«قلعة المضيق» و«الرستن» تذكر اسم الملك «إرخوليني» وفيها يقول إنه ابن الملك «بارتاس»، وإنه بنى معبدًا للربة «بعلاتي».٢٥
في منطقة حماة يَقضي شلمنصر الثالث على العديد من المدن ثم يأتي إلى قرقرة حيث يلتقي بجيوش المُتحالفين وعلى رأسهم ملك دمشق «حدد عدري» يُعاضده ملوك وأمراء الدويلات السورية القوية: قوع؛ وهي مملكة صغيرة على شاطئ المتوسط الشمالي في الأراضي التركية الآن بين نهري سيحان وجيحان. موصري وهي مملكة مجهولة حتى الآن. أشتانو إلى الجنوب من مدينة جبلة الحالية في سوريا. سيانو إلى الشرق من مدينة جبلة الحالية.٢٦ أرواد على الساحل السوري. بيت رحوب، ورد ذكرُها في السجلات المصرية، راجع سجلات سيتي الأول. وعرقاتا، راجع بشأنها السجلات المصرية. عمون وهي موطن العمونيِّين الخصوم التقليديين للإسرائيليين في شرقيِّ الأردن. القبائل العربية في شمال الجزيرة العربية وبلاد الشام بقيادة جنديبو العربي. مملكة إسرائيل الشمالية بقيادة ملكها «آخاب» المعاصر لشلمنصر الثالث. وآخاب الإسرائيلي الوارد في نصِّ معركة قرقرة هو ابن عمري، الملك السابع في سلسلة ملوك مملكة إسرائيل الشمالية التي أسسها «ياربعام» عقب موت الملك سليمان حوالي عام ٩٢٥ق.م. وكان أشهر ملوكها «عمري» الذي بنى العاصمة الجديدة في السامرة. وقد تُوفِّي آخاب بعد سنةٍ واحدة من معركة قرقرة؛ أي عام ٨٥٣ق.م.

أما قرقرة نفسها فتقع على مسافة أحد عشر كيلومترًا إلى الجنوب من مدينة جسر الشغور الحالية على الضفة الغربية لنهر العاصي. وما زال اسم الموقع القديم حيًّا في تل يقع في المنطقة نفسها يُدعى اليوم «تل قرقور».

أما عن زعيم التحالف «حدد عدري» ملك «إميريشو» (مملكة دمشق) التي قال عنها الصليبي إنها ليسَت دمشق الشام كما تعتبر حتى الآن، ودون أي أساس لهذا الاعتبار، ووجد مكانها في المراشا في جنوب مرتفعات عسير، فإننا نعرف من نصوص أخرى لشلمنصر الثالث أن عاصمته تُدعى «دمشقي» بالآشوري Di-ma-as-qi وبذلك تقدم لنا السجلات الآشورية، التي يدعونا الصليبي إلى إعادة دراستها، الأساس الذي اعتُبرت بموجبه «إميريشو» على أنها «دمشق» الشام. نقرأ في نصٍّ عُثر عليه في آشور منقوش على تمثال من البازلت للملك شلمنصر الثالث: [لقد هزمتُ حدد عدري ملك إميريشو مع اثني عشر أميرًا من حلفائه، وقتلت ٢٠٫٩٠٠ من محاربيه الأقوياء، ودفعت بمَن تبقَّى من قواته إلى نهر العاصي Arantu، فتفرقوا في كل اتجاه يطلبون أرواحهم. أما حدد عدري نفسه فقد انتهى، واغتصب العرش مكانه «حزائيل» ابن لا أحد (= عامي النسب)، الذي دعا إليه الجيوش الكثيرة وثار في وجهي فقاتلتُه وهزمته وغنمتُ كل مركبات معسكره. أما هو، فقد هرب طالبًا حياته، فتعقبتُه إلى «دمشق» Di-ma-as-qi، مقره الملكي حيث قطعت أشجار بساتينه].٢٧
وتتقاطع نصوص بلاد الشام مع النصوص الآشورية لتُقدِّم لنا إثباتًا على أن دمشق النصوص الآشورية هي دمشق الشام وليست «ذو مسك» في غرب العربية. فلدَينا نقوش على قطع فنية عاجية من «حداتو» (أرسلان طاش عند الحدود السورية التركية الحالية على بعد ٣٠كم شرقي الفرات) نُقش عليها اسم حزائيل ملك دمشق الذي تصفه الكتابة بلقب سيدنا ومولانا حزائيل.٢٨ ولدينا حجر تذكاري يرجع تاريخه إلى السنوات الأولى من القرن الثامن قبل الميلاد، عُثر عليه في موقع قرية «أفس» قرب بلدة «سراقب» الحالية على بُعد ٤٠كم إلى الجنوب الغربي من مدينة حلب. وقد نُقش عليه «زاكير» ملك حماة أخبار اعتداءات «بن حدد» ابن حزائل ملك دمشق على مملكة حماة بمعونة عدد من الدويلات الأخرى. نقرأ في مطلع النص: [هذا الحجر التذكاري، وضعه زاكير ملك «حماة» و«لوعاش» Lu’ath من أجل «إيلو - ور» إلهه. أنا زاكير ملك حماة ولوعاش، كنت رجلًا من العامة ولكن الإله «بعل شمين» وقف إلى جانبي وجعلني ملكًا على «حاتريكا» Hatarika. «بن حدد» بن «حزائيل» ملك آرام، جمع ضدي سبعة ملوك: بن حدد وجيشه، ملك «غوروم» وجيشه، ملك «شمأل» وجيشه، ملك كيليكيا وجيشه، «بن جوش» وجيشه، ملك «العمق» وجيشه، ملك «ميليز» وجيشه. كل هؤلاء الملوك الذين جمعهم بن حدد٢٩ وجيوشهم قد حاصروا حاتريكا … ولكن بعل شمين كلمني عبر العرافين والمتنبِّئين قائلًا لا تخف؛ فلقد جعلتك ملكًا ولسوف أقف إلى جانبك وأنقذك من كل هؤلاء الملوك الذين ضربوا حصارًا حولك].٣٠
إلى جانب دمشق الواردة في النصوص الآشورية والتوراتية، يُطلعنا نصُّ زاكير ملك حماة على أخبار عدد من المَمالك الأخرى المعاصرة لها. ﻓ «بن جوش» الوارد ذكره بين حلفاء مملكة دمشق هو ابن ملك «جويش» أو «جوشي» ملك ياهاني أو بيت أجوشي، الوارد ذكره في سجلات آشور ناصر بال الثاني. ومملكة «لوعاش» التي يبدو أن زاكير قد ضمَّها إليه كانت تمتد إلى الشمال والشمال الشرقي من حماة وعاصمتها «حتريكا» التي هي على الأرجح «أفس» الحالية حيث وُجد النصب التذكاري، وكانت هذه المملكة تُعرف في الألف الثاني قبل الميلاد باسم مملكة «نوخشي».٣١ أما مملكة «شمأل» فكانت تُسيطِر على أقصى المناطق السورية الواقعة إلى الشمال الغربي من البلاد، (انظر خريطتنا رقم ٨) وسُميَت أيضًا بمملكة «يأدي» نسبةً إلى مؤسسها الأول، كما سمَّاها الآشوريون في بعض نصوصهم «بيت جبر» نسبةً إلى أحد ملوكها. وقد تمَّ اكتشاف عاصمتها «شمأل» في موقع «زنجرلي» الحديث على السفح الشرقي لجبال الأمانوس، وعُثر فيها على عدد من النصوص المهمَّة.٣٢
ورغم هزيمة حلف قرقرة فإن بلاد الشام لم تُسلم القياد بسهولة للآشوريين وكان على شلمنصر الثالث أن يعود مرارًا إلى المنطقة لإعادة فرض السيطرة الآشورية. نقرأ في نصِّ حملة أخرى لشلمنصر الثالث: [في السنة الثامنة عشرة من بدء مُلكي، عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة. حزائيل ملك دمشق وضع ثقته بجيشه العرم، وجمع قواته بأعداد كبيرة جاعلًا من جبل «سنيرو» Sa-ni-ru المقابل لجبل لبنان قاعدة له، قاتلته وهزمته وصرعت ستة عشر ألفًا من جنوده المدرَّبين، وغنمت ١١٢١ عربةً و٤٧٠ جوادًا وكل معسكره. أما هو فقد هرب طالبًا حياته، فتبعتُه إلى دمشق، مقرِّه الملكي، وحاصرته هناك وقطعت بساتينه (المحيطة بالمدينة) ومضيت. سرت إلى جبال «حوران» Ha-u-ra-ni، فهدمت وأحرقت عددًا لا يُحصى من المدن وأخذت منهم جزيةً لا حصر لها. كما سرت إلى جبل «بعل راسي» الذي يقع إلى جانب البحر، وأقمتُ هناك نصبًا تذكاريًّا عليه صورتي. في ذلك الوقت تلقَّيت الجزية من صور وصيدون ومن «ياهو» ابن عمري La-u-a mar Hu-um-ri-i.٣٣
و«ياهو» المذكور في هذا النص، هو ملك إسرائيل الذي قضى على بيت آخاب بن عمري، وأحلَّ نفسَه مَلِكًا في السامرة. أما تسمية كاتب النص الآشوري له بابن عمري، فهي إما خطأ من الكاتب الذي اعتقد أن الملك الجديد هو من سلالة عمري، أو أن يكون المقصود بابن عمري هنا، النسبة إلى «أرض عمري» وهي التسمية التي أطلقها الآشوريون على إسرائيل؛ إذ نسبوها، على عادتهم، إلى أشهر ملوكها الذي بنى مدينة السامرة فكانت عاصمةً له ولكل مَن تسلسلوا بعده من الملوك إلى دمارها الأخير. وكان ياهو معاصرًا لحزائيل ملك دمشق، وكلاهما كان يدفع خطر الآشوريين على طريقته الخاصة. فبينما تابع حزائيل سياسة التمرد والمجابهة، لجأ ياهو إلى الدبلوماسية واتِّقاء شر الملك الآشوري بدفع الجزية والأتاوى له. فإضافة إلى النص الآشوري الآنف الذكر، لدينا كتابة على مسلة سوداء محفوظة الآن في المتحف البريطاني نُقشت تحت صورة تُمثِّل رجلًا ساجدًا عند قدمي شلمنصر الثالث، وترجمتها كما يلي: [جزية ياهو ابن عمري. تلقيت منه فضةً وذهبًا، طاسة ذهبية ومزهرية ذهبية مدبَّبة القاعدة (تعداد لبقية الأصناف المقدمة)٣٤ ورغم أن جزية ياهو المدفوعة لشلمنصر غير مذكورة في التوراة بشكلٍ صريح، ربما حفاظًا على سمعة هذا الملك الذي تُبجِّله أسفار التوراة؛ لأنه أعاد عبادة يهوه إلى السامرة وأزال المعابد الكنعانية منها، فإنَّ هناك إشارات واضحة إشارات واضحة إلى العطايا التي كانت تُقدَّم إلى آشور في ذلك الوقت، ويُمكن بهذا الخصوص مراجعة سِفر هوشع ٥: ١٧ و١٢: ١.

غير أنَّ دمشق والسامرة (بعد أن تباينت مواقفهما من آشور بعد معركة قرقرة) لم تُوفِّرا فرصة للاقتتال فيما بينهما كلما تراخت قبضة الآشوريِّين. نقرأ في سفر الملوك الثاني ١٣: ٣–١٣، و٢٢–٢٥: [مَلَك «يهو آحاز» بن «ياهو» على إسرائيل في السامرة سبع عشرة سنةً. وعمل الشر في عيني الرب … فحمي غضب الرب على إسرائيل ودفعهم ليد حزائيل ملك آرام وليد بنهدد بن حزائيل كل الأيام] … [ثم مات حزائيل ملك آرام ومَلَك بن لعدد ابنه عوضًا عنه. فعاد «يهوآش» «بن يهو آحاز» وأخذ المدن من يد بنهدد بن حزائيل التي أخذها من يد يهو آحاز أبيه بالحرب].

وهكذا تتقاطَع نصوص التوراة مع النصوص الآشورية والنصوص الآرامية لتثبت أن مسرح الحدث التوراتي ومسرح السجلات الآشورية كان في بلاد الشام ولا علاقة له من قريب أو بعيد بغرب العربية.

(٤) حدد نيراري الثالث

بعد شلمنصر الثالث، تتراخى قبضة آشور عن بلاد الشام مدة عشرين سنةً بسبب النزاعات الداخلية بين ورثة العرش والانشغال بالحروب ضد المناطق الشرقية. وفي عام ٨١٠ق.م. يرتقي العرش «حدد نيراري الثالث» (٨١٠–٧٨٣ق.م.) تحت وصاية أمه «شامورامات» (سميراميس عند الإغريق) نظرًا لصغر سِنِّه. وما إن يشتدَّ عوده حتى يسير في درب أسلافه نحو سورية. نقرأ على قاعدة تمثال مكسورة، عُثر عليها في «نمرود» بآشور النص الآتي:

[… ومن شاطئ الفرات أخضعت بلاد حاتي، وكل أراضي آمورو، وصور، وصيدا، وأرض عمري، وآدوم، بلاد الفلستيين Pa-la-as-tu، إلى البحر الكبير حيث تغرب الشمس. جميعهم أخضعتُ تحت قدمي وفرضتُ عليهم الجزية. سرتُ نحو بلاد دمشق، وحبست ملكها «ماري» في «دمشقي» مقر مُلكه، فغمَرَه الخوف من بهاء مولاي الإله آشور وأمسك قدمي خضوعًا لي. فتلقيت منه الجزية في قصره الملكي: ٢٣٠٠ وزنة من الفضة و٢٠ وزنةً من الذهب و٥٠٠٠ وزنةٍ من الحديد (تعداد لبقية أصناف الجزية) …]٣٥

إلا أن مَن أعاد هيبة الحُكم الآشوري فعلًا إلى مناطق نفوذِه السابقة شرقًا وغربًا كان الملك «تغلات فلاصر الثالث».

(٥) تغلات فلاصر الثالث

في سجلات «تغلات فلاصر الثالث» (٧٤٤–٧٢٧ق.م.)، تأخُذ أخبار التوراة بالتقاطُع مع النصوص التاريخية الآشُورية بشكلٍ أكثر دقة. نقرأ في نصٍّ قصير يَسرد أسماء الملوك الذين أرسلوا جزياتهم إلى ملك آشور: [تلقَّيت الجزية من «رصين» Ra-hi-a-nu ملك دمشق و«منحيم» Me-ni-hi-im-me ملك «السامرة» Sa-me-ri-na و«حيرام» Hi-ru-um-mu ملك «صور» و«سيبيتي بعل» ملك «جبيل» و«أوريكي» ملك «قوية»، و«بيسيريس» ملك «كركميش»، و«إنليل» ملك «حماة»، و«بنامو» ملك «شمأل» … ومن «زبيبه» Za-bi-be ملكة العرب].٣٦
إنَّ أسماء ممالك بلاد الشام الواردة في هذا النص جميعها، صار معروفًا لدينا عند هذه المرحلة من دراسة النصوص القديمة. ولكنَّنا نودُّ التوقُّف قليلًا عند «بنامو» ملك شمأل، لنُورد بعض النصوص الآرامية التي تأتي على ذِكر هذا الملك والتي تتقاطَع مع السجلات الآشورية. فلقد أمدَّتنا التقنيات الأثرية في «زنجرلي» على السَّفح الشرقي لجبل الأمانوس في أقصى الشمال السوري، وهي عاصمة مملكة شمأل أو يأدي، بالعديد من النصوص التي كشفت لنا عن أحوال المملكة الاجتماعية والسياسية خلال النِّصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد. و«بنامو» المذكور في النص الآشوري هو «بنامو الثاني» الذي تذكره النصوص بكلِّ إكبار وإجلال على أنه المصلح الذي أحلَّ العدل في البلاد واهتمَّ بإعادة بنائها بعد فترة من الفَوضى والاضطرابات. وكان هذا الملك، على ما تَرويه النصوص صديقًا للآشوريِّين يدفع لهم الجزية بانتظام، وعندما هاجم تغلات فلاصر الثالث دمشق، شارك بنامُو في حملته وقاتل إلى جانبه، ولكنه أصيب في المعركة ومات على ما يَذكره النص: [مات على رجلي سيده تغلات فلاصر ملك آشور في المعركة، فبكاه أقرباؤه الملوك وبكَتْه قوات سيِّده ملك آشور كلها. وأخذه سيِّده ملك آشور وأقام له نصبًا على الطريق ونُقلَ مِن دمشق إلى أرض آشور].٣٧ وقد ترك حفيد بنامو المدعو «بر راكب» (ابن راكب) نصًّا على تمثال له محفوظ الآن بمتحف إستانبول يذكر فيه جده ينامو:
[أنا «بن راكب» بن «بنامو»، ملك شمأل وعبد تغلات فلاصر ملك جهات الأرض (الأربعة). بسبب صلاحي وصلاح أبي، أحلني سيدي «راكب إيل» وسيدي تغلات فلاصر على عرش أبي، وبيت أبي قد غنم أكثر من الجميع، لقد سِرتُ في ركاب سيدي ملك آشور بين ملوك عظام يملكون الفضة ويَملكون الذهب، وأخذت بيت أبي وجدَّدته (فصار) أفضل من بيوت الملوك العظام …]٣٨

أما «منحيم» ملك السامرة المذكور في نصِّ فلاصر أعلاه، إلى جانب ملوك دويلات بلاد الشام الذين دفعُوا الجزية لآشور، فقد عاصر السنوات الأولى لحكم تغلات فلاصر، واتَّقى شرَّه بالجزية. وكان خلفه «فقح» هو الذي منع الجزية عن آشور وتمرَّد على تغلات فلاصر على ما تذكره السجلات الآشورية وأخبار التوراة. نقرأ في سِفر الملوك الثاني ١٦: ٥ [حينئذٍ صعد رصين ملك آرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم للمُحاربة، فحاصَرُوا آحاز ولم يَقدِرُوا أن يغلبوه … وأرسل آحاز رُسلًا إلى تغلت فلاصر ملك آشور قائلًا: أنا عبدك وابنك، اصعد خلِّصني من يد ملك آرام ومن يد ملك إسرائيل القائمين عليَّ، فأخَذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك آشور هديةً، فسمع ملك آشور وصعد إلى دمشق وأخذها وسباها إلى قير وقتل رصين وسار الملك آحاز للقاء تغلت فلاصر ملك آشور إلى دمشق].

وهدية آحاز المُرسلة في هذا النص إلى ملك آشور مذكورةٌ في عداد الجزيات التي يذكر نص آخر لتغلات فلاصر وصولها إلى آشور: [تلقَّيت جزية «خاشتاشبي» ملك «كوماجين» و«أوريك» ملك «قوع» و«سيبيتي بعل» ملك «جبيل» و«إنليل» ملك «حماة» و«بنامو» ملك «شمأل» … و«متان بعل» ملك «أرواد» و«سابينو بعل» ملك «بيت عمون»، و«سلمانو» ملك «موآب» و«ميتيني» ملك «عسقلان» و«آحاز» la-u-hazi ملك «يهوذا» la-uda-aa و«كوش ماليكو» ملك «آدوم»، و«هانو» ملك «غزة» Ha-za-at-aa (تعداد لأصناف الجزية)].٣٩
لقد كانت حملة تغلات فلاصر على مملكة إسرائيل بداية لنهايتها، وقد جاءت حملتُه هذه في نطاق حملة واسعة على بلاد الشام وخصوصًا دمشق التي عاضدت السامرة ضد أورشليم، حيث دمر مدنها وقُراها. وبعد دمشق انقلب إلى الساجل السوري (البحر الأعلى) هبوطًا إلى غزة التي فرَّ ملكها إلى مصر ناجيًا بحياته. أما عن ملك السامرة، فيُتابع النص: [أما منحيم، فقد هبطتُ عليه كما العاصفة الثلجية، ففرَّ وحيدًا ثم عاد فانحنى عند قدمي، أعدته إلى مكانه وفرضت عليه جزية (تعداد للأصناف المقدمة). وسقت الكثيرين من «بيت عمري» (مملكة إسرائيل) ومُمتلكاتهم إلى آشور، ثم انقلبوا بعد ذلك على ملكهم «فقح» Pa-qa-ha فأحللت بدلًا عنه «هوشع» A-u-si ملكًا عليهم، وتلقَّيت منه جزيةً (تعداد للأصناف المقدمة)].٤٠

وتتطابق هذه الرواية الآشورية في خطوطها العامة مع رواية سِفر الملوك الثاني ١٥: ٢٩–٣٠ حيث نقرأ: [في أيام فقح ملك إسرائيل، جاء تغلت فلاصر ملك آشور وأخذ عيون وآبل بيت معكه ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد والجليل وكل أرض نفتالي وسباهم إلى آشور، وفتن هوشع بن إيله على فقح بين رمليا وضرَبه فقتَله وملك عوضًا عنه].

وفي عهد هوشع تحلُّ النَّكبة الأخيرة بمملكة إسرائيل ويختفي ذكرها إلى الأبد.

(٦) صارغون الثاني

بعد تغلات فلاصر الثالث، يَعتلي العرش ابنه «شلمنصر الخامس» (٧٢٦–٧٢٢ق.م.) الذي يعزو إليه كتاب التوراة فتح السامرة وإجلاء أهلها إلى آشور، بينما تتحدَّث نصوص خليفته «صارغون الثاني» (٧٢١–٧٠٥ق.م.) عن قيامه بفتح السامرة. ويبدو أن صارغون الثاني كان قائدًا للعمليات العسكرية في فلسطين، وهو الذي أكمل ما بدأه شلمنصر الخامس وعزاه جميعًا إلى نفسه. نقرأ في نص مبكر لصارغون الثاني ما يلي: [… صارغون ملك آشور فاتح السامرة Sa-mir-i-na وكل بيت عمري (إسرائيل) Bet-hu-um-ri-a الذي غنم «أشدود» و«شينوختي» Shinuhti، وأمسك اﻟ «يماني» la-ma-ni في البحر كالسَّمك، الذي قضى على «كاسكو» و«طابالي» و«خيلاكو» الذي طارد «ميتا» ملك «موشكو» الذي قهر «مصر» في «رفح» Rapihu، الذي أخذ «هانو» ملك «غزة» غنيمةً، الذي أخضع الملوك السبعة في «يا» la بأراضي «يدنانا» la-ad-na-na على مسافة سبعة أيامٍ في البحر].٤١
إضافةً إلى السامرة وبيت عمري، التي أثبَتْنا حتى الآن أنها مملكة إسرائيل، فإنَّنا نعرف من جدول صارغون أعلاه الأسماء الآتية: أشدود وهي مدينة الفلستيِّين المعروفة على ساحل فلسطين، خيلاكو وهي كيليكيا على ساحل المتوسط الشمالي، موشكو ويغلب أن تكون بآسيا الصغرى، غزة وهي مدينة الفلستيين المعروفة في جنوب الساحل الفلسطيني، تليها رفح عند الحدود المصرية. أما «الياماني» الذين أمسكهم صارغون في البحر كالسَّمك فهم الأيونيون الإغريق، و«يدنانا» التي تقع على مسافة سبعة أيام في البحر انطلاقًا من غزة فهي قبرص.٤٢ وتعريف هذه الأماكن متَّفقٌ عليه بين جميع المؤرِّخين ودارسي النصوص الآشورية. إلا أنَّ لكمال الصليبي رأيًا مختلفًا بخصوصها.

يقول الصليبي: [إنَّ الجداول الطبوغرافية الآشورية مثل آشور بانيبال الثاني وشلمنصر الثالث وصارغون الثاني تقدم سجلات للفُتوحات في غرب شبه الجزيرة العربية وليس في الشام، ولإعطاء مثال واحد لا أكثر فإنه في الأسطر الأولى مِن جدول صارغون الثاني، يصف هذا الملك نفسَه بأنه فاتح «سا-مي-ري-نا» (سيمرن) و«بيت خو-ءم-ري يا» (خمري). وقد ساد الاعتقاد حتى الآن أن الإشارة في هذَين الاسمَين هي إلى «السامرة» (شمرون) و«بيت عمري» أي إسرائيل. وقد كانت مملكة عمري الإسرائيلية بالتأكيد في جنوب الحجاز؛ أي في عسير الجغرافية، والسامرة ما زالت هناك وتدعى «شمران» باسمها في صيغته الأصلية التوراتية بلا تغيير. لكن الإشارة في جدول صارغون الثاني ليسَت إلى السامرة وبيت عمري بل إلى منطقة جيزان حيث ما زالت هناك قرية في جبل هروب اسمها «الصرمين» وقرية أخرى اسمها «الحمراية» في وادي عقاب بناحية أبي عريش] (انظر: ص١١٦–١١٧).

ثم يتابع الصليبي العثور على أماكن بقية الأسماء الواردة في جدول صارغون الثاني أعلاه في عسير وغرب العربية، مما لا يتَّسع مجالنا هنا لإيراده. غير أننا سوف نتوقَّف عند حالتَين ممَّا ذكر، الأولى تتعلَّق «بالياماني» وهم الأيونيون الإغريق، والثانية تتعلق ﺑ «يا» Ia الواقعة في «يدنانا» التي هي قبرص فبخصُوص الياماني يقول الصليبي إنه [في النهاية الشرقية لوادي نجران اقتنص الملك الآشوري اﻟ «يا - ما - نو» كالسَّمك. والإشارة هنا هي إلى «اليمينيِّين» أي شعب الجنوب وهم «البنيامينيون التوراتيون» الذين لم يعيشوا في البحر «يم»، بل في بلاد «يام» بين وادي نجران ورمال الربع الخالي]. وفي الحقيقة، لو أنَّ الصليبي قد أورَد ذكر نص آخر لصارعون الثاني الذي يتعرَّض فيه للياماتي (هكذا وردَت في النص الآشوري) لعرفنا منه أن هؤلاء الإغريق إنما يعيشون في جزر قائمة في البحر المتوسِّط فالنص يقول: [لقد فتحت السامرة وكيل بيت عمري وأمسكت الياماني الذين يعيشُون في وسط بحر الغرب، كالسمك].٤٣ فكلمة «يامو» في هذا النص وتعني بحر بالآشورية (يم)، ويرى فيها الصليبي بلاد «يام» الصَّحراوية، لم تبقَ مُغفَّلةً بل أضيفت إلى كلمة الغرب «أمورو» بالآشورية، لتُصبح «بحر الغرب» وهي التَّسمية المعروفة في نصوص بلاد الرافدين للبحر المتوسِّط. ثم إننا بصرف النظر عن الإيضاح الذي يُقدمه النص الثاني، نسأل كيف شبَّه النص الآشوري إمساك الياماني بصيد السَّمك إذا كان هؤلاء يعيشُون في الصحراء، وإذا كان مُطاردة الآشوريين لهم تتمُّ في الفيافي والقفار؟
أما فيما يتعلق ﺑ «يا» Ia فيقول الصليبي أنها وادي «عياء» على بُعد حوالي ٢٠٠كم إلى الجنوب من «خزاعة» (وهي «غزة» المقصودة في جدول صارغون) أي على مسافة سبعة أيامٍ كما جاء في منقوشة صارغون، دون أن يتطرَّق إلى أن الجدول قد قال بنصِّه الصريح أن «يا» هذه هي مقاطعة في «يدنانا» الواقعة في البحر على مسافة سبعة أيامٍ في البحر (انظر النص أعلاه) ودون أن يتطرَّق إلى نصٍّ آخر لصارغون يَزيد على ذلك بأن «يدنانا» تقع على مسافة سبعة أيام في البحر وسط بحر الغرب: [والملوك السبعة في «يا» Ia بأراضي «يدنانا» Ia-ad-na-na التي في وسط بحر الغرب على مسافة سبعة أيام، والتي لم يَسمع بها أحد من أجدادي الملوك لبُعدها، قد عرفوا في بقعتهم النائية عما فعلت ببلاد «حاتي» وبلاد «الكلدان»، فارتجفُوا فرقًا وأرسلوا إليَّ في بابل ذهبًا وفضة …]٤٤

وفي نهاية تحليله لأسماء المواقع الواردة في جدول (صارغون الثاني) يتساءل الصليبي: [… وبوجود هذه الأسماء جميعها الواردة في جدول صارغون في غرب العربية؛ أي سبب يبقى للإصرار على الاعتقاد بأنَّ هذا الجدول يُشير إلى فتوحات آشورية في الشام وفلسطين؟] ونحن نقول إنَّ قراءة كمال الصليبي المُجتزأة والانتقائية للنصوص القديمة، وعدم تقديمه نصًّا كاملًا واحدًا منها، هو أحد أسباب الإصرار على هذا الاعتقاد.

كرَّر صارغون الثاني خبر فتح السامرة في عدة نصوص. وهو في نصٍّ أكثر تفصيلًا يقول: [لقد حاصرتُ وفتحت السامرة، وجلوت ٢٧٢٩٠ من سكانها، وجهَّزت من بينهم فصيلة بخمسين عربةً ضممتها إلى فيلقي الملكي. أما المدينة، فقد أعدتُ بناءها بأفضل ممَّا كانت، وأسكنت فيها شُعوبًا من المناطق الأخرى التي قهرتها. ثم أقمتُ عليهم ضابطًا من لدني حاكمًا عليهم، وفرضتُ عليه جزية الآشوريين].٤٥

وتتطابَق الرواية التوراتية مع النص الآشوري، وتختلفان فقط في اسم الملك الآشوري، ممَّا ألمحنا إليه أعلاه وقدمنا له تفسيرًا. نقرأ في سِفر الملوك الثاني ١٨: ٩–١١ [في السنة السابعة لهوشع ملك إسرائيل، صعد شلمنصر ملك آشور على السامِرة وحاصَرَها، وأخذها في نهاية ثلاث سنين … وسبى ملك آشور إسرائيل إلى آشور ووضعهم في حلج وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي]. ونقرأ أيضًا في الملوك الثاني ١٧: ٢٤ [وأتى ملك آشور بقَوم مِن مدن بابل وكوث وعوا وحماة وسفر وإيم وأسكنهم في مدن السامرة عِوَضًا عن بني إسرائيل، فامتلكُوا السامرة وسكنوا في مدنها].

لقد حاول الآشوريون إحداث تغييرات ديمغرافية جذرية في مناطق نفوذهم لإحكام سيطرتهم على سكانها، فعمَدوا إلى تهجير شعوب بأكملِها وزرعها في مواطن غريبة عنها، وحملوا أهل هذه المواطن فأعطوهم مناطق المُهجرين. ولم تُطبَّق سياسة التهجير هذه على أهل السامرة فحسب، بل شملتْ شعوبًا عديدة، منها شعب مملكة حماة ومملكة كركميش. نقرأ في سجلات صارغون عن ذلك ما يأتي:

[«ياوبيدي» من عامة مدينة «حماة» A-ma-at-tu حثي ملعون، جعل نفسه مَلكًا على المدينة، وحرَّض ضدي مدن «أرواد» و«سيميرا» و«دمشق» و«السامرة» فتعاوَنُوا وجهَّزوا جيشًا مشتركًا. دعوت جميع جند آشور وأطبقت عليه في «قرقرة» مدينتِه الأثيرة. ففتحتُها وأحرقتها. أما هو فقد أمسكتُ به وسلختُ جلده وقتلتُ المتمردين في مدنهم وأحللتُ النظام والسلام بها].٤٦ ويبدو أن قتل ملك حماة لم يتم عقب المعركة في قرقرة، بل في آشور التي سيق إليها مكبلًا بالأصفاد، لأننا نقرأ في نص آخر: [لقد خربتُ بلاد «حماة» كعاصفة الطوفان، وسقتُ ملكها ياوبيدي وعائلته، وكل محاربيه إلى آشور مكبلين بالأصفاد فشكَّلتُ منهم فرقةً مؤلفة من ٣٠٠ عربةٍ و٦٠٠ مقاتلٍ مجهزين بالتروس والرماح، وضممتهم إلى فرقي الملكية. ثم أسكنتُ ٦٣٠٠ فردٍ من الآشوريين في بلاد حماة، وجعلتُ عليها حاكمًا من لدني].٤٧
أما عن كركميش فنقرأ: [في السنة الخامسة لحكمي، ملك كركميش المدعو «بيصيري» حنث بالعهد والقَسَم أمام الآلهة العظام، وبعث برسالة إلى «ميتا» ملك «موشكي» مليئة بالمخطَّطات العدوانية ضد آشور. فرفعت يدي إلى إلهي آشور بالصلاة، وجعلته يَستسلِم عاجلًا مع عائلته، فخرجُوا جميعًا من كركميش، ومعهم ذهبُهم وفضَّتهم ومُمتلكاتهم الشخصية، تقدمة لي، فرميتُهم بالأصفاد. أما أهل المدينة ممَّن ثارُوا معه، فقد سُقتهم أسرى إلى آشور … ثم أحللت في كركميش سكانًا من آشور].٤٨

(٧) سنحاريب

تأتي حوليات الملك سنحاريب (٧٠٤–٦٨١ق.م.) على جانب كبير من التفصيل يماثل حوليات شلمنصر الثالث. نقرأ في أخبار حملتِه الثالثة على بلاد الشام: [في حَملتي الثالثة، توجَّهت إلى حاتي. «لولي» ملك صيدون الذي أخَذَه الخوف من هيبة جلالتي فرَّ بعيدًا عبر البحار واختفى ذكره. أما مدنه فقد تملَّكها الهلع من عظمة آشور: «صيدون الكبرى» و«صيدون الصغرى» و«بيت زيتي» Bet-Zitti و«زاريبتو» Zaribtu، و«محاليبا» Mahaliba، و«أوشو» و«أكزيب» Akzib، و«عكا» Akko. مدنه المحصَّنة المزوَّدة بالماء والطعام لحاميتِه قد خضعت تحت قدمي. أقمت على عرش صيدون المدعو «توبعلو» وفرضت عليه جزية يؤديها إليَّ، أنا سيده، كل سنة دون انقطاع].٤٩
إن حملة سنحاريب الثالثة هذه موجهة بشكل خاص نحو الساحل الفينيقي وساحل فلسطين وبلاد فلسطين الداخلية … فبعد عبور سورية الشمالية يهبط نحو البحر الفينيقي لتكون مدينة صيدون أول هدف له، وكانت صيدون في ذلك الوقت تُسيطِر على عدد كبير من مدن فينيقيا. بعد سقوط المدينة يَهرب ملكها عبر البحر، وتسقط بقية المدن الواقعة تحت سيطرتها على الساحل، نعرف منها على وجه التأكيد «أوشو» التي هي مدينة صور البرية و«زاريبتو» أو «ساريبتا» التي كشفت عنها التنقيبات حديثًا على الساحل اللبناني في مُنتصَف الطريق بين صيدا وصور، و«عكا» التي تلي صور كأول ميناء على ساحل فلسطين. وطبعًا، لا يُمكن أن تكون صيدون وجارتها الواردة في جدول سنحاريب أعلاه، هي «آل زيدان» غرب العربية في مُرتفعات جبل شهدان بأراضي جيزان الداخلية؛ لأنَّ ملك صيدون يُغادر مدينته بحرًا. ونعرف من نصٍّ آخر لسنحاريب أن وجهة ملك صيدون كانت قبرص حيث نقرأ: [ولولي ملك صيدون خاف من مواجهتي وفرَّ إلى «يدنانا» Ia-ad-na-na في وسط البحر يَطلب مخبأ، ولكن حتى هناك في تلك البلاد طالته أسلحتي وصرعته].٥٠
بعد ذلك يُتابع سجل حملة سنحاريب الثالثة سرد أخبارها فبعد سقوط صيدون ومدنها المحصَّنة: [كل ملوك آمورو جاءوا بهداياهم السخية أمامي وقبَّلوا قدمي: «مناحيم» ملك «شمسي مورونا» Samsi-Muruna «توبعلو» ملك صيدون، «أبيلتي» ملك «أرواد»، «أوروملكي» ملك «جبيل»، «ميتيني» ملك «أشدود»، «بوديولي» ملك «بيت عمون» «كاموسون» ملك «موآب»، «إبرامو» ملك «آدوم». أما «صدقيا» ملك «أشقلون» الذي لم يَخضع لي، فقد قبضتُ عليه وجلوته إلى آشور مع زوجتِه وأولاده وإخوته وكل ذكور عائلته، وأقمتُ بدلًا عنه «شارولوداري» وفرضت عليه الجزية والخنوع].

إضافة إلى ملوك الساحل الفينيقي، يأتي إلى سنحاريب ملوك دويلات الساحل الفلستي ومنها «أشقلون» وهي عسقلان الحالية ويُمكن الاطلاع على أخبارها في التوراة في يشوع ١٣: ٣؛ وصموئيل ٦: ١٧؛ والقضاة ١٤: ١٩ وغيرها من المواضع. وكذلك «أشدود»، ويُمكن الاطِّلاع على بعض أخبارها في سِفر يشوع ١٣: ٣؛ وصموئيل الأول ٥: ١–٢؛ و٣–٨. وقد كان للفلستيِّين على طول المنطقة الساحلية الفلسطينية خمس مدن رئيسية عرفنا أخبارها من أسفار التوراة ومن سجلات آشور وهي: غزة وأشدود وعسقلان وعقرون وجت. كما يأتي إلى سنحاريب ملوك من الجهة الأخرى للأردن، من «بيت عمون» وهي موطن العمونيِّين، و«موآب» موطن الموآبيين، و«آدوم» موطن الآدوميِّين. وهذه الشعوب الثلاثة مذكورة في السجلات الآشورية السابقة واللاحقة لسنحاريب، وفي أسفار التوراة عبر الكتاب، فهم الأعداء التقليديُّون ليهوذا وإسرائيل.

ثم يُتابع سنحاريب إخضاع مناطق الفلستيِّين مُتغلغلًا نحو فلسطين الداخلية: [تابعت حملتي فحاصرت «بيت داجون» و«يافا» Joppa و«بني برقة» Banai-Barqa و«أزورو» Azuru، وهي مدن تابعة لصدقيا (ملك أشقلون)، ففتحتها وحملت الأسلاب منها. أما مدينة «عقرون» فقد قام مسئولوها ووجهاؤها وعامَّتها بوضع مليكهم «بادي» في الأغلال؛ لأنه كان على العهد الذي قطعه مع آشور، وسلَّموه إلى «حزقيا اليهودي» Ha-za-qi-ia-uia-u-da-ai الذي رماه في السجن وعامله معاملة الأعداء. ثمَّ خاف (من فعلته) فدعا لمساعدته قوات مَلكَي مصر وإثيوبيا التي لا تُعدُّ. فجاءوا لمساعدته. وفي سهل «التقو» Al-ta-qu-u انتظمَت صُفوفهم ضدِّي وشحذوا أسلحتهم. بعد استخارة نبوءة الإله آشور، مولاي، هاجمتُهم وهزمتُهم. وفي غمرة القتال قمتُ بنفسي بأَسْرِ فرسان العربات وأُمرائهم من مصريِّين وإثيوبيِّين. حاصرت مدينة «التقو» و«تمنه» Ta-am-na-a وأخذتهما، وحملت معي أسلابهما. ثمَّ استبحت مدينة «عقرون» وقتلت مسئوليها ووجهاءها الذين أجرموا، وعلقتُ جُثثَهم على الأعمدة حول المدينة أما عامتها، فمَن وجدت منهم مُذنبًا أخذته أسير حربٍ ومَن وجدت بريئًا أطلقته. وأعدَّت مَلِكهم «بادي» من «أورشليم» Ur-sa-li-im-mu وأقمتُه على العرش سيدًا لهم وفرضت عليه الجزية يَدفعها لي أنا مولاه].

من المدن التابعة لأشقلون الفلستية الوارِدة أعلاه، نعرف «بيت داجون» الواردة في التَّوراة بالاسم نفسه (راجع سِفر يشوع ١٥: ٤١، و١٩: ٤٧)، كما نعرف «يافا» التي ورَدَت في السجلات المصرية بالاسم نفسه كمدينة على الساحل الفلسطيني، «وبني برقة» الواردة في التوراة تحت اسم «بني برق» (راجع يشوع ١٩: ٤٥) وهي «بني براق» اليوم على مسافة ٧ كم من يافا. أما «عقرون» مدينة الفلستيِّين الشهيرة فمعروفة جيدًا في أسفار التوراة، وفيها جرَت أحداث مهمَّة (راجع سِفر صموئيل الأول ٥: ١٠–١١؛ و٧: ١٤؛ و١٧: ٥٢؛ والملوك الثاني ١: ٢؛ وإرميا ٢٥: ١٥–٢٠) والأرجح أنها «عاقر» اليوم على مسافة ١٦ كم من يافا جنوبًا. وفي أرض يهوذا التي توجه إليها سنحاريب للانتقام من «حزقيا» ملكها الذي ارتقى العرش قبل حكم سنحاريب وعاصَرَه، فنَعرِف «التقو» التي هي «التقى» التوراتية (يشوع ١٩: ٤٠، ٤٤؛ ٢١: ٢٠، ٢٣)، وأيضًا «تمنة» (راجع يشوع ١٥: ١٠؛ والقضاة ١٤: ٢) والأرجح أنها «تبنة» اليوم جنوب مدينة الخليل وبالطبع «أورشليم» التي حبس فيها حزقيا ملك عقرون.

بعد معركة سهل «التقى» التي هزم فيها سنحاريب حزقيا ملك أورشليم وقوات المعونة التي جاءته من مصر، يُتابع النص أخبار الحملة على مدن يهوذا وصولًا إلى أورشليم: [أما حزقيا اليهودي الذي أبى الخضوع لي، فقد ألقيت الحصار على ٤٦ من مدنِه الحصينة وقلاعه المسورة، وعدد لا يحصى من القرى حولها وأخذتها، مُستعملًا المدكات والمناجيق التي قرَّبها المشاة إلى مقدمة الهجوم فأحدثوا أنفاقًا وثغرات.٥١ سُقتُ أمامي منهم الغنائم: ٢٠٠١٥٠ من الذكور ومن الإناث شيبة وشبانًا، وأَحصِنة وبغالًا وحميرًا وجِمالًا، ماشية كبيرة وصغيرة لا حصر لها. أما حزقيا نفسُه فقد صار حبيسًا في مقره الملَكي «أورشليم» كعصفور في قفص. فأحطته بالمتاريس والخنادق لحجز الفارين عند البوابات. والمدن التي أخذتها منه أعطيتها ﻟ «ميتيني» ملك «أشدود» و«بادي» ملك عقرون و«سيليبيل» ملك غزة، فأنقصت بذلك مساحة أراضيه، ورفعت فوق ذلك عليه الجزية التي تُؤدَّى لي، أنا سيده، بما يفوق الجزية السابقة، تُسلَّم سنويًّا. لقد غمَره الخوف من رهبة جلالتي، والقوات التي أتى بها إلى أورشليم لمعاونته قد اختلت صفوفها وتركته. فأرسل إليَّ في نينوى عاصمة ملكي ثلاثين وزنةً من الذهب و٨٠٠ وزنةٍ من الفضة، وأحجارًا كريمة، وكميات من الإثمد وقطع الصخر الأحمر، ومقاعد وكراسي مزينة بالعاج، وجلود الفيلة، وخشب الأبانوس، وصناديق خشبية، وكل أنواع النفائس. كما أرسل إلى بناتِه ومحظياته وموسيقيِّيه من بنات وشبان].

وهكذا تنتهي حملة سنحاريب على مملكة يهوذا، بعد أن أخذ مدنها وقُراها جميعها عدا أورشليم التي صمَدت أمام الحصار، فتركها بعد أن ملَّ مِن حصارها مُكتفيًا بالجِزية التي فرَضها على حزقيا وبالهدايا التي وعد بإرسالها إلى نينوى. غير أنَّ الرواية التوراتية تعزُو تراجُع سنحاريب إلى تدخل من إله اليهود الذي أرسل على الآشوريين وباءً صرَع منهم عشرات الألوف. وتتطابَق الرواية الآشورية في خُطوطها العامة مع الرواية التوراتيَّة؛ حيث نقرأ: [وفي السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا، صعد سنحاريب ملك آشور على جميع مدن يهوذا الحصينة وأخذها. وأرسَلَ حزقيا ملك يهوذا إلى ملك آشُور يقول قد أخطأت، ارجع عنِّي ومهما جعلت على حملته. فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا ٣٠٠ وزنة مِن الفضَّة وثلاثين وزنةً من الذهب] الملوك الثاني: ١٨: ١٢–١٥. كما نعرف عن استعانة حزقيا بالقُوَّات المصرية من كلام رسول سنحاريب عند أسوار أورشليم الذي يهزأ بمصر وفرعَونها، والذي أرسل نجداته إلى حزقيا: [فقال لهم «ربشاقي» قولوا لحزقيا، هكذا يقول الملك العظيم ملك آشور … والآن على مَن اتكلت حتى عصيت علي. فالآن هوذا، قد اتكلَّت على عُكَّاز هذه القصَبة المرضوضة، على مصر التي إذا توكَّأ عليها أحد دخلَت في كفَّة وثقبتها، هكذا هو فرعون مصر لجميع المتَّكلين عليه] (الملوك الثاني ١٨: ١٩–٢١).

(٨) أسر حادون

بعد فترة الاضطرابات والصراع على العرش، مما تلا مَقتل سنحاريب على يد أحد أبنائه، صعد إلى العرش أسر حادون ابن سنحاريب (٦٨٠–٦٦٩ق.م.)، وعمل فورًا على إخماد الثورات التي اندلَعَت في بلاد الشام. نقرأ في نص حملته على فينيقيا ما يأتي: [أنا أسر حادُون فاتح صيدون التي عند البحر. لقد سوَّيت بالتُّراب أبنيتَها المُشيَّدة ورمَيت بأنقاض سورها وأساساتها إلى البحر، ومحوت المكان الذي قامَت عليه. أما ملكها «عبدي ملكوتي» فقد أمسكت به كالسَّمَكة عندما هرَب إلى عرض البحر أمام هجومي وقطعت رأسه. ثم حملت معي الكثير من مُمتلكاته المكدسة: ذهبًا وفضة وعاجًا وأبانوسًا وجلود فيلة … وسُقت حشودًا من شعبه أمامي إلى نينوى، وسُقت المواشي كبيرها وصغيرها والحمير. ثم دعوت كل ملوك «حاتي» وبلاد شاطئ البحر، وجعلتهم على أعمال السُّخرة من أجل بناء مقرٍّ جديد لي (مدينة) أسميتُها «كار أسر حادون»، أحللت فيها سكانًا من المناطق الجبلية ومن شاطئ البحر].٥٢

وهكذا، فنحن مرةً أخرى مع الجيش الآشوري في «حاتي» (سورية) وعلى الشاطئ الكنعاني، وليس في غرب العربية، وها هو يأتي بملوك دويلات بلاد الشام إلى آشور يَحملون معهم من مواطنهم المواد اللازمة لبناء قصر له:

[دعوتُ إليَّ ملوك بلاد «حاتي» على الجهة الأُخرى للنهر «بعلو» ملك «صور» و«منسي» Me-na-si-i ملك «يهوذا» la-u-di و«قوش غابري» ملك «آدوم» و«موصوري» ملك «موآب» و«سلبيل» ملك «غزة» و«ميتيني» ملك «أشقلون» و«إيكوسو» ملك «عقرون» و«ملكي آشابا» ملك «جبيل» و«ميتان بعل» ملك «أرواد» و«آبي بعل» ملك «شامسي مورونا» و«بودويل» ملك «بيت عمون» و«آهي مكي» ملك «أشدود» … كل هؤلاء أرسلتُهم إلى نينوى مقرِّ حكمي، وجعلتُهم يَنقُلون إليها تحت أقسى الظروف مواد بناء لقَصري: جذوعًا ودعائم وألواحًا من خشب الأرز والصنوبر، مما تَفيض به جبال «لبنان» و«سرارا» (و… تعداد لمواد أخرى)].٥٣

وبذلك نال ملوك دويلات الطوائف في بلاد الشام أقسى جزاء لهم ولشُعوبهم التي لم تَعرِف قطُّ الدولة المركزية الواحدة. و«منسي» ملك يهوذا الوارد في النصِّ أعلاه هو ابن الملك حزقيا الذي حاصَرَه سنحاريب في أورشليم. وقد أوردت الرواية التوراتية خبر نفْيه من قِبَل ملك آشور في سِفر أخبار الأيام الثاني ٢٣: ٩–١٢ حيث نقرأ: [… ولكن منسي أضلَّ يهوذا وسكان أورشليم ليَعمَلُوا أشرَّ من الأمم الذين طردهم الرب من أما بني إسرائيل، وكلَّم الرب منسي وشعبه فلم يُصغُوا، فجلب عليهم رؤساء الجند الذين لملك آشور، فأخذوا منسي بخزَّامة وقيَّدُوه بسلاسل من نحاسٍ، وذهبوا به إلى بابل].

ولدينا من عصر أسر حادون عدَّة نصوص تتعلَّق بمُعاهَدات أبرَمَها مع بعض ملوك الدُّويلات التابعة، أهمها مُعاهدته مع ملك صور الفينيقية والتي تُظهِر بنودُها أن صور ليسَت «زور الوادعة» في منطقة نجران المُجاوِرة للصحراء العربية الداخلية، بل هي صور الكنعانية الواقعة على البحر المتوسط. ومِن هذه البنود:

إذا تحطَّمت سفينة تخصُّ «بعل» أو أحد أهالي «صور» على شاطئ بلاد الفلستيِّين، أو في أيِّ مكان على حدود المناطق الآشورية، فإن كل ما فيها يغدُو ملكًا لأسر حادون ملك آشور، لا يمسُّ أحدٌ بأذًى أيًّا مِن ملاحيها، بل يتوجَّب عليهم إرسال قائمة بأسمائهم إلى ملك آشور ١١٠.

وفي عهد أسر حادون، قامت آشور لأول مرَّة بإخضاع مصر، واجتاحت الجيوش الآشورية كامل الأراضي المصرية وما يَليها من بلاد النوبة، وعيَّنتُ حكامًا محليِّين في المدن والأقاليم تابِعين مُباشَرة للملك الآشوري. ولقد كتبت آشور بذلك السطور الأولى في قصة نهايتِها، وأمضَت ما تبقَّى لها مِن وقتٍ قصير في مُحاوَلات مُستحيلة للسيطرة على رُقعة واسعة من أراضي الشعوب المغلوبة، لم يُقيِّض لها ضبطها وتنظيمها ضمن إمبراطورية شائخة تسير نحو نهايتها المحتومة.

(٩) آشور بانيبال ونهاية الإمبراطورية الآشورية

ورث آشور بانيبال (٦٦٨–٦٣٣ق.م.) عن أبيه سنحاريب إمبراطوريةً تموج بالفِتَن والثورات. فقد اضطرَّ لإخضاع مصر مرةً أخرى بعد أن عم التمرُّد أرجاءها، وعاد إليها أكثر مِن مرة بسبب نكوص الأمراء المحليِّين عن عهودهم معه. وفي أثناء ذلك، كان يُؤدِّب في طريقه المُتمرِّدين من ملوك بلاد الشام. نقرأ في أخبار حملته الثالثة.

[في حملتي الثالثة، وجَّهت قوَّاتي ضد «بعلي» ملك صور الذي يعيش على جزيرة في البجر؛ لأنه لم يَعبأ بأَوامِري. أحطتُه بالمتاريس وقطعت عليه الطرُق في البرِّ والبحر، فأنضبتُ مواردهم الغذائية وأجبرته على الخضوع، جلب إليَّ ابنتَه وبنات إخوته ليؤدِّين الخدمة الوضيعة لي، كما جلب إليَّ ابنه الذي كان لم يركب البحر بعد ليكون لي عبدًا. فتلقَّيتُ منه ابنته وبنات إخوته ورددتُ إليه ابنه شفقةً عليه. (وعندها) «ياكينلو» ملك «أرواد» الذي يعيش أيضًا في جزيرة والذي تمرَّد على ملوك أسرتي، خضع إليَّ، وأرسل ابنتَه إلى نينوى ومعها دوطة ثمينة لتُؤدِّي الخدمات الوضيعة في قصري، وقبَّل قدمي].٥٤

(١٠) نبوخذ نَصَّر والدولة البابلية الجديدة

بعد آشور بانيبال، بدأت بالتوضح عوامل انحلال المجتمَع العسكري الآشوري التي كانت تعمل في الخفاء خلال أكثر من قرن. ذلك أن المظهر البراق للقوة التي لا تهزم يُخفي وراءه عملية انتحار بطيء تُقدِم عليه المجتمعات العسكرية وهي مُنساقة وراء نشوة انتصاراتها المُتواصِلة. ولم يكن إجهاز الكلدانيِّين الذين أقاموا الدولة البابلية الجديدة على آشور سوى ضربة أخيرة إلى جثَّة داخل درع سميك، على حدِّ تعبير المؤرِّخ آرنولد توينبي، المصيب. فبعد وفاة آشور بانيبال وقعت بابل تحت سلطان «نابو بولاصر» الكلداني الذي ردَّ عن بابل آخر عدوان آشوري عام ٦١٥ق.م. وفي تلك الأثناء كان حلفاؤه الميديون قد توجهوا لنصرته من إيران فدمروا مدينة آشور عام ٦١٤ق.م.، ثم تعاون الحلفاء معًا فزحفوا إلى نينوى ودمروها وتقاسموا ممتلكاتها.

(١١) نبوخذ نَصَّر ودمار أورشليم

حافظ «نبوخذ نَصَّر» الملك الثاني للمَملكة البابلية الجديدة على المقاطعات التي ورثها أبوه نابو بولاصر من الآشوريين غربي الفرات، واصطدم مع «نخو الثاني» فرعون مصر المُوالي للآشوريِّين عند الفرات، وألحق به هزيمةً ساحقة عام ٦٠٥ق.م. وطارَد المصريِّين إلى حدودهم دون أن يُفكِّر باجتياح مصر نفسها، فقضى بذلك على آمال المصريِّين في الحصول على جزء مِن تركة آشور.

لم تترك لنا الدولة البابلية الجديدة سجلات تفصيلية عن حملاتها في بلاد الشام. ولعلَّ سجلَّ حملة نبوخذ نَصَّر على أورشليم ومملكة يهوذا مثال على ذلك.

[في السنة السابعة، الشهر … قاد ملك آكاد جيوشه نحو بلاد حاتي، فحاصَرَ مدينة «يهوذا» Ia-a-hu-du وفتَحها في شهر آذار وأقام عليها ملكًا جديدًا اختاره، وأخذ منها جزية كبيرة حمَلها إلى بابل].٥٥ وكانت هذه الحملة التي تمَّت عام ٥٨٧ق.م. النهاية الأخيرة لمملكة يهوذا. فإضافة إلى مدينة أورشليم نفسها، فقد تتبَّعَت التنقيبات الأركيولوجية الخراب الذي حلَّ ببقية مدن يهوذا التي تهدمت في أوائل القرن السادس قبل الميلاد وانقطع فيها الاستيطان البشري قرابة قرنٍ من الزمان.٥٦

ويبدو من أخبار التوراة أن نبوخذ نَصَّر قد اجتاح مملكة يهوذا على مرحلتَين تفصل بينهما قرابة عشر سنوات، في حملته الأولى اكتفى بتغيير الملك وقبض الجزية وسبى الكثيرين مِن أهلها، وفي حملته الثانية قام بتدمير المدينة وسبى كلَّ أهلها عدا أفقر الناس والمُشرَّدين ممَّن لا نفع له فيهم. نقرأ عن حملته الأولى في سفر الملوك الثاني ٢٤:

[كان «يهوياكين» ابن ثماني عشرة سنةً حين مَلَك، ومَلَك ثلاثة أشهر في أورشليم … وعمل الشر في عينَي الرب حسب كل ما عمل أبوه في ذلك الزمان صعد نبوخذ ناصر ملك بابل إلى أورشليم، فدخلت المدينة تحت الحصار، وجاء نبوخذ ناصر ملك بابل على المدينة وكان عَبيدُه يُحاصرونها، فخرج يهوياكين ملك يهوذا إلى ملك بابل هو وأمه وعبيده ورؤساؤه وخصيانه، وأخذه ملك بابل في السنة الثانية من ملكه، وأخرج من هناك خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك جميعها وكسر آنية الذهب كلها التي عملَها سليمان ملك إسرائيل في هيكل الرب كما تكلَّم الرب. وسبى أورشليم كلها، والرؤساء كلهم، وجبابرة البأس جميعهم، عشرة آلاف مسبي والصناع والأقيان جميعهم. لم يبقَ أحد إلا مساكين شعب الأرض، وسبى يهوياكين إلى بابل … وملَّك مَلِكُ بابل «متينا» عمَّه عوضًا عنه وغيَّر اسمه إلى «صدقيا»].

ولكن صدقيا ما لبث أن تمرَّد على بابل، وفي السنة التاسعة لحُكمِه: [جاء نبوخذ ناصر ملك بابل، هو وجيشه كله على أورشليم ونزل عليها وبنوا أبراجًا حولها، ودخلت المدينة تحت الحصار إلى السنة الحادية عشرة للملك صدقيا، وفي تاسع الشهر اشتد الجوع في المدينة، ولم يكن خبز لشعب الأرض، فثُغِرَت المدينة وهرب رجال القتال جميعهم ليلًا من طريق الباب بين السورَين اللذَين نحو جنة الملك. وكان الكلدانيُّون حول المدينة مُستديرين فذهبوا في طريق البرية، فتتبَّعت جيوش الكلدانيين الملك فأدركوه في برية أريحا وتفرَّقت جيوشه جميعها عنه، فأخذوا الملك وأصعدوه إلى ملك بابل إلى «ربلة» وكلَّموه بالقضاء عليه، وقتلوا بني صدقيا أمام عينَيه وقلعوا عينَي صدقيا وقيَّدوه بسلستَين من نحاس، وجاءُوا به إلى بابل … (ثم) جاء «نيوزرادان» رئيس الشرط عند ملك بابل إلى أورشليم وأحرق بيت الرب وبيت الملك وبيوت أورشليم كلها، وبيوت العظماء كلها أحرقها بالنار، وأسوار أورشليم هدمها جميعها. وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة والهاربون الذين هربوا إلى ملك بابل وبقية الجمهور سباهم «نبوزرادان» رئيس الشرط. ولكن رئيس الشرط أبقى من مساكين الأرض كرَّامين وفلاحين … فسُبيَ يهوذا من أرضه] (سِفر الملوك الثاني: ٢٥).

وهكذا انتهَت مملكة يهوذا بعد أن عاشت قرابة قرنٍ ونصف بعد دمار مملكة إسرائيل.

غير أنَّ المملكة البابلية الجديدة لم تعمر طويلًا. وقبل انقضاء القرن السادس قبل الميلاد كانت خارطة توزُّع القوى في الشرق القديم قد تبدَّلت بسبب ظُهور قوة جديدة لم يحسب لها حساب هي قوة الفرس أقرباء الميديين الذين ساهمُوا في تحطيم آشور. ففي سنة ٥٤٧ق.م. أكمل «قورش الثاني» ضم كامل بلاد إيران إلى مملكتِه، وفي سنة ٥٣٩ق.م. انتصر على الإمبراطورية البابلية الجديدة (الكلدانية) وضمَّها إلى مُلكِه، بما في ذلك البلاد الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات. ثمَّ استعاد ابنه «قمبير» من بعده كامل تركة آشور؛ وذلك باحتلال مصر. وفي عهد «داريوس الأول» خليفة قمبيز بدأت حركة المد والجزر بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية المتمثِّلة باليونان الفتية، حيث شنَّ حملة بحرية غير حاسمة على بلاد اليونان. وعندما تُوفِّي، كانت الإمبراطورية الشرقية تمتد من وادي نهر السند شرقًا إلى حدود اليونان غربًا، ومن سفوح جبال القوقاز شمالًا إلى شماليِّ الشلال الأول على نهر النيل في أعماق أفريقيا.

(١٢) نتائج وتساؤلات

لقد أثبتَت دراستنا العِلمية للسجلات الآشورية، بما لا يدع مجالًا للشك، أنَّ هذه السجلات مَعنية بمناطق بلاد الشام حصرًا، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بمناطق غرب شبه الجزيرة العربية، وأن ممالك دمشق وحماة الآرامية، وصيدون وجبيل وصور وأرواد الفينيقية، والسامرة وأورشليم الكنعانية، الوارد ذكرها في التوراة وفي سجلات آشور هي ممالك بلاد الشام، وليسَت ممالك عسير وغرب العربية.

ولقد كان للآشوريِّين غزواتٌ موجَّهةٌ نحو جزيرة العرب كما هو واضح مِن سجلاتهم، ولكن أخبار حملاتهم تلك تُوضِّح وبصريح العبارة أنها كانت موجهةً ضد القبائل التي أطلقوا عليها اسم «أريبو» Aribu أي العرب. ولا نستطيع، في سجلات بابل وآشور كلها، أن نجد تلميحًا واحدًا إلى حملة موجَّهةٍ ضد «يهوذا» و«إسرائيل» قائمتَين في غرب العربية، فإذا كان لمثل هاتَين المملكتَين وجود هناك، لنُوجب أن تكون الحملة عليهما استمرارًا لحملة ما على بلاد العرب، مما لا نستشفُّه تلميحًا أو تصريحًا في تلك السجلات.
ولعلَّ أول ذِكر للعرب ورَد في سجلات شلمنصر الثالث، عندما شارك «جنديبو» العربي مُتحالفي «قرقرة» في تصديهم للآشوريِّين، مما فصَّلناه في الحديث عن معركة قرقرة. ويبدو أنَّ القبائل العربية المتجوِّلة بين بادية الشام وشمال العربية والمتحكِّمة بطرق التجارة البرية مع بلاد الشام، قد هبَّت في ذلك بزعامة جنديبو للدفاع عن مصالحها التي ضرَبها التوسُّع الآشوري، ووجدت في حِلف قرقرة سبيلها إلى ذلك. ومنذ ذلك الوقت تتواتَر أخبار العرب وبلادهم في السجلات الآشورية؛ ففي نصٍّ لتغلات فلاصر الثالث أوردناه سابقًا هناك ذِكر لمَلِكة عربية اسمها «زبيبة» قدَّمت لهم الجزية. وقد تكون هذه الملكة هي الأصل التاريخي للروايات العربية المُتواتِرة عن ملكة اسمها «الزبَّاء».٥٧ وفي نصٍّ آخر لتغلات فلاصر الثالث يقوم بالالتفات إلى بلاد العرب بعد انتهاء حملة له في بلاد الشام أخضع فيها عددًا من الممالك:
[أما «شمسة» ملكة العرب فقد قتلتُ من أتباعها ١١٠٠ رجلٍ وأخذتُ ٣٠٠٠٠ جملٍ، و٢٠٠٠٠ رأس ماشية و٥٠٠٠ صندوق من التوابل و١١طاسة مُكرسة لآلهتها. أما هي فقد هربت بحياتها إلى مدينة «بازو» في إقليم العطش كحمار وحشٍ برِّي. وأهل معسكرها لما أضناهم الجوع قد … ولكنَّها عادت بعد أن أدركت مدى جبروتي وقوتي، وجلبت إليَّ جمالًا ذكورًا وإناثًا … أما أهل «مسعاي» و«تيما» Tema و«حطيا» Hattia، وأهل «إيدي بعل» Idiba’leans، و«السبئيون» وأهل «حيابا» Haipaa و«بادانا» Badana من أقاليم الغرب التي لم يَسمع بها أو يعرف بلادها أحد. فقد سمعوا أخبار سُلطتي وخضعوا لحُكمي، وجلبوا إليَّ جميعًا الجزية …]٥٨

من هذا النَّصِّ ومِن أشباهه نستطيع التوكيد على أن الحملات الآشورية كانت موجهةً ضد القبائل العربية المقيمة أو المتجولة بين بادية الشام والمناطق الشمالية من شبه الجزيرة العربية، وبين ضفاف الفرات الأدنى وصحراء النقب، وأنها لم تتوغَّل كثيرًا إلى أعماق بلاد العرب.

وعلى سبيل المثال نقرأ في سجلِّ حملة نبوخذ نَصَّر على بلاد العرب ما يلي: [في السنة السادسة عشرة، قاد ملك أكاد جيشه إلى بلاد حاتي، ومِن هناك وجَّه قواته فأغارت على الصحراء وأخذ جزيةً كبيرة من بلاد العرب، وأخذ قُطعانهم وتماثيل آلهتهم بأعداد كبيرة وفي شهر آذار عاد الملك إلى بلاده].٥٩
figure
خارطة الشرق الأدني.

لقد حمل الآشوريُّون على بلاد العرب، وأخبار حملاتهم تلك مُتوفِّرة لدينا في حوليات الملوك وفي رسوم نابضة تُمثِّل الأسرى من العرب وقد سبقُوا إلى آشور مع جمالهم بثيابِهم المميزة. أما القول بأنَّ الحوليات الآشورية إنما تُؤرِّخ لحملات في غرب شبه الجزيرة العربية، فباطل في رأينا بطلانًا مُطلقًا.

وأخيرًا، هناك مشكلة تاريخية كبيرة تَنتظِر من كمال الصليبي ومن يُبشر بنظريته، حلًّا لها، وهي ليسَت أبدًا بالمشكلة السَّهلة، فإذا كانت السجلات التاريخية المصرية والآشورية كلها معنيَّة بغرب العربية وأنها فُهمت خطأ على أنها معنية ببلاد الشام، فأين إذن السجلات المتعلِّقة ببلاد الشام التي شكَّلت في الألف الثاني قبل الميلاد مسرح تنازُع بين مصر والحيثيِّين، وكانت خلال الألف الأول قبل الميلاد مَعبرًا لبابل وآشور نحو مصر والجزيرة العربية؟ ألم تَقُم مملكة آشور، التي بنَت إمبراطورية واسعة مُترامية الأرجاء مؤسَّسة على الحرب، بأيَّة حملة على بلاد الشام؟ إذا كان الجواب نعم، فأين سجلات تلك الحملات الآشورية؟ لقد قام ملوك آشور بتسجيل أخبار حملاتهم بدرجة لا بأس بها من الدقة والتفصيل، فكيف تسنَّى لهم أن يُغفِلوا تدوين أخبار حملاتهم في بلاد الشام وهي المجال الحيوي الحقيقي لبلاد الرافِدين؟ لقد كان على كل حملة آشورية أن تجتاز بلاد الشام وتَصطدِم بالممالك الآرامية والكنعانية القائمة آنذاك قبل وصولها إلى غرب العربية، فلماذا اختار الآشوريُّون تسجيل أخبار حملاتهم في مراحلها الأخيرة عند غرب العربية؟ كيف تمَّ إخضاع مصر منذ عهد أسرحادون دون المرور بسوريا؟ ومصر الفرعونية، هل كانت تتنازع مع حثيي الأناضول على مناطق عسير وتترك لهم الحبل على غاربه في المقاطَعات السورية، قبل ظهور القوة الآشورية على المسرح الدولي؟ وأخيرًا كيف اتَّفقَت السجلات المصرية والآشورية والبابلية على الصمت المطبق عن علاقات مصر وبلاد الرافدين مع الحضارة الثالثة الواقعة بينهما: سورية؟

١  أرنولد توينبي، تاريخ البشرية، ترجمة د. نقولا زيادة، الأهلية، بيروت ١٩٨١م، ص٧٤–٧٦.
٢  (إنسي) هو لقب ملوك الدويلات السومرية. ويعني الملك – الكاهن.
٣  Leo Oppenheim, Babylonian and Assyrian Historical Texts (in: J. Pritchard’s Ancient Near Eastern Texts, Princeton, 1969), p. 267.
٤  أندريه بارو، ماري، ترجمة: رباح النفاخ، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ١٩٧٩م، ص١٧٤.
٥  المرجع نفسه، ص١٦٩–١٧٥.
٦  Paolo Matthiae, Ebla, Hodder and Stoughton, London, 1980, pp. 47, 169, 167, 176.
٧  Leo Oppenheim, op. cit., p. 268.
٨  أرنولد توينبي، المرجع أعلاه، ص٩٣–٩٤.
٩  Leo Oppenheim, op. cit., p. 275.
١٠  يقع تل الكزل في سهل صافيتا الساحلي على بُعد ٢٨كم إلى الشرق من طرسوس على الضفَّة اليُمنى لنهر الأبرش، وقد بقي اسم الموقع القديم سيميرا محفوظًا في مُسمَّيات منطقة الكزل. فهذه المنطقة تُسمَّى أرض سيمريان، يحدها من الشمال نهر سيمريان وقرية صغيرة في سفح المرتفعات تُسمى سيمريان. انظر: دراسة «جوزيت الأيي» عن تل الكزل، تعريب: الدكتور عدنان البني في مجلة الحوليات الأثرية السورية المجلد السادس والثلاثون ١٩٨٦–١٩٨٧م، ص١٠١.
١١  Ibid., pp. 275–76.
١٢  James Muhly, End of Bronze Age (in: Ebla to Damascus, Edited by H. Weiss, Smithsonian Ins., 1985), p. 265.
١٣  اللوفية هي لغة هندوأوروبية تُكتب بالطريقة الهيروغليفية المصوَّرة وكانت في بلاد الحيثيين بالأناضول ومناطق نفوذهم.
١٤  الدكتور علي أبو عساف، الآراميون، دار أماني، سورية ١٩٨٨م، ص٣٤–٣٩. وانظر أيضًا: Eva Strommenger, Til Barsip (in: Ebla to Damascus), op. cit., p. 330.
١٥  الدكتور علي أبو عساف، الآراميون، المرجع السابق، ص٤٦.
١٦  Leo Oppenheim, op. cit., p. 276.
١٧  الدكتور علي أبو عساف، الآراميون المرجع السابق، ص٤٠.
١٨  Eva Strommenger, Assyrian Domination, in: Ebla to Damascus, op. cit., p. 325.
١٩  الدكتور علي أبو عساف، محاضرة ألقيت في «معهد غوته» بدمشق شتاء ١٩٨٨م.
٢٠  الدكتور علي أبو عساف، الآراميون، المرجع السابق، ص٣٩–٤٥، ٩٤.
الدكتور علي أبو عساف، آثار الممالك القديمة في سورية، وزارة الثقافة، دمشق ١٩٨٨م، ص٤٧٣.
٢١  يقع الموقع القديم لقرقرة إلى الجنوب من بلدة جسر الشغور الحالية.
٢٢  Leo Oppenheim, op. cit., pp. 278–279.
من أجل تهجئة ولفظ الأسماء الواردة في المقطع الخاص بمعركة قرقرة، راجع الدكتور علي أبو عساف: الآراميون، المرجع أعلاه، ص٥٥.
٢٣  الدكتور علي أبو عساف، الآراميون، المرجع السابق، ص٣٥.
٢٤  المرجع نفسه، ص٥٣–٥٤.
٢٥  H. Sader, Les Etats Arameens de Syrie Depuis Leur Fondation Jusqu'à Leur Transormation en Provinces Assyriennes (1984) Dissertation, p. 223.
٢٦  علي أبو عساف، الآراميون، المرجع السابق، ص٥٥.
٢٧  Leo Oppenheim, op. cit., p. 280.
٢٨  Harvey Weiss, Ebla to Damascus, Smithsonian Inst., Washington DC, 1985, pp. 263–345.
٢٩  بالآرامية بر حدد، حيث «بر» تعني ابن.
٣٠  Franz Rosenthal, Canaanite and Aramaic Inscriptions (in: Ancient Near Eastern Texts), op. cit., pp. 655–56.
٣١  الدكتور علي أبو عساف، الآراميون، المرجع السابق، ص٥٧–٥٨ انظر أيضًا: Paolo Matthiae, Ebla, op. cit., p. 40.
٣٢  الدكتور علي أبو عساف، آثار الممالك القديمة في سورية، المرجع السابق، ص٤٧٨.
٣٣  Leo Oppenheim, op. cit., p. 280.
٣٤  Ibid., p. 281.
٣٥  Ibid., pp. 281–282.
٣٦  Ibid., p. 283.
٣٧  الدكتور علي أبو عساف، الآراميون، المرجع السابق، ص١٢٥.
٣٨  Franz Rosenthal, op. cit., p. 655.
للمقارنة راجع أبو عساف، الآراميون، المرجع السابق، ١٢٧.
٣٩  Leo Oppenheim, op. cit., pp. 281–282.
٤٠  Ibid., pp. 288–284.
٤١  Ibid., p. 284.
٤٢  Ibid., p. 284.
٤٣  Ibid., p. 284.
٤٤  Ibid., p. 284.
٤٥  Ibid., p..
٤٦  Ibid., p. 285.
٤٧  Ibid., p. 284.
٤٨  Ibid., p. 285.
٤٩  Ibid., p. 287.
٥٠  Ibid., p. 288.
٥١  أدوات الحصار التي يُوردها النص وطريقة استخدامها غامضة. وقد حذفت ما أضافه صاحب النص السيد أوبنهايم بين أقواس ليستقيم له المعنى؛ لأنه بدون هذه الإضافات يغدو تركيب الحملة الآشورية أقرب إلى العربية.
٥٢  Ibid., p. 290.
٥٣  Ibid., p. 291.
٥٤  Leo Oppenheim, op. cit., pp. 295–296.
٥٥  Ibid., p. 564.
٥٦  Kathleen Kenyon, Digging Up Jerusalem, E. Benn LTD, London, 1976, pp. 166–172.
٥٧  والروايات العربية لا تربط بين الزباء ومملكة تدمر في بلاد الشام.
٥٨  Leo Oppenheim, op. cit., p. 284.
٥٩  Ibid., p. 564.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤