الفصل الأول

بئر السبع والبحث عن جرار

لقد اختار كمال الصليبي كما ألمَحنا سابقًا، لدعم وجهة نظره في علم آثار فلسطين موقعين ثانويين جدًّا، سواء من منظور الحدث التوراتي، أم من منظور علم الآثار، الأول «بئر السبع» والثاني «جرار».

فيما يتعلق ببئر السبع يقول الصليبي: [… وفي حالة بارزة هي حالة بئر السبع الفلسطينية، فإنَّ بلدة يظهر اسمُها ببروز في الروايات الآبائية لسِفر التكوين، وبالتالي يُفترض أن تعود أصولها إلى أَواخِر العصر البرونزي على الأقل، لم يُعثَر فيها إلا على مواد أثرية تعود بتاريخها إلى المرحلة الرومانية على أبعد حدٍّ. وقد اضطرَّ علماء الآثار في السنين الأخيرة إلى التنقيب على بُعدِ خمسة كيلومترات تقريبًا عن بئر السبع للعثور على مواد أثرية يعود عهدها إلى زمن التوراة، دون أن يَعثُروا على أيِّ برهان قاطع بأن لهذه المواد أقل علاقة بالتوراة أو بتاريخ بني إسرائيل] (ص٥١).

وفي الحقيقة، فإنَّ موقع بئر السبع لم يكن أبدًا من المواقع التوراتية البارزة، ولم يَرتبِط بأيِّ حدث توراتي مُهم. ففي عصر الآباء، لم يكن سوى بئر حفرها إبراهيم، ثم جدَّد إسحاق حفرها بعد أن رُدمت (راجع سِفر التكوين ٢١: ١٤–٣١؛ ٢٦: ١٨–٣٥). وقد مرَّ بالموقع بعد ذلك يعقوب في طريقه إلى مصر (التكوين ٤٦: ١–٥) وفي سِفر يشوع الذي يصف الاستيلاء على أرض كنعان، يأتي ذِكر الموقع عرضًا في جملة ما أعطي لبسط يهوذا (يشوع ١٥: ٢٨) وفي سِفر القضاة وصموئيل الأول والثاني، يذكر الموقع باعتباره الحد الجنوبي لأرض الإسرائيليين، دون أي تفصيلات أخرى حوله (القضاة ٢٠: ١؛ صموئيل الأول ٣: ٣٠؛ صموئيل الثاني ٣: ١٠).

وكذلك الأمر في بقية الأسفار التي تذكر الموقع دون أن تَربطه بأي حدث ذي قيمة (راجع الملوك الأول ٤: ٣٥ و١٩: ٣؛ الملوك الثاني ١٢: ١٠ و٢٣: ٨؛ أخبار الأيام الأول ٤: ٢٨ و٢١: ٢؛ أخبار الأيام الثاني ١٩: ٤، و٢٤: ١؛ نحميا ١١: ٢٧ و٣٠). فالمكان لم يكن أكثر من تجمُّع سكني بسيط حول بئر قديمة تقف عنده القوافل في طريقها إلى مصر. ثم تحوَّلت إلى مدينة صغيرة مع تكون المملكة الموحَّدة إبَّان القرن العاشر. أما عن قول الصليبي [بأنَّ المُنقِّبين لم يَعثُروا في الموقع إلا على موادَّ أثرية تعود بتاريخها إلى المرحلة الرُّومانية على أبعد حدٍّ، ممَّا اضطرَّهم إلى التنقيب على بُعد خمسة كيلومترات من المَوقِع للعثور على موادَّ ترجع في تاريخها إلى زمن التوراة]. فإنَّ ما يَعرفه أي مطَّلع على علم الآثار هو أن المواقع القديمة كثيرًا ما تغيَّر مكانها بمرور الأيام نتيجة هجرانها وإعادة بنائها بعد فترة انقِطاعٍ قد تدُوم بضعة عقود أو بضعة قرون، أو لنتيجة عوامل أخرى مُتعدِّدة. ومَوقع بئر السبع في صحراء النقب ليس الوحيد الذي غيَّر موضعَه على مرِّ الأزمان. فموقع «جرابلس» اليوم، الذي كان يُعرَف باسم «جيرابيس» في الفترات السابقة١ قد انزلق مسافةً لا تقلُّ عن خمسة كيلومترات عن الموقع الأصلي لمدينة «كركميش» القديمة على الفرات في أقصى الشمال السوري. و«تل بلاطة» الذي عثر عليه تحت مدينة «شكيم» الكنعانية في فلسطين، يقع على بعد ثلاثة كيلومترات من مدينة «نابلس» الحديثة. ومدينة «أورشليم» الكنعانية اليبوسية البالغة القدم، لم يَعثُر عليها المُنقِّبون إلا بعد أن تحوَّلوا عن الموقع الحديث لمدينة القدس، وبدءوا بالتنقيب خارج الأسوار نحو المنطقة الجنوبية؛ فأيُّ ضير في أن يَبعد موقع بئر السبع القديمة مسافة خمسة كيلومترات عن مَوقع بئر السبع الرومانية وعن موقعها القائم اليوم؟
وأما عن قوله بأنَّ التنقيب على بُعد خمسة كيلومترات عن بئر السبع قد أظهر موادَّ أثرية يعود عهدها إلى زمن التوراة، دون أن يكون لهذه المواد أقل علاقة بالتوراة أو بتاريخ بني إسرائيل. فإنَّنا نريد أن نُوضِّح أمرًا على غاية من الأهمية فيما يتعلَّق بتاريخ وآثار منطقة فلسطين؛ ذلك أنه سواءٌ في بئر السبع أم في غيرها من المواقع القديمة في فلسطين، لا يُمكن التمييز بين ما هو إسرائيلي وما هو كنعاني إلا اعتمادًا على تأريخ المادة المُكتشَفة؛ ذلك أنَّ الإسرائيليِّين القدماء خلال فترة حُكمِهم السياسي القصير في السامِرة وأورشليم لم يتركوا بصمةً مميَّزة على أيِّ منحًى من مَناحي حضارة كنعان التي تَضرِب في جذورها إلى مطالع التاريخ، بل إنهم تشرَّبوا تلك الحضارة وعاشوا كفئة كنعانية طوَّرت تدريجيًّا مذهبًا دينيًّا خاصًّا انطلاقًا من الديانة الكنعانية ذاتها، فتبنَّوا الإله «إيل» رئيس مجمع آلهة كنعان وقرَنُوه بالإله «يهوه» فرفعوه إلهًا واحدًا لهم، ودفعوا بالإله «بعل» إله الخصب الكنعاني القديم إلى مرتبة الشياطين، فصار «إبليس» الديانة اليهودية التي لم تأخُذ ملامحها الثابتة في التوضُّح إلا بعد تحرير أسفار التوراة بدءًا من القرن السادس قبل الميلاد. ومنذ بدء هيكل الربِّ في أورشليم كانت الإلهة «عشيرة» زوجة «إيل» تُعبد في الهيكل وكان تمثالها المصنوع من جذع شجرة تُدعى «السارية» منصوبًا في قدس أقداس المعبد.٢
وفي الواقع، فإنَّ المادة الأثرية التي عُثر عليها في بئر السبع تتطابَق مع أخبارها التوراتية فقبل القرن العاشر قبل الميلاد عندما بدأت المملكة الموحدة بالتشكُّل، كان الموقع عبارة عن تجمُّع سكني بسيط لم يأخُذ شكل المدينة المسورة إلا بدءًا من القرن العاشر قبل الميلاد. وقد أظهرت الأجزاء التي تمَّ كشفها من السور والطرقات والبيوت، تماثلًا في تخطيط المدينة وفي طريقة بناء البيوت وتوضعها، مع مواقع فلسطينية أخرى تعود إلى الفترة نفسها مثل موقع «تل بيت مرسيم» و«مجدو» و«حاصور» وغيرها.٣

الموقع الثانوي الآخر الذي اعتمَدَت عليه البينة الأركيولوجية لكمال الصليبي هو موقع «جرار»، الذي خصص له فصلًا كاملًا بعنوان «البحث عن جرار» يقول في بدايته: [قبل بداية البُرهان على مدة الدقة في مطابقة جغرافيا التوراة العِبرية لجُغرافية غرب شبه الجزيرة العربية، لا بدَّ من إيراد الدليل على مدى الضعف في مطابقة تلك الجغرافيا لجغرافيا فلسطين. وهذا يتَّضح تمامًا من النظر في الطريقة التي عالج فيها علماء التَّوراة حتى الآن مسألة «جرار»، وهي بلدة توراتية يُفترض أنها ازدهرت في القِدَم في جوار غزة بساحل فلسطين، في موقع غير بعيد عن بئر السَّبع، والتي انجلَت عن عدم وجود أيِّ مكان هناك يَحمل هذا الاسم] (ص٨٥). بعد ذلك يُتابع الصليبي إظهار تخبُّط العلماء التوراتيِّين في مُحاولة العثور على جرار، ليَجدها لهم أخيرًا في أحد مواقع أربعة في مُرتفعات عسير بين «آل زيدان» (صيدون) و«آل عزة» (غزة). وهي «غُرار» و«الجرار» و«غرار» و«القرارة» (انظر خريطة الصليبي رقم ٦).

وفي الحقيقة لم تكن جرار موقعًا مُهمًّا في أخبار التوراة ولم يَرد لها ذِكر في سجلات مصر ووادي الرافِدين. وقد أوردَت أسفار التوراة أخبارًا قليلة عنها. ففي سِفر التكوين ورَدَت باعتبارها الحد الجنوبي لأرض كنعان قُرب مدينة غزة، كما أتى إليها كلٌّ من إبراهيم وإسحاق بسبب الجوع. وفي سِفر أخبار الأيام الثاني، ساق إليها الملك «آسا» الكوشيِّين المُتقهقرين بعد إخفاق حملتهم على يهوذا فنهَبَها جنوده. فأين هذا الموقع الثانوي جدًّا من مواقع مثل «مجدو» و«حاصور» و«لخيش» و«ترصة» و«السامرة» و«شكيم» و«بيت شان» وغيرها من المواقع الفلسطينية المهمَّة التي تمَّ اكتشافها والتعرُّف بدقَّة على هويتِها؟ ولماذا التمسُّك بمسألة جرار التي لم تكن همًّا من هموم علماء الآثار، ولا نَعثُر لها على ذِكر في أمهات الأبحاث التي تَستعرِض نتائج التنقيب في فلسطين؟ علمًا بأنَّ كمال الصليبي لم يَستشهِد في بحثه عن جرار أو غيرها بأيِّ عَلَمٍ مرموق في مجال علم الآثار، بل اكتفى بالإشارات الغامضة إلى العلماء التوراتيِّين الذين نعرف، ويعرف، كم أساءوا إلى مسألة آثار فلسطين وجعلوا من علم الأركيولوجيا استمرارًا لعلم اللاهوت، وكان جلُّ اقتباساته في المسائل الأثرية مأخوذًا عن «سايمنز» و«كريلنغ» وكلاهما لم يضرب معولًا واحدًا في أرض فلسطين.

ومن ناحية أخرى، فإنَّ عدم العثور على موقع قديم حدَّد الآثاريون والمؤرخون مكانه التقريبي اعتمادًا على النصوص القديمة، لا يعني سوى مسألةٍ مؤجَّلة. فمدينة «إيبلا» الوارد ذِكرها في أقدم سجلات أكاد، لم تُكتشَف إلا في سبعينيات القرن العشرين ومدينة «شُباط إنليل» عاصمة الملك الآشوري «شمسي حدد» التي تكرَّر ذكرها في سجلات «ماري» وغيرها، لم يُمكن التأكُّد من هويتها، إلا في عام ١٩٨٧ في «تل ليلان» بالجزيرة السورية. ومدينة «أكاد» عاصمة صارغون الأول مؤسس الدولة الأكادية، لم يعثر عليها حتى الآن، ومثلها في ذلك مدينة «أشوكان» عاصمة مملكة «ميتاني». فأيُّ ضير في ألا يتمَّ العثور حتى الآن على موقع ضئيل اسمه «جرار»، وأيُّ دليل يقدمه ذلك لمسألة الجغرافيا التوراتية؟

والحقيقة إنَّ مسألة جرار لم تعالَج من قبل كمال الصليبي باعتبارها مسألة أركيولوجية بالدرجة الأولى، وكذلك فيما يتعلَّق ببئر السبع، بل لقد أخذ من الإشكالات الأركيولوجية لهذين الموقعَين مدخلًا للولوج إلى مسألة أخطر وهي مسألة «أرض كنعان» التوراتية، التي نقلها بكاملها إلى بلاد عسير وجاورها هناك مع إسرائيل. وبما أن علم الآثار يعتبر اليوم من أهم العلوم التي تمدُّ علم التاريخ بمادته، فإننا سنَعمِد فيما تبقَّى مِن هذا الباب إلى بسط المسألة الأركيويوجية لفلسطين بالقَدر الذي يسمح به حيِّز هذا الكتاب ومقصده، مقدمين نبذة سريعة عن خلاصة التنقيبات الأثرية في عدد مِن المواقع المهمَّة، والنتائج المتَّفق عليها بين علماء الآثار، ومُقاطعة هذه النتائج مع السجلات القديمة بما فيها كتاب التوراة. وسيكون اعتمادنا في هذا الموضوع بشكلٍ رئيسي على عالِمة الآثار البريطانية «كاثلين كينيون» التي نقبت في عدد من المواقع الفلسطينية مِن أهمِّها موقع «أريحا» وموقع «أورشليم»، والتي خلَقت أعمالُها التنقيبية ومؤلفاتها العديدة تيارًا موضوعيًّا مقابلًا لتيار المدرسة التوراتية.

إضافة إلى التقارير المُتفرِّقة للسيدة كينيون فقد اعتمدَت مادتنا هنا على مؤلَّفاتها المنشورة التالية:
  • (1)
    Archaeology in the Holy Land, London, 1985.
  • (2)
    Digging up Jerusalem, Ernest Benn, London, 1974.
  • (3)
    Royal Cities of the Old Testament, Barrie and Jenkins, London, 1971.
  • (4)
    The Bible and Recent Archaeology, Colonnade Books, London, 1978.
١  عرفت جرابلس في الفترتَين الهلنستية والرومانية باسم «أوروبس» Europos ودعتْها النصوص السريانية «أجروبس»، ثم نجدُها في بعض النصوص العربية باسم «جيرابيس».
٢  وأغلب الظن أن مَن قدَّم تمثال عشيرة إلى المعبد كان الملك رحبعام بن سليمان حوالي عام ٩٣٨ق.م.؛ لأنَّنا نعرف من أخبار «آسا» الذي قام بإصلاحه الديني بعد ذلك بحوالي ٣٥ سنة أن الأصنام كانت قائمة في الهيكل وعلى رأسِها تمثال عشيرة (الملوك الأول ١٥: ٩–١٨) ويبدو أن تمثال عشيرة قد أُعيد مع الأصنام في عهد «بو آش» (انظر أخبار الأيام الأول ٢٤: ١٥–١٨) ورغم أنها قد أخرجت بعد ذلك أكثر مِن مرَّة، إلا أنها كانت قائمةً في آخر أيام مملكة يهوذا عندما كانت على أبواب الاجتياح البابلي (الملوك الثاني ٢٣: ٤–٦).
٣  Kathleen Kenyon, Archaeology in Holy Land, Methuen, London, 1985, pp. 279–80, 279.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤