الفصل الثاني

أورشليم حاضرة كنعان

ورد اسم أورشليم لأول مرة في نصوص مصرية ترجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، لا سيما فيما يُدعى «بنصوص اللعنات»، وهي نُصوص منقوشة على جرار فخارية تَذكُر أسماء البلاد والحكام من أعداء الفراعنة. وكانت هذه الجِرار تُحطَّم في طقس سحري لجلب الأذى على المذكورة أسماؤهم عليها. نقرأ في أحد تلك النصوص: ١
  • (١)

    إيروم، حاكم أي-عناق وجميع بطانته.

  • (٢)

    إيابوم، حاكم شوتو، وجميع بطانته.

  • (٣)

    خالوكيم، حاكم عسقانو، وجميع بطانته.

  • (٤)

    يقرب-آمو، حاكم أورشليم، وجميع بطانته.

  • (٥)

    أبيش-حدد، حاكم شكيم، وجميع بطانته.

  • (٦)

    يابانو، حاكم أكشف، وجميع بطانته.

  • (٧)

    جتجي، حاكم حاصور، وجميع بطانته.

  • (٨)

    …، حاكم عشتاروت، وجميع بطانته.

  • (٩)

    آخو كالكول، حاكم أوبي، وجميع بطانته.

  • (١٠)

    …، حاكم صور، وجميع بطانته.

  • (١١)

    توري آمور، حاكم عكا، وجميع بطانته.

  • (١٢)

    ياتيب إيل، حاكم بيت شميش، وجميع بطانته.

  • (١٣)

    قبيلة عرقاتا.

  • (١٤)

    قبيلة جبيل.

إلى جانب أورشليم، نتعرَّف في هذا النص على عدد من المدن الكنعانية القديمة في فلسطين التي ورَد ذكرُها في سجلات الشرق القديم، وفي التوراة لاحقًا، مثل شكيم، وأكشف وحاصور وعكا وبيت شميش. وعلى عدد من المدن الكنعانية الساحية مثل صور وعرقاتا وجبيل، وعلى مُقاطَعات داخلية مثل أوبي. أما الإشارة إلى قبيلة عرقاتا وقبيلة جبيل، فهي إشارة إلى القبائل العمورية التي استوطَنَت أطراف المدن الكبرى في مطلع الألف الثاني بعد أن خربتها. وهذا النص القديم وأمثاله يُثبِت أنَّ اسم مدينة أورشليم قديم قِدم وجودها، ولا علاقة للإسرائيليِّين النازحين بتسميتِها وتسمية غيرها من مدن كنعان بأسماء مواقع عرفوها في غرب العربية كما يرى كمال الصليبي. كما ورَد ذِكر أورشليم بعد ذلك بخمسمائة سنة في رسائل تل العمارنة، ممَّا ذكَرناه سابقًا. بقي اسمها قائمًا إلى ما بعد دمارها على يد الرومان عام ٧٠ ميلادية، دون أن يَطغى عليه اسم إيليا كابيتولينا التي بناها الرومان على أنقاضها فيما بعدُ، أيام الإمبراطور «هدريان» عام ١٣٥ ميلادية.٢

فيما عدا اسم المدينة وموقعها في فلسطين، لا تُسعفنا نصوص الشرق القديم بكثير من المعلومات عن أورشليم ولا عن الكنعانيين اليبوسيين من سكانها ممَّن كانوا يُقيمون فيها ولكن علم الآثار عنده ما يقوله عنها.

عندما بدأت التنقيبات الأثرية في أورشليم، توجه المُنقِّبون إلى مدينة القدس بموقعها الحالي يَبحثون عن حدود أورشليم القديمة. ثمَّ تبين بعد ذلك أن المدينة اليبوسية تقع بكاملها إلى الجنوب من المدينة الحالية على سلسلة تلال القدس الشرقية. وقد تطابقَت جغرافية وطبوغرافية المدينة المُكتشَفة مع وصوفاتها الواردة في التوراة. فالمدينة اليبوسية قد بُنيت على الجزء الجنوبي من السلسلة الشرقية لتلال القدس وبُني الهيكل على الجزء الأوسط منها، أما الجزء الشمالي فلم يكن ضمن المدينة القديمة، وهو يقع حاليًّا ضمن مدينة القدس الحديثة. وتُحيط التلال بأورشليم من ثلاثة جوانب (مزامير ١٢٥ : ٢) فإلى الشمال الشَّرقي منها جبب «سكوبس» (ويُدعى أيضًا جبل المشهد وجبل المشارف). وإلى الشرق «جبل الزيتون» وإلى الجنوب «جبل المكبر». أما عن الوديان فإلى المشرق منها وادي «قدرون» وهو يقع بين المدينة وجبل الزيتون، ويُسمَّى أيضًا وادي «يهوشافاط» (سِفر يوئيل ٣: ١٢) ويُدعى بالعربية «وادي الست مريم»، وإلى الغرب منها سلسلة التلال الشرقية والغربية هناك وادي «تيروبيون» ويُسمى بالعربية بالوادي، وإلى الغرب من سلسلة التلال الغربية هناك وادي «هنوم» ويُسمَّى بالعربية «وادي الرباية».

أثبتَت التنقيبات الأثرية أن المدينة ترجع بعهدها إلى عصر البرونز المبكِّر منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد. وهي فترة نُشوء دويلات المدن في فلسطين، ولكنَّها كانت في ذلك الحين صغيرة ودون أسوار. ومع مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، تظهر في الموقع دلالات انقطاع سكني وحضاري، حصل على الأغلب نتيجة لاجتياح القبائل العمورية منطقة الهلال الخصيب، وقضائها على معظم المراكز الحضرية فيها. ثم انتعشت أورشليم مجددًا في مطلع عصر البرونز الوسيط، وظهرت المدينة اليبوسية التي تمَّ الكشف عن سورها الذي يرجع بتاريخه إلى حوالي عام ١٨٠٠ق.م.،٣ وهي الفترة التي ظهَر فيها اسم أورشليم لأول مرة في النصوص المصرية.
وقد استطاعَت التنقيبات الأثرية (حملة السيدة كاثلين كينيون بين عامي ١٩٦١–١٩٦٧م) رسم حدود المدينة اليبوسية على السلسلة الشرقية لتلال القدس (انظر الخريطة رقم ٩). أما المدينة نفسها فلم يبقَ منها شيء يُذكر؛ وذلك بسبب استخدام حجارتها في بناء الطبقات السكنية التالية لها. ويبدو أنَّ مَوضِع السور الشرقي للمدينة كان محكومًا بنبع جيجون في وادي قدرون، الذي كان المصدر الأساسي لماء الشرب. فالسور يجب أن يكون قريبًا من النَّبع لحمايته أثناء الحصار، ولكن لا يهبط كثيرًا إلى الوادي كي لا يكشف المدينة والمُدافعين عنها. وكان الوصول إلى النَّبع عن طريق نفق حُفر تحت الأرض يمرُّ أسفل السور، تمَّ الكشف عنه خلال التنقيبات٤ وهذا النَّفق ربما كان القناة المذكورة في الرواية التوراتية، والتي نفذت منها إلى داخل المدينة مجموعة اقتحام الملك داود (راجع سِفر صموئيل الثاني ٥: ٨؛ وأخبار الأيام الأول ١١ : ٦–٧).
وفي عصر البرونز الأخير، وفيما بين القرنين الرابع عشر والثالث عشر، تمَّ تحديث المدينة الكنعانية باستِعمال تقنية إنشائية جديدة، حيث أُقيمت على المُنحدَر الشرقي للتلِّ مَصاطب مُتدرِّجة بُنيت من أحجار ضخمة، استُخدمت كمساحات مستقرَّة لبناء البيوت الجديدة، فتم بذلك الإفادة من المنحدر بطريقة مُجدية، وتعمير بيوت كبيرة خلف البيوت الوضيعة المُبعثَرة دون نظامٍ. وهذه التقنية الهندسية كانت بحاجة دائمة إلى الصيانة وإلا انهارت مع الزمن، ولذلك لم يألُ كنعانيو أورشليم جهدًا في إصلاحها، وآثار تلك الإصلاحات بادية في تلك البِنية الجبارة، وكذلك آثار الانهيارات المتلاحقة، غير أن البيوت التي شيدت فوق تلك المصاطب قد زالت تمامًا. ولم يَعثُر المُنقِّبون إلا على أنقاض بيتٍ واحد يعود بتاريخه إلى القرن السابع قبل الميلاد.٥
وفي الحقيقة، فإنَّ اكتشاف هذه التقنية الإنشائية في أورشليم، قد ساعَدَ على فهم كلمة ورَدَت في التوراة واختلف الدارسون والمترجمون في فهمها، وهي كلمة «ملو» العِبرية التي تعني الملء أو التكميل. فبعد أن سيطر الملك داود على أورشليم، كان من أعماله الأولى إصلاح المدينة ابتداءً من «الملو» إلى ما حولها (أخبار الأيام الأول ١١: ٨). ومن بين أعمال الملك سليمان الإنشائية بناؤه الملو وسور أورشليم (الملوك الأول ٩: ١٥ و١١: ٢٧)، وكذلك فعَل حزقيا عندما كان يُهيئ المدينة للحصار الآشوري (أخبار الأيام الثاني ٣٢: ٥) وقد اختلفت ترجمات التَّوراة إلى العربية في أمر كلمة الملو، فبينَما ترك الآباء اليسوعيُّون الكلمة على حالها فقالوا «ملو»، قامت ترجمات أخرى باستعمال كلمة «القلعة» لاعتقادِهم أنَّ المكان كان حصينًا كقلعة، كما ظنَّ البعض أن الملو هو ساحة الهيكل، والبعض الآخر أنه عبارة عن الأحجار التي رُدمت لملء الفراغ بين المدينة اليبوسية على التل الجنوبي والهيكل على التلِّ الأوسط وإقامة البيوت هناك. أما الآن فمن الواضح أنَّ الملو هو تلك المصاطب الهائلة التي بَناها الكنعانيُّون على المُنحدَر الشرقي على هيئة سلسلة مُتتابعة من امتلاءات الحجارة الضخمة تتدرَّج من أسفل السور صعودًا نحو ذروة التل، وأن في تعبير «إصلاح الملو» أو «بناء الملو» الوارد في التوراة إشارةً إلى هذه البِنية التي ورثتْها المملكة الموحدة عن الكنعانيين فلقد كشفت التنقيبات٦ عن آثار واضحة لمصاطب إضافية بُنيَت في القرن العاشر (فترة داود وسليمان)، وعن إصلاحات وإضافات فيما بين القرن العاشر والثامن.
وهنا نودُّ التوقُّف قليلًا لعرض ما جاء به الصليبي حول كلمة الملو؛ فرغم وضوح النَّص التَّوراتي الذي يجعل من الملو منشأة تقع داخل أورشليم، فإنَّ الصليبي في حديثه عن أورشليم ومدينة داود، يجعل من الملو اسمًا لموقع في عسير هو «الهامل»٧ في مُرتفَعات «رجال ألمع» قرب «قعوة الصيان» التي هي «حصن صهيون» المُختلِف عن أورشليم (ص١٨٠–١٨٢). وفي هذا مثال واضح عن مدى خسارة دارس التاريخ للإضاءات التي يُلقيها على موضوعه علم الآثار، عندما يُسقطه من حسابه.
كان الاستيلاء على أورشليم، وَفق الرِّواية التوراتية، البداية الحقيقية للمَملكة الموحَّدة إبَّان القرن العاشر قبل الميلاد؛ لأنَّها كانت تُشكِّل مع «جازر» و«عجلون» خطًّا كنعانيًّا يَفصل بين القبائل الشمالية والقبائل الجنوبية. ورغم ذِكر التَّوراة للعديد من الأعمال الإنشائية الدفاعية التي قام بها داود (راجع صموئيل الثاني ٥: ٩؛ وأخبار الأيام الثاني ٣٢: ٥)، إلا أنَّ أيًّا من هذه الأعمال لم تَقُم عليه البيِّنة الآثارية. ويبدو أن كل ما فعله داود كان إصلاحات جزئية على السور اليبوسي الذي بقيَ على حاله حتى القرن الثامن قبل الميلاد.٨

وعندما خلف الملك سليمان أباه داود، كانت الأمور قد استقرَّت نسبيًّا للمملكة الموحَّدة، داخليًّا وخارجيًّا، فالتفَت سليمان إلى أعمال التشييد والبناء ونشاطات الدبلوماسية؛ فإضافةً إلى إعادة بنائه ثلاث مدن كنعانية قديمة هي «حاصور» و«مَجِدو» و«جازر» فقد التفت إلى أورشليم فبنى هيكل الرب خارج أسوار المدينة الكنعانية، وبنى قصورًا لسكنِه وإدارته وزوجاته (الملوك الأول ٥–٦ وأخبار الأيام الثاني ٢–٤).

وبما أنَّ المدينة السليمانية قد زالت مع المدينة اليبوسية بسبب اقتلاع الحِجارة لاستعمالها في إعادة البناء، كما أسلفنا، فإنَّ علم الآثار لا يستطيع إعطاء فكرة عن أبنية سليمان وقصوره الفارهة التي أطنب كتاب التَّوراة في وَصفِها.٩ أما معبد سليمان فقد بُني خارج المدينة اليبوسية على التلِّ الأوسط، ثم تمَّ وصل سور المعبد بسور المدينة، وبذلك اكتسبت أورشليم مساحة جديدة إلى الشمال في المنطقة الواقعة بين الهيكل والمدينة (انظر خريطتنا رقم ١٠). ويَعتقِد المُنقِّبون أنَّ أبنية سليمان قد أُقيمت على هذه المساحة الجديدة؛ وذلك لاستحالة إضافتها إلى المدينة الكنعانية بسبب ضِيقها وازدحامها. وقد استطاعت التنقيبات الأثرية تحديد خطِّ السور الإضافي، وأمكن إرجاع تاريخ بنائه إلى النصف الثاني من القرن العاشر قبل الميلاد؛ أي فترة حكم داود وسليمان.١٠

وتقول الرواية التوراتيَّة حول مَوقِع المعبد: إنَّ المعبد قد تمَّ اختياره وتحديده خارج المدينة مِن قِبَل الملك داود. فبعد أن أرسل الربُّ ملاكه بالأوبئة الفتَّاكة على إسرائيل فقتلتُ منهم سبعين ألفًا، ندم على إتيانه الشر، وأمر الملاك بالتوقُّف بعد أن وصَل تخوم مدينة أورشليم عند بيدر يَملكُه كنعاني اسمه «أرنان اليبوسي». ورفع داود عينَيه ورأى عند الأفق ملاك الربِّ واقفًا بين السماء والأرض وسيفه مسلول بيده وممدودة على أورشليم، فسقط هو والشيوخ على وجوهِهم، واسترحم داود الرب من أجل خلاص المدينة، فأمَره الرب أن يُقيم مذبحًا في المكان الذي وقف الملاك عنده. فصعد داود إلى أرنان اليبوسي وكان يدرس حنطة في بَيدره، واشترى منه المكان وأقام مذبحًا هناك وقال هذا هو بيت الرب الإله، وهذا هو مذبح المَحرقة. ثم بدأ بتحضير ما يلزم لبناء الهيكل على أن يُكمله مِن بعده ابن سليمان (راجع أخبار الأيام الأول ٢١: ٩–٣٠ و٢٢: ١–٥).

لم يَبقَ من هيكل سليمان ولا من أسواره شيء عقب التدمير البابلي للمدينة عام ٥٨٧ق.م. ولكن هناك قسم لا بأس مِن أساسات سور الهيكل الثاني الذي بناه «زربابل» الذي عيَّنه الفُرس واليًا على أورشليم، بعد سماحهم بعودة مَن يرغب إلى أورشليم، وانتهى من بنائه عام ٥١٥ق.م. وقد استمرَّ الهيكل الثاني قائمًا إلى عهد «هيرود الكبير» ملك منطقة «اليهودية» الذي حكم بمعونة الرومان في أواخر القرن الأول قبل الميلاد، بعد أن آلتْ سورية إليهم، ثم قام هيرود بتوسيع الهيكل والإضافة إليه حتى بلَغت مساحتُه ضعف المساحة الأصلية تقريبًا (انظر المخطط رقم ١).

figure
المخطط رقم ١: توسيعات هيرود على هيكل زربابل.
figure
الخارطة رقم ٩: أورشليم اليبوسية.
ولكن معبد هيرود قد لقيَ مصير هيكل سليمان القديم؛ إذ تمَّ تدميره على يد الرومان خلال حملتهم على أورشليم عام ٧٠ ميلادية، ولم يبقَ منه سوى قسم مِن أساسات سوره ما زالت واضحةً اليوم بعد إزاحة الأتربة عنها، وأرضيته التي أُقيم عليها المسجد الحرام وقبة الصخرة. والجزء الباقي مِن أساسات سور هيرود مؤلَّفٌ من قسمَين، قسم يعود إلى أواخر القرن السادس قبل الميلاد وهو ما تبقَّى من سور هيكل «زرُبابل» وقسم يعود إلى القرن الأول الميلادي وهو أساس سور هيرود نفسه. ويَلتقي الأساسان بشكلٍ واضح عند نقطة تقع على مسافة ٣٣ مترًا تقريبًا إلى الشمال من الزاوية الجنوبية الشرقية لسور الحرم الحالي.١١
في الفترة التي تلت انهيار المملكة الموحدة وتحوُّل أورشليم إلى عاصمة لمملكة يهوذا الجنوبية، كشفت التنقيبات عن عدة إصلاحات على سور المدينة وإضافات إليه، أهمها تلك التي تمت حوالي عام ٧٠٠ق.م.، والتي لاحظ المنقبون أن بعضها قد تم على عجل، إلى درجة أن أحد الأسوار قد رُفع دون أساسات راسخة، مما يدل على أن قد بني في حالة استعداد للحرب واقتراب الحصار.١٢ هذه الإصلاحات العاجلة وتاريخها تَنطبِق على الإصلاحات التي قام بها الملك حزقيا عندما كان يستعدُّ لمواجهة قوات الملك الآشوري سنحاريب الذي حمل على يهوذا حوالي عام ٧٠٠ق.م.، وحاصرت قواته أورشليم حصارًا طويلًا. نقرأ في سِفر أخبار الأيام الثاني ٣٢: ٥ [وتشدد - حزقيا - وبنى السور المُنهدم كله وأعلاه إلى الأبراج، وسورًا آخر خارجًا، وحصن القلعة مدينة داود، وعمل سلاحًا بكثرة وأتراسًا …]

على أن أهم أعمال حزقيا إلى الآن من تلك الفترة هو جرُّ مياه نبع «جيحون» في قناة تمرُّ تحت مدينة أورشليم إلى الوادي المركزي (تيبريون) على الميل الغربي للتل، لتصبَّ في بركة «سلوام» في موقع محمي يُمكن الدفاع عنه؛ وذلك لمنع الآشوريين من السيطرة على مصدر المياه الوحيد الذي يغذي المدينة. نقرأ في سِفر أخبار الأيام الثاني ٣٢: ٣٠ [وحزقيا هذا، سدَّ مخرج مياه جيحون الأعلى وأجراها تحت الأرض إلى الجهة الغربية من مدينة داود، وأفلح حزقيا في كل عمله].

وبركة «سلوام» لا تزال قائمةً اليوم في نهاية السفح الجنوبي للتل الجنوبي الذي كانت أورشليم قائمةً عليه، واسمُها اليوم بركة «سلوان»، أما القناة الواصلة بين نبع جيحون على السفح الشرقي (واسمه اليوم نبع العذراء) وبركة «سلوان» على السَّفح الغربي؛ فقد تمَّ اكتشافها عام ١٨٦٧م مِن قِبَل المُنقِّب «وارن» Warren، ونُظفَت من قِبَل المُنقِّب «باركر» Parker عام ١٩١١م. ثم أعادت حملة السيدة كاثلين كينيون ١٩٦١–١٩٦٧م تنظيفها وإعادتها إلى ما كانت عليه. هذا، ويَتطابق مجرى هذه القناة المكتشَفة مع الوصف الذي أعطاه سِفر أخبار الأيام الثاني (انظر خريطتنا رقم ١١)، ويستطيع أي زائر اليوم أن يسير خلالها منتصب القامة أو منحنيًا مستعملًا الأنوار الكشافة.١٣
وقد عثر في نفق القناة على نقشٍ حجريٍّ يصف لحظة انتهاء حفر القناة بالتقاء فريقَي الحفر اللذَين انطلقا كل مِن اتجاه. تقول ترجمة النقش: [بينما النحَّاتون يَرفعون فأس الحفر، كل تجاه رفيقه، وبينما بقي ثلاثة أذرع للنَّحت، سُمع صوت رجل يُنادي أخاه لأنه وجد ثقبًا في الصخر من ناحية اليمين، وفي يوم انثقابِه، ضرب النحَّاتون رجلًا أمام رجل، فأسًا على فأس. وسالَت المياه مِن النَّبع إلى البِركة مسافة مائتين وألف ذراع ومائة ذراع. وكانت قيمة الجبل فوق رأس النحاتين].١٤

وهنا سنتوقف قليلًا لعرض وجهة نظر الصليبي في موضوع قناة سلوام حيث يقول في الصفحة ١٠٧ من كتابه: [عُثر على نقش صخري في سلوان قرب القدس يشرح كيف جرى حفر قناة مائية هناك عن طريق التنقيب من نهايتي النَّفق في آنٍ معًا. ولو قال النقش إنَّ هذا النفق حُفر في عهد حزقيا الملك، لكان في ذلك تأكيدٌ واضح لنصَّي سِفر الملوك الثاني ٢٠: ٢٠؛ وأخبار الأيام الثاني ٣٢: ٣٠، اللذَين يتحدَّثان عن بركة وقناة أنشأهما الملك حزقيا، ملك يهوذا. لكن الواقع هو أن النقش المذكور لا يشير إلى أيَّة أسماء سواء كانت أسماء أشخاص أم أسماء أمكنة، ولذلك لا تجوز نسبتُه إلى عهد حزقيا، كما فعل الباحثون التوراتيُّون زيفًا. ويبدو أن هؤلاء الباحثين لم يأخُذوا في اعتبارهم أن الأقنية المائية كانت تُحفَر في الأزمنة كلها، أينما كان، ومتى ظهرت الحاجة إليها. والواقع أن نقش السلوان لا يشير حتى إلى أن القدس الحالية هي فعلًا أورشليم التوراتية؛ لأنَّه لا يَذكر اسم الموقع].

figure
الخارطة رقم ١٠: إضافات سليمان.

في المقطع أعلاه مثال على طريقة الصليبي في تقديم نصف المعلومات للقارئ غير المتخصِّص من أجل الحكم على قضية بالغة التخصص. فهو يركز على (النقش الذي يشرح كيف جرى حفر قناة مائية هناك عن طريق التنقيب من نهايتي النفق في آن معًا). ولا يذكر أن القناة المائية التي يتحدَّث عنها النقش قد تمَّ اكتشافها، وأنها تجري تحت مدينة أورشليم القديمة مِن نَبع جيحون في الوادي الغربي إلى طرف المدينة في الوادي الشرقي، تمامًا كما هو مذكور في النصِّ التوراتي. وهو يقول إن النقش قد عُثر عليه (في «سلوان» قرب القدس)، ولا يقول إنَّ النقش قد عُثر عليه داخل قناة السلوان التي تقع بكاملها ضمن مدينة القدس اليوم. ثم يُلصق التُّهم بالباحثين التوراتيين ممن لا ناقة لهم ولا جمل في هذه القضية التاريخية الآثارية، ويتغاضى عن جهد المنقبين الأوائل الذين استكشفوا القناة من أولها إلى آخرها زحفًا على البطون؛ لأنها كانت مليئة بالأتربة والنفايات التي تراكمَت عبر العصور، دون أن يكونوا مُتأكِّدين مِن خُروجهم سالِمين من الجهة الأخرى. ثم يقول: (بأنَّ الأقنية المائية كانت تُحفَر في الأزمنة كلها أينما كان ومتى دعت الحاجة إلى ذلك)، وهذا صحيح تمامًا، ولكن قناة السُّلوان مُتفرِّدة في تقنيتها وطريقة حَفرها، ولا نظير لها في مدن الشرق القديم طرًّا، وإن وصف قناة أورشليم الوارد في النَّص التوراتي لا يَنطبق إلا على القناة المكتشفة تحت موقع أورشليم القديمة. وهو يقول أخيرًا بأن (نقش السُّلوان لا يُشير إلى أنَّ القدس الحالية هي فعلًا أورشليم التوراتية لأنه لا يَذكر اسم الموقع). ونحن مُستعدُّون للمُوافقة جدلًا على هذا المنطق لو أنَّ نقش السلوان لم يعثر عليه داخل القناة، ولو أن البيِّنة الأركيولوجية لم تقم على وجود هكذا قناة.

figure
الخارطة رقم ١١: قناة سلوام.
بعد نجاة أورشليم من الحصار الآشوري عام ٧٠ق.م. قُيِّض لها أن تستمر قرابة قرنٍ آخر من الزمان كعاصمةٍ لمملكة صغيرة شِبه مُستقلَّة، خصوصًا بعد زوال آشور وصعود المملكة البابلية الجديدة. غير أن نبوخذ نَصَّر حمل على مملكة يهوذا عام ٥٨٨ق.م. وأخذ أورشليم، ثم حمل عليها كرةً أخرى وهدم أورشليم والهيكل عام ٥٨٧ق.م. وهنا تأتي البيِّنة الأركيولوجية لتُثبت ما ورد من تفاصيل عن دمار أورشليم، فقد أظهرت التنقيبات الأثرية الأخيرة خراب سور أورشليم في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، وانهيار المَصاطب (الملو) التي لم تُستعمَل بعد ذلك فقط. وفي بقية مدنِ يهوذا ظهرت آثار واضحة على الانقطاع الحضاري دامت قرابة قرن ونصف القرن من الزمان.١٥
أما فيما يتعلَّق بإعادة بناء الهيكل والمدينة بعد العودة من السَّبي البابلي، فقد تمَّ العثور على سور المدينة الجديدة الذي بناه «نحميا» والذي يَرجع بتاريخه إلى أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، وكذلك على جزء لا بأس به مِن سور الهيكل الذي بناه زرُبابل، وكذلك على أسوار وتحصينات المكابيِّين وفيها البرج الذي يُدعى اليوم خطأً ببرج داود وأعلى جدران معبد هيرود الموسع.١٦
في عهد هيرود الذي عيَّنه الرومان ملكًا على «اليهودية» اكتمل تقريبًا انزياح أورشليم نحو مدينة القدس الحالية، وقد أظهرت التنقيبات آثار أسوار هيرود الجديدة واستطاعت رسم صورة أقرب إلى الدقَّة لأورشليم في نهاية القرن الأول قبل الميلاد. كما تمَّ العثور على العديد من البيوت والأبنية التي تَرجع إلى تلك الفترة، ومن بينها جزء من قصر هيرود نفسه. مدينة هيرود هذه هي مدينة الأناجيل وهي المدينة التي تعرَّضت للدمار على يد القائد الروماني «تيتوس» الذي هدم الهيكل، وقد كشفت التنقيبات عن آثار الدَّمار الكبير الذي حلَّ بالمدينة أواخر القرن الأول الميلادي، واستِعمال حجارتها لبناء المدينة الرومانية «إيليا كابيتولينا» فوق الخرائب عام ١٣٥ ميلادية. وأسوار هذه الأخيرة تتطابَق إلى حدٍّ كبير مع الأسوار التي بناها للقدس السُّلطان سليمان القانوني، وهي الأسوار التي ما تزال قائمةً إلى اليوم.١٧

وبعدُ، هذه لمحة عن أركيولوجيا أورشليم لا يتَّسع كتابنا لأطول منها، وهي تختصر أُلوف الصفحات ومئات التقارير الأثرية وجهد أجيال مُتعاقِبة من علماء الآثار، ولعلَّنا نشعر الآن أن نقل موقع أورشليم إلى موقع «آل شريم» في سراة عسير أو موقع القريتَين التوءمَين «أروي» و«آل سلام» في غرب العربية يتطلَّب أكثر مما يستطيع منهج مقارنة أسماء المواقع تقديمه.

١  John A. Wilson, Egyptian Rituals (in: James Pritchard’s Ancient Near Eastern Texts, op. cit.) p. 228.
٢  والاسم «إيليا» مأخوذ من الاسم الأوسط للإمبراطور «هدريان» وهو: Publius Aelius Hadrianus.
٣  Kathleen Kenyon, Digging up Jerusalem, Ernest Benn, London, 1974, pp. 76, 83.
٤  Ibid., pp. 84, 93.
٥  Ibid., pp. 194–97, 98–103.
٦  Ibid., p. 103.
٧  إنَّ قرن كلمة «الملو» هنا بمَوقع «الهامل» هو مثال واضح على مدى مرونة كمال الصليبي في مقابلة أسماء الأماكن.
٨  Ibid., p. 100.
٩  هذا إذا كانت هذه الأَبنية قد وجدت أصلًا.
١٠  Ibid., pp. 110–116.
١١  Ibid., pp. 107–112.
١٢  Ibid., p. 151.
١٣  Ibid., pp. 151–158.
١٤  إ. ولفنسون، تاريخ اللغات السامية، دار القلم، بيروت ١٩٨٠م، ص٨٣.
١٥  Kathleen Kenyon, Digging up Jerusalem, op. cit., pp. 166–172.
١٦  Ibid., pp. 127–204.
١٧  Ibid., pp. 236–255.
K. Kenyon, the Bible and Recent Archaeology, Colonnade Books, London 1978, ch. 6.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤