الفصل الثالث

السَّامرة، كوزموبوليتانية كنعان

السامرة هي المدينة الوحيدة التي يَعزو كتاب التوراة بِناءها للإسرائيليِّين أما المدن الأخرى فجميعها مدن كنعانية مغرقة في القدم سكن فيها الإسرائيليُّون إلى جانب أهلها القدماء دون أن يَقدروا على طَردِهم منها. ورغم فتوحات يشوع المزعومة، ورغم قوة دولة داود وسليمان التي لا نَملك عنها معلومات تاريخية مؤكدة؛ فإن مدنًا كنعانية مثل مدينة «جازر» قد بقيت خارج نطاق المملكة الموحدة حتى صعد إليها فرعون مصر فأخذها وقدَّمها هديةً إلى سليمان، نقرأ في سِفر الملوك الأول ٩: ١٦ [صعد فرعون ملك مصر وأخذ جازر وأحرقها بالنار، وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان].

وقد بُنيَت السامرة لتكون عاصمة لمملكة إسرائيل بعد أن تنقل ملوك المملكة الشمالية بين عدد من العواصم المؤقَّتة. فعقب موت الملك سليمان واستقلال الأسباط العشرة عن أورشليم والهيكل، استقرَّ الملك «يربعام» أول ملوك إسرائيل في مدينة «شكيم» ولكنه بعد عدة سنوات تركها إلى مدينة «فنوئيل»، ثم عاد واستقرَّ في مدينة «ترصه» التي بقيت عاصمة لمملكة إسرائيل مدة أربعين سنةً. وفي ترصه بدأ الملك «عمري» حكمه عام ٨٧٨ق.م. بعد أن اغتصب السلطة من «زمري». ويعتبر «عمري» بمثابة المؤسس الثاني لمملكة إسرائيل، فهو الذي أمَّن لها الاستقرار والازدهار وكرَّس ارتباطها حضاريًّا بالعالمَين الآرامي والفينيقي، وبنى لها عاصمةً جديدة على تلٍّ اشتراه من رجل يُدعى «شامر» وأسماها «السامرة» (الملوك الأول ١٦: ٢٤).

ورغم أن بِناء مدينة جديدة هو، من حيث المبدأ، فرصةٌ من أجل إظهار الطابع الحضاري الخاص لمَن بنَوها، إلا أننا نُفاجأ في موقع السامرة بمدينة لا تَرتبِط فقط بأرضيتها الكنعانية الفلسطينية فحسب، بل وبالعالَم الكنعاني الأوسع وبالعالم الآرامي الزاخر، مما يجعلها بحقٍّ «كوزموبولياتينة» كنعان (Cosmopolitan). ١ ذلك أنَّ الخيار الديني للأسباط العشرة التي شكَّلت مملكة إسرائيل الشمالية، كان يَحمل في الوقت نفسه خيارًا حضاريًّا مُتكاملًا، ومنذ أن انفصلت مملكة إسرائيل عن هيكل أورشليم؛ حيث كانت الديانة اليهودية آخذةً بالتشكُّل، وتبنَّت بشكلٍ كامل ديانة كنعان، فقد تبنَّت أيضًا جميع مظاهر الحضارة الكنعانية العميقة الجذور، وعاشَت في إطارها طيلة حياتها القصيرة حتى دمارها الأخير وسبي الأسباط العشرة دون رجعةٍ عام ٢١٧ق.م.

ولقد تمَّ تكريس الانفصال الديني عن أورشليم منذ الأيام الأولى لتشكيل مملكة إسرائيل، عندما قام «يربعام» أول ملوكها ببناء معبدَين كنعانيَّين لشعبه وضع فيهما تمثالين على هيئة العجل، وهو رمز الإله بعل، وصرف من خدمته كهنة اللاويين الذين كانوا مُكرسين للخدمة الدينية في أورشليم. نقرأ في سِفر الملوك الأول ١٢: ٢٨–٣١ [فاستشار الملك وعمل عجلي ذهبٍ وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم ها هي ذي آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من مصر. ووضع واحدًا في بيت إيل وجعل الآخر في دان … وبنى بيت المُرتفَعات وصيَّر كهنة من أطراف الشعب لم يكونوا من بني لاوي]. وبعد يربعام سار ملوك بني إسرائيل جميعهم في طريقه خلا واحدًا هو الملك «ياهو» الذي قضى على بيت آخاب وقام بإصلاحٍ ديني لم يُقيَّض له الاستمرار. ولم يكن موقف عامة الناس في الدولة مُغايرًا لموقف ملوكهم مما استجرَّ عليهم وعلى حكامهم اللعنات التي امتلأت بها أسفار التوراة. ولم يكن الدمار الأخير لدولتهم إلا عقابًا: [وسلك بنو إسرائيل في جميع خطايا يربعام التي عمل، لم يَحيدُوا عنها حتى نحَّى الرب إسرائيل من أمامه كما تكلَّم عن يدٍ جميع عبيده الأنبياء، فسُبي إسرائيل من أرضه إلى آشور إلى اليوم] (الملوك الثاني ١٧: ٢٢).

وقد جاءت نتائج التنقيب الأثري في موقع السامرة في اتِّفاق مع الرواية التوراتية، فمدينة السامرة هي الموقع الوحيد في فلسطين الذي بُني على التربة العَذراء دون طبقات آثارية سابقة عليه. كما أثبتَت التأريخ الحديثة في علم الأركيولوجيا أنَّ المدينة قد بُنيت في النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد، وهو تاريخ بنائها الفعلي من قبل الملك عمري الذي حكم اثنتَي عشرة سنةً منذ عام ٨٧٨ق.م. ومن ناحية أخرى، فقد أمكن التعرُّف على عاصمة عمري السابقة ترصه في موقع «تل الفرح» على مسافة ستة أميال شمال شرقي شكيم (نابلس). واتَّضح من التنقيبات أنَّ مدينة ترصه قد هُجرت في نفس الوقت تقريبًا الذي بُنيت فيه مدينة السامرة، وأنَّ العديد من أبنيتِها التي كانت قيد التشييد قد أوقف العمل بها وتُركت على حالها. ويبدو أن الملك عمري قد بدأ بتحضير ترصه لتكون عاصمتَه ثم تحوَّل عنها إلى موقع السامرة الذي يقدم فرصًا أوفر للتواصُل مع فينيقيا وآرام.٢
يقع تلُّ السامرة قرب الممر الرئيسي الذي يصل شمال فلسطين بجنوبها، على مسافة عشرة أميال شمال غرب الممر الفاصل بين جبل جرزيم وجبل عيبال، ويُشرف على وادٍ عريض يتَّجه نحو البحر مما يؤمِّن للموقع اتصالًا سهلًا مع فينيقيا، بينما يؤمِّن مرج ابن عامر في الشمال الاتصال مع آرام وقد بدأت أولى التنقيبات في التل من قِبل البروفسور G. R. Reisner لحساب جامعة هارفارد بين عامي ١٩٠٨ و١٩١٠م ثمَّ تابع التنقيب السيد J. W. Crowfoot لحساب جامعة هارفارد وصندوق التنقيب في فلسطين والأكاديمية البريطانية ومدرسة علم الآثار البريطانية في القدس؛ وذلك بين عامي ١٩٣١ و١٩٣٥م، وأخيرًا الدكتور J. B. Hennessy عام ١٩٦٧م.٣
ولقد تمَّ الكشف في المنطقة المتموضِعة على قمة التل، عن القطاع الملكي الذي يضمُّ القصور والأَبنية الإدارية، وكلها ذات طابع كنعاني واضح سواء في المخطط أم في طريقة البناء والحجارة المنحوتة المستخدمة فيه، وتكاد طريقة نحت الحجارة المستعمَلة في سور القطاع الملكي تكون نسخة مطابقة للحجارة المستخدمة في مدن كنعانية أخرى، وخصوصًا أوغاريت القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وقد تمكَّن المُنقِّبون في المنطقة من الكشف عن مرحلتَين في البناء، الأولى تعود إلى الملك عمري مؤسس المدينة، والثانية إلى ابنه آخاب الذي تابع عمل أبيه.٤

وآخاب هذا معروف في التوراة بعلاقاته الوثيقة مع فينيقيا التي أدَّت أخيرًا إلى زواجه من «إيزابيل» ابنة ملك صور، التي كرَّست بشكل نهائي عبادة الآلهة الكنعانية في إسرائيل (انظر سِفر الملوك الأول ١٦: ٣١–٣٣ و١٨: ٤ و٩١).

ولعل أهم ما عُثر عليه في خرائب القصر المعزو لآخاب، كمية كبيرة من المنحوتات العاجية البارِزة، ممَّا تُزين به قطع الأثاث والجدران، وبذلك توضح المقصود «بقصر العاج» الذي يقول سِفر الملوك الأول ٢٢: ٣٩ أن الملك آخاب قد بناه في السامرة. فالبناء المقصود ليس بيتًا حجارته من عاج، وهو أمر مستحيل من الناحية العملية، بل هو قصر رُصِّعت كل مفروشاته الخشبية وأجزاء لا بأس بها من جدرانه بمنحوتات عاجية. وقد عُثر على الجزء الأعظم من هذه المنحوتات العاجية في طبقة الحرائق التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثامن؛ أي إلى التدمير الآشوري لمدينة السامرة عام ٧٢١ق.م.، ومُعظمها قد نالت منه النِّيران وتُركت قِطعًا متشظية وفي حالةٍ هشَّة. وقد تبيَّن من الدراسة الفنية لعاجيات السامرة أنها تَنتمي إلى المدرسة الفينيقية، وتَربطها صلات قُربى واضحة مع منحوتات مُماثلة عُثر عليها في أنحاء مُتفرِّقة من سورية، وخُصوصًا في موقع «أرسلان طاش» أي «حداتو» القديمة في الشمال السُّوري.٥

وعاجيات السامِرة، تَستحِق أن نتوقَّف عندها وقفة قصيرة؛ لأنها تَنتمي إلى تقليدٍ فنِّي سوري مُغرق في القِدَم كان شائعًا في المراكز الحضرية في بلاد الشام، وأقدم أمثلة عليه جاءتنا من مطلع الألف الثاني قبل الميلاد من «جبيل» ومن «إيبلا» ومن «ألالاخ»، وفيما بعدُ أفاضت تنقيبات «أوغاريت» بمجموعة ضخمة من هذه العاجيات التي تَنتمي إلى القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، كما نَعرف من نص أوغاريتي أن دوطة الملكة «أخات ميلكو» كانت تضمُّ أسرة وكراسي ومساند قدمين مطعَّمة بالأشكال العاجية. ومن النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد وصلَتنا عدَّة مجموعات من المنحوتات العاجية، أهمها مجموعة «أرسلان طاش». كما تُوفِّر من الأدلة ما يُشير إلى وجود مراكز متعدِّدة في بلاد الشام لإنتاج هذه المنحوتات أهمها «كركميش» و«شمأل» و«تل حلف» و«أرفاد» و«حماة» و«دمشق».

ورغم أنَّ هذه العاجيات تحمل تأثيرات واضحة من مصر وبلاد الأناضول، حيث تأثَّرت المناطق الساحلية بالفن المصري والشمالية بالفن الحثي، إلا أنها جميعًا تَنتمي إلى مدرسة سورية واضحة ذات اتجاهات ثلاثة، فمدرسة شمالية وأخرى جنوبية وثالثة ساحلية، وقد تمَّ العثور على قطع من هذه المنحوتات العاجية السورية في مناطق بعيدة عن منشئها مثل إيران والأناضول والبر اليوناني، مما يُشير إلى مدى تأثير الفن السوري في الثقافات المُجاوِرة، ومدى نشاط التجارة السورية في ذلك الوقت. أما مجموعة المنحوتات الكبيرة التي عُثر عليها في موقع «نمرود» عاصمة آشور، فقد تبيَّن أنها تَنتمي جميعها إلى المدرسة السورية وأن مُعظمها جاء إلى آشور كأسلاب حرب، وهو ما تُؤكِّده النصوص الآشورية التي تتحدَّث عن أسلاب العاجيات التي أتَت بها الحملات الآشورية من بلاد الشام.٦
لم تَدُم حياة السامرة، وَفق الرواية التوراتية، أكثر من قرنين من الزمان. فبعد الهجوم الواسع الذي شنَّه تغلات فلاصر الثالث على مملكة إسرائيل، تلبية لاستغاثة «آحاز» ملك يهوذا الذي كان يتعرَّض لحملة مشتركة من دمشق والسامرة، جاء شلمنصر الخامس فحاصر السامرة ولكنها لم تسقط إلا في عهد خليفته صارغون الثاني عام ٧٢١ق.م. وتأتي نتائج التنقيبات الأثرية في اتِّفاق مع الرواية التوراتية؛ إذ تم العثور على طبقة سميكة من الأنقاض والحرائق تعود إلى أواخر القرن الثامن قبل الميلاد حجبت مدينة آخاب التي لم يبقَ منها جدار واحد فوق الأرض. ويبدو أن الذين استطونوا في الموقع، من الشعوب التي أحلَّها الآشوريون محل المسبيِّين، لم يُسمح لهم بالتوطن في الموقع المدمر، بل في أسفل التل؛ لأنَّ الموقع بقي خاليًا من آثار الاستيطان البشَري مدة طويلة بعد ذلك.٧

إنَّ التعرف على مدينة السامرة والكشف عن قُصورها وأبنيتها الرسمية وأعمالها الفنية، هو فصل من أمتع فصول علم الآثار في فلسطين، غير أنَّ مقاصد كتابنا هذا لا تَسمح بتقديم أكثر ممَّا قدَّمناه من لمحة موجزة ووافية. وفي الحقيقة فإنَّ موقع السامرة هو مثال ميداني واضِح عمَّا يُمكن لعلم الآثار الحديث تقديمه في مجال التعرُّف على موقع قديم بثقة تامَّة. ومع ذلك فإن كمال الصليبي لم يتوقَّف أبدًا عند المسألة الآثارية لموقع السامرة، بل ترك التعرُّف عليه كليًّا لمنهجه في مقارنة أسماء الأماكن؛ إذ يقول: [وقد أقام ملوك إسرائيل الذين خلَّفوا يربعام عواصم لأنفسهم أولًا في ترصه ثم في يزرعيل ثم في السامرة. وكانت هذه الأخيرة مدينة قام ملوك إسرائيل أنفسهم ببنائها على هضبة قريبة مِن يزرعيل اشتروها من «شمر»، ومن هنا جاء الاسم الذي أعطوها وهو بالعبرية شمرون … ولكن الأكثر احتمالًا هو أنَّ «شمر» المالك الأصلي للهضبة التي بُنيت فوقها السامرة (شمرون) لم يكن شخصًا بل قبيلة «شمران». وقد استمرَّ وجود اسمها غرب شبه الجزيرة العربية إلى يومنا هذا، والأرض الحالية لشمران تضمُّ الأراضي الداخلية من منطقة القُنفذة وما يَليها شرقًا، وتمتدُّ بلاد شمران هذه عبر الجوف والشق المائي إلى وادي بيشة. وكانت السامرة بلا شك، ما هو اليوم قرية شمران في منطقة القنفذة، على مسافة ما صعودًا من «آل الزرعي» أو «يزرعيل». وللحقيقة فإنَّ شمران الحالية تقوم مميزة على هضبة وحدها، تمامًا كما هي موصوفة في التوراة، وقد عاينتُها بنفسي]. (ص٢٠٠–٢٠١).

وهكذا، ومقابل كل نتائج التنقيب الأثري في تلِّ السامرة، فإنَّ ما يقدمه لنا الصليبي من وصف أركيولوجي لموقع «شمران» في منطقة عسير هو أنها «تقوم مُميزة على هضبة وحدها، تمامًا كما هي موصوفة في التوراة».

١  الكوزموبوليتاني، هو العالَمي غير المحلي الذي يحمل خصائص شمولية.
٢  Kathleen Kenyon, Royal Cities of the Old Testament, Barrie and Jenkins, London 1971, pp. 71–89.
٣  K. Kenyon, Archaeology in the Holy Land, op. cit., pp. 340–41.
٤  K. Kenyon, Royal Cities, op. cit., ch. 7.
٥  Ibid., ch. 7.
٦  Irene Winter, Ivory Carving, (in: Ebla to Damascus, Smithsonian Ins., Washington, 1985), pp. 339–346.
٧  K. Kenyon, Royal Cities, op. cit., ch. 10.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤