ماذا عن الفلستيين؟
وفي الوقت نفسه تَقدَّمت حملة أخرى من نقطة ما من الأرخبيل الإيجي فحطَّت على شواطئ آسيا الصغرى ودمَّرت المملكة الحثية التي لم تَقُم لها قائمة بعد ذلك، ثمَّ توجَّهت نحو بلاد الشام فسقطت أمامها ممالك سورية الشمالية مِن أُوغاريت إلى كركميش. بعد ذلك تقدَّمت هذه الشعوب نحو أواسط سورية حيث أقامت لها محطَّة مُستقرَّة في مملكة «آمورو» تحفزًا للانقضاض مرةً أخرى على مصر، أسمن الطرائد في ذلك العصر. وفي طريقها إلى مصر أشاعت الدمار في مَمالك الدويلات الفلسطينية، ولكن المصريين استطاعُوا ردَّهم للمرة الثانية عن حدودهم؛ إذ قام الفرعون رمسيس الثالث بتشتيتهم والقضاء عليهم نهائيًّا كقوة ضاربة قادِرة على التحرُّك العسكري؛ وذلك حوالي عام ١١٩١ق.م. ومنذ ذلك الوقت اختفى ذِكرهم من التاريخ. وبعد الهزيمة التي حلَّت بهم، سمح الفرعون المصري لقِسمٍ منهم وهم البيلست أو الفيليست بالتوطُّن على الساحل الفلسطيني الأدنى.
هذه باختصار أخبار شعوب البحر التي أتَت بالفلستيين التوراتيين إلى بلاد كنعان. فماذا قال كمال الصليبي في أمر الفلستيِّين؟ يقول في مقدمته وقبل الدخول في مقارناته اللغوية، ما يلي:
[الفلستيُّون، بين شعوب العهد القديم هم الأكثر وضوحًا والأكثر إثارة للحيرة في آنٍ معًا. وإثارتهم للحيرة لا تبدو مبعث دهشة؛ إذ إن الباحثين دأبوا على البحث عن موطنهم التوراتي في المكان الخطأ. ولأنه أشير إلى الفلستيِّين في بعض الفقرات على أنهم «كريتيون» (كرتي، نسبة إلى كرت)؛ فقد ساد الاعتقاد بأنهم كانوا في الأصل «شعب بحر» من أصل عرقي غامض توطَّن أصلًا في جزيرة كريت في البحر المتوسط، ثم انتقل مِن هناك واستقرَّ في ساحل فلسطين. والأمر المؤكد هو أن الفلستيين الذين تتحدث عنهم التوراة العبرية لم يكونوا فلستيي فلسطين، ولا هم أتوا على كل حالٍ مِن جزيرة كريت. ولا بدَّ أن كرت التوراتية (صموئيل الأول ٣٠: ١٤ صفنيا ٢: ٤–٥، حزقيا ٢٥: ١٥–١٦) كانت وادي «كريت» (كرث)، وهو رافد لوادي «تيه» في مُرتفعات رجال ألمع، وهناك واحة تُسمَّى «الكراث» (كرث) في وادي بيشه، حيث هناك قرية تُسمَّى «الفلسة» (قارن مع العِبرية فلشت التي يكون جمع النسبة إليها فلشتيم أي فلستين)] (ص٢٤٥–٢٤٦).
وبعد أن يجد لكل مدينة من مدن الفلستيين الخمس مكانها في غرب العربية، يَنتهي إلى القول: [ومهما كانت الأماكن الأخرى التي وُجد فيها الفلستيُّون التوراتيُّون، فقد كانت لهم مدنهم الرئيسية في الجانب البحري من عسير وجنوب الحجاز … وذلك حتى زمن ملوك إسرائيل الأوائل الذين قضوا عليهم أو على وجودِهم المُستقلِّ في تلك المناطق. (وربما كان في ذلك ما يُفسر هجرة الفلستيِّين إلى الشام حيث أعطوا اسمهم لأرض فلسطين)، وقد كانت أراضيهم هناك مُتداخلة مع أراضي بني إسرائيل والشعوب المحلية الأخرى. وليس في التوراة العبرية ما يُفيد بأنهم كانوا في الأصل مُستوطنين غرباء في البلاد، وصلوا إليها كأهل بحرٍ من الخارج. وهذا الرأي ما هو إلا من تصوُّر الباحثين التوراتيين، وليس هناك ما يُسنده إطلاقًا …] (ص٢٥٣–٢٥٤).
والحقيقة، فإن السند الذي لا يَتصوَّر الصليبي وجوده إطلاقًا، يأتي من النصوص التوراتية ذاتها، ومن مقاطع أغفل الصليبي الإشارة إليها تمامًا. فإضافة إلى وصف التوراة للفلستيين بأنهم كريتيُّون كما هو الأمر في سِفر صفنيا ٢: ٤–٥؛ وحزقيا ٢٥: ١٥–١٦، فإنه يَنسبهم إلى جزيرة «كفتور» وهو الاسم التبادلي، في التوراة لجزيرة كريت المعروفة في البحر المتوسِّط. نقرأ في سِفر إرميا ٤٧: ٤ [بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين، ليَنقرض من صور وصيدون كل بقيةٍ تُعين؛ لأن الرب يُهلك الفلسطينيِّين، بقية جزيرة كفتور]، فهم إذن أهل بحر أتوا من جزيرة. وكذلك هم غرباء عن كنعان أتوا إليها من الخارج شأنهم في ذلك شأن الإسرائيليِّين. نقرأ في سِفر عاموس ٧: ٩ [ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر؟ والفلسطينيين من كفتور؟] وفي سِفر التثنية ٢: ٣٢ [… والعويون الساكنون في القُرى إلى غزة، أبادَهم الكفتوريُّون الذين خرجوا من كفتور وسكنوا مكانهم].
نَكتفي بهذا القدر من البينات النصية والأركيولوجية التي لم يعبأ بها كمال الصليبي أو لم يكن على علمٍ بها، لنُتابعه في بحثه عن مدن الفلستيين الخمس في غرب العربية، ونجده يعثر على «غزة» في موقع «العزة» الحالي في وادي أضم، و«أشدود» في «السدود» في منطقة رجال ألمع، و«أشقلون» في «شقلة» بجوار مدينة «القنفذة»، و«جت» في «الغاط» بمنطقة جيزان، و«عقرون» في «عرقين» بوادي عتود الفاصل بين رجال ألمع ومنطقة جيزان (ص٢٥٢–٢٥٣). ولكن نظرة سريعة على خارطة الصليبي رقم ٣، تُظهر أمرًا غاية في الغرابة، فالمدن الخمس التي عُثر عليها في غرب العربية، تتوزَّع على مسافات شاسعة جدًّا عبر بلاد عسير من أقصاها إلى أقصاها، وتتباعَد عن بعضها مئات الكيلومترات أحيانًا عبر مساحات مليئة بمدن الشعوب الأخرى التي تعرَّف عليها الصليبي هناك، مثل أهل يهوذا وأهل إسرائيل والكنعانيِّين والآراميين. فالعزة (غزة) الواقعة في منطقة الليث، والغاط (جت) الواقعة في منطقة جيزان، تبعدان عن بعضهما حوالي ٧٠٠كم. والسدود (أشدود) تبعد عن شقل (أشقلون) أكثر من ٢٠٠كم. وعرقين (عقرون) تبعد عن شقلة حوالي ٥٠٠كم. فكيف تسنَّى لشعب واحد، كان عبر أسفار التوراة عدوًّا تقليديًّا للإسرائيليين، أن يبني مدنه الخمس على هذه الأرض الواسعة، وفي مواقع مُتبعثِرة عبر أراضي الأعداء؟ لقد ذَكر الصليبي مسألة التداخل بين أراضي الفلستيين والإسرائيليِّين، عندما عرج مطولًا على قصة شمشون في التوراة (ص٢٤٥–٢٥٥). ولكن التداخُل شيء والتبعثُر شيء آخر. ولقد كانت أراضي الفلستيين عند حدودهم الشرقية متداخلةً مع أراضي غيرهم، مما أثبته توزع الفخاريات الفلستية، إلا أن الأرض التي شغلوها على الساحل الفلسطيني كانت أرضًا متَّصلة، بمُدنها التي يسهل التوصُّل بينهما والانتقال والتنسيق وتجهيز الجيوش التي كانت تُواجه الإسرائيليين تحت راية فلستية موحَّدة.
وإذا عدنا إلى البيِّنة النصية مرةً أخرى وجدنا كل الشواهد المؤيدة لوجود أرض واحدة متَّصلة للفلستيين، قائمة على وجه التحديد في المنطقة الساحلية، لا في المناطق الداخلية حيث عثر كمال الصليبي على معظم مدن الفلستيين، والتي تتوزَّع بعيدًا عن ساحل البحر بمئات الأميال. نقرأ في حزقيا ٢٥: ١٦ [فلذلك هكذا قال السيد الرب. ها أنا ذا أمدُّ يدي على الفلسطينيين وأَستأصِل الكريتيِّين وأهلك بقية ساحل البحر] وفي صفنيا ٢: ٤–٥ [لأنَّ غزة تكون متروكة، وأشقلون للخراب. أشدود عند الظهيرة يَطردونها، وعقُرون تستأصل. ويل لسكان ساحل البحر أمة الكريتيين].
هذه أسانيد الرأي الذي يقول عنه الصليبي [ما هو إلا مِن تصوُّر الباحثين التوراتيِّين، وليس هناك ما يُسنده إطلاقًا] (ص٢٥٤).