الفصل الخامس

بلاد آرام

لقد غيَّر إعصار شعوب البحر، الذي داهم منطقة الشرق الأدنى القديم حوالي عام ١٢٠٠ق.م.، الخارطة البشرية والسياسية لبلاد الشام. فتدمير المدن الكنعانية في فلسطين قد سهَّل تسرب بعض الجماعات الهامشية التي كانت تتنقَّل دون هدًى باحثة عن مأوًى في منطقة شرقي الأردن، وتدمير الممالك الكنعانية في سوريا الداخلية من كركميش إلى مشارق فلسطين، خلق فراغًا أخذت تملؤه تدريجيًّا القبائل الآرامية التي كانت جوالة في المنطقة منذ زمنٍ بعيد، فاستقرَّت وشكلت ممالك قوية رسمت تاريخ بلاد الشام خلال الألف الأول قبل الميلاد. ونحن لا نعرف على وجه التحديد تاريخ الهجرة المُفترضة لهؤلاء الآراميين إلى مناطق الهلال الخصيب، ولا عن البدايات الأولى لتواجدهم فيها. ولعلهم كانوا هنا منذ أقدم الأزمنة يعيشون حياة البداوة والتنقُّل.

ولعلَّ أقدم وثيقة ورد فيها ذِكر آرام، هي نقش أكادي يعود إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، يتحدَّث عن انتصار الملك «نارام سن» على «خرشا متكي» شيخ «آرامي». وبعد ذلك ورد اسم آرام في وثيقة من فترة أور الثالثة (٢٠٥٠–١٩٥٠ق.م.) دُوِّن عليها اسم «آرامي» إشارة إلى مدينة أو إقليم.١ ووثيقة أخرى من الفترة نفسها ورَد فيها «آرام» كاسم علمٍ لشخص يُدعى «آرامو». وفي السجلات الملَكية لمدينة ماري، ورد ذِكر «آرام» و«أحلامو» باعتبارهما قبائل يردُ أفرادها إلى ماري للمُتاجرة.
ومنذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد، كثرت الوثائق التي تتحدَّث عن الأحلامو والآراميين. فلدينا رسالة موجَّهة من حاكم «دلمون» إلى والي «نِفر» المعروفة في منطقة سومر، يَشتكي فيها من الأحلامو الذين نهبوا تمور بلاده. وبابل نفسها لم تكن في مأمن من خطرهم إذ كانوا يُسبِّبون المتاعب للحكام المحليين ويُهدِّدون الموصلات بين مدنهم. كما ورد ذِكر الآراميين في نصوص أوغاريت من القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ حيث ورد ذِكر اسم العلم «ابن آرامي» وذِكر «حقول الآراميين»، الأمر الذي يدلُّ على أن جماعات من الآراميين قد بدأت في تلك الفترة تهجر حياة التنقل، وتستقرُّ في الأرض. ولم تخلُ المصادر المصرية أيضًا من ذِكر الآراميين منذ بدايات القرن الثالث عشر، وكذلك المصادر الحثية.٢
وعندما بدأ الآشوريون بالتوسُّع غربًا، كان الآراميون والأحلامو المرتبطون بهم مصدر إزعاج للآشوريين وقد ورَدَ في سجلات الملك «تغلات فلاصر الأول» خبر قضائه عليهم: [حاربتُ الأحلامو والآراميين ثماني وعشرين مرةً، حتى إني عبرت الفرات في سنة واحدة مرتين. لقد قضيت عليهم من «تدمر» الواقعة في بلاد «آمورو» و«عانة» في بلاد «سوحو» إلى «ريبيقو» في «كار - دونيياش».٣
ومع انتهاء الألف الثاني قبل الميلاد، بدأت هذه الجماعات البدوية القلقة بالتوطُّن في مناطق الجزيرة السورية وبلاد الشام الداخلية، وأسست إمارات ودويلات مدن قوية. ثمَّ استطاع الفرع الكلداني منها تثبيت أقدامه في الجزء الجنوبي من بلاد بابل، وأسس المملكة البابلية الجديدة. ونستطيع من تتبُّع أسماء الدويلات الآرامية الأولى، أن نَستنتِج أن التنظيم القبلي قد بقي سائدًا بين الآراميين فترةً طويلة من الوقت بعد تكوين إمارتهم المستقرة. فأسماء الإمارات كانت مستمدةً من أسماء الأُسر الحاكمة؛ وذلك مثل «بيت زماني» في حوض دجلة وعاصمتها «آميدي» في موقع «ديار بكر» الحالية، و«بيت بحياني» في حوض الخابور، وعاصمتها «جوزان» في موقع «تل حلف» الحالية، وبعدها إلى الشرق «بيت عديني» بين كركميش على الفرات ونهر بليخ، وعاصمتها «تل برسيب» في موقع «تل أحمر» اليوم، و«بيت أجوشي» في منطقة حلب، وعاصمتها «أرفاد». وإذا أردنا استعراض بقية الممالك الآرامية نذكر مملكة «يأدي» التي سيطرت على منطقة جبال الأمانوس وعاصمتها «شمأل» في موقع بلدة «زنجرلي» الحالية، ومملكة «حماة» نحو الجنوب تليها مملكة «دمشق». وهناك بضع ممالك آرامية لا يتوفَّر حولها الكثير من المعلومات التاريخية والآثارية، ورَدَت أخبارها مفصلة في التوراة هي «آرام صوبة» إلى الشمال الغربي من دمشق، و«آرام معكة» على سفوح جبل الشيخ الغربية، و«جيشور» من جنوب جبل الشيخ إلى نهر اليرموك، و«بيت رحوب» في منطقة شرقي الأردن، و«طوب» على المناطق الحدودية اليوم بين سورية والأردن.٤

وكما عاشت الممالك الكنعانية السابقة تحت التهديد المستمر للقوة المصرية والقوة الحثية، فقد عاشت الممالك الآرامية الجديدة، تحت التهديد المستمر للقوة الأشورية. فالممالك الآرامية قد بدأت بالتشكل مع البدايات الأولى للتوسع العسكري الآشوري الذي ما انفك يوجِّه الضربة تلو الأخرى لدويلات بلاد الشام، التي كانت تواجهه إما مُنفردةً أو من خلال أحلاف مؤقتة. وعندما انهارَت آشور، لم تتأخر كثيرًا الدولة البابلية الجديدة في ملء الفراغ الناجم عن غيابها في بلاد الشام، ثم حلَّ قورش الفارسي وخلفاؤه محل هؤلاء. غير أن الثقافة الآرامية، رغم كل الظروف المحيطة التي حاقَت بها، قد أدت دورها الكبير وطبعت المنطقة بطابعها، وتمكنت أخيرًا من غزاتها جميعًا من خلال اللغة الآرامية التي وحَّدت أقطار الشرق القديم من حدود الهند إلى البحر المتوسِّط في بوتقةٍ واحدة، أطلق عليها المؤرخ المعروف أرنولد توينبي اسم «العالَم السوري»، مُثْبِتةً أن الروح العسكرية أمر زائل في تاريخ الحضارات وأن ما يبقى هو النتاج الثقافي الإنساني الأصيل.

هذا العالَم الآرامي الزاخر، هو الذي تروي أخباره أسفار التوراة، منذ البدايات الأولى لقصص الآباء التي يمكن وضعها في الإطار العام لمطلع الألف الثاني قبل الميلاد، عندما كان الآراميون قومًا رُحَّلًا يتنقَّلون بين العراق والشام. فالآباء في سِفر التكوين ينتمُون إلى إحدى هذه الجماعات الآرامية التي كانت تعيش على شاطئ الفرات الأعلى في منطقة «آرام النهرين» بين نهر بليخ ونهر الفرات، ومنطقة «فدان آرام»؛ أي سهل آرام في الجوار نفسه، كما هو واضح من سِفر التكوين ٢٤ و٢٨؛ حيث يرسل إبراهيم عبده إلى أرضه وعشيرته بآرام النهرين ليخطب من هناك امرأة لابنه إسحاق؛ لأنه لا يُريد له زوجة من بنات كنعان. ومثله يَفعل إسحاق عندما يُوصي ابنه يعقوب أن يذهب إلى فدان آرام ليَخطب امرأةً مِن عشيرة أمِّه. وفي سِفر التثنية ٢٦: ٥ نقرأ في تعليمات أداء الطقوس [فيأخُذ الكاهن السلَّة من يدك ويضعها أمام مذبح الرب إلهك، ثم تَصرخ وتقول أمام الرب: آراميَّا تائهًا كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرَّب هناك].

وهنا نودُّ التنبيه إلى مسألة عالجها بالتفصيل نقاد التوراة، ولسنا أول مَن يُثيرها هنا، وهي وجود عدة تقاليد في قصص الآباء جمعها مُحرِّرو التوراة في تقليد واحد، وأكثر من سلسلة نسبٍ ضمُّوها إلى واحدة. فهناك «أبرام» الذي خرَج من أور الكلدان (التكوين ١١: ٣١–٣٣)، وهناك «أبرام العبراني» (التكوين ١٤: ١٣)، وهناك «إبراهيم» الذي قرنه فيما بعد سِفر التكوين بهذَين الأبرامين [فلا يُدعى اسمك بعدُ أبرام، بل يكون اسمك إبراهيم] (التكوين ١٤: ٥). ومن ناحية أخرى هناك إسحاق بن إبراهيم، وولده يعقوب، اللذان ضمَّهما سِفر التكوين إلى سلسلة أخرى تَنتهي بالمدعو «إسرائيل»؛ حيث تمَّت المطابقة بين يعقوب حفيد إبراهيم وإسرائيل: [فقال لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل] (التكوين ٣٢: ٢٨).

والتفصيل في هذا الأمر خارج عن مسار موضوعنا، ولكنَّنا أمام هذه التقاليد المُغرقة في القِدم والمُختلط بعضها ببعض، وانطلاقًا من موقفنا في النظر إلى أحداث سِفر التكوين كمجموعة من القصص الملحمي التي يصعب أمامها فرز الوقائع الأصلية، نقول إنَّ آباء سِفر التكوين ممَّن ينتسب بعضهم إلى آرام، هم غير آباء مجموعات سِفر الخروج، وهؤلاء بدورهم ليسوا المُمثلين الرئيسين والوحيدين لأحداث مملكتَي إسرائيل ويهوذا فيما بعدُ، وهذا في حدِّ ذاته موضوع مُستقلٌّ للبحث، نتركه الآن لنَنتقِل إلى المراحل شبه التاريخية، والتاريخية في أحداث التوراة.

يتزامَن تشكيل المملكة الموحدة المفترضة في فلسطين خلال القرن العاشر قبل الميلاد، مع تكوين الممالك الآرامية في بلاد الشام، ومن المنطقي أن يَحدث الصدام بينهما، وكانت بدايته على ما تذكره الرواية التوراتية بين داود وحدد عزر ملك صوبة: [وضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة، حين هبَّ ليرد سلطته عند نهر الفرات، فأخذ داود منه ألفًا وسبعمائة فارسٍ وعشرين ألف رجلٍ … فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل … وسمع توعي ملك حماة أنَّ داود قد ضرب كل جيش هدد عزر، فأرسل توعي يورام ابنه إلى الملك داود ليسأل عن سلامته ويباركه؛ لأنه حارب هدد عزر وضربه؛ لأن هدَّد عزر كان له حروب مع توعي] (صموئيل الثاني ٨: ٣–١٠).

ويبدو من عدم ذِكر اسم ملك دمشق في هذا النص، أن آرام دمشق كانت في ذلك الحين تابعة لملك صوبة. ولكنها لن تلبث حتى تنفصل بعد فترة، وتقوم فيها أسرة حاكمة مُستقلة. فعن أخبار الاحتكاك الثاني بين المملكة الموحدة والآراميين، في النصف الثاني من القرن العاشر أيام الملك سليمان نقرأ في سِفر الملوك الأول ١١: ٢٢–٢٥: [وأقام الله له خصمًا آخر، رزون بن إليداع، الذي هرب من عند سيده هدد عزر ملك صوبة، فجمع إليه رجالًا فصار رئيس غزاة عند قتل داود إياهم، وانطلقوا إلى دمشق وأقاموا بها وملكوا في دمشق، وكان خصمًا لإسرائيل كل أيام سليمان].

ولكن هذه الأحداث عند كمال الصليبي، وما تلاها في الروايات التوراتية عن آرام، لا تَجري في بلاد الشام بل في غرب العربية: [افترض الباحثون الذين استنَدُوا أكثر ما يكون إلى الدليل التوراتي المُئَوَّل تأويلًا خاطئًا، أن الآراميين كانوا أصلًا من سكان منطقة من شمال الشام تقع غرب الفرات. ولكن العودة إلى تمحيص الدليل التوراتي المذكور، تدلُّ على أن ما تشير إليه التوراة العبرية باعتباره (ء ر م) كان موجودًا في الواقع في غرب شبه الجزيرة العربية، وآرام النهرين (ء ر م نهريم) لم تكن بلاد ما بين النهرَين بل قرية «النهارين»، وهي اليوم في منطقة الطائف في جنوب الحجاز. ويَتبع ذلك أن فدان آرام (فدن ء ر م) كانت قرية «الدفيئة» (دفن بلا تصويت) في جنوب الحجاز. وكذلك فإن أسماء أخرى تربطها التوراة العبرية بآرام، مثل بيت رحوب وآرام صوبة، وحتى دمشق «ذا مسك» في منطقة جيزان، يُمكن أن تكون موجودة بالاسم نفسه في الحجاز وعسير ووادي «ورم» أيضًا يَحمل اسم آرام هناك. و«أمت» التي اعتُبرت حتى اليوم إشارة إلى حماة في وادي العاصي في شمال الشام، هي عمليًّا قرية «أمط» الحالية في منطقة الطائف …] (ص٣٠ و٣٧).

ولكن تقاطُعات أخبار آرام في التوراة مع النصوص الآرامية في بلاد الشام والسجلات الآشورية تثبت لنا بما لا يدع مجالًا للشك بأنَّ آرام المذكورة في التوراة هي آرام بلاد الشام. وأول تقاطُع نحصل عليه بين هذه المصادر يتعلَّق بملك دمشق المدعو «بن حدد» والمعروف تاريخيًّا ببن حدد الأول، وفي التوراة ببن حدد بن طبريمون. فالملك «آسا» ثالث ملوك يهوذا يستنجد بملك دمشق ليُعينه على «بعشا» ملك إسرائيل الذي كان يغزو أرضه: [وكانت حرب بين آسا وبعشا كل أيامهما. وصمَد بعشا ملك إسرائيل على يهوذا وبني الرامة لكيلا يدَع أحدًا يخرج أو يدخل إلى آسا ملك يهوذا. وأخذ آسا جميع الفضة والذهب الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك ودفعها ليدِ عبيدِه، وأرسلهم الملك آسا إلى بنهدد بن طبريمون حزيون، ملك آرام الساكن في دمشق قائلًا: إن بيني وبينك وبين أبي وأبيك عهدًا، هو ذا قد أرسلتُ لك هدية من فضة وذهب فتعالَ انقض عهدك مع بعشا ملك إسرائيل فيصعد عني. فسمع بنهدد للملك آسا وأرسل رؤساء الجيوش التي له على مدن إسرائيل]. الملوك ١٥: ١٦–٢٠.

وقد تمَّ العثور في أرض آرام قُرب مدينة حلب على نُصب بازلتي ارتفاعه حوالي المتر، نذره الملك بن حدد، ملك آرام للإله «ملقارت» والنُّصب يرجع بتاريخه إلى حوالي عام ٨٦٠ق.م.، أي إلى السنوات الأخيرة من حكم الملك بن حدد ملك آرام دمشق، وقد نقش على النصب: [النصب الذي أقامه بن حدد بن (…) ملك آرام لسيده ملقارت الذي نذر له فسمع لقوله].٥ والنصب الآن محفوظ في متحف حلب بسورية، ويمكن لأي قارئ للآرامية الاطلاع عليه.

يلي عرش دمشق بعد بن حدد الأول، بن حدد الثاني المعروف في النصوص الآشورية بحدد عدري، وهو الذي وقف في وجه التوسع الآشوري؛ إذ جمع حوله أحد عشر مَلِكًا من ملوك دويلات بلاد الشام. وهبَّ إلى «قرقرة» على نهر العاصي جنوب مدينة جسر الشغور الحالية لنَجدة «إرخوليني» ملك حماة الذي كان يتعرَّض لهجوم كاسح من قِبل قوات شلمنصر الثالث. وقد خلَّد الآشوريون ذكرى انتصارهم في هذه المعركة (الذي ربما كان مزعومًا) في العديد من النصوص، ودوَّنوها على الرقم والتماثيل. وقد قدمنا سابقًا ترجمة لنصِّ شلمنصر الثالث حول معركة قرقرة.

وعند معركة قرقرة نستطيع القيام بعدد من التقاطُعات بين المصادر الآشورية والآرامية والتوراتية، فإرخوليني ملك حماة والرجل الثاني في حِلف قرقرة بعد حدد أدري (بن حدد الثاني) مذكور في عدد من النقوش التي تمَّ العثور عليها في مناطق حماة مثل الرستن وقلعة المضيق ومحردة، والتي يقول عن نفسه فيها أنه إرخوليني بن بارتاس وأنه بنى معبدًا للربة بعلاتي، كما عُثر على نقوش أخرى في مدينة حماة نفسها، تذكر «أورتاميس» بن إرخوليني الذي بنى سورًا جديدًا للمدينة٦ ويبدو أن معركة قرقرة لم تكن بالمعركة الفاصِلة بين دمشق وآشور؛ لأنَّ الملك الآشوري لم يَستطع فتح المدينة رغم هزيمة المُتحالفين، وقد مات بعدها بن حدد الثاني على فراش المرض وخلفه أحد قواده المدعو «حزائيل»، وهنا تتَّفق الرواية الآشورية والرواية التوراتية في التفاصيل العامة لموت ملك دمشق واسم خليفته الذي مَلَك مكانه. نقرأ في النص الآشوري: [لقد هزمت حدد عدري ملك إميرشو مع اثني عشر أميرًا من حلفائه وجندلتُ ٢٠٫٩٠٠ من مُحاربيه الأقوياء، ودفعتُ بمَن تبقَّى من قواته إلى نهر العاصي فتفرقوا في كل اتجاه يطلبون أرواحهم. أما حدد عدري نفسه فقد انتهى. واغتصب العرش مكانه حزائيل، ابن لا أحد، الذي دعا إليه الجيوش الكثيرة وثار في وجهي، فتعقبتُه إلى دمشق، مقره الملكي حيث قطعتُ أشجار بساتينه].

وتعبير «ابن لا أحد» الذي استخدمه النص الآشوري، هو تعبيرٌ معروف في النصوص القديمة لوصف الملوك المُنحدِرين من أصلٍ عامي. وكان مثل هؤلاء الملوك لا يَذكُرون في نصوصهم أيضًا أسماء آبائهم؛ لأنهم من سلالةٍ غير مَلكيةٍ.

وفي الرواية التوراتية يأتي «إليشع» النبي إلى دمشق، وكان [بنهدد مريضًا، فأُخبرَ وقيل له قد جاء رجل الله إلى هنا. فقال الملك لحزائيل خذ بيدِك هديةً واذهب لاستقبال رجل الله، واسأل الرب به قائلًا هل أُشفى مِن مرَضي. فذهب حزائيل لاستقباله وأخذ هديةً في يده]. وعندما اجتمع حزائيل بإليشع تنبَّأ إليشع بموت بن حدد واعتلاء حزائيل العرش مكانه: [فانطلق حزائيل من عند إليشع ودخل إلى سيده فقال له: ماذا قال لك إليشع؟ فقال: قال لي إنك تحيا، وفي الغد أخذ اللبدة وغمسها بالماء ونشرها على وجهِه ومات، ومَلَك حزائيل عوضًا عنه] (الملوك الثاني ٨: ٧–١٥).

تولَّى حزائيل المُلك في دمشق وأطلق على ابنه اسمَ بن حدد تيمنًا بأسماء ملوك دمشق من السلالة السابقة، وهو المعروف تاريخيًّا ببن حدد الثالث. وفي عهد هذَين الملكَين استعرَتْ نيران حرب دائمة بين مملكة دمشق ومملكتَي إسرائيل ويهوذا.

نقرأ في سِفر الملوك الثاني ١٢: ١٧–١٨ [حينئذٍ صعد حزائيل ملك آرام وحارب جت وأخذها، ثم حوَّل وجهه ليصعد إلى أورشليم، فأخذ يوآش ملك يهوذا جميع الأقداس التي قدَّسها يهوشافاط ويهورام وأخزيا آباؤه ملوك يهوذا، وأقداسه وكل الذهب الموجود في خزائن بيت الرب وبيت الملك وأرسلها إلى حزائيل ملك آرام فصعد عن أورشليم]. وفي الملوك الثاني ١٣: ٢٢–٢٥. [وأما حزائيل ملك آرام فضايق إسرائيل كل أيام يهو آحاز … ثم مات حزائيل ملك آرام ومَلك بنهدد ابنه عوضًا عنه. فعاد يهوآش بن يهو آحاز وأخذ المدن من يد بنهدد بن حزائيل التي أخذها من يد يهو آحاز بالحرب، ضربه يوآش ثلاث مرات واسترد مدن إسرائيل].

وقد أوردت المصادر السورية ذِكر حزائيل ملك دمشق فلدينا نقوش على قطع عاجية من حداتو (أرسلان طاش الحديثة عند الحدود التركية) عليها اسم حزائيل مما يشير إلى توسع نفوذه شرقًا حتى الفرات. ولدينا نصٌّ آرامي تركه ملك حماة المدعو «زاكير» يتحدث عن حروبه مع بن حدد بن حزائيل ملك دمشق. ويرجع النص في تاريخه إلى مطلع القرن الثامن قبل الميلاد، وقد عُثر عليه في تل «آفس» قُرب بلدة سراقب بين حماة وحلب منقوشًا على نُصب كبير من الحجر البازلتي. وفيه يقول زاكير إن ملك دمشق بن حدد بن حزائيل قد تحالف ضده مع عشرة ملوك آخرين وحاصره في مدينة «حاتريك» إلا أنه هزم التحالف بعون الآلهة، وقد أوردنا النص في موضعٍ سابق.

وحاتريكا المذكورة في النص معروفة أيضًا في النصوص الآرامية باسم «حزرك»، وكانت عاصمة مملكة «نوخاشي» التي قامت بين حماة وحلب، ثم قامت محلها مملكة «لوعاش». وبما أن زاكير يصفُ نفسه في النص بأنه ملك حماة ولوعاش، فمن الأرجح أنه قد ضم لوعاش إليه وأقام في حزرك (حاتريكا). ويرد ذِكر هذه المدينة في التوراة باسم «حدارخ» بالترافق مع دمشق وحماة. نقرأ في سِفر زكريا ٩: ١–٢ [وحي كلمة الرب في أرض حدراخ، ودمشق محله. لأن للرب عين الإنسان وكل أسباط إسرائيل وحماة أيضًا تتاخمها].

بعد هذا الفيض من البينات النصية المتقاطعة مع البينات التاريخية والآثارية، أي سندٍ يبقى لآرام الصليبي القائمة في غرب العربية؟

١  هذا الشاهد إلى نهاية المقطع يستند إلى الدكتور علي أبو عساف في كتابه «الآراميون» الصفحات من ١١ إلى ١٢، ولكننا لا نرى فيما تحصَّل لدينا من معلومات عن الآراميين في تلك الفترة، ما يشير إلى احتمال تشكيلهم لمدينة في ذلك الوقت المبكِّر، والأرجح أن «آرامي» هنا إنما تشير إلى مناطق التواجد الآرامي.
٢  الدكتور علي أبو عساف، الآراميون، دار أماني، الجمهورية العربية السورية ١٩٨٨م، الصفحات ١١، ١٣، ١٧.
٣  Leo Oppenheim, op. cit., p. 275.
٤  الدكتور علي أبو عساف المرجع السابق، الصفحات من ١١–٧٤.
٥  Franz Rosenthal, Canaanite and Aramaic Inscriptions (in Ancient Near Eastern Texts), op. cit., p. 655.
انظر أيضًا: الدكتور علي أبو عساف، الآراميون، المرجع السابق، ص١٣٣.
٦  H. Sader, op. cit., pp. 222–223.
انظر أيضًا: الدكتور علي أبو عساف، الآراميون، المرجع السابق، ص٥٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤