الفصل السابع

بلاد موآب ونقش ميشع

إلى جانب الممالك الآرامية المعادية، التي جاورت إسرائيل ويهوذا من الشمال والشمال الغربي، فقد جاورهما إلى الشرق، عبر الأردن والبحر الميت، شَعْبانِ هما العمونيون والموآبيون، وإلى الجنوب فيما يلي البحر الميت سكن الآدوميون، وكانت هذه الشعوب الثلاثة في خصامٍ دائم مع يهوذا وإسرائيل، وغالبًا ما ذُكرت في التوراة بالترافق مع بعضها بعضًا، مما يشير إلى تجاورها وتداخل حدودها، وهي الصورة نفسها التي رسمتها لهذه الشعوب الثلاثة السجلات الآشورية التي تورد ذكرها معًا وبالترافق مع الدويلات المجاورة لها.

نقرأ في نص للملك الآشوري تغلات فلاصر الثالث قائمة بالملوك الذين كانوا يؤدون الجزية في فلسطين وشرقي الأردن: [سانيبو ملك بيت عمون، سلامانو ملك موآب، ميتيني ملك أشقلون، يهو آحاز ملك يهوذا، كوش ملاكو ملك آدوم …].١ وكذلك في نص لسنحاريب: [توبعلو ملك صيدون، عبد ليتي (أي عبد اللات) ملاك أرواد، أورو ملك جبيل، ميتيني ملك أشدود، بودوإيلي ملك بيت عمون، كاموسن أديبي ملك موآب، عيرامو ملك آدوم، كلهم جاءوا إليَّ بالهدايا].٢ وفي نص لأسر حادون: [دعوت إليَّ ملوك بلاد حاتي على الضفة الأخرى من النهر، بعلو ملك صور، منسي ملك يهوذا، قوش جبري ملك آدوم، موسوري ملك موآب …].٣
figure
نقش ميشع ملك موآب.

وتنسج الرواية التوراتية على المنوال نفسه: [يسمع الشعوب فيرتعدون تأخذ الرعدة سكان فلسطين، حينئذٍ يندهش أمراء آدوم، أقوياء موآب تأخذهم الرجفة] (الخروج ١٥: ١٥). [أنت مارٌّ اليوم بتخم موآب، فمتى قربت إلى تجاه بني عمون لا تعادهم لا تهجموا عليهم. لأنِّي أعطيك من أرض بني عمون ميراثًا] (التثنية ٢: ١٩). [… وأخذ شاؤل المُلْك على إسرائيل وحارب جميع أعدائه حواليه، موآب وبني عمون وآدوم] (صموئيل الأول ١٤: ٤٧). [وكان بيده (داود) آنية فضة وآنية ذهب وآنية نحاس … من آرام ومن موآب ومن عمون] (صموئيل الثاني ٨: ١٢). [لأنهم تآمروا عليك بالقلب معًا، عليك تعاهدوا عهدًا. خيام آدوم والإسماعيليون، موآب والهاجريون، جبال عمون وعمالي ق …] (المزمور ٨٣). [… وكذلك كل اليهود الذين في موآب وبين بني عمون وفي آدوم، والذين في كل الأرض سمعوا أن ملك بابل قد جعل بقيةً ليهوذا وقد أقام عليهم «جدليا»] (إرميا ٤٠: ١١).

ونعرف من مدن الموآبيين في التوراة «ديبون» العاصمة و«قريوت» و«ميدبا». وموقع ديبان القديم هو المكان المعروف اليوم بخربة ذيبان على بعد ثلاثة أميال شمال غرب عرعير، وقد اكتُشفت فيها آثار عديدة للموآبيين أهمها «الحجر الموآبي»، وهو نُصب حجري نقش عليه «ميشع» ملك موآب نصًّا طويلًا يتحدث عن حروبه مع إسرائيل. أما مركز العمونيين الرئيسي فقد صار فيما بعد مدينة «عمان» الحالية. وقد تحدثنا سابقًا عن سالع عاصمة الآدوميين وعلاقتها ببترا.

لم يأبه كمال الصليبي كثيرًا لأمر آدوم فذكرها عرضًا في إحدى حواشي الكتاب وطابقها مع «وادي إدام» في جنوب مكة، أما العمونيون فلم يتعرض لهم بتاتًا ولم يحدد لهم مكانًا في غرب العربية. ولكنه توقف طويلًا عند موآب بسبب وثيقة ميشع ملك موآب، وهي أطول وأهم وثيقة كتابية تم العثور عليها حتى الآن في فلسطين وشرقي الأردن، ولغة النقش وكتابته تنتمي إلى كنعانية فلسطين المدعوة خطأً بالعبرية المبكرة، والتي تطورت فيما بعد إلى اللغة التوراتية المدعوة بالعبرية، والتي تبنت فيما بعد الخط الآرامي المربع الذي يُدعى الآن بالخط العبري.

ولسوف نتوقف طويلًا، فيما بعد من هذا الفصل عند نقش ميشع الملك موآب، لأنَّه يقدِّم بيِّنةً آثارية وتاريخية واضحة عن مسرح الحدث التوراتي، ولكن نعرف كيف تعامل كمال الصليبي مع هذه البينة وأمثالها. وبما أن الصليبي قد شكَّك في كل الترجمات التي تمت لهذا النص حتى الآن، وقدم تصحيحات لها هنا وهناك، ودعا إلى إعادة قراءة النقش بنصه الأصلي، فإننا سنقدم أولًا صورة للنقش بكتابته الأصلية، ثم نحل رموز النقش بحروف عربية، ثم نقدم ترجمةً له اعتمادًا على أكثر من ترجمة عالمية، ونزود القارئ المهتم بتتبع تعليقنا على الترجمة بقائمة بأحرف كتابة النقش وما يقابلها من أحرف عربية، واضعين كل هذه الأدوات أمام مَن يشاء، للحكم في هذه المسألة التي نعتبرها من أدق المسائل المتعلقة بموضوع هذا الكتاب.

حل رموز نقش ميشع ملك موآب بحروف عربية٤

  • (١)

    أنك مشع بن كمش ملك مأب هد.

  • (٢)

    يبني أبي ملك على مأب شلش شت وأنك ملك.

  • (٣)

    تي أحرا أبي واعس هبمت زات لكمش بقرحه بن (ى).

  • (٤)

    شع كي هشعني مكل ﻫ لكن وكي هراني بكل سناي عمر.

  • (٥)

    ي ملك يسرال ويعنوات مأب يمن ربن كي يانف كمش.

  • (٦)

    بأرصه ويحلفه بنه ويأمر جم ها اعنوات ماب بيمي أمر.

  • (٧)

    وأرا به وبيته ويسرال أبد أبد علم ويرش عمري ات كل (ار).

  • (٨)

    ص مهدبا ويشب به يمه وحصي يمي بنه أربعن شت ويش.

  • (٩)

    به كمش بيمي وابن ات يعملعن وأعس به هأشوح وابن.

  • (١٠)

    ات قريتن واش جد يشب بارص عطرت معلم وبين له ملك ي.

  • (١١)

    سرال ات عطرت والتحم بقر واحزء واهرج لت كل هعم.

  • (١٢)

    هقريت لكمش ولماب وشاب مشم ات ارال دوده وا (س).

  • (١٣)

    حبه لفني كمش بقريت واشب به ات اش شرن وات اش.

  • (١٤)

    محرت ويامرلي كمش لك أحذات نبه عل يسرا لوا.

  • (١٥)

    هلك بلله والتحم به مبقع هشحرت عد هصهرم واح.

  • (١٦)

    زه واهرج كل شبعت الف ج (ب) ر ن و … ن وجبرت و.

  • (١٧)

    ت ورحمت كي لعشتر كمش هحرمته (واقع مشم ا).

  • (١٨)

    لي يهوه واسحب هم لفني كمش وملك يسرال بنه ات.

  • (١٩)

    يهص ويشب به بهلتحمه بلى ويجرشه كمش مبني (و).

  • (٢٠)

    اقمح مماب ماتن اش كل رشه واسأه بيهص واحزه.

  • (٢١)

    لسفت عل ديبن انك بنتي قرحه حمت هيعرن وحمت.

  • (٢٢)

    هعفل وأنك بنتي شعرية وانك بنتي مجدلته وا.

  • (٢٣)

    أنك بنتي بت ملك وانك هستي كلأى هاشو (ح) لم (بن) بقر (ب).

  • (٢٤)

    هقر وبران بقرب هقر بقرحه وأمر لكل هعم عسول.

  • (٢٥)

    كم اش برببته وأنك كرتي همكرتت لقرحه بأسر.

  • (٢٦)

    ي يسرال أمك بنتي عرعر وأنك عستي همسلة بأرنن.

  • (٢٧)

    أنك بنتي بت بمت كي هرس ها انك بنتي بصركي عين.

  • (٢٨)

    ش ديبن حمشن كي كل ديبن مشمعت وأنك ملك ها أنك بنتي بصركي عين.

  • (٢٩)

    ت … مات بقرن اشر يسفتي عل هأرص وانخ بنت.

  • (٣٠)

    ي (مهد) يا وبت دبلتن وبت بعلمعن واساشم ا ت ن …

  • (٣١)

    … صان هارص وحورنن يشب به. ب وق اش.

  • (٣٢)

    … أمر لي كمش رد هلتحم بحو رنن وارد …

  • (٣٣)

    به كمش بيمي وعل ده مشم عش …

  • (٣٤)

    … شت شدق وان …

ترجمة النص٥

  • (١)

    أنا ميشع ملك موآب الديباني (نسبةً إلى ديبان العاصمة).

  • (٢)

    أبي ملك على موآب ثلاثين سنةً، وأنا ملكت.

  • (٣)

    بعد أبي، وبنيت هذا المرتفع ﻟ «كموش» (الإله) ﺑ «قرحه».

  • (٤)

    لأنَّه أعانني على كل الملوك، ولأنَّه نصرني على أعدائي، (في النص: كي هراتي بكل سناي، أي أراني في أعدائي، وهو تعبير ما زال مستخدمًا في العامية)، أما عمري.

  • (٥)

    ملك إسرائيل، فإنه أذلَّ موآب أيامًا كثيرةً، لأن كموش كان غاضبًا على أرضه.

  • (٦)

    فخلفه ابنه وقال سأذل موآب في أيامي قال (هذا).

  • (٧)

    فنظرت إليه وإلى بيته، وإسرائيل باد، باد إلى الأبد. وعمري احتل كل أرض.

  • (٨)

    «مهدبا» وأقام عليها في أيامه، ونصف أيام ابنه أربعين سنةً، (ولكن) أرجعها.

  • (٩)

    كموش في أيامي. فبنيت «بعل معان» وجعلت فيها بركة لخزن الماء وبنيت.

  • (١٠)

    «قريتان» (اسم مدينة) وكان أهل «جاد» (من أسباط إسرائيل) يسكنون في أرض «عَطَرُت» (اسم مدينة) من زمن بعيد وعَمَّر ملك.

  • (١١)

    إسرائيل «عَطَرُت» فحاربت المدينة وأخذتها وقتلت كل أهل.

  • (١٢)

    المدينة، فهنئ كموش وموآب، وجئت من هناك برئيسهم «أرئيل» وسحبته.

  • (١٣)

    أمام كموش ﺑ «قريوت» (اسم المدينة) وأسكنت بها أهل «شران» وأهل.

  • (١٤)

    «محرت» فقال لي كموش اذهب وخذ «نبه» (اسم مكان) من بني إسرائيل.

  • (١٥)

    فسرت بالليل وحاربت من مطلع الفجر إلى الظهيرة وأخذتها.

  • (١٦)

    وقتلتهم جميعًا، سبعة آلاف رجل وامرأة.

  • (١٧)

    وجارية، لأنِّي وهبتهم قربانًا لعشتر كموش، وأخذت من هناك … (نقص في السطر).

  • (١٨)

    يهوه، وسحبتهم أمام كموش. ثم بنى ملك إسرائيل.

  • (١٩)

    «يهص» (اسم مدينة)، وسكن لها وهو يحاربني فطرده كموش من أمامي.

  • (٢٠)

    وأخذت من موآب مائتي رجلٍ من أفضلهم، وسيرتهم إلى يهص وأخذتها.

  • (٢١)

    فضممتها إلى ديبون. أنا بنيت قرحة، وحمت هيعرن.

  • (٢٢)

    وحمت هعوفل (أسماء مدن) فبنيت أبوابها وبنيت أبراجها.

  • (٢٣)

    وأنا بنيت بيت الملك، وجعلت بركتين بقرب.

  • (٢٤)

    المدينة، ولم توجد بئر في داخل بلدة القرحة، فقلت للشعب اجعلوا.

  • (٢٥)

    لكم آبارًا في بيوتكم. وأنا قطعت الأشجار لِقرحة على يد الأسرى من بني.

  • (٢٦)

    إسرائيل، أنا بنيت «عرعر» (اسم مدينة)، وأنا مهدت الطريق إلى «أرنن» (نهر يصب في بحيرة لوط).

  • (٢٧)

    أنا بنيت «بيت باموث» (معبد) لأنه كان قد تخرب، وبنيت «بصر» (اسم مدينة) لأنها كانت خرابًا.

  • (٢٨)

    … ديبون خمسين، لأن كل ديبون خضعت لي وأنا.

  • (٢٩)

    حكمت … مئة المدن التي ضممتها إلى المملكة وأنا بنيت.

  • (٣٠)

    «مهدبا» و«بيت دبلتان» و«بيت بعل معان» (أسماء مدن) وسيَّرتُ إليها.

  • (٣١)

    غنم البلاد. و«حورنان» (اسم مدينة) أقام بها …

  • (٣٢)

    … فقال لي كموش انزل لقتال حورنان فنزلت.

  • (٣٣)

    … (لقتال المدينة وأخذتها) وكموش سكن بها في أيامي.

  • (٣٤)

    … وأنا …

figure
جدول الأبجديات القديمة. لاحظ أبجدية النص هي الرابعة من اليمين.

هذا النصب التذكاري أقامه ميشع ملك موآب لتخليد انتصاراته على الإسرائيليين، والإشادة بأعماله العمرانية والإصلاحية في موآب. فبعد خضوع موآب لإسرائيل سنين عديدة أيام الملك عمري وابنه آخاب، قام ميشع بتحرير البلاد وطرد الإسرائيليين من كل مكان أقاموا فيه بأرض موآب، ثم تفرَّغ بعد ذلك للإصلاحات الداخلية. وتأتي الرواية التوراتية على ذِكر هذه الحروب بين ميشع وإسرائيل بعد وفاة آخاب بن عمري، فسار إليه يهورام بن آخاب مستعينًا بيهوشافاط ملك يهوذا، وحاصرته الجيوش في عاصمته ثم ارتدت عنه بعد أن قدَّم ابنه البكر قربانًا على سور المدينة. ورغم هذا الاختلاف بين الروايتين، إلا أنهما تتفقان على تمرد ميشع واستقلاله عن إسرائيل، وإخفاق هؤلاء في إخماد ثورته والانسحاب من بلاده.

ولكن كمال الصليبي الذي لم يقدِّم لنا فكرة عن مضمون نقش ميشع، ولم يشر إلى الرواية التوراتية المتعلقة بقتال ملك إسرائيل لميشع، يتقدم بتفسير غاية في الغرابة لوجود الحجر الموآبي في منطقة شرقي الأردن، على مسافة شاسعة من «أم الباب» المكان الذي يفترضه كموطن للموآبين التوراتيين في مرتفعات الطائف، فيقول في تقديمه لمسألة نقش ميشع: [في هذا النقش الموآبي، يتحدث ميشع ملك موآب (مشع ملك م ء ب) عن حروبه مع عمري ملك إسرائيل، وابنه من بعده (وهو آخاب بن عمري الذي لا يذكره النقش بالاسم). وبسبب الغزوات المتتالية التي تعرضت لها أرض موآب في هذه الحروب، اضطر ميشع إلى الجلاء عنها، فانتقل مع أتباعه من موآب إلى «قرحة» (لعلها اليوم جحرًا من قرى الكرك)، حيث أقام لنفسه عاصمةً جديدة شرقي الأردن. وبهذه المناسبة أقام ميشع الحجر الذي كتب عليه هذا النقش] (ص١١٢).

وهذا التفسير يضرب عرض الحائط بمضمون النقش وبالرواية التوراتية الموازية له. فميشع لم يحارب الملك عمري وابنه آخاب من بعده، ولم يضطر بسبب هزائمه المتتالية إلى الجلاء عن أرضه، بل انتزع استقلاله بعد فترة طويلة من خضوع موآب لعمري وابنه من بعده، وأجبر الإسرائيليين على الانسحاب وهذا ما تؤيده الرواية التوراتية نفسها. ومن ناحية أخرى، كيف نفسِّر قيام ملك مهزوم من وجه أعدائه، تاركًا لهم موطن آبائه وإصلاحاته في بلده! وإذا كانت هذه الهزيمة والهجرة الجماعية لشعب موآب قد حدثت فعلًا، فكيف غفلت الرواية التوراتية عن ذكرها، وعن تخليد هذا النصر المبين على شهب اعتُبر دومًا من الأعداء التقليديين لبني إسرائيل؟ وكيف نفسِّر استمرار وجود موآب كجارة لإسرائيل ويهوذا في الأخبار التوراتية اللاحقة حتى دمار أورشليم، وتبشير الأنبياء المتأخرين بزوالها، مما نجده في نبوءات إرميا وعاموس ودانيال؟

ثم يتابع الصليبي: [وليس هناك في الحجر الموآبي ما يشير إلى أن موآب كان اسمًا قديمًا لمرتفعات الكرك شرق البحر الميت، أو إلى أن مملكة إسرائيل كانت تقع في فلسطين، ونحن إذا أعدنا قراءة النقش بنصِّه الأصلي، وليس من خلال الترجمات التي أُجريت له حتى الآن، يصبح من الواضح تمامًا أن الحروب التي جرت بين إسرائيل وموآب، والتي يتحدث عنها النقش إنما جرت في الحجاز وليس في شرق الأردن، وإن مملكتي إسرائيل وموآب، بالتالي، كانتا متجاورتين في غرب شبه الجزيرة العربية وليس في جنوب الشام] (ص١١٢).

ونحن لا ندري أي شيء آخر يجب أن يحتويه النقش، أكثر مما احتوى للدلالة على أن موآب التوراتية كانت في شرقي الأردن. فالحجر الموآبي قد عُثر عليه بين خرائب مدينة ديبان في الموقع المعروف منذ زمن طويل بخربة ذيبان بشرقي الأردن، بين عدد كبير من الآثار الموآبية، وصاحب النصب يذكر بلسانه أنه ميشع ملك موآب الديباني، وأنه قد هزم الإسرائيليين وعمَّر ما خربوه إبان سيطرتهم على بلاده. ثم يأتي على ذِكر عدد كبير من المدن الموآبية وكلها مذكورة في التوراة. ورواية ميشع على نصبه التذكاري تتفق مع الرواية التوراتية في الخطوط العريضة ولا تتناقض معها.

ورغم دعوته إلى إعادة قراءة النقش بنصه الأصلي، فإن الصليبي لا يفعل سوى تقديم أسطر قليلة من النص الكامل، معزولة عن سياقها العام ليعيد قراءتها على طريقته. وحتى هذه الأسطر المختارة نفسها، لا تقدم إلينا بنصها الكامل، بل كأجزاء أسطر معزولة عن سطورها. ولسوف نتابع فيما يلي هذه الشواهد القليلة من نقش ميشع الطويل.

[في الكلام عن الهجوم الأول على موآب الذي قام به أتباع الملك عمري … يصف النقش موآب بأنها «يمن ربن» وبقراءة «يمن» كجمع ﻟ «يُم» بمعنى يوم، وقراءة «ربن» كجمع للصفة «رب» بمعنى عديد، أخذ المترجمون حتى الآن تعبير «يمن ربن» على أنه أيام عديدة. وهي ترجمة لا تتفق تمامًا مع المعنى العام للنص، والواقع هو أن التعبير يشير ببساطة إلى أن موآب كانت تقع «جنوب ربن»، والمكان الوحيد في الشرق الأدنى الذي ما زال يحمل الاسم «ربن» هو قرية «رابن» في الحجاز. وعلى ذلك فإن موآب التوراتية قابلة للتعريف اليوم بكونها قرية «أم الياب»، وهذه تقع عمليًّا إلى الجنوب من رابن أي يمن ربن] (ص١١٢).

الجملة القصيرة المؤلفة من كلمتين التي يشير إليها الصليبي في المقطع أعلاه، هي جزء من السطر الخامس في النقش:

(٤) لأنه أعانني على كل الملوك ولأنه نصرني على أعدائي أما عمري.

(٥) ملك إسرائيل، فإنه أذل موآب أيامًا طويلة (يمن ربن) لأن كموش كان غاضبًا على أرضه (أي على أرض موآب).

فإذا أخذنا بوجهة نظر الصليبي في كون «يمن ربن» لا تعني أيامًا كثيرة، بل «جنوب موقع رابن»، ستكون ترجمة السطر الخامس على الوجه التالي:

(٥) (أما عمري) ملك إسرائيل فإنه أذل مؤاب إلى الجنوب من أرض رابن.

ونحن نحتكم إلى المنطق ونتساءل أي الترجمتين تتفق مع السياق العام للنص؟ ولماذا يحتاج مَلِك موآب إلى تحديد موقع بلاده على أنها تقع إلى الجنوب من قرية لم تُعرف قط كموقع من مواقع الموآبيين، سواء في نقش ميشع نفسه الذي عدَّد كل مدنهم وقراهم تقريبًا، أم في التوراة التي لم تترك موقعًا من مواقع الموآبيين إلا وأتت على ذكره. وإذا لم تكن «رابن» هذه موقعًا من مواقع الموآبيين، فلا بد أنها كانت في الماضي مملكةً قوية معروفة من ممالك الشرق القديم حتى يقوم ملك موآب بتعريف مملكته بأنها تقع إلى الجنوب منها. فأين ذكر رابن هذه في سجلات الشرق القديم التي لم تترك موقعًا مهمًّا إلا وأتت على ذِكره؟

ثم يتابع الصليبي: [هناك جملة في النقش تقرأ: «ويرس عمري ﮐ… ص (كل ﻫ - ء رص) مهدب». وقد أخذت الجملة حتى الآن على أنها تشير إلى احتلال عمري ملك إسرائيل لبلدة «مادبا» في شرق «الأردن». ولو كانت مادبا (مدب ء) هي المعنية حقًّا هنا، لما كتبت «مهدب») نظرًا لأن حرف الهاء الذي يتوسط الكلمة لا يسقط عادة في اللفظ في اللغات السامية. وما تقوله الجملة فعلًا هو: «وعمري احتل كل الأرض من هدب ء» وهدبء هذه، هي اليوم قرية «الهدية» شمال «أم الباب» في مرتفعات الطائف المشرقة على وادي أضم] (ص١١٣).

في المقطع أعلاه، إشارة إلى جملة قصيرة تؤلف الجزء الأخير من السطر السابع والكلمة الأولى من السطر الثامن (انظر النص). وهو يوردها بالكنعانية كما يأتي: [ويرس عمري ﮐ… ص مهدب ء] مفترضًا وجود تشوه بسيط في نهاية السطر السابع، يقترح في مكانه «كل ﻫ - أرص» أي «كل الأرض» حيث الهاء هنا هي «أل» التعريف الكنعانية. ثم يعمد بعد ذلك إلى تفكيك كلمة «مهدب ء» إلى شطرين هما «الميم» وهي حرف الجر بالكنعانية، و«هدب ء» التي يرى فيها اسم مكان هو «الهدبة» في مرتفعات الطائف، إلى الشمال من «أم الباب» التي رأى فيها سابقًا موآب التوراتية (ص١١٣ أيضًا). فتغدو الجملة: [ويرس عمري كل ﻫ - أرض م - هدب ء] أي [وعمري احتل كل الأرض من هدب ء (أي ابتداء من الهدبة)].

وفي الحقيقة فإننا لم نعثر في النص الأصلي لنقش ميشع على نقصٍ أو تشوه في الموضع المشار إليه. وترجمة الجملة كما هي واردة بوضوح في النقش هي: «وعمري احتل كل أرض مهدبا، وأقام عليها في أيامه ونصف أيام ابنه أربعين سنةً».

ومهدبا الواردة هنا، قد ذُكرت في التوراة مرارًا كمدينة للموآبيين تحت اسم «ميدبا» (انظر على سبيل المثال سِفر العدد ٢١: ٣٠؛ ويشوع ١٧: ١٦؛ وأخبار الأيام الأول ١٩: ١٧–١٥؛ وإشعيا ١٥: ٢) وترد ميديا بالتوافق مع المدن الموآبية الأخرى المذكورة في نقش ميشع، كما هو الأمر في سِفر يشوع ١٣: ٩ و١٥: ١٦: [أخذ الراءوبينيون والجاديون مُلكهم الذي أعطاهم موسى في عبر الأردن نحو الشرق … فكان تخمهم من عروعير التي على حافة وادي أرنون، والمدينة التي في وسط الوادي وكل السهل عند ميدبا: حشبون وجميع مدنها في السهل، وديبون وباموت بعل وبيت بعل معون وبهصة وقديموت وميفعة وقريتايم]. وهذه المدن المذكورة هنا، قد وردت في نقش ميشع في الأسطر الآتية: ميدبا وردت مهدبا في السطرين ٨ و٣٠، وعروعير في السطر ٢٦، وديبون وردت في الأسطر ١ و٢ و٢٨ وبعل معون وردت بعل معان في السطرين ٩ و٣٠، ويهصة وردت في السطرين ١٩ و٢٠ وقريتايم وردت قريتان في السطر ١٠.

من هنا فإن تفكيك كلمة «مهدبا» في السطر السابع من النص، لا يقوم على أساس مقنع، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالإضافة التعسفية لأل التعريف «ﻫ» قبل كلمة «أرص».

أما عن قوله بأن «مهدبا» لا تتحول إلى «مادبا» لأن حرف الهاء الذي يتوسط الكلمة لا يسقط عادةً من اللفظ في اللغات السامية، فقول لا محل له هنا، لأن «مأدبا» هو الاسم الحديث لموقع في شرقي الأردن اليوم، يُظن أنه الموقع القديم لمهدبا نقش ميشع أو ميديا التوراة. والاسم الحديث إذا صح أنه الموقع القديم ذاته، فإنه مُحَوَّر عن «ميدبا» الاسم التوراتي، وتحول الياء إلى ألف أمر وارد وفق لائحة تحولات الأحرف التي وضعها الصليبي نفسه (الصفحات ٢١ و٢٢).

وكتعليقٍ أخير على هذه الجملة التي تطوع الصليبي لملء فراغها في الصفحة ١٣ من كتابه، نذكر بأنه في الصفحة ١١، أي قبل صفحتين فقط، كان قد اعترض على قيام عالِم الآثار واللغات السامية وليم. ف. ألبرايت، بملء فراغ مماثل في أحد نقوش «لخيش» بفلسطين، بكلمات مقترحة لفهم النص. قال الصليبي: [هناك بقايا جملة تُقرأ كالتالي «ء دني هل ء تكتب ء … ﻫ تعسو كزوءت … سلم» والترجمة وهي مرة أخرى من عمل و. ف. ألبرايت تقول بكل صفاقة: «والآن يا مولاي هل لك أن تكتب لهم قائلًا لماذا فعلتم هكذا حتى بأورشليم». إن مثل هذه الترجمة الاعتباطية لا يجوز السماح بها، حيث هناك أقل احترامًا للأمانة العلمية]!

بعد ذلك يأتي الصليبي إلى شاهده التالي، وهو عبارةٌ عن كلمتين متفرقتين وردتا في النقش، فيبحث في مدلوليهما دون إيرادهما في سياقهما الطبيعي: [في أجزاء من النقش ترد لفظة «قر» باعتبارها تعني «قرية» ولفظة «كمش» على أنها «كموش» اسم إله موآب، وفي أجزاء أخرى تظهر كل من «قر» و«كمش» بشكل مميز على أنهما أسماء لبلدتين أو قريتين متجاورتين في أراضي موآب. وقريتا «القر» و«قماشة» ما زالتا هناك إلى اليوم في الجزء نفسه من مرتفعات الطائف حيث تقع «الهدبة»].

وقد بحثنا دون طائل في النقش عن موضع وردت فيه كلمة «قر» على أنه تعني اسم موقع. وفي الحقيقة فقد وردت الكلمة أربع مراتٍ في النقش، وذلك في السطر ١١ و١٢ ومرتين في السطر ٢٤، وفي سياقٍ منطقي ونحوي يشير إلى معناها كمدينة أو قربة ففي السطر ١١ وردت الكلمة مسبوقة بحرف الجر «ب» وفي السطر «١٢» وردت مسبوقة بأل التعرف «ﻫ».

(١١) (فعمر ملك إسرائيل) «عطرن» (اسم مدينة) فحاربت في المدينة (ﺑ قر) وأخذتها وقتلت كل أهل.

(١٢) المدينة (ﻫ قر)…

ومن الواضح تمامًا من سياق السطر ١١ أن «قر» تعني مدينة، وأنها تعود إلى «عطرت» المدينة التي عمرها ملك إسرائيل فحارب فيها ميشع وأحذها. أما في السطر ١٢ فإن أل التعريف السابقة ﻟ «قر» تظهر بوضوح أنها تعني أيضًا مدينة وليست اسم موقع.

وفي السطر ٢٤ وردت الكلمة مرتين مسبوقةً أيضًا بأل التعريف «ﻫ».

(٢٣) وأنا بنيت بيت الملك وأنشأت البركتين بقرب.

(٢٤) المدينة (ﻫ - قر) ولم توجد بئر في داخل القرية (ﻫ - قر) ﺑ «قرحة» فقلت للشعب اجعلوا لكم آبارًا …

إن ال التعريف الكنعانية «ﻫ» لا تدخل على أسماء المواقع، تمامًا كما هو الأمر في العربية حيث نقول «بغداد» وليس «البغداد» و«دمشق» وليس «الدمشق» إلا في حالات نادرة تكون أل التعريف فيها جزءًا من المسمَّى الأصلي للمدينة مثل «القاهرة».

أما عن «كموش» اسم إله الموآبيين، فقد بحثنا في النص عن سياقٍ يمكن أن يفهم منه ورود الكلمة كاسم لمدينة فلم نُوفَّق إلى ذلك، وربما كانت إشارة الصليبي إلى السطر ١٨ وهو سطرٌ غير واضح المعنى تمامًا في نصفه الأول لأنه مسبوق ببضع كلماتٍ مشوَّهة في آخر السطر ١٧، حيث نقرأ:

(١٧) وأخذت من هناك …

(١٨) يهوه، وسحبتهم أمام كموش ثم بنى ملك إسرائيل.

ولكننا نتساءل إذا كانت كل من كلمتي «كموش» و«قر» قد وردتا في نقش ميشع كأسماء لمدن موآبية، فلماذا لم تأتِ أخبار التوراة على ذكرها بتاتًا، وهي التي عددت كل مدن موآب، منذ حلول بني إسرائيل في جوارهم أيام موسى إلى آخر أيام أورشليم؟

بعد ذلك يقول الصليبي [هنا، وعلى بُعدٍ آمنٍ من خصومه الإسرائيليين في جنوب الحجاز، أصبح هذه الملك «صاحب مواشي» كما تصفه التوراة العبرية، قادرًا على الازدهار مرةً أخرى، وعلى استملاك مراعٍ جديدة في أرض «حرن» أي حوران، لما كان لديه من «بقرن» (أبقار) و«معز» (ماعز) و«ص ء ن» (ضان أو أغنام). وحتى الآن كانت قراءة منقوشة ميشع غاية في التشوش حول تفسيرها إلى درجة أنهم أخفقوا في التعرف إلى هذه الكلمات الأخيرة الثلاث كما تظهر في المنقوشة، بما تعنيه في الواقع، وفي حين أن كلمة «بقرن» هي بوضوح «بقر» بصيغة جمع المذكر، فقد قرءوها على أنها «ﺑ - قرن» التي معناها «بقري» أما «معز» و«ضأن» فقد حُذفتا كليًّا من الترجمة بسبب سوء التأويل العام للإطار الذي وردت فيه هاتان الإشارتان الصريحتان إلى الماعز والأغنام].

لا شك أن إشارة الصليبي في المقطع أعلاه، هي إلى الأسطر الأخيرة في النص، من السطر ٢٩ إلى السطر ٣٤. أما ما ذكره الصليبي عن تشوش قرَّاء المنقوشة في تفسير هذا الجزء، فليس مصدره عجز المترجمين وسوء تأويلهم العام للنص، بل تشوه الجزء الأسفل من النُّصب، وفقدان الكثير من الكلمات التي لم يستطع المترجمون اقتراح بدائل مناسبةٍ لها، لأن ما تبقَّى من الكلمات الواضحة في الأسطر الناقصة لا يقدِّم سياقًا ذا دلالةٍ. ولا ندري كيف استطاع الصليبي أن يستنتج من هذه الأسطر الستة المشوهة، أن ميشع قد أصبح قادرًا على الازدهار مرةً أخرى، وعلى استملاك مراعٍ جديدة في موطنه الثاني. أما عن كلمة «بقرن» الواردة في السطر ٢٩ والتي يرى أنها «بقر» بصيغة جمع المذكر وليست «بقري» (بمدن)، فإن معنى السطر (الذي لم يورد لنا نصه كاملًا) لا يستقيم بتاتًا مع هذا الاجتهاد (راجع النص). أما كلمة «ضأن» فلم تُحذف كليًّا من الترجمات، وهي واردة في نصنا أعلاه، وفي انسجامٍ تام مع الإطار العام الذي وردت ضمنه، ولكننا أخفقنا في التعرف على كلمة «معز» فيما وصلت إليه أيدينا من نسخٍ محققة ومنشورة للنص. ويمكن للقارئ أن يتحقق بنفسه من ذلك، ويساعدنا في البحث عن الكلمة وهي تُكتب بالكنعانية على الشكل الآتي «IO𐤌».

وأما عن أرض «حرن» التي يقرنها بحوران، ويقول أن ميشع قد استملك فيها مراعي جديدة، فقد وردت في النص «حورنان» لا «حرن»، وهي مدينةٌ موآبية وردت في التوراة تحت اسم «حورونايم» وهي مُثنَّى كهف أو وهدة، ولا علاقة لها بحوران (انظر إشعيا ١٥: ٥؛ وإرميا ٤٨: ٣، و٥، و٣٤).

وأخيرًا نتساءل، إذا كان الموآبيون قد رحلوا عن جوار مملكتي يهوذا وإسرائيل في أواسط القرن التاسع نحو شرقي الأردن، فكيف نجد مملكتهم ما زالت قائمةً في مطلع القرن السادس إلى جانب مملكتي آدوم وعمون، كما نستشف من نبوءات النبي إرميا الذي أتاه الوحي، كما يقول الكتاب، في السنة الأولى لحكم نبوخذ نصر ملك بابل: [في ابتداء ملك يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا صار هذا الكلام إلى إرميا من قِبل الرب قائلًا: هكذا قال الرب لي، اصنع لنفسك ربطًا وأنيارًا واجعلها على عنقك وأرسلها إلى ملك آدوم وإلى ملك موآب وإلى ملك بني عمون]. إرميا ٢٧: ١–٣ وها هو إرميا يبشِّر بخراب موآب، ويعدِّد مدنها واحدةً واحدة، بعد مُضي أكثر من قرنين على التاريخ المفترض لزوال موآب ورحيل شعبها:

[قريب مجيء هلاك موآب وبليتها مسرعة جدًّا اندبوها يا جميع الذين حواليها وكل العارفين اسمها، قولوا كيف انكسر قضيب العز عصا الجلال انزلي من المجد، اجلسي في الظلماء أيتها الساكنة بنت ديبون، لأن مهلك موآب قد صعد إليك وأهلك حصونك. قفي على الطريق وتطلعي يا ساكنة عروعير، اسألي الهارب والناجية، قولي ماذا حدث، قد خزي موآب لأنَّه قد نُقض، ولولوا واصرخوا أخبروا في أرنون أن موأب قد أُهلك، وقد جاء القضاء على أهل السهل. على حولون وعلى يهصة وعلى ميفعة وعلى ديبون وعلى نبو وعلى بيت دبلتايم وعلى قريتايم وعلى بيت جامول وعلى بيت معون وعلى قريوت وعلى بصرة وعلى كل مدن موآب] (إرميا ٤٨: ١٦–٢٣).

١  Leo Oppenheim, op. cit., p. 282.
٢  Ibid., p. 287.
٣  Ibid., p. 291.
٤  ولفنسون، تاريخ اللغات السامية، المرجع السابق، ص١٠٦–١٠٨.
٥  W. F. Albright, Palestinian Inscriptions (in: Ancient Near Eastern Texts), op. cit., pp. 320–21.
ولفنسون، تاريخ اللغات السامية، المرجع السابق، ص١٠٨–١١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤