الفصل الرابع

وهْمٌ كبير

طبيعة الوهم

هل الوعي وهم؟ إن احتمال أننا ربما نكون مخطئين على نحوٍ كبير فيما نعتقده بشأن عقولنا يظهر لنا بأشكال مختلفة: الإرادة الحرة وَهْمٌ، والمسرح الديكارتي وَهْمٌ، والذات وَهْمٌ، وثراء عالمنا المرئي «وَهْمٌ كبيرٌ».

يجب أولًا أن نكون واضحين في تحديد معنى كلمة «وهم»؛ فتعريف المقابل الإنجليزي لها في «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» هو كالتالي:

حقيقة أو حالة أن تكون مخدوعًا أو مضلَّلًا بالمظاهر … فكرةٌ أو اعتقادٌ خاطئ؛ أي خداعٌ أو ضلال أو توهُّم.

وتعريفها في قاموس «وبستر» هو:

إدراك شيء موجود بالفعل بطريقةٍ تجعلنا نسيء فهْمَ طبيعته الحقيقية.

بعبارة أخرى، الوهم ليس شيئًا غير موجود، وإنما هو شيء موجود ولكن ليس كما يبدو لنا.

fig12
شكل ٤-١: الوهم شيء ليس كما يبدو لنا. في هذا الوهم البصري، الرجل الذي يوجد بالداخل يبدو أكبر من الآخَر، على الرغم من أن الاثنين متساويان في الحجم.
أشهر أنواع الأوهام هي الأوهام البصرية التي من أمثلتها الشكل ٤-١. إن هذا النفق يعطي انطباعًا بوجود رجل ضخم متوحِّش يطارد رجلًا آخَر مذعورًا أقل حجمًا، في حين أن الاثنين في الواقع متساويان في الحجم. لقد نجح هذا الوهم البسيط في خداعنا لأننا نرى أن عمق النفق يتراجع، مما يعني أن أحد الرجلين يبدو بعيدًا جدًّا عن الآخَر؛ فتخلص الآليات التلقائية في الجهاز البصري إلى أن الشخص البعيد أكبر حجمًا من الشخص الأقرب إلينا. وفي هذا الوهم والعديد من الأوهام البصرية الأخرى، يمكننا معرفةُ كيف نجحَتِ الخدعةُ في تضليلنا، وتذكيرُ أنفسنا بضرورة ألَّا ننخدع بها ثانيةً، غير أن الانطباع البصري يستمر في خداعنا بأن هناك شخصًا أكبر حجمًا من الآخَر.

هل يمكن أن ينطبق شيء مماثِل على الوعي بالكامل؟ فإن الادِّعاء لن يكون حينها أن الوعي غير موجود، وإنما ليس كما يبدو؛ يعني هذا أن أفكارنا البديهية بشأن الطريقة التي يبدو لنا بها الوعي يجب أن تكون خاطئة، ويجب أن نتخلَّصَ منها. وحيث إننا نواجِهُ لغزًا كبيرًا عند محاولة فهم الوعي، فقد تساعدنا تلك الفكرة.

ولتطبيق تلك الفكرة، يجب أن نبدأ من الطريقة التي يبدو لنا الوعي بها، ثم نفكِّر لماذا يمكن أن تكون خاطئةً. من السهل أن نشبِّهَ العقلَ بأنه مسرح (لقد عرضنا من قبلُ لماذا قد يكون هذا خاطئًا)، وهناك طريقة تفكير أخرى تتمثَّل في الانطباع بأن الوعي شكل من أشكال القوة، وأننا بحاجة إليه للقيام بأكثر الأشياء صعوبةً أو التي تحتاج إلى براعة كبيرة. من الأمثلة الجيدة على ذلك التفكيرُ الإبداعي واتخاذُ القرار وحلُّ المشكلات، لكن يتَّضِح في واقع الأمر أن بعضًا من تلك الأشياء يمكن إنجازها على نحوٍ غير واعٍ.

فيما يلي مثال بسيط: لغز خاص بالأطفال:

في يوم مشمس، بينما كنتُ أسير عبر حقل، وقع نظري على أشياء موجودة على العشب، وهي: وشاح قديم وجزرة وقطعتان من الفحم. كيف وصلَتْ تلك الأشياء إلى هناك؟

إذا لم يكن بإمكانك أن تحلَّ هذا اللغز على الفور، فيجب أن تحاوِل حلَّه؛ ما عليك إلا التفكير في كل جوانبه، ومحاولة الوصول إلى الحل على نحوٍ واعٍ برسم صورة ذهنية واضحة للمشهد ثم إعمال عقلك؛ سيصبح الحلُّ واضحًا لك بمجرد أن تصل إليه. إذا كنتَ ما زلت لا تستطيع أن تراه، فدَعِ المشكلةَ تدخل مرحلة «الاحتضان» وانظر ماذا سيحدث. (ستجد الإجابة في نهاية الفصل، لكن لا تطَّلِع عليها الآن.)

تُظهِر الدراسات الخاصة بمرحلة الاحتضان هذه أن الناس عندما يعملون باجتهاد من أجل حلِّ مشكلةٍ ما، ثم يوقفون التفكير فيها ليفكِّروا في شيء آخَر، يقفز حلُّ المشكلة في بعض الأحيان فجأةً إلى ذهن الشخص دون جهدٍ واعٍ على الإطلاق من جانبه. يحدث شيء مماثل مع العلماء والفنانين المبدعين؛ فالابتكارات والحلول المبدعة للمشكلات العلمية لم تظهر لهم مصادفةً؛ فما يحدث عادةً هو أن العالِم أو المبدع يحاول جاهدًا، لعدة ساعات أو أيام أو حتى سنوات، الوصولَ إلى حلٍّ لمشكلة عويصة، مستكشِفًا كافَّةَ جوانبها ومحدِّدًا كافَّةَ الصعوبات الموجودة فيها، لكنه مع ذلك يفشل في الوصول إلى حلٍّ لها، ثم لا يلبث أن يوقف التفكير فيها ويفكِّر في شيء آخَر، وفجأةً يجد حلَّ المشكلة يقفز إلى ذهنه في لحظة استكشاف. يبدو الأمر كما لو أن منطقةً ما من العقل كانَتْ تعمل باستمرارٍ على حلِّ المشكلة وتوصَّلَتْ إلى حلها بمفردها.

استكشفتْ أيضًا بعض التجارب العلمية مشكلاتٍ خاصةً شديدة التعقيد، لم يكن من الممكن حلها باستخدام التفكير المنطقي، غير أنه تمَّ حلُّها. إن تلك المشكلات تتطلَّب شيئًا آخَر، شيئًا يمكن أن نُطلِقَ عليه الحدسَ؛ ففي دراسةٍ شهيرة، لعب المشاركون لعبةَ كمبيوتر تحاكي إنتاجَ السكَّر في أحد المصانع، واستطاعوا أن يتحكَّموا في متغيِّراتٍ مثل عدد العمال وأجورهم، لكنْ لم تكن لديهم فكرة عن المعادلات التي تعتمد عليها عملية المحاكاة، وبسرعةٍ كبيرةٍ تحسَّنَتْ قدرتهم على تثبيت إنتاج السكر، لكن لم تكن لديهم أي فكرة عن كيفية قيامهم بهذا. في واقع الأمر، إن هؤلاء الذين اعتقدوا أنهم كانوا يعرفون ما كانوا يفعلونه عادةً كان أداؤهم أسوأ في المهمة من هؤلاء الذين لم يكونوا كذلك.

يحدث شيء مماثل ربما طوال الوقت في عوالمنا الاجتماعية العالية التعقيد؛ فنحن عندما نقابِل شخصًا جديدًا، نرى وجهَه وملابسه ولمحاته، ونسمع صوته ونحكم عليه سريعًا بأنه ودود أو بارد عاطفيًّا، وبأنه يمكن الوثوق به أو أنه مريب، ذكي أو غبي، لكن كيف ذلك؟ إلى جانب كلِّ قدراتنا الفطرية، لدينا تاريخٌ تكوَّنَ على مدى حياتنا من مقابلة الناس ومعرفة كيف كان حالهم؛ صحيح أننا ربما لا يمكننا تذكُّر كلِّ هذا التاريخ على نحوٍ صريحٍ، أو تحديد المعادلات التي تعطينا كلَّ الاحتمالات ذات الصلة، لكنَّ هناك مكانًا ما في النظام يحدث فيه كل هذا، وينتهي بنا الحال بإصدار أحكامٍ يمكن الاعتماد عليها.

إن هذا النوع من المعالجة الضمنية يفسِّر كثيرًا ممَّا نسمِّيه عمليةَ اتخاذ القرار الانفعالية، أو الحدس؛ حيث إننا لا نعرف من أين تأتي الحلول، فقط يبدو أننا نشعر بالحل الصحيح أو «نعرف» ما يجب علينا فعله، هذه مهارات مهمة عادةً ما يتم تجاهلها. تاريخيًّا، أُعجِب العديدُ من المفكِّرين بالعقلانية على حساب المشاعر؛ أي تغليب التفكير العقلاني الصرف على أي شيء آخَر، والفصل بين المنطق العقلاني والجسد؛ هذا ما يُطلِق عليه عالمُ الأعصاب أنطونيو داماسيو «خطأَ ديكارت»؛ فقد قدَّمَ الدليلَ على أن القدرة على الإحساس بالعواطف والمشاعر أساسيةٌ للتفكير وعملية اتخاذ القرار. على سبيل المثال، يصبح لدى الأشخاص المصابين بتلف في الفص الجبهي ضعف في الاستجابة الانفعالية، غير أنهم بدلًا من أن يصبحوا من متَّخِذِي القرار الشديدي العقلانية، يبدو أنهم يصبحون غير قادرين على اتخاذ أي قرار في أي أمر على الإطلاق.

يمكننا أيضًا أن نستجيبَ لكلِّ أنواع المثيرات التي لا نعيها؛ أي المثيرات التي تحت عتبة الشعور (أيْ خارج حيِّز الشعور). إن الإدراك الذي تحت عتبة الشعور ذو سمعة سيئة، ربما بسبب الادِّعاءات التي تقول بأن المعلنين يمكنهم جعل الناس يشترون منتجاتهم من خلال إدراج رسائل موجزة جدًّا في الأفلام أو البرامج التليفزيونية. في واقع الأمر، إن هذا النوع من الخداع لا يُجدِي، ونادرًا ما يتأثَّر الناس بهذا السلوك الشرائي. ولا تُجدي كذلك الأشرطةُ التي تقوم على هذا النوع من الإدراك؛ على سبيل المثال، هناك ادِّعاءات بأن الاستماع إلى شريطٍ به رسائل بصوتٍ خافِتٍ أو تشغيله أثناء النوم، سيجعل الشخصَ يتعلَّم لغاتٍ جديدةً أو مهاراتٍ جديدةً أو يغيِّر حياته! في واقع الأمر، إنْ لم يمكنك سماع الرسائل، فلن تتعلَّم شيئًا.

إذا نحَّينا تلك الادِّعاءات جانبًا، فإن هذا الشكل من الإدراك ظاهرة حقيقية؛ على سبيل المثال، عندما تُعرَض على الناس كلمةٌ تومض على نحو قصير جدًّا بحيث لا يمكنهم رؤيتها على نحوٍ واعٍ، فإن الكلمة سيظلُّ بإمكانها التأثيرُ على استجاباتهم؛ ومن ثَمَّ، إذا عُرِضتْ عليهم كلمةُ river (أي: نهر) ولم يروها، فإن الكلمة التالية bank (أي: بنك أو ضفة نهر) سيكون من المحتمل أن تُفسَّر على أنها ضفةُ نهرٍ أكثر من أن تُفسَّر على أنها مكانٌ لإيداع الأموال. بالمثل، إذا تمَّ عرض وجوهٍ مبتسمة أو عابسة، فإن الناس من المحتمل أكثر أن يستجيبوا على نحوٍ إيجابي للرموز التي لا معنى لها المعروضة بعدها على الفور. إن تلك التجربة — وغيرها العديد — توضِّح أننا طوال الوقت نتأثَّر بعددٍ لا نهائيٍّ من الأحداث التي لا نلاحظها، والتي تحدث حولنا؛ فأدمغتنا الذكية تعالج كلَّ تلك المعلومات بطرق معقَّدَة على نحو مدهش، إلا أننا لا نعرف على نحو واعٍ إلا القليل عنها.

ربما يغرينا هذا بتخيُّل شيء كالتالي: إن العقل البشري يتكوَّن من جزء كبير من اللاوعي، وأجزاء أصغر لما دون الوعي وما قبل الوعي، وأخيرًا العقل الواعي، وهو ما نعرفه ونختبره بشكل مباشِر، لكنني أعتقِدُ أن تلك الصورة يجب أن تكون خاطئةً.

ملء الفجوات

هل حدث من قبلُ أن رأيتَ فجأةً شيئًا أمام عينيك مباشرة لم تكن قد لاحظتَه من قبلُ؛ على سبيل المثال، النظَّارة التي اعتقدتَ أنك فقدْتَها، أو كتابٌ لم تلحظ وجوده، أو رجل ثلج في حديقة جارك؟ ما الذي كان موجودًا في دائرة وَعْيِك قبل تلك اللحظة؟ مثلما أشار وليام جيمس عام ١٨٩٠: «ربما كانت هناك فجوات؛ لكننا لم نشعر بوجودها.» لم تكن هناك فجواتٌ على هيئة نظَّارة، أو كتابٌ في الصورة التي الْتقطناها بأعيننا للغرفة، ولا مساحة خالية على هيئة رجل ثلج في الحديقة. السؤال: هل مَلَأ عقلُنا الفجوةَ؟ وهل احتاج ذلك؟

تبدو تلك التجربة الشائعة غريبةً، لكن ربما يكون السبب في غرابتها ما يلي: نحن نتخيَّلُ أنه في مكانٍ ما داخلَ رأسنا أو عقلنا توجد صورةٌ كاملة للعالم هي تجربتنا الواعية، فنحن على كلِّ حال عندما ننظر حولنا، نرى عالَمًا دون فجوات؛ لذا نفترض أنه لا بد من وجود عالَمٍ بلا فجوات كهذا ممثَّلٍ داخلنا. إن تلك الفكرة القائلة بوجود تمثيل داخلي مفصَّل في الرأس كانت الفرضيةَ الأساسية لأغلب العلوم المعرفية على مدار عقود كثيرة، غير أنه ربما يكون من الخطأ أن نفكِّرَ في عقولنا على هذا النحو، كما يتضح من خلال بعض التجارب البسيطة.

أولًا: هناك البقعة العمياء؛ إن العين البشرية مصمَّمة بطريقة غريبة توضِّح عرضيًّا الطريقةَ العشوائية التي تعمل بها عملية التطوُّر. في موضعٍ ما في الماضي البعيد لأسلافنا، تطوَّرَتْ أعينٌ بسيطة حيث كانت الخلايا العصبية التي تحمل المعلومات من الخلايا القليلة المستقبلة للضوء تتحرك إلى الأمام بدلًا من أن ترجع إلى الخلف، إلى الدماغ البسيط، وتعمل عملية الانتقاء الطبيعي دائمًا على تطويرِ ما تقدِّمه؛ ومن ثَمَّ حدث تعديلٌ في تلك العين البدائية، وتطوَّرَتْ تدريجيًّا إلى عين معقَّدة ذات عضلات وعدسات وآلاف المستقبلات، مع دمجِ كلِّ هذا معًا. بحلول ذلك الوقت، كانت الخلايا العصبية تتحرَّك في طريق الضوء، لكنَّ عملية التطوُّر لا يمكن أن ترى أنها قد اتخذت المسارَ الخاطئ، وترجع ثانية لتبدأ من جديد؛ من ثَمَّ بقيت الخطة الأصلية. وكانت نتيجة ذلك هي أن لدينا خلايا عصبية تعتم المستقبلات، ثم تتجمع معًا في حزمة كبيرةٍ تُسمَّى العصب البصري، وهو الذي يمرُّ عبر الشبكية، مُحدِثًا فجوةً (حوالي ١٥ درجة بعيدًا عن المركز) حيث لا توجد مستقبلات على الإطلاق. في هذا الجزء من العين نكون عميانًا على نحوٍ كامل. هل لاحظت ذلك من قبلُ؟ بالطبع لا، ولكي تتأكَّد من ذلك بنفسك، جرِّب الاختبارَ الموجود في الشكل ٤-٢.
fig13
شكل ٤-٢: اختبارٌ خاصٌّ بالبقعة العمياء. أمسك الكتابَ واجعله على مدى ذراعك؛ ضَعْ يدك على عينِكَ اليمنى ثم انظر إلى النقطة السوداء الصغيرة بعينك اليسرى؛ حرِّكْ بعد ذلك الكتابَ للأمام وللخلف ببطء، عند مسافةٍ معيَّنةٍ ستلاحظ أن صورة القطة ستختفي، ويرجع هذا إلى أنها الآن تقع في البقعة العمياء لديك.

في الحياة العادية، إننا ببساطة لا نلاحظ البقعة العمياء الموجودة في كل عين من عينَيْنا، ويرجع جزء من السبب في ذلك إلى أن لدينا عينَيْن؛ ومن ثَمَّ فإن كلًّا منهما تغطي النقصَ الموجود في الأخرى، لكن حتى عندما نغطِّي إحدى العينين، فنحن لا نرى فجوةً في رؤيتنا. لماذا هذا؟ إن نفس السؤال يتكرَّر؛ هل الدماغ يملأ الأشياء الناقصة حتى يسدَّ هذه الفجوة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف هذا؟ هناك العديد من النقاشات الحامية حول هذه المسألة.

يرى دينيت أن الدماغ لا يحتاج إلى ملْءِ الفجوات بالتفاصيل، ولا يفعل هذا؛ ويرجع ذلك إلى أن الرؤية ليسَتْ عمليةَ بناءٍ لنسخة على هيئة صورة للعالم حتى تنظر إليها ذات داخلية، لكنها أقرب إلى عمل تخمينات أو افتراضات حول ما يوجد هناك، وتحدث تلك العملية التصورية طوال الوقت. الآن ربما يمكنك رؤية العديد من الأشياء التي تعتِّم على أشياء أخرى؛ على سبيل المثال، كتاب يخفي جزءًا من مكتب، سجادة تختفي خلف رِجْل طاولة، منظر جميل تخفيه سيارة. بالطبع، أنت لا ترى فجوةً على هيئة سيارة في المنظر، ولست في حاجةٍ إلى ملء الجزء الناقص بأشجار وشجيرات؛ فتجربتك البصرية تخبرك بأن هناك منظرًا كاملًا، حتى إن لم يكن باستطاعتك رؤيته كله.

يَطلب منَّا دينيت الآن تخيُّلَ أنفسنا ونحن نمشي في غرفة مغطَّاة بالكامل بورق حائط عليه بورتريهات متطابقة لمارلين مونرو؛ إننا — بحسب قوله — سنرى خلالَ ثوانٍ قليلة أن هناك مئات البورتريهات المتطابقة، وسنلاحظ بسرعةٍ إن كان بأحدها قبعة أو شارب سخيف. الاستنتاج الطبيعي الذي سنصل إليه هو أننا يجب الآن أن تكون لدينا صورة مفصَّلة لكلِّ صور تلك الممثلة في رأسنا، لكن — بحسب دينيت — هذا لا يمكن أن يحدث. إن النقرة، التي توجد في مركز الشبكية، هي فقط التي ترى بوضوح، وتقوم أعيننا فقط بنحو أربع أو خمس رمشات (أيْ حركات كبيرة) كل ثانية؛ ومن ثَمَّ لم يكن بإمكاننا أن ننظر بوضوحٍ في كل بورتريه؛ فقدرتنا على رؤية كلِّ هذا الكمِّ تعتمد على كشافات الخامة التي يمكن أن ترى نمطًا متكرِّرًا عبر الغرفة بأكملها وآليات مفاجئة خاصة لتجذب الانتباهَ إلى الأشياء الغريبة، مثل شارب سخيف أو لون مختلف؛ لذا فإنَّ ما تراه ليس صورةً داخلية مفصَّلة على الإطلاق، لكنه شيء يشبه بشكل أكبر تخمينًا أو افتراضًا أو تمثيلًا بأن هناك العديد من البورتريهات المتطابقة؛ فالدماغ لا يحتاج إلى تمثيل كلِّ صورة لتلك الممثلة بشكل فردي في صورة داخلية، ولا يفعل هذا. ونحن نحصل على الانطباع الواضح بأن هذا التفصيل موجود داخل رءوسنا، لكنه في واقع الأمر يبقى هناك في الخارج في العالم؛ فلا حاجةَ إلى ملْءِ صور الممثلة الناقصة، ولا يفعل الدماغ هذا.

لكنَّ عملية ملء الفجوات الناقصة تحدث بالفعل، وذلك بحسب عالِمَي النفس ريتشارد جريجوري وفي إس راماتشاندران؛ فقد أوجدَا بُقَعًا عمياء صناعية عندما طلَبَا من المشاركين في بحثهما أن يركِّزوا أبصارهم على الجزء الأوسط لشاشةٍ بها منظرُ جليدٍ متلألئ، وكان هناك مربع رمادي صغير مائل بزاوية ٦ درجات لا يوجد به جليد. في البداية، رأى المشاركون المربعَ، لكن بعد نحو خمس ثوانٍ؛ بدأ المربع يمتلئ بالجليد مثل باقي الشاشة، وبعد ذلك، عندما صارت كلُّ الشاشة رماديةً، رأَوا مربعًا من الجليد، ثم اختفى بعد ثانيتين أو ثلاث. وأظهرت تجارب أخرى آليات منفصلة لملء الفجوات في اللون والخامة والحركة؛ على سبيل المثال، في إحدى تلك التجارب، كانت الخلفية قرمزيةَ اللون، وعليها بضع نقاط سوداء لامعة، وكان المربع عبارة عن نقاط سوداء تتحرَّك على نحوٍ أفقي على خلفية رمادية. وفي ثوانٍ قليلة اختفى المربع، لكن هذا تمَّ على مرحلتين منفصلتين؛ في البداية تحوَّلَ اللون الرمادي إلى قرنفلي، ثم تغيَّرَتِ النقاطُ المتحركة إلى أخرى لامعة.

استخدمت تجربة أخرى مماثِلة خلفيةً بها نَصٌّ مكتوب باللغة الإنجليزية أو اللاتينية، تمَّتْ عملية ملء الفجوات واختفى المربع كما حدث في التجارب السابقة، لكن المثير أن المشاركين قالوا إنهم كانوا يستطيعون رؤيةَ أحرف في المربع، لكنهم لم يقدروا على قراءتها. الشيء المثير أيضًا هو أن هذا التأثير موجود أيضًا في الأحلام التي يشاهد فيها الناس كتبًا أو صحفًا أو لافتاتٍ كبيرةً، ويمكنهم رؤية الكتابة الموجودة فيها لكنهم لا يستطيعون قراءتها. السؤال هو: ما هذا الذي يرونه؟ ربما هو شيء أقرب إلى «فكرة» الكتابة منه إلى مساحة مغطَّاة بأحرف فعلية.

إن الجدل حول عملية ملء الفجوات تلك مستمِرٌّ ولن يتوقَّفَ، لكن تلك التجارب ترى أنها تحدث بالفعل، لكنها ليسَتْ عبارة عن عملية تدريجية لإكمال التفاصيل في صورة داخلية.

عمى التغيير

تخيَّلْ أنك خضعْتَ لتجربة طُلِب فيها منك النظرُ إلى الصورة الأولى من الشكل ٤-٣. بعد ذلك، وفي اللحظة التي تحرِّك فيها عينَيْكَ، يتم تغييرُ الصورة إلى الصورة الثانية من الشكل نفسه. السؤال هو: هل ستلاحظ الفرقَ بين الصورتين؟ إن أغلب الناس متأكِّدون من أنهم سيفعلون هذا، لكنهم مخطئون.
fig14
شكل ٤-٣: عمى التغيير. إذا تمَّ التبديلُ بين الصورتين أثناء تحريك عينَيْك أو رمشهما مباشَرةً، فلن تتمكَّنَ من رؤية الفارق بينهما. تخلص التجارب التي أُجرِيت على ظاهرة عمى التغيير إلى أن الرؤية لا تستلزم بناءَ تمثيلٍ مفصَّل للعالم المرئي.

إن هذا هو ما يُسمَّى بظاهرة عمى التغيير، التي تم إثباتها بالعديد من الطرق المختلفة؛ فاستخدمت أولى التجارب التي تمَّتْ عليها — والتي أُجرِيت في ثمانينيات القرن الماضي — أدواتٍ لتتبُّع العينين. استُخدم شعاعُ ليزر، ينعكس من عين المشاركين، لاكتشاف حركات العين، ثم تم التغيير الفوري للنص أو الصورة التي ينظرون إليها؛ ففشلَ المشاركون حتى في ملاحظة التغييرات الكبيرة والواضحة ظاهريًّا. أدوات التتبُّع هذه غالية الثمن، لكنني حاولتُ تجربةَ طريقةٍ أبسط تتمثَّل في إجبار المشاركين على تحريك أعينهم عن طريق تحريك الصورة قليلًا وتغييرها في الوقت نفسه؛ وتوصَّلت إلى نفس النتائج وخلصت إلى أن ثراء عالمنا المرئي وَهْمٌ.

استُخدِمت بعد ذلك العديد من الطرق الأخرى، يقوم أبسطها على وجود ومضة رمادية قصيرة بين عرض الصورتين، يمكن بعد ذلك التبديل بين الاثنتين حتى يستطيع الملاحظ رؤية الفارق. بشكلٍ عامٍّ، من الممكن أن يستغرِقَ الناس عدة دقائق حتى يكتشفوا شيئًا كبيرًا لونه مختلف، أو آخَر غير موجود على الإطلاق. إنها حقًّا لَتجربة محبطة جدًّا؛ فأنت تنظر وتنظر ولا ترى أيَّ فارق، فإذا كنتَ مع آخَرين، فإنك ستسمعهم يضحكون عليك، ثم فجأةً ترى الفارق الواضح جدًّا ولا تعرف كيف أنك لم تلاحظه منذ اللحظة الأولى.

يحدث هذا التأثير لأن كل تلك الطرق توقف نشاط الآليات التلقائية وآليات الكشف عن الحركة التي عادة ما تنبِّهنا لحقيقةِ أن هناك أمرًا تغيَّرَ في أحد الأشياء، ودون تلك الآليات يكون علينا الاعتماد على الذاكرة عبر حركات العين، ويبدو — بحسب نتائج تلك التجارب — أن الذاكرة الخاصة بما ننظر إليه فقط ضعيفة على نحوٍ مثير للدهشة.

لكن لماذا هذا الاندهاش من جانبنا؟ ربما يكون السبب ما يلي: نحن نتصوَّرُ أننا بينما نجيل النظرَ في الصورة، تزيد أكثر فأكثر معرفتنا بها مع كلِّ نظرة إليها حتى تتكوَّنَ في رأسنا فكرةٌ جيدة جدًّا عمَّا هو موجود بداخلها. هذا هو مفهومنا عن الرؤية، وهذه هي الطريقة التي نتصوَّر أن يتمَّ بها الأمر، لكن إذا كان الأمر كذلك، فمن المفترض بالتأكيد أن نتذكَّرَ الدرابزين، وأن نلاحظ أن الجزء العلوي منه قد اختفى. إن قوة عمى التغيير تُوحِي بأنه لا بد من أن هناك شيئًا خاطئًا في تلك النظرية الطبيعية الخاصة بالرؤية، لكن هذا الشيء غير واضح.

أحد الاحتمالات يتمثَّل في أن الانتباه ربما يُعَدُّ هو المفتاح، فهل تركيز الانتباه على شيء يحول دون ملاحظتك للفارق بين الصورتين؟ وضَعَ عالِمَا النفس دانيال ليفين ودانيال سيمونز هذا الاحتمالَ محلَّ التجربة؛ فقد صنعَا أفلامًا قصيرة تختفي فيها أشياءُ عديدةٌ أو يتغيَّر شكلها أو لونها. في أحد الأفلام، يجلس الممثل وحيدًا في إحدى الغرف، ثم يقوم ليذهب إلى الباب عندما يدق جرس الهاتف. هناك تحوُّلٌ لمشهد آخَر خارج الغرفة، وهناك شخص مختلف تمامًا يمسك بسماعة الهاتف؛ إن نحو ثلث المشاركين في التجربة هم فقط الذين اكتشفوا التغيير.

ربما تعتقد أن هذا حدَثَ بسبب بعض الخداع في الفيلم، لكن أثبت نفس العالِمَين — على نحو يثير الدهشة — التأثيرَ نفسه مع الأشخاص العاديين في الوسط اليومي المحيط بهما. في إحدى الحالات، رتَّبَا قيام أحد القائمين على التجربة بالاقتراب من أحد المارة في حرم جامعة كورنيل، وسؤاله عن كيفية الذهاب إلى مكانٍ ما داخل الحرم، وبينما يتحدَّث الشخصان، يقوم مساعدان يرتديان زيَّ عمَّالٍ بالدخول بينهما بوقاحةٍ حاملَيْن بابًا؛ في تلك اللحظة، يمسك الشخص القائم على التجربة بجزء الباب غير المواجِه للشخص المار ويبدِّل مكانَه بمكان العامل الذي كان يحمل الباب، وهكذا أصبح الشخص المارُّ المسكين يتحدَّث إلى شخص مختلف تمامًا، غير أن نصف الأشخاص الذين خضعوا لتلك التجربة فقط هم مَن لاحظوا عمليةَ التبديل. مرة ثانية، عندما يُسأَل الناس هل كانوا يعتقدون أنهم سيكتشفون مثل هذا التغيير، فإنهم يكونون مقتنعين بأنهم سيفعلون، لكنهم مخطئون.

هناك تبعات لذلك في الحياة العادية؛ على سبيل المثال، يمكن إحداث عمى التغيير باستخدام «لطخات طينية» أو فقاعات بسيطة تظهر في وقت التبديل. يحدث هذا على نحو متكرِّر على الطرق وفي الجو، الأمر الذي يشير إلى أن السائقين أو الطيَّارين قد يرتكبون أخطاءً خطيرة إذا وقع حدث مهم في نفس الوقت الذي يحدث فيه أن يصطدم بعضُ الطين بالزجاج الأمامي للمركبة، وربما يكون هذا هو السببَ في بعض الحوادث التي يبدو ظاهريًّا أنه لا تفسيرَ لها، لكننا هنا معنيُّون بتبعاتها على الوعي.

نظرية الوهم الكبير

تتحدَّى نتائج عمى التغيير والعمى الإدراكي — أو غير المقصود — الطريقةَ التي يبدو أن أغلبنا يفكِّر بها على نحو طبيعي في تجاربنا البصرية؛ أي إننا إذا كنَّا نعتقد أن لدينا تيارًا ثريًّا ومفصلًا من الصور التي تمرُّ عبر وعينا الواحدة تلو الأخرى، فيجب أن نكون مخطئين. هذا هو الأساس الذي تقوم عليه ما تُعرَف بنظرية «الوهم الكبير»؛ أي النظرية التي تقول إن العالم المرئي كله عبارة عن وهم كبير.

كيف يمكن أن نكون مخطئين هكذا؟ إذا كنَّا كذلك، فنحن بحاجةٍ إلى فهم كيف يحدث هذا الوهم ولماذا نقع فيه. هناك العديد من النظريات المختلفة التي تحاول تفسيرَ النتائج، بدءًا من الاكتشاف الذي ينطوي على أننا في كلِّ مرةٍ نحرِّك فيها أعيننا نتخلَّص من معظم المعلومات المتاحة. من الواضح أنه يتوجَّب علينا الاحتفاظ ببعض المعلومات، وإلا فسيبدو العالم غير مفهوم تمامًا؛ ولذلك تختلف النظريات في تحديد قدر ونوع المعلومات التي نحتفظ بها عندما نجيل النظر في العالم.

العمى الإدراكي

توحي ظاهرة العمى الإدراكي الغريبة أننا ربما لا نستطيع رؤية شيء على الإطلاق ما دمنا لم نركِّزِ انتباهنا عليه. جعل عالِمَا النفس أرين ماك وإرفين روك المشاركِين في تجربتهما يركِّزون انتباهَهم بأن طلبَا منهم تركيز أبصارهم على بقعةٍ ما، وأن يقرِّروا عند ظهور أحد الصلبان لفترة وجيزة إذا ما كان أحد جوانبه أطول من الآخَر، وعندما أومض — على نحوٍ غير متوقَّع — شيء مرئي على نحو كبير بالقرب من الصليب، فإن معظم المشاركين لم يستطيعوا رؤيته. والشيء المدهش أكثر هو أنهم عندما طُلِب منهم التركيزُ على صليب بالقرب من المكان الذي ينظرون إليه، لم يستطيعوا رؤيةَ الشيء الذي كان يومض مباشَرةً أمام أعينهم؛ يبدو أن تركيزَ الانتباه على جانب واحد يجعلك أعمى حيث تنظر. خلَص ماك وروك إلى أنه لا يوجد إدراك حسي واعٍ دون انتباه.

لقد مارَسَ السَّحَرةُ خُدعًا تعتمد على الانتباه منذ آلاف السنين، لكن تشير مثل هذه التجارب إلى أننا ربما نكون مخدوعين طوال الوقت. إذا كان هذا صحيحًا، فهو أمر غريب جدًّا؛ إذ يشير إلى أننا عندما نجيل النظر في الغرفة، فإننا نرى فقط الأشياءَ القليلة جدًّا التي نركِّز انتباهنا عليها، ولا نرى حقًّا أي شيء آخَر، على الرغم من طريقة اعتقادنا في الأمر.

يرى ليفين وسيمونز أننا نمر بالفعل بتجربة بصرية ثرية في كل مرة نركِّز فيها بصرنا على شيء، ونستخلص من هذا معنى المشهد أو مغزاه، وبعد ذلك، عندما نحرِّك أعيننا، نتخلَّص من التفاصيل ويبقى المغزى فقط؛ وبهذه الطريقة نحتفظ بفكرة راسخة عمَّا ننظر إليه، ونستطيع دائمًا رؤية جزء منها بالتفصيل. إن هذا — بحسب زعمهما — يعطينا تجربةً مستمرةً ظاهريةً دون التباس كبير.

قام أيضًا عالم النفس الكندي رونالد رينسينك بأبحاث كثيرة على عمى التغيير والعمى الإدراكي، وكان له تأويل مختلِف بعضَ الشيء؛ فهو يرى أن الجهاز البصري لا يبني أبدًا تمثيلاتٍ كاملةً ومفصَّلة للعالم، ولا حتى عند تركيز الانتباه، بدلًا من ذلك، فهو يبني تمثيلاتٍ لأشياء مفردة، شيئًا واحدًا في كل مرة، مع تغيُّر انتباهنا. وعندما نركز على شيء، يتم بناء تمثيل له والاحتفاظ به لبعض الوقت، لكن عندما نحوِّل تركيزنا إلى شيء آخَر، يفقد هذا التمثيل تماسُكَه ويتراجع إلى تجمُّع من الأشياء المنفصلة. ويقول رينسينك إن السبب في تكويننا انطباعًا بثراء عالمنا المرئي هو أنه يمكن أن يُبنَى دائمًا تمثيلٌ جديد في الوقت المناسب من خلال إجالة النظر ثانيةً.

يبدو هذا غريبًا جدًّا؛ فمن الصعب الاعتقاد بأنني عندما أنظر إلى قطتي، فإن باقي ما في الغرفة يختفي من جهازي البصري، لكن هذا ما يتَّضِح ضمنيًّا من نظرية رينسينك. لكن كيف لي أن أتأكَّدَ من ذلك؟ إذا حاولتُ أن أنظرَ بسرعة إلى شيء لكي أتأكَّدَ من عدم وجوده، فالمفترض أنني سأفشل، فعلى نفس قدر سرعة نظري إليه، فأنا أبني تمثيلًا جديدًا، وانطباعي بأنني أستطيع رؤيةَ الغرفة بأكملها صحيح، لكن هذا يرجع إلى أن بإمكاني دائمًا أن أنظر ثانيةً، وليس لأن لديَّ صورةً للغرفة بأكملها في وعيي.

يذكرنا هذا بالمشكلة التي وصفها وليام جيمس منذ أكثر من مائة عام في استكشافه للوعي؛ فقد شبَّهَ تأمُّلَ الذات ﺑ «محاولةِ إخراج الجاز من اللمبة لمعرفة كيف يبدو الظلام». أتصوَّرُ أنه سيستمتع بفعل الشيء نفسه مع الكهرباء، أو ربما كان سيحاول فتح باب الثلاجة على نحو سريع لرؤية إذا ما كان الضوء بالداخل مضاءً دائمًا أم لا.

في حالة الثلاجة، يمكنك بسهولة التحقُّقُ مما تريد بوضع كاميرا بالداخل أو عمل ثقبٍ في جانب الثلاجة لتنظر من خلاله. إن المقابل لذلك في الدماغ أصعب بكثير، لكنَّ علم الأعصاب يحقِّق كلَّ يومٍ تقدُّمًا كبيرًا في تطوير تقنيات لتصوير الدماغ؛ فإذا اكتشفنا أن الجهاز البصري يعمل حقًّا بتلك الطريقة، مُحتفِظًا بقدر محدود جدًّا من المعلومات الخاصة بالأشياء في المرة الواحدة، فيمكن أن نخلُص إلى أنه لا يوجد شيء داخل الدماغ يقابل التيارَ المفصل للرؤية الذي نعتقد أننا نخابره.

إن لهذا تبعاتٍ على البحث في مجال الملازمات العصبية للوعي؛ على سبيل المثال، يقول كريك إنه يرغب في تحديد ملازمات «الصورة الواضحة للعالم التي نراها أمام أعيننا»، أو ما يسمِّيه داماسيو «الفيلم الذي في الدماغ». لكن إذا كان العالم المرئي وهمًا كبيرًا، فإن هذين الباحثين لن يكونَا قادرين أبدًا على إيجاد ما يبحثان عنه؛ لأن الفيلم الذي في الدماغ والصورة الواضحة غير موجودين في الدماغ؛ فكلاهما جزء من الوهم.

هناك نظرية أخيرة ذهبَتْ بعيدًا في محاولة تفنيدِ أفكارنا التقليدية عن الوعي البصري، وهي «النظرية الحسية الحركية للرؤية» التي وضعها عالم النفس كيفين أوريجان والفيلسوف ألفا ناو؛ لقد اتَّخَذَا نهجًا جديدًا على نحوٍ أساسي يرى أن الرؤية ليست على الإطلاق عمليةً يتم فيها بناء تمثيلات داخلية للعالم، وإنما هي طريقة للفعل في العالم. إن الرؤية معنيَّة بالتحكُّم في الأفعال الحسية الحركية؛ أي معرفة كيف تؤثِّر أفعالك على المعلومات التي حصلتَ عليها من العالم، والتعامُل مع المدخلات البصرية للاستفادة من الطريقة التي تتغيَّر بها مع حركات العين وحركات الجسم ورمشات العين وغير ذلك من الحركات. بعبارة أخرى، إن الرؤية فعل. ترى هذه النظرية أن الرؤية ليسَتْ عمليةً تُبنَى فيها تمثيلاتٌ للعالم، وإنما الرؤية والانتباه والفعل تصبح كلها الشيء نفسه، وهي تعتقد أيضًا أن ما تراه هو جوانب المشاهد التي «تعالجها بصريًّا» حاليًّا؛ فإذا لم تكن تعالج العالَمَ، فإنك لن ترى شيئًا، وعندما تتوقف عن معالجة جانبٍ ما من العالم، فأنت تُنزِله إلى منزلة العدم.

إن هذا النوع من النظريات مختلف على نحوٍ كبيرٍ عن النظريات التقليدية الخاصة بالإدراك الحسي، لكنه مشابِه للنظريات الخاصة بالإدراك المجسد أو العملي، التي يتمُّ تطويرها في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي هذه الحالة، وجد الباحثون الذي يقومون بإنشاء روبوتات أن إعطاءها تمثيلاتٍ داخليةً مفصلةً ومعقدةً طريقةٌ غير فعالة، بل من المستحيل جعلها تتعامل مع العالم الواقعي. بدلًا من ذلك، من الأفضل أن نُضمِّنها نظمًا أبسط تتيح لها التفاعل مع العالم وارتكاب أخطاء والتعلُّم ذاتيًّا من أخطائها وتصويبها.

هل سيساعدنا هذا النهج في فهم الوعي البصري؟ لم تستطع النظريات التقليدية، بتمثيلاتها الداخلية للعالم، أن تفسِّرَ كيف تصبح تلك التمثيلات تجاربَ واعيةً، أو لماذا تكون بعض التمثيلات البصرية في دائرة الوعي، أما أغلبها فلا، أو لماذا نبدو وكأننا شخص ينظر إلى تلك التمثيلات. إن النظرية الحسية الحركية تقلب المشكلةَ رأسًا على عقب، جاعلةً الناظر هو الفاعل، والأشياء المرئية هي الأفعال؛ ومن ثَمَّ فإن عليها الآن أن تفسِّرَ كيف يمكن أن تصبح الأفعالُ تجاربَ ذاتيةً. وأما كونها ستنجح في ذلك أم لا، فهذا ما سنعرفه في القريب العاجل، لكنها غيَّرَتْ بالتأكيد المشكلةَ على نحوٍ كامل. وعلى الرغم من أن النظريات التقليدية أدَّتْ فقط إلى الحَيرة والمشكلة الصعبة، فإنه حري بنا أن نأخذ بعين الاعتبار فكرةَ أن الرؤية وَهْمٌ كبيرٌ.

حل اللغز

أحضر الأطفال تلك الأشياء لتشكيل رجل ثلجٍ قد ذاب في الشمس. ربما تكشَّفَ لك الحلُّ على نحو مفاجئ عندما ذكرتُ رجلَ الثلج بعد عرض اللغز بعدة صفحات، أو ربما قفزتِ الإجابةُ إلى ذهنك بشكل فوري، أو لم تصل إليها على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤