الفصل التاسع عشر

أهدي هذا الفصل إلى متجر كتب مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو المتجر الذي لم تفُتْنِي زيارته في كل رحلة لي إلى بوسطن على مدار السنوات العشر الماضية. بالطبع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا هو أحد المراكز المذهلة للثقافة الفكرية العالمية، ومتجر الكتب الموجود في حرم ذلك المعهد يرتقي للتوقعات المذهلة التي كانت لديَّ عندما وطئَتْه قدماي أول مرة. فإلى جانب ما يحتويه من كتب رائعة نشرتها مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يضم كذلك أكثر ما نُشِر في مجال التكنولوجيا المتطورة إثارة في العالم، بدءًا من مجلات القرصنة الإلكترونية مثل «٢٦٠٠» ووصولًا إلى مجموعات الكتب الأكاديمية المختارة حول تصميم ألعاب الفيديو. وهو أحد المتاجر التي أضطر فيها لطلب توصيل مشترياتي منه لأن حقيبتي لا تتسع لها.

***

فيما يلي نص رسالة البريد الإلكتروني التي بُعِثت اليوم التالي الساعة السابعة صباحًا، بينما كنت أنا وآنج نطلي بالرش عبارة «مركز المدينة لتجمع مصاصي الدماء» في أماكن استراتيجية بأنحاء المدينة.

«قواعد تجمع مصاصي الدماء»

«أنت من أفراد عشيرة مصاصي دماء ضوء النهار. اكتشفت سر البقاء حيًّا في ضوء الشمس الساطع. السر هو شرب دماء مصاصي الدماء الآخرين؛ فدم مصاص دماء آخر يمكن أن يمنحك القوة اللازمة للسير وسط الأحياء.»

«تحتاج لعضِّ أكبر عدد ممكن من مصاصي الدماء الآخرين لتظل في اللعبة. وإذا مرت دقيقة واحدة دون أن تعض فيها أحدًا، فستخرج من اللعبة. وعندما تخرج من اللعبة، عليك أن تعكس اتجاه القميص الذي ترتديه، وتصير حكمًا؛ أي تراقب اثنين أو ثلاثة من مصاصي الدماء لترى ما إذا كانوا يمارسون العض أم لا.»

«ولعض مصاص دماء آخر، عليك أن تقول: «عض!» خمس مرات قبل أن يقولها هو. فتركض إلى مصاص دماء، وتتواصل معه بالعين، وتصيح «عض، عض، عض، عض، عض!» وإن قلتها قبل أن يفعل هو ذلك، تَعِشْ ويتحول هو إلى رماد.»

«مصاصو الدماء الآخرون الذين تلتقي بهم بالموعد هم فريقك وعشيرتك. دمهم ليس غذاءً لك.»

«يمكنك أن تصير «غير مرئي» بالوقوف ثابتًا، وطي ذراعيك على صدرك. ولا يمكنك عض مصاصي دماء غير مرئيين، والعكس بالعكس.»

«تُمارَس هذه اللعبة بنظام الشرف. يكمن الهدف في الاستمتاع، وتقمص دور مصاص الدماء، وليس الفوز.»

«ستكون هناك حركة أخيرة باللعبة تتناقلها الألسن بمجرد بدء ظهور الفائزين، فيبدأ الفائزون حملة تهامس بين اللاعبين عندما يحين الوقت المناسب. ويلزم عليك نشر الهمسات بأسرع ما يمكنك، وانتظار الإشارة.»

«مايكي»

«عض عض عض عض عض!»

كنا نأمل في أن يرغب مائة فرد في ممارسة لعبة تجمع مصاصي الدماء، وأرسلنا نحو مائتي دعوة، لكنني عندما نهضت لأجلس مستقيمًا في الرابعة صباحًا، وأمسكت بجهاز إكس بوكس، كان هناك ٤٠٠ رد … أربعمائة!

أدخلت تلك العناوين في نظام الرد الآلي على رسائل البريد الإلكتروني، وتسللت خلسة من المنزل. هبطت السلالم مستمعًا لغطيط أبي في نومه، وأمي وهي تتقلب في السرير. أغلقت الباب خلفي.

في الرابعة والربع صباحًا، كانت بتريرو هيل في هدوء الريف. كانت هناك بعض أصوات بعيدة لسيارات، ولم تمر بجواري سوى سيارة واحدة. توقفتُ عند إحدى ماكينات الصرف الآلي، وسحبتُ مبلغ ٣٢٠ دولارًا فئة ٢٠ دولارًا. لففتها، ووضعت رباطًا مطاطيًّا حولها، وأدخلتها في جيب يفتَح لأعلى في جانب بنطال مصاص الدماء الذي كنت أرتديه.

كنت أرتدي ثانية حرملة مصاصي الدماء، وقميصًا متغضنًا، وبنطال بذلة سهرات عُدِّل ليحتوي على ما يكفي من الجيوب لحمل جميع أغراضي الصغيرة. هذا إلى جانب حذاء عالي الرقبة مدقق الطرف بأبازيم فضية على شكل جماجم. ومشطت شعري في صورة لفات سوداء مضغوطة حول رأسي. كانت آنج ستحضر مسحوق التجميل الأبيض، ووعدتني بأن تحدد عينيَّ بقلم التحديد، وتطلي أظافري باللون الأسود. ولمَ لا؟ فمن يدري متى سألعب مرتديًا زيًّا كهذا ثانيةً؟

قابلتني آنج أمام منزلها. كانت تحمل حقيبة ظهرها أيضًا، وترتدي سروالًا شبكيًّا ضيقًا، وفستانًا مجعدًا لخادمة قوطية لعوب. لونت وجهها بطلاء أبيض، ووضعت مسحوق تجميل تمثيلي واضح بعينيها، وامتلأ عنقها وأصابعها بمجوهرات فضية.

قلت لها: «تبدين رائعة!» وقالت لي العبارة ذاتها في نفس اللحظة، ثم ضحكنا بهدوء، وسرنا خلسة في الشوارع وفي جيوبنا عبوات الطلاء بالرش.

•••

أثناء تفقدي لمركز المدينة، فكرت فيما سيبدو عليه عندما يتجمع فيه ٤٠٠ من ممارسي لعبة تجمع مصاصي الدماء. توقعت وصولهم خلال عشر دقائق أمام مجلس المدينة. كانت الساحة العامة الكبيرة تعج بالفعل بالمترددين عليها الذين تجنبوا ببراعة المشردين المتسولين في المكان.

لطالما كرهت مركز المدينة؛ فهو مجموعة من المباني الضخمة متعددة المستويات، مثل المحاكم، والمتاحف، والمباني المدنية مثل مجلس المدينة. اتسمت الأرصفة باتساعها، والمباني بلونها الأبيض. تحتوي الأدلة السياحية لسان فرانسيسكو على صور لهذه المباني لتبدو مثل مدينة إبكوت الترفيهية؛ أي مستقبلية وبسيطة.

أما على أرض الواقع، فهي وسخة ومثيرة للاشمئزاز. ينام المشردون على جميع المقاعد، ويخلو الحي من أي أحد بحلول الساعة السادسة مساءً فيما عدا السكارى ومدمني المخدرات. ولما لم يكن بالمكان سوى نوع واحد من المباني، لم يكن هناك سبب منطقي لتواجد الناس في المكان بعد غروب الشمس. فهو أشبه بمركز تجاري أكثر من كونه حيًّا، والأعمال الوحيدة هناك هي متاجر الخمور، والأماكن التي تقدم الخدمات لأسر المحتالين الخاضعين للمحاكمة، والمشردين الذين يتخذون من المكان منزلًا لهم في الليل.

استوعبت كل ذلك عندما قرأت تقريرًا لمقابلة مع مخططة عمرانية عجوز رائعة تُدعَى جين جيكوبس، وهي أول من وضع يده بالفعل على الخطأ في تقسيم المدن بالطرق السريعة، مع حشر جميع الفقراء في مشروعات الإسكان، واستخدام قوانين التقسيم إلى مناطق للتحكم المتزمت في من يفعل ماذا وأين.

أوضحت جيكوبس أن المدن الحقيقية متناسقة الأجزاء، وتزخر بتنوع كبير ما بين أغنياء وفقراء، أصحاب بشرة بيضاء وبشرة داكنة، أنجلو أمريكيين ومكسيكيين، مناطق تجارية وسكنية، بل وصناعية أيضًا. حي كهذا يجمع كافة أصناف البشر يمرون بأرجائه بجميع الأوقات ليلًا أو نهارًا، ومن ثم تجد أعمالًا تلبي كافة الاحتياجات، وأناسًا يسيرون بالأنحاء طوال الوقت يراقبون الطرقات.

لا بد أنك مررت بذلك من قبل. سرت في حي قديم بمدينة ما، واكتشفت أنه مملوء بأفضل المتاجر، والرجال المتأنقين، والأناس الذين يرتدون أحدث الأزياء، والمطاعم الراقية، والمقاهي الحديثة، وربما إحدى قاعات السينما الصغيرة، ومنازل تبرز عليها أعمال الطلاء. ربما يكون هناك أيضًا بالطبع فرع لمقهى «ستاربكس»، لكنَّ هناك أيضًا سوقًا أنيقًا للفاكهة، وتاجرة زهور تبدو وكأنها تبلغ من العمر أرذله وهي تدور بعناية بين الزهور بنوافذ المتجر. إنه النقيض لمنطقة مخطَّطة مثل المراكز التجارية. وتمنحك شعورًا بأنك في حديقة برية أو غابة تنمو أشجارها.

لا يناقض تلك الصورة مكان أكثر من مركز المدينة. قرأت لقاءً مع جيكوبس تحدثت فيه عن الحي القديم العظيم الذي هدموه ليبنوا هذا الحي. كان حيًّا أقيمت مبانيه دون تصريح أو تناغم أو تخطيط.

قالت جيكوبس إنها تتوقع في غضون أعوام قليلة أن يصير مركز المدينة أحد أسوأ الأحياء في المدينة، فيكون ليلًا كمدن الأشباح، مكانًا يمتلئ بمتاجر الخمور والمخدرات والموتيلات المليئة بالبراغيث. وفي اللقاء، لم تبدُ سعيدة بأنها أثبتت صحة ما قالته، وإنما بدت وكأنها تتحدث عن صديق متوفًّى وهي تصف ما آل إليه حال مركز المدينة.

صرنا في ساعة الذروة، وامتلأ مركز المدينة عن آخره. تشكل محطة بارت بمركز المدينة أيضا المحطة الرئيسية لخطوط الترام بالمدينة، ونقطة التحويل من خط لآخر. وفي الثامنة صباحًا، يكون هناك الآلاف من الناس يصعدون أو يهبطون على السلالم، ويدخلون سيارات الأجرة والحافلات أو ينزلون منها. توقفهم نقاط تفتيش وزارة الأمن الوطني الموجودة في مختلف المباني المدنية، ويحيط بهم المتسولون العدوانيون من كل مكان. تفوح منهم رائحة الشامبو وماء الكولونيا، وقد خرجوا لتوهم من تحت الدش، وارتدوا بذل العمل، وحملوا حقائبهم الجلدية وحقائب الكمبيوتر المحمول. في الثامنة صباحًا، يكون مركز المدينة مركزًا للأعمال.

حضر بعد ذلك مصاصو الدماء. نحو ثلاثين جاءوا من فان نيس، والعدد نفسه من ماركت. وتدفق المزيد من الجانب الآخر لماركت، والمزيد من فان نيس. وصلوا إلى جانب المباني، والطلاء الأبيض على وجوههم، وعيونهم محددة باللون الأسود، ويرتدون ملابس سوداء وسترات جلدية وأحذية ضخمة عالية الرقبة للنقر على الأرض، وقفازات شبكية عديمة الأصابع.

بدءوا يملئون الساحة العامة. رمقهم بعض رجال الأعمال بنظرات عاجلة، ثم أشاحوا بنظرهم بعيدًا غير راغبين في أن يتدخل هؤلاء الغرباء في واقعهم الشخصي أثناء تفكيرهم في الهراء الذي كانوا على وشك خوضه على مدى الساعات الثماني التالية. تحرك مصاصو الدماء في دوائر، غير واثقين متى ستبدأ اللعبة. تجمعوا في مجموعات كبيرة في مكان واحد مع ارتداء ملابس سوداء اللون؛ ما جعلهم يبدون كتسرب زيت لكن في الاتجاه المعاكس. ارتدى كثيرون منهم قبعات قديمة الطراز، وقبعات مستديرة سوداء، وقبعات رسمية. وارتدى الكثير من الفتيات أزياء الخادمات القوطيات اللعوبات الأنيقة الكاملة وأحذية ذات نعال سميكة.

حاولت تقدير الأعداد، فوجدتها ٢٠٠. وبعد خمس دقائق، أصبحت ٣٠٠ ثم ٤٠٠. وما زالوا يتدفقون. اصطحب مصاصو الدماء أصدقاءهم.

أمسك شخص ما بظهري، استدرت فرأيت آنج تضحك بشدة حتى إنها انحنت للأمام من شدة الضحك.

لفظت لاهثة: «انظر إليهم يا فتى، انظر إليهم جميعًا!» تضاعف عدد الناس في الميدان مقارنةً ببضع دقائق مضت. لم تكن لدي أية فكرة عن عدد مستخدمي شبكة إكس نت، لكن ١٠٠٠ منهم — بلا ريب — حضروا إلى حفلتي الصغيرة. يا إلهي!

بدأ ضباط شرطة سان فرانسيسكو ووزارة الأمن الوطني في التجول بالأرجاء، وهم يتحدثون في اللاسلكي ويتجمعون في مجموعات. سمعت صوت صفارة إنذار آتيًا من بعيد.

قلت وأنا أهز ذراع آنج: «هيا، هيا، لنذهب.»

اخترقنا الحشد معًا، وعند مقابلة أول مصاصي الدماء أمامنا، قلنا معًا بصوت عالٍ: «عض عض عض عض عض!» كانت الضحية فتاة مندهشة — لكن جميلة — مرسومًا على يديها نسيج عنكبوت، ولطخات من طلاء الأهداب تسيل على وجنتيها. قالت: «اللعنة!» وابتعدت مدركةً أنني قد نلت منها.

انتشرت صيحة «عض عض عض عض عض» بين مصاصي الدماء الآخرين بجوارنا، فهاجم البعض منهم آخرين، في حين تحرك آخرون بحثًا عن ستار لهم يختبئون وراءه. كنت قد حصلت على ضحيتي لتلك الدقيقة، ومن ثم حاولت التواري عن الأنظار مستخدمًا الأرضيين كستار لي. الجميع حولي يصرخون «عض عض عض عض عض!» وتعالت الهتافات والضحكات والسباب.

انتشر الصوت كالنار في الهشيم. علم جميع مصاصي الدماء أن اللعبة قد بدأت الآن، ومن شكلوا تجمعات أخذوا يتساقطون كالذباب. كانوا يضحكون، ويلعنون، ويسيرون مبتعدين، ليعلم بذلك مَن ما زالوا داخل اللعبة ببدء اللعب. وتزايدت أعداد مصاصي الدماء مع كل لحظة.

الساعة ١٦ : ٨، حان وقت اصطياد مصاص دماء آخر. انحنيت لأسفل، وتحركت بين أرجل من يسيرون مستقيمي القامة أثناء توجههم ناحية سلالم محطة بارت. اهتزت أجسامهم من الدهشة، وانحرفوا في سيرهم لتجنبي. تعلقت عيناي بمجموعة من الأحذية السوداء عالية الرقبة مزينة بأشكال تنانين على الأصابع؛ ومن ثم، لم أتوقع ما حدث عندما قابلت مصاص دماء آخر وجهًا لوجه. كان شابًّا يبلغ من العمر ١٥ أو ١٦ عامًا، وقد صفف شعره بالجِل للخلف، وارتدى سترة جلدية مزينة بعقود من أنياب زائفة منقوشة عليها رموز مبهمة.

ما إن بدأ الفتى في اللفظ بعبارة «عض عض عض …» حتى تعثر به أحد الأرضيين، وانبطحا أرضًا معًا. زحفت إليه، وصحت: «عض عض عض عض عض!» قبل أن يتمكن من تحرير نفسه.

استمر توافد المزيد من مصاصي الدماء؛ ما أصاب الموظفين المتأنقين بالذعر. غمرت اللعبة الرصيف، ووصلت إلى داخل فان نيس لتنتشر في اتجاه شارع ماركت. علت أصوات السيارات والترام. سمعت المزيد من صفارات الإنذار، لكن حركة المرور تشابكت الآن في كل اتجاه.

كان ذلك رائعًا بحق.

عض عض عض عض عض!

صدر الصوت من كل مكان حولي. امتلأ المكان بمصاصي الدماء الذين أخذوا يلعبون بعنف، وكان صوتهم أشبه بالهدير. خاطرت بالوقوف منتصبًا، والنظر حولي؛ فوجدتني في منتصف حشد ضخم من مصاصي الدماء وصل إلى أقصى امتداد نظري.

عض عض عض عض عض!

كان ذلك أفضل من حفل متنزه دولوريس؛ فالحفل كان غاضبًا وصاخبًا، أما هذا … حسنًا، «ممتع» هو الوصف الملائم. كان أشبه بالعودة إلى ساحة اللعب، وألعاب المطاردات المثيرة التي كنا نلعبها في استراحات الغداء مع شروق الشمس، مع مطاردة مئات الأفراد لبعضهم البعض. والبالغون والسيارات زادوا الأمر متعة.

«متعة» هي الكلمة المناسبة لوصف تلك اللعبة. فصرنا جميعًا نضحك آنذاك.

أخذ الضباط يحتشدون، وسمعت صوت المروحيات. سينتهي الأمر في أية لحظة الآن. حان الوقت للحركة الأخيرة باللعبة.

أمسكت بأحد مصاصي الدماء.

«الحركة الأخيرة باللعبة: عندما يأمرنا الضباط بالتفرق، نتظاهر بالاختناق بالغاز. انشر الأمر. ماذا قلت لك للتو؟»

كانت فتاة نحيلة قصيرة القامة حتى إنني ظننت أنها صغيرة السن حقًّا، لكن بدا من وجهها وابتسامتها أنها كانت في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة. قالت: «يا إلهي! هذا تصرف شرير.»

«ماذا قلت لك؟»

«الحركة الأخيرة باللعبة: عندما يأمرنا الضباط بالتفرق، نتظاهر بالاختناق بالغاز. انشر الأمر. ماذا قلت لك للتو؟»

«بالضبط، فلتنشريها الآن.»

اختفت الفتاة وسط الحشد، وأمسكت أنا بمصاص دماء آخر، وقلت له العبارة ليمضي بعد ذلك لنشرها وسط الحشد.

علمت أن آنج كانت تفعل ذلك أيضًا في مكان ما وسط الحشد. ربما تضمن الحشد بعض المتسللين؛ أي مستخدمين مزيفين لشبكة إكس نت. لكن ما جدوى تلك المعلومة لهم؟ ليس أمام الضباط خيار آخر. سيأمروننا بالتفرق ولا جدال في ذلك.

لزم عليَّ الوصول إلى آنج. خططنا للالتقاء عند تمثال «المؤسس» في الساحة، لكن الوصول إلى هناك كان صعبًا. لم يعد الحشد يتحرك، بل كان يموج مثل الحشد الذي كان في الأسفل بمحطة بارت يوم وقوع التفجيرات. حاولت جاهدًا اختراقه، وحينذاك انطلق الصوت من مكبر الصوت المعلق أسفل الطائرة المروحية.

«هذه وزارة الأمن الوطني. تفرقوا في الحال!»

سقط المئات من مصاصي الدماء حولي على الأرض، وأخذوا يمسكون بأعناقهم ويفركون في عيونهم ويلهثون. كان من السهل التظاهر بالإصابة بالغاز، فقد حظي جميعنا بفرصة التدقيق في المشاهد المصورة للمحتفلين في متنزه دولوريس بحي ميشن تحت سحب رذاذ الفلفل.

«تفرقوا في الحال!»

سقطت على الأرض، وحميت حقيبتي. مددت يدي إلى قبعة البيسبول الحمراء الملوية في حزام بنطالي، وثبتها بإحكام على رأسي، ثم أمسكت بعنقي، وأطلقت أصواتًا مروعة متظاهرًا بمحاولة التقيؤ.

لم يبق أحد واقفًا سوى الأرضيين؛ أي الموظفين الذين كانوا يحاولون الوصول إلى أعمالهم. نظرت إليهم قدر ما تمكنت بينما كنت أمثل أنني أختنق وألهث.

«هذه وزارة الأمن الوطني. نأمركم بالتفرق في الحال. تفرقوا في الحال!» أصابني ذلك الصوت بألم في بطني، وضروسي، وعظام فخذي، وعمودي الفقري.

أصيب الموظفون بالرعب، وكانوا يتحركون بأقصى سرعة لديهم، لكن ليس في اتجاه معين. بدت المروحيات وكأنها فوق رأسك أينما وقفت. كان الضباط يقتحمون الحشد في تلك اللحظات، وقد ارتدوا خوذاتهم، وحمل بعضهم دروعًا، في حين ارتدى البعض أقنعة للوقاية من الغاز. أخذت ألهث على نحو أكثر شدة.

أخذ بعد ذلك الموظفون يركضون. لعل هذا ما كنت سأفعله أنا أيضًا لو كنت مكانهم. شاهدت رجلًا يخلع سترة يبلغ ثمنها ٥٠٠ دولار، ويلفها حول وجهه قبل أن يتوجه جنوبًا ناحية حي ميشن، فما كان إلا أن تعثر وتمدد على الأرض، وامتزج سبابه بالأصوات المختنقة.

لم يكن من المفترض حدوث ذلك؛ فكان المقصود من ادعاء الاختناق هو مفاجأة الناس وإرباكهم، وليس إصابتهم بالذعر وفرارهم على هذا النحو.

علت الصرخات الآن، صرخات عرفتها جيدًا منذ ليلة المتنزه؛ إنها أصوات أناس مذعورين يركضون متخبطين في بعضهم البعض أثناء محاولتهم المستميتة للفرار.

بدأت بعد ذلك صفارات إنذار الغارات الجوية.

لم أسمع ذلك الصوت منذ وقوع الانفجارات، لكنني لم أنسَهُ مطلقًا. ارتعدت له فرائصي. جعلتني تلك الصفارات أرغب في الهروب فزعًا. وقفت على قدميَّ، والقبعة الحمراء على رأسي، وعقلي لا يفكر إلا في أمر واحد فقط، ألا وهو: آنج وتمثال «المؤسس».

وقف الجميع الآن منتصبي القامة، وأخذوا يركضون في جميع الأنحاء وهم يصرخون. دفعت الناس بعيدًا عن طريقي، محكمًا قبضتي على حقيبتي وقبعتي، ومتوجهًا ناحية تمثال «المؤسس». كانت ماشا تبحث عني، في حين كنت أبحث أنا عن آنج. كانت آنج في مكان ما.

أخذت أدفع في الناس، وأطلق السباب. دفعت أحدهم بمرفقي، في حين وطئ آخر على قدمي بقوة جعلتني أشعر كما لو أن شيئًا قد تكسر بها. دفعته، فنزل على الأرض. حاول النهوض، لكن شخصًا ما سار فوقه. أخذت أشق طريقي دافعًا الناس بعيدًا.

بسطت ذراعي بعد ذلك لأدفع شخصًا آخر، فأمسكتْ يدان قويتان بمعصمي ومرفقي في حركة واحدة مرنة، وأعادت ذراعي خلف ظهري. شعرت بأن كتفي كادت تنخلع، فانحنيت على الفور وصرخت بصوت عالٍ كاد لا يُسمع وسط جلبة الحشد، وصوت المروحيات، وعويل صفارات الإنذار.

استقمت مرة أخرى، بفعل اليدين القويتين اللتين جذبتاني من الخلف وصارتا تتحكمان فيَّ كما لو كنت دمية متحركة. كانت القبضة محكمة للغاية، حتى إنه لم يكن بإمكاني التفكير في الخلاص منها. لم أعد أفكر في الضجيج أو المروحيات أو آنج. كل ما كان بوسعي التفكير فيه هو التحرك في الاتجاه الذي أرادني الشخص الذي أمسك بي أن أتحرك فيه. أدارني فصرت مواجهًا له.

كانت فتاة وجهها حاد الملامح شبيه بالقوارض وشبه مخبَّأ خلف نظارة شمس ضخمة. وفوق النظارة كتلة كثيفة من الشعر ذي اللون الوردي البراق الناتئ في جميع الاتجاهات.

قلت لها: «أنتِ!» كنت أعرفها، فهي من التقطت صورتي وهددتني بأن تشي بي لمراقبي المتهربين من المدرسة. وكان ذلك قبل انطلاق صفارات الإنذار بخمس دقائق. كانت هي بعنفها ومكرها. ركضنا معًا من تلك البقعة في تِندرلوين بينما النفير المزعج ينطلق خلفنا، وقبضت علينا الشرطة معًا. كنت معاديًا، فقررت الشرطة أنني عدو.

أما هي — ماشا — فصارت حليفتهم.

همست في أذني كما لو كنا عاشقين: «مرحبًا يا مايكي!» شعرت برجفة في ظهري. تركت ذراعي، وهززتها أنا بعنف.

قلت لها: «يا إلهي! هذه أنتِ!»

فقالت: «نعم، أنا! سيمطروننا بالغاز بعد دقيقتين، لنهرب سريعًا!»

«آنج صديقتي تنتظرني عند تمثال «المؤسس».»

ألقت ماشا نظرة على الحشد، وقالت: «مستحيل! سنهلك إذا حاولنا الوصول إلى هناك. سنُمطَر بالغاز خلال دقيقتين، إذا لم تصب به في المرة الأولى.»

توقفت عن الحركة، وقلت لها: «لن أرحل بدون آنج.»

هزَّت كتفيها، وصاحت في أذني: «كما تشاء! ستهلك.»

بدأتْ في الاندفاع عبر الحشد مبتعدةً في اتجاه الشمال ناحية وسط المدينة. وواصلتُ الدفع للوصول إلى تمثال «المؤسس». وبعد لحظات، عادت ذراعي مثبتةً بالخلف ببشاعة، وأُدِرت للخلف، ودُفِعت للأمام.

قالت الفتاة: «إنك تعرف الكثير أيها اللعين! لقد رأيت وجهي، ستأتي معي.»

صحت فيها، وأخذت أقاوم إلى أن شعرت بأن ذراعي كادت تنخلع، لكنها ظلت تدفعني للأمام. شعرت بألم مبرح في قدمي مع كل خطوة، وبأن كتفي كادت تنخلع.

تقدمنا جيدًا عبر الحشد مع استخدامها لي كأداة لدفع من أمامها. تغير صوت المروحيات، ودفعتني الفتاة على نحو أقوى. صاحت: «اركض! إنهم يلقون الغاز!»

تغير أيضًا صوت الحشد؛ فأخذت تعلو أصوات الاختناق والصراخ. سمعت هذه الدرجة من الصوت المرتفع من قبل؛ كنا حينها في المتنزه. أطلقوا علينا قنابل الغاز من أعلى؛ فكتمت أنفاسي، وركضت.

تجاوزنا الحشد، وتركت الفتاة ذراعي، فهززتها بعد تحررها. مشيت مترنحًا بأسرع ما يمكنني على الرصيف حيث أخذت أعداد الناس تقل. كنا نتوجه ناحية مجموعة من ضباط وزارة الأمن الوطني يحملون دروعًا ضد الشغب ويرتدون أقنعة وخوذات. ومع اقترابنا منهم، تحركوا ليمنعونا من المرور، لكن ماشا رفعت شارة، فتنحوا جانبًا كما لو كانت شخصية «أوبي وان كينوبي» بسلسلة أفلام حرب النجوم، وتقول لهم: «ليس هؤلاء من تبحثون عنهم.»

قلت لها ونحن نسرع في شارع ماركت: «أيتها الحقيرة، علينا العودة إلى آنج.»

زمَّت شفتيها، هزَّت رأسها، وقالت: «أشعر بك يا صديقي، فلم أرَ صديقي منذ شهور. ويظن على الأرجح أنني قد لقيت حتفي. إنها أقدار الحرب. إذا عدنا إلى صديقتك آنج، فسنصير في عداد الموتى. لكن مع مواصلة المسير، لدينا فرصة في النجاة. وطالما لدينا فرصة، يكون أمامها هي أيضًا فرصة. هؤلاء الشباب لن يذهبوا إلى سجن جوانتانامو الخليج، وإنما ستقبض الشرطة على بضع مئات على الأرجح ليستجوبوهم، وسيرسلون البقية إلى منازلهم.»

كنا نسير الآن في شارع ماركت، ومررنا بنوادي التعري حيث يجلس السكارى والمدمنون وتفوح منهم رائحة كريهة تشبه رائحة المراحيض المفتوحة. أرشدتني ماشا إلى فجوة صغيرة في باب مغلق لأحد نوادي التعري. خلعت سترتها، وقلبتها. كانت بطانتها على شكل خطوط خفيفة، ومع عكس فتحات السترة، صارت مختلفة. أخرجت بعد ذلك قبعة صوفية من جيبها، ووضعتها على شعرها، مع تركها له ينسدل بأناقة. أخرجت بعد ذلك بعض المناديل لإزالة مساحيق التجميل، وأخذت تزيل ما كان على وجهها وأصابع يديها. وفي لحظات، صارت فتاة مختلفة.

قالت: «تغيير الملابس. الآن حان دورك. لتتخلص من الحذاء، والسترة، والقبعة.» فهمت ما كانت تقصده. ستبحث الشرطة بعناية عن أي أحد يبدو من مظهره أنه أحد أفراد تجمع مصاصي الدماء. تخلصت من القبعة تمامًا؛ لم ترق لي قط قبعات البيسبول. أقحمت بعد ذلك السترة في حقيبتي، وأخرجت تي شيرت طويل الأكمام عليه صورة روزا لوكسمبورج، وارتديته على التي شيرت الأسود الذي كنت أرتديه. سمحت لماشا بإزالة مساحيق التجميل من على وجهي، وتنظيف أظافري. وبعد لحظات، صرت نظيفًا.

قالت: «أغلق هاتفك. هل تحمل أية شرائح لتحديد الهوية بالموجات اللاسلكية؟»

كنت أحمل بطاقة هوية الطالب، وبطاقة الصرف الآلي، وبطاقة «فاست باس». وضعت ماشا كل ذلك في حقيبة فضية اللون كانت تحملها، كانت محفظة فاراداي مقاومة للموجات اللاسلكية. لكن ما إن وضعت تلك المحفظة في جيبها حتى أدركت أنني قد سلمتها بطاقة هويتي. وإذا كانت من الأعداء …

بدأت أستوعب حجم ما حدث للتو. تخيلت آنج معي في تلك اللحظة. كنا سنصير اثنين أمام واحد، وكانت ستساعدني في أن أرى ما إذا كان هناك أي شيء خطأ، وإذا لم تكن ماشا كما ادعت.

«ضع هذه الحصوات في حذائك قبل أن تلبسه …»

«لا حاجة لها، لقد التوت قدمي. ما من برنامج تعرف على المشية يمكنه التعرف عليَّ الآن.»

أومأت برأسها مرة واحدة إيماءة محترف لآخر، وعلقت حقيبتها. حملت حقيبتي أيضًا، وتحركنا. لم يستغرق تغيير ملابسنا أكثر من دقيقة. صرنا كشخصين آخرين في مظهرنا ومشيتنا.

نظرت في ساعتها، هزت رأسها، وقالت: «هيا! علينا أن نجري المقابلة. إياك والتفكير في الهرب! لديك خياران الآن: أنا أو السجن. سيعملون على تحليل المشاهد المصورة لهذا الحشد لأيام. لكن ما إن ينتهوا من فعل ذلك حتى يدخل كل وجه ظهر بها في قاعدة بيانات. وسينتبهون إلى مغادرتنا المكان. نحن الآن مجرمان مطلوبان للعدالة.»

•••

أخرجتنا ماشا من شارع ماركت عند المربع السكني التالي لنعود إلى تِندرلوين. كنت أعرف هذا الحي، فهناك ذهبنا نبحث عن نقطة وصول مفتوحة بشبكة الواي فاي في اليوم الذي كنا نلعب فيه لعبة «هاراجوكو فان مادنس».

سألتها: «إلى أين نحن ذاهبان؟»

فأجابتني: «نحن على وشك اللحاق بركوبة. اصمت، ودعني أركز.»

تحركنا سريعًا، وتصبب العرق على وجهي تحت شعري، وامتد إلى ظهري وصولًا إلى مؤخرتي وفخذيَّ. اشتد الألم في قدمي، ورأيت شوارع سان فرانسيسكو ونحن نمر بها، ربما للمرة الأخيرة على الإطلاق.

لم يتحسن الأمر بشق طريقنا صعودًا التل، والتحرك تجاه المنطقة التي تصل بين تِندرلوين الخصبة وعقارات نوب هيل الرائعة. تهدجت أنفاسي. وكانت أغلب الطرق التي قادتني إليها ماشا مجازات ضيقة، ولم تسر في شوارع واسعة إلا للانتقال من مجاز ضيق لآخر.

كنا قد خطونا لتونا إلى داخل أحد هذه المجازات، واسمه «سابين بليس» عندما ظهر شخص ما فجأة خلفنا، وقال بصوت شابته فرحة شريرة: «توقفا مكانكما!» توقفنا واستدرنا للخلف.

عند مدخل المجاز، وقف تشارلز يرتدي زيًّا لتجمع مصاصي الدماء يدل على عدم الحماس مكونًا من بنطال جينز وتي شيرت أسود اللون، وعلى وجهه مساحيق بيضاء. قال: «مرحبًا يا ماركوس، هل أنت ذاهب إلى مكان ما؟» ابتسم ابتسامة عريضة، وواصل حديثه: «من صديقتك؟»

«ماذا تريد يا تشارلز؟»

«لقد دخلت على شبكة إكس نت الخائنة تلك منذ شاهدتك وأنت توزع أقراص الفيديو الرقمية في المدرسة. وعندما علمت بأمر لعبة تجمع مصاصي الدماء، فكرت في الانضمام لها، والمراقبة من بعيد لأرى ما إذا كنت ستحضر أم لا وما كنت تفعله. وتعلم ماذا رأيت؟»

لم أنطق. حمل هاتفه في يده، وأشار إلينا. كان يسجل كل ما أقوم به. ولعله كان على استعداد لطلب رقم النجدة ٩١١. وبجانبي ماشا، وقفت كلوح الخشب.

«رأيتك وأنت تتزعم ما حدث، وسجلت كل شيء يا ماركوس؛ ولذلك، سأطلب الآن الشرطة، وسننتظرها هنا. وسيُزج بك في السجن لفترة طويلة للغاية.»

خطت ماشا للأمام.

فقال لها: «توقفي مكانك أيتها الجميلة! لقد رأيتك وأنتِ تساعدينه على الهرب. لقد رأيت كل شيء …»

أخذت خطوة أخرى للأمام، وخطفت الهاتف من يده. وضعت يدها الأخرى خلف ظهرها، وأخرجتها ممسكة بمحفظة مفتوحة.

وقالت موجهة حديثها لتشارلز: «وزارة الأمن الوطني، أيها الغبي! أعمل مع وزارة الأمن الوطني، وقد ساعدت هذا الساذج على الهرب لأوصله إلى رؤسائه. «كان» هذا ما أفعله، وقد أفسدت الآن كل شيء. ثمة اسم لذلك، وهو «إعاقة عمل الأمن الوطني». ستتردد هذه العبارة على سمعك كثيرًا منذ الآن.»

تراجع تشارلز خطوة للوراء رافعًا يديه أمامه. وقد ازداد شحوبًا من وراء مساحيق التجميل. قال: «ماذا؟ كلا! أعني … لم أكن أعلم! كنت أحاول تقديم المساعدة!»

«آخر ما نحتاجه هو مجموعة من المخبرين بالسنة قبل النهائية من المرحلة الثانوية «تقدم المساعدة» يا صاح. يمكنك إخبار القاضي بذلك.»

تراجع أكثر للوراء، لكن ماشا كانت سريعة، أمسكت بمعصمه، ولوته بأسلوب لاعبي الجودو نفسه الذي اتبعته معي في مركز المدينة. أدخلت يدها في جيبها بالخلف، فأخرجت شريطًا بلاستيكيًّا، شريطًا لتقييد اليدين، لفَّته سريعًا حول معصميه.

كان ذلك آخر ما رأيته إذ انطلقت هاربًا.

•••

كنت قد وصلت إلى نهاية المجاز قبل أن تصل إليَّ، وتعرقلني من الخلف، وتلقي بي أرضًا. لم أتمكن من التحرك سريعًا بسبب الألم في قدمي ووزن حقيبتي. سقطت على وجهي على الأرض، انزلقت، واحتكت وجنتي بالأسفلت الوسخ.

قالت: «يا إلهي! يا لك من غبي! هل صدقت ذلك حقًّا؟»

خفق قلبي في صدري. كانت تجثم فوقي، وسحبتني لأعلى ببطء.

«هل أنا بحاجة لتقييد يديك يا ماركوس؟»

وقفت على قدميَّ. شعرت بالألم في كل جسمي، وأردت الموت.

قالت لي: «هيا! إنها لم تعد تبعد كثيرًا.»

•••

اتضح لي فيما بعد أن ماشا كانت تعني ﺑ «إنها» شاحنة متحركة بشارع جانبي في منطقة نوب هيل، شاحنة بست عشرة عجلة تماثل في حجمها شاحنات وزارة الأمن الوطني المنتشرة في كل مكان، والتي لا تزال متواجدة بنواصي شوارع سان فرانسيسكو وتنتصب فوقها أجهزة الهوائي.

لكن تلك الشاحنة حملت على جانبها عبارة «ثلاثة رجال وعربة تتحرك»، والرجال الثلاثة كانوا واضحين للغاية، أخذوا يسيرون جيئةً وذهابًا من مبنى سكني طويل ذي مظلة خضراء وإليه. كانوا يحملون أثاثًا موضوعًا في صناديق تحمل أسماءً مطبوعة بعناية. أخذوا يشحنون الصندوق تلو الآخر إلى الشاحنة، ويرصونها بعناية فيها.

سارت بنا حول الشاحنة مرة واحدة، وظهر عليها عدم الرضا بشيء ما. وفي المرة التالية، تواصلت بعينها مع الرجل الذي كان يراقب الشاحنة، وهو رجل أسود كبير السن يرتدي حزامًا عريضًا واقيًا وقفازين سميكين. كان وجهه سمحًا. ابتسم لنا بينما كانت ماشا تقودنا سريعًا على درجات الشاحنة الثلاث ثم إلى داخلها. قال الرجل: «تحت الطاولة الكبيرة … تركنا لكما مكانًا هناك.»

كانت الشاحنة نصف ممتلئة، لكن كان هناك ممر ضيق حول طاولة كبيرة ملقاة فوقها بطانية مُضَرَّبة، ومغلَّفة أرجلها بغلاف فقاعات هوائية.

سحبتني ماشا أسفل الطاولة. كان المكان فاسد التهوية، وهادئًا، ومغبرًا أسفلها. كتمت عطسة أثناء انحشارنا بين الصناديق. كان المكان ضيقًا للغاية، حتى إن كلًّا منا التصق بالآخر. أظن أن آنج ما كان ليتسع لها هذا المكان.

قلت لماشا وأنا أنظر إليها: «أيتها الساقطة!»

«اخرس! من المفترض أن تلعق حذائي شكرًا لي. لولاي، لكنت ستُلقَى في السجن في خلال أسبوع. وليس في جوانتانامو الخليج، وإنما في سوريا. أعتقد أنهم يرسلون إلى سوريا مَن يريدونهم أن يختفوا حقًّا.»

وضعت رأسي على ركبتيَّ، وحاولت التنفس بعمق.

«لماذا ترتكب شيئًا بهذا القدر من الغباء بإعلان الحرب على وزارة الأمن الوطني؟»

فأجبتها. أخبرتها عن إلقاء القبض عليَّ، وعن داريل.

تحسست جيوبها، وأخرجت هاتفًا. كان هاتف تشارلز. قالت: «الهاتف الخطأ!» ثم أخرجت هاتفًا آخر. قامت بتشغيله، وملأ النور الصادر من الشاشة حصننا الصغير. وبعد تحريك إصبعها عليه للحظة، جعلتني أشاهد ما على الشاشة.

كانت الصورة التي التقطتها لنا قبيل وقوع التفجيرات. كانت الصورة التي تجمع بيني أنا وخولو وفان و…

داريل.

كنت أحمل في يدي دليلًا على أن داريل كان معنا قبل دقائق من تحفظ وزارة الأمن الوطني علينا، إثباتًا على أنه كان حيًّا ومعافى ومرافقًا لنا.

قلت لها: «يجب أن تعطيني نسخة من هذه الصورة. أنا بحاجة إليها.»

فقالت لي، وهي تخطف الهاتف من يدي: «سأعطيها لك عندما نذهب إلى لوس أنجلوس، وتعرف كيف تكون هاربًا دون أن تتسبب في القبض على كلينا، وإرسالنا إلى سوريا. لا أريدك أن تفكر في إنقاذ هذا الفتى؛ فهو في أمان حيث يوجد … في الوقت الراهن.»

فكرت في محاولة أخذه منها بالقوة، لكنها استعرضت من قبل مهارتها البدنية. لعلها حاصلة على حزام أسود أو شيء من هذا القبيل.

جلسنا في الظلام نستمع للرجال الثلاثة أثناء تحميلهم الصناديق واحدًا تلو الآخر في الشاحنة، وربطهم إياها، والأصوات المنبعثة منهم إثر ما يبذلونه من جهد. حاولت النوم، لكنني لم أستطع. أما ماشا، فلم تُعانِ من مشكلة في ذلك. كانت تغط في نومها.

كان لا يزال هناك ضوء يمر عبر المجاز الضيق المليء بالمعوقات الذي يؤدي إلى الهواء المنعش في الخارج. حدقت فيه عبر الظلام وفكرت في آنج.

آنج حبيبتي. شعرها الذي يمس كتفيها برفق وهي تدير رأسها من جانب لآخر، وتضحك على شيء ما فعلته. وجهها عندما رأيتها آخر مرة وهي تسقط بين الحشد بلعبة تجمع مصاصي الدماء. كل هؤلاء الناس في اللعبة — مثل مَن كانوا في المتنزه — منبطحون على الأرض ويتلوون، ورجال الأمن الوطني يتدخلون بالهراوات. أولئك الذين اختفوا.

داريل المحتجز على جزيرة «تريجر آيلاند» وجانبه المقطَّب. يُخرَج من زنزانته ليخضع لسلسلة لا متناهية من الاستجوابات بشأن الإرهابيين.

والد داريل المحطم، الثمل، غير حليق الذقن، الذي اغتسل وارتدى زيَّه «لتلتقَط صورته»، يبكي كالطفل الصغير.

والدي، وكيف تغير باختفائي على جزيرة «تريجر آيلاند». لقد تحطم شأنه شأن والد داريل، لكن على طريقته الخاصة. ووجهه، عندما أخبرته أين كنت.

علمت حينذاك أنه لا يمكنني الهرب، وأنه ينبغي لي البقاء والمواجهة.

•••

كانت أنفاس ماشا عميقة ومنتظمة، لكنني عندما وصلت ببطء حذر إلى جيبها لأحصل على هاتفها، علا صوت أنفاسها، وبدَّلت وضعها. تسمرت مكاني، ولم أتنفس لمدة دقيقتين كاملتين.

عادت في تؤدة تتنفس بعمق ثانيةً. جذبت الهاتف من جيب سترتها ببطء شديد، وذراعي وأصابعي ترتعش من المجهود الذي أبذله في التحرك بهذا البطء.

ثم حصلت عليه. كان يشبه قطعة الشوكولاتة الصغيرة.

استدرت لأواجه الضوء، وجالت بخاطري حينذاك ذكرى: تشارلز يخرج هاتفه، يهزه في اتجاهنا، ويوبخنا. كان هاتفه يشبه قطعة الشوكولاتة، فضي اللون، ملصقة عليه شعارات العشرات من الشركات التي دعمت تكلفة الهاتف من خلال الشركة المصنعة للهاتف. وكان من النوع الذي تضطر للسماع فيه إلى إعلان تجاري في كل مرة تجري فيها اتصالًا.

كان المكان داخل الشاحنة حالك الظلمة؛ وحال دون رؤيتي للهاتف بوضوح، لكن كان بإمكاني الشعور به. هل كانت هذه ملصقات للشركة على جوانبه؟ نعم، فما سرقته من ماشا كان هاتف تشارلز.

عدت إلى ماشا ثانية ببطء شديد إلى أن وصلت إلى جيبها الخلفي. كان هاتفها أكبر وأكثر سمكًا، وبه كاميرا أفضل. ومن يعلم ماذا أيضًا؟

فعلت ذلك مرة من قبل؛ ما جعله أيسر بعض الشيء. مرة أخرى ببطء شديد إلى أن أخرجته من جيبها. توقفت مرتين عندما تنفست بصوت مسموع وارتجف جسدها.

أخرجت الهاتف من جيبها، وكنت على وشك الرجوع للخلف عندما مدت يدها فجأة وبسرعة كالأفعى لتمسك بمعصمي بقوة، وأطراف أصابعها تطحن العظام الصغيرة الضعيفة أسفل يدي.

لهثتُ وحدقتُ في عينَي ماشا المحملِقتين الواسعتين.

قالت مخاطبةً إياي وهي تأخذ الهاتف مني، وتضغط على لوحة مفاتيحه بيدها الأخرى: «يا لك من أحمق! كيف كنت تخطط لفتح ذلك ثانيةً؟»

ابتلعت ريقي. شعرت بطحن العظام في معصمي. قضمت شفتي لأمنع نفسي من الصراخ.

استمرت في الضغط على المفاتيح باستخدام يدها الأخرى، ثم سألتني وهي تظهر لي صورتي مع داريل وخولو وفان: «هل هذا ما اعتقدت أنك ستهرب به؟ هذه الصورة؟»

لم أنطق، وشعرت بأن معصمي سيتكسر.

«لعل من الأفضل أن أمسحها، وأمنعها من إغوائك.» تحركت يدها الحرة أكثر، وأظهر الهاتف رسالة تأكُّد من رغبتها في الحذف؛ فكان عليها النظر إليه للعثور على الزر الصحيح.

وفي تلك اللحظة، تحركت. كان تليفون تشارلز لا يزال في يدي. أنزلته على يدها التي تعصر بها معصمي بأقصى قوتي، لترتطم مفاصل أصابعي بالطاولة أعلانا. ضربت يدها بقوة لدرجة أن الهاتف تبعثرت أجزاؤه، وصرخت عاليًا، وضعفت يدها. ظللت أتحرك، فوصلت ليدها الأخرى للحصول على هاتفها الذي صار الآن غير مغلق، وإبهامها لا يزال فوق زر «نعم». تشنجت أصابعها في الهواء أثناء انتزاع الهاتف من يدها.

تحركت إلى المجاز الضيق زحفًا على يديَّ وركبتيَّ متوجهًا ناحية الضوء. شعرت بيديها تضربانني على قدميَّ وكاحليَّ مرتين، ولزم عليَّ إزاحة بعض الصناديق التي كانت تحيط بنا كمقابر الفراعنة. سقط بعضها خلفي، وسمعت صوت ماشا تتأوَّه.

كان باب الشاحنة الدوار مفتوحًا بعض الشيء، فزحفت حتى وصلت تحته. كانت الدرجات قد أُزيحت، ووجدت نفسي متدليًا فوق الطريق، وسقطت على الأسفلت برأسي أولًا، محدثًا صوتًا رن في أذني مثل قرع الأجراس. وقفت على قدميَّ ممسكًا بممتص الصدمات، وسحبت مقبض الباب بعناء مغلقًا إياه. صرخت ماشا داخل الشاحنة … لا بد أنني قد أغلقت الباب على أطراف أصابعها. شعرت بالرغبة في التقيؤ، لكنني لم أفعل.

بل أغلقت باب الشاحنة بالقفل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤