لحظة مع الماضي

إيماني لا يُحَدُّ بضرورةِ أن ينسكبَ ماضينا في حاضرنا انسكابًا لا يُعرقل سيرنا، بل يجيءُ قوةً محركة دافعة تَزيد من عجَلة السير؛ وذلك لأنَّ من تراث الماضي ما يُعرقل، ومنه ما يُحرك ويدفع، وأغبى الغباء هو أن نُغمض العينَ عن هذه الحقيقة الصارخة، ليس للحاضر الحيِّ غِنًى عن ماضٍ يُمدُّه بغِذاء الحياة كما تُمد الأمُّ جنينَها، وليس أدعى إلى تشتُّتٍ وحيرةٍ وضياع من حاضر يهدمُ الجسورَ الواصلة بينه وبين ما كان .. لكن كيف تكون الصِّلة بين حاضر وماضٍ بحيث تُحقق للإنسان حياةً موصولةَ التيار معلومةَ الأهداف مَكينة الأصول؟

لعلَّ إجابةً من الإجابات الصحيحة عن هذا السؤال — فلهذا السؤال أكثرُ من جواب واحد — هي ما نستخلصُه من لمحةٍ وردَت عند «بروست» Proust، في حديثه عن الصِّلة بين الحاضر والماضي، في كتابه «البحث عن الزمن الضائع»، إذ يقول إنَّ الفنَّ من شأنه أن يجمد لحظاتٍ من الماضي تظلُّ قائمة حية في الحاضر، فيُتيح لنا هذا أن نُحطم حواجزَ الزمن بيننا وبين أسلافنا بأن نعيشَ تلك اللحظات: «فإذا ما سمعنا الآن صوتًا كنَّا قد سَمِعناه من قبل، وحين نَنشَقُ رائحةً كنَّا قد نَشِقناها من قبل، فعندئذٍ — بالذكرى — نكون قد سمعنا ذلك الصوت ونَشِقْنا تلك الرائحةَ في الماضي والحاضر معًا، وحينئذٍ فقط يزول حاجزُ الزمن، وتبرزُ إلى الوجود المتصل المستمرِّ حقائقُ الأشياء في جوهرها الخفي، وتستيقظ ذَواتنا الأصيلة التي كانت قد خُيِّل إلينا أنَّها ماتت واندثرَت آثارها .. إنَّ لحظةً واحدة نعيشها اليوم مع من عاشوها في الماضي، كفيلةٌ وحدَها أن تفكَّ عنَّا قيود الزمن التي فصَلَت حاضرنا عن ماضينا.»

وأحسب أني قد عشتُ لحظةً كهذه مع أبي العلاء، حينما أوقفَني التأمُّل عند قوله: «أبَكَتْ تِلكُمُ الحمامةُ أم غَنَّت؟»

ها هي ذي حمامة على غُصنها تبعث صوتًا، هو عند الحقيقة الكونية «صوت» متميِّز بموجاته التي يتناولها علمُ الصوت في الفيزياء بالتحليل والقياس، فيعرف لهذه الموجات أطوالَها وسرعاتها، هو «صوت» في الطبيعة الخارجية، قد تُسجله آذانُ السامعين أو لا تُسجله، لكنَّه هناك: حدَث من أحداث الطبيعة، وإنَّما هو الإنسان بمشاعره ومَنافعه، يُصنف تلك الأحداث الطبيعية على مِزاجه وهواه، فيقول: هذا «بكاء» وذلك «غناء»! ليس في حقائق الطبيعة بكاء وغناء، فهذان من ذات الإنسان وميوله، حقائق الأشياء كما هي واقعة، لا تُفرق بين «نَوْح الباكي» و«ترنُّم الشادي»، فالنَّوح والترنم كلاهما «صوت»، كلاهما اهتزازاتٌ للهواء، كِلاهما ينصاع في حدوثِه وفي مساره لقوانينَ محددةٍ معلومة عند علم الصوت في الفيزياء، وأمَّا الذي جعل هذا الصوتَ نَوحًا، وذلك الصوتَ ترنمًا، فذلك هو الإنسان؟ «صوت البشير» شبيهٌ «بصوت النَّعِيِّ» عند الحقيقة الموضوعية الخارجية التي لا تعبث بها وتُحرفها أهواء البشر.

والفرق بعيدٌ بُعدَ السماء السابعة عن الأرض السابعة، بين نظرةٍ تلقط الواقع كما وقع، ونظرةٍ أخرى تَلوي هذا الواقعَ فتسلكه في رغَبات الإنسان، فيُصبح منه ما هو محبَّب له وما هو كريه، ما هو خيرٌ وما هو شر، وحقائق الدنيا بريئةٌ كلَّ البراءة من الخير والشر، والحب والكراهية … وماذا ينقص العربيَّ المعاصِرَ أكثر مما يَنقصه من مِثل هذه القدرة على التفرِقة بين حقائق الدنيا الواقعةِ من جهة، وبين انطباعاته هو بتلك الحقائق من جهةٍ أخرى؟ وليس العيب في أن يكون للإنسان أهواؤه بالنسبة لما يُصادفه في عالم الأشياء، فيُحب ما يحب، ويكره ما يكره، ولكن العيب كل العيب هو أن نخلط بين الجانبَين ذلك الخلطَ الذي يُجيز لنا أن نتحدَّث عن أوهامنا وأحلامنا، ثم نظن أننا إنَّما نتحدثُ عن أمور الواقع.

لقد عشتُ مع أبي العلاء هذه اللحظةَ التي تُسيطر فيها النظرةُ المحايدة إلى الدنيا وأحداثِها من حولي، النظرة التي تطرح من حسابها الفوارقَ الذاتية بين النَّوح والترنُّم، بين الغناء والبكاء، بين صوتِ البشير وصوت النعيِّ، فكنتُ في تلك اللحظة مثلًا مجسَّدًا للصلة الثقافية حين تربطُ المعاصرين بالسالفين، وهكذا — فيما أظن — تجيء تلك الصلةُ بتراثنا نابضةً بالحياة، لا مجرد لَغْو لا يكاد يتجاوز حدودَ الشِّفاه.

إنَّه لَمِمَّا يَلفت نظري في الفلسفة الأوروبية الحديثة كلِّها، منذ نشَأَت على أنقاض العصور الوسطى وإلى عهدٍ قريب، حرصُها الشديد على التمييز — في معرفة الإنسان لما حوله — بين نوعَين من المدرَكات؛ أحدهما يصفُ الواقعَ كما يقع، والآخَر يتولَّد في ذهن الإنسان عن ذلك الواقع، ويُطلق رجالُ الفلسفة على الصنف الأول من المدركات اسمَ الصفات الأولية، وعلى الصنف الثاني اسمَ الصفات الثانوية، فالأولى تفرض نفسَها على الإنسان فرضًا، ولا قِبَل له بتغييرها، وأمَّا الثانية فيَطْهوها الإنسانُ لنفسه، فإذا كان أمامي برتقالة، فإنَّ شكلها الكريَّ هو من القبيل الأول، وأمَّا مذاقُ طعمها فهو من القبيل الثاني. ولماذا حرَصَت الفلسفة الأوروبية الحديثة على إبراز هذه التفرِقة بين النوعين من خصائص الأشياء وصفاتها؟ إنَّها فعلَت ذلك لتُميز بين ما يصلح للنظرة العِلمية وما لا يصلح؛ فالصفات الأولية موضوعيةٌ ولذلك فهي صالحةٌ للبحث العلمي، وأمَّا الصفات الثانوية فذاتيةٌ من عندنا، ومن ثَم فهي إن صلَحَت لأن يصفَها الشعر والفن بكل أشكاله، فلا تصلح لأبحاث العلماء. «أبَكَتْ تِلكمُ الحمامة أم غنَّت …؟» سؤالٌ قد يُجيب عنه الإنسانٌ محتكمًا إلى وِجدانه الذاتي، فإذا كان الإنسان السامع حزينًا عَدَّ صوتَ الحمامة بكاءً، أو كان سعيدًا مرحًا، حسب الصوتَ غناءً، وأمَّا النظرة العِلمية فهي ترفض السؤال من أساسه؛ لأنَّ البكاء والغناء كِلَيهما يخرج عن مَجالها، وإنَّما تُجيبك النظرة العِلمية إذا سألتها عن موجة الصوت المسموع ما طولها وما سرعتها.

ولْنُوسِّع مِن البكاء والغناء، من نَوح الباكي وترنُّم الشادي، من صوت البَشير وصوت النعي، لنوسِّعْ هذا المجال الضيق كي نجعلَها تفرقةً بين الخير والشر بصفةٍ أعمَّ وأشمل، فنرى النتيجةَ واحدة في الحالتَين: العالم الواقع لا يعرف خيرًا ولا شرًّا. إنَّما هو أنت وهو أنا وهم غيرنا، الذين يصبُّون أهواءهم على وقائع ذلك العالم، فيقسمونها في أوهامهم خيرًا هنا وشرًّا هناك، لكننا — مع ذلك — نلحظُ تفاوتًا شديدًا بين الناس في مدى هذه الأوهام وتسلُّطها على حياتهم؛ فمِن الناس مَن يُلجم هذه الأوهامَ عند النظر الموضوعي إلى حقائق الموقف الذي يَعنيهم أمره، ومنهم مَن لا يستطيع هذا الإلجام، فيعيشُ أوهامه في كل المواقف على حدٍّ سواء.

قد يتعذر على الإنسان بصفةٍ عامة أن يُفرق هذه التفرِقةَ في حياته العَملية، فيفصل فصلًا رياضيًّا بين ما هو واقع، وبين الطريقة التي تأثر بها هو إزاء ذلك الواقع، لكنها تفرقةٌ لا بدَّ منها عند من يُهمه معرفة «الحق» كما هو، كائنًا ما كان وقْعُه على نفسه، وفي ذلك يقول برتراند رسل (في كتابه «التصوف والمنطق»): «إنَّه إذا أرادت الفلسفة أن تبلغ الحقَّ فلا مندوحةَ للفلاسفة عن التزام النظرة العقلية المنزَّهة عن الهوى، وهي نظرة تُميز رجل العلم.» وإذا أردتَ أن تقرأ لفيلسوفٍ آمَن بهذه النظرة العقلية النزيهة إلى حقائق الوجود، فأظن أن خيرَ من تقرأ له في ذلك هو سبينوزا:

«غيرُ مُجْدٍ» في مِلَّتي واعتقادي
نَوْحُ باكٍ ولا ترنُّم شادي

تلك هي اللحظة الإدراكية التي عشتُها مع أبي العلاء، إنَّه لم يقُل ذلك تجاهلًا منه للفارق الشعوريِّ عند الإنسان بين أن ينوحَ ساعةَ بكاء، وأن يترنَّمَ ساعةَ نشوة؛ فذلك فارقٌ قائم لا بدَّ أن يكون أبو العلاء قد أحسَّه في نفسه، كما لا بدَّ أن يكون قد لحظه ألوفَ المرات في سلوك الآخَرين، لكنَّه — برغم ذلك — فارقٌ لا يُغير من حقيقة الواقع شيئًا، إنَّ الفرق بين هاتين الحالتَين الشعوريتين لا يتعدى حدودَ الذات ساعةَ بكائها وساعةَ نشوتها، وأمَّا الوقائع الصلبة التي منها يتألفُ الموقف من حولنا فلا يتبدَّل منها مقدارَ أَنمُلة، بسبب أنَّ باكيًا هناك ينوح أو أنَّ شاديًا يترنَّم .. الحالة الوجدانية تهزُّ صاحبها، لكنها لا تهزُّ من البعوضة جَناحَها.

تُرى ماذا كان أبو العلاء يقول إذا ما بُعث اليوم ليرانا نوشك أن نُعلِّق أمورنا على مشاعرنا قبل أن نُعقلها على مقومات الواقع الفعلي؟ إنَّه سيجد أمامَه قومًا يملَئون الجوَّ بانفعال الغضب، وصيحاتِ الغيظ، ويظنون أنَّ هذا وحدَه كفيلٌ لهم بأن تنزاحَ عن أرضهم دباباتُ العدوِّ وأن تختفيَ من سمائهم طائراتُه، قد يَصِفون العدوَّ برذائل الأولين والآخِرين؛ قد يصفونه بالغدر واللؤم والكذب والخداع، وإنَّها لصفات تُميزه حقًّا، ولكن هل يُجدي ذلك من أمر الواقع شيئًا؟ إنَّ الفرق بين عالَم يسوده الخيرُ والفضيلة، وعالَمٍ يسوده الشرُّ والرذيلة، هو فرقٌ كائن في نفوس البشر، كائنٌ في رغباتهم وآمالهم، هو فرق يَلحظه الناس بحسَب ما يجدون العوائقَ أو لا يجدونها في طريق تحقيق أهدافهم، أمَّا الواقع نفسُه فسوف يظلُّ واقعًا إلى أن يُغيره واقعٌ آخَر. يقول برتراند رسل في كتابه الذي أسلفنا ذِكره: «الحب والكراهية ضدَّان أخلاقيان، لكنهما عند النظرة الفلسفية شبيهان أحدُهما بالآخَر، من حيث هما طريقتان في النظر إلى الأشياء، فإذا ما أردنا أن ننظر إلى المسألة نظرةً فلسفية، وجب أن نحصر النظر في الصورة العامة، أو البِنْية العامة لذَيْنِك الموقفين إزاء الأشياء، بعبارةٍ أخرى، فإنَّه يجب على صاحب النظرة الفلسفية أن يُفرِّغ إطارَ الوقفة من مضمونها (فالإطار «عقل» والمضمون عاطفة).

وهكذا فلو حصرنا النظر في الحب والكراهية من حيث هما حالتان شعوريتان، كان الفرق الذي نراه بينهما فرقًا في مضمونٍ وجداني، مما يتصل بالذات ولا شأن للعالم الطبيعي الواقعي به، نعم، إنَّ علم النفس قد يُحدد لنا المميزاتِ الخاصةَ التي تفرق حالةَ الحب عن حالة الكراهية، لكن النظرة الفلسفية تُسقِط من حسابها تلك المميزات الفارقة؛ لأنَّها «في النفس»، وليست «في الأشياء والمواقف».

الشبه الذي يُشير إليه برتراند رسل بين الحب والكراهية من حيث هما موقفان، هو نفسه الشبهُ الذي أشار إليه أبو العلاء بين صوت البشير وصوت النعيِّ، أتقول: إنَّ هذه نظرةٌ متشائمة تغمُّ النفس وتضيِّق رحابَ الأمل؟ قُل ما شئت، لكنَّه الحقُّ الواقع، وإلَّا فلماذا لا تُطالب علماءَ الفيزياء والكيمياء أن يُقيموا البرهانَ على الأهمية الأخلاقية لِكهارب الذرات؟ لماذا لا تُطالب عالم النبات أو عالم الحيوان بأن يتناول موضوعات بحثه بنظرةٍ تتَّفق مع آمال الإنسان في دنيا النبات ودنيا الحيوان؟ لا، إنَّ النظرة العِلمية الموضوعية الناضجة هي تلك التي لا تمزج بين «الواقعة» وبين ما يشعر به الإنسانُ نحوها، وبمثل هذه النظرة الناضجة نظَر أبو العلاء، فإذا هو يُقرر أنْ لا جدوى — من حيث تغييرُ الواقع — من أن ينوحَ باكٍ أو أن يترنمَ شادٍ، وإذا هو يقرر أنْ لا فرق — من حيث تغييرُ الواقع — بين أن يكون الصوتُ المسموع بكاءً أو غناءً، وإذا هو أخيرًا يُقرر الشبه التامَّ — من حيث القدرةُ أو العجز عن تغيير الواقع — بين صوت النعيِّ وصوتِ البشير.

هي لحظةٌ عشتُها مع الماضي، فإذا هذا الماضي منسكبٌ في حاضري انسكابًا هدَم حواجز الزمن بيني وبين السلف، وهكذا — في ظني — يتحقق الربط المنشود في ثقافتنا بين عصريَّةٍ وتراث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤