ضمير الكاتب ودستور المثقفين

ضمير الإنسان — كاتبًا أو غيرَ كاتب — هو ما يُضمره في دَخيلة نفسه من مبادئ يستخدمُها في التمييز بين الطيب من سلوكه والخبيث؛ ولْندَع رجال الفلسفة يختلفون فيما بينهم على مصدر تلك المبادئ: من أين جاءت؟ أهي نابعةٌ من فطرة الإنسان من حيث هو إنسانٌ ذو طبيعة خاصة، أم هي ما بثَّه المجتمعُ في أفراده من معاييرَ وجدها على طول السنين صالحةً لبقائه؟ أقول: لنترك رجال الفلسفة يختلفون فيما بينهم على الضمير كيف نشأ، وحسْبُنا أنَّهم متَّفقون جميعًا على وجود طائفةٍ من مبادئَ مكنونةٍ مطويَّة بين الجوانح، توحي إلى صاحبها بما ينبغي فعلُه في كل موقفٍ معين، فإمَّا استمع صاحبُها إليها فهدَأتْ نفسُه واستراح، وإمَّا عصاها فتمزقَت نفسُه بين باطن وظاهر.

لكن هذا القول إذا صدَق على كل إنسان مرة؛ فهو يصدق على الكاتب ألف مرة، لأنَّ الكاتب بحُكم وصفه هذا لا يكتم ما بنفسه في صدره، بل يُخرجه في كتابةٍ تصل إلى أيِّ عدد شئتَ من الناس، بحسَب ما يكون لهذا الكاتب من جمهورٍ قارئ؛ إنَّ الكاتب لا يكتب لنفسه، وإلَّا لاكتفى بالتأمُّل الصامت، هذه حقيقةٌ واضحة بذاتها، لا تحتاج إلى برهان يؤيدها؛ وإنَّما جاء وضوحها الذاتيُّ هذا من أنَّ كلمة «كاتب» لا يتم معناها إلا بما يُضايفها، وهو «القارئ»، شأنها في ذلك شأن كلمات كثيرة أخرى، فهل تتصور «والدًا» بغير ولد، أو «مُعلمًا» بغير متعلِّم، أو «حاكمًا» بغير محكوم؟ لا، وكذلك لا يكون كاتبٌ بغير قارئ — موجودٌ بالفعل أو بالإمكان — وإذا كان هذا هكذا؛ فقد أصبح واضحًا أنْ ليس من حقِّ الكاتب أن يكذب في الرسالة التي يريد نقْلَها إلى قارئه؛ الكاتبُ «متكلم» يُثبت كلامه على الورق؛ والقارئ سامع، والفرضُ في المتكلم أنَّه ينقل إلى سامعه نبأً جديدًا، أو رأيًا يراه، وإذن فالواجب الخلقيُّ يقتضيه أن يكون صادقًا فيما ينقله، لا أقول أن يكون مُصيبًا؛ لأنَّه قد ينقل ما هو خطأٌ بالنسبة إلى الحقيقة الخارجية، لكنَّه عند نقله لم يكن يعلم عن تلك الحقيقة الخارجية إلَّا ما كان قائمًا في اعتقاده، فليس على «المخطئ» في الرأي حرجٌ ولا ضَير، لكن الحرَج كل الحرج، والضير كل الضير، على «الكاذب» الذي يقول بظاهرِ لفظه — منطوقًا أو مكتوبًا — ما لا يعتقدُ هو في صوابه، وذلك هو الضمير وما يُمليه على صاحبه.

ليكن الكاتبُ من أيِّ طرازٍ شئت، ليكن كاتبَ قصة أو مسرحية، ليكن شاعرًا أو شارحَ فكرة أو صاحبَ رأي؛ فهو في كل حالة، وفي جميع الحالات، مُطالَبٌ بالصدق؛ ليتَّسقَ ظاهرُ لفظه مع باطن ضميره، وما أصدقَ الذي قال إنَّ «لسان الفتى نصف، ونصفٌ فؤاده»! أمَّا اللسان فهو النصف الخارجي الظاهر، الذي يتمثَّل في نُطق المتكلم وفي كتابة الكاتب، وأمَّا الفؤاد فهو النصف الداخلي، الذي نُضمر فيه ما نضمره من مبادئ وأفكار، وكمال المرء هو في مطابقة النصفين، الباطن منهما (= الضمير) والظاهر (الكتابة والكلام وسائر أنواع السلوك)؛ لأنَّه لا يبقى بعد أن تختلجَ في فؤادك الفكرةُ ثم تصدق في التعبير عنها، لا يبقى بعد ذلك «إلا صورة اللحم والدم» التي يُقيمها رغيفُ خبز وجرعةُ ماء.

فإذا سألتَني: هل يكون لرجال الفكر والأدب والفن دستورٌ يلتقون عنده جميعًا، على اختلافِ ما بينهم من وسائل التعبير، وعلى تبايُن ما تضطرب به أنفسُهم وقلوبهم وعقولهم من مشاعرَ وأفكار؟ أجبتُك: نعم، يكون لهم دستورٌ ذو مادة واحدة هي أن يَصدر كلٌّ منهم عن ضميره صدورًا صادقًا أمينًا، فيُخلص لنفسه وللناس؛ إنَّك إذا طالبتَ الكاتب أو الفنَّان ألَّا يخرجَ من ذات نفسِه إلَّا ما يتفق مع أهوائك؛ كنتَ كمن «صادرَ على المطلوب» (في لغة المناطقة) لأنَّك عندئذٍ كمَن يعلم النتيجة قبل مقدِّماتها، وكمن يرى النهايةَ قبل الطريق إليها؛ وإذن فما جدوى أن يكتب لك كاتبٌ إذا كنتَ تعلم مقدمًا ما لا بُدَّ أن ينتهيَ إليه من نتائج؟ إنَّ الأصل في الكتابة — بل في الكلام بكل أنواعه المفيدة — أن يحمل إليك جديدًا لم تكن تعلمُه قبل القراءة أو قبل الاستماع إلى حديث المتحدث، ومعنى ذلك كلِّه — مرةً أخرى — أنَّ دستور المفكِّر والفنان الذي لا فكاك منه، هو صِدْقه مع نفسه ومع الناس، على اختلاف معنى «الصدق» في مجالَي «الفكر» و«الفن»، ممَّا لا مجال لتفصيل القول فيه الآن، لكن القاسم المشترَك الأعظم في حالات الصدقِ كلها، هو التطابق بين طرفَين، أحدهما داخليٌّ وهو «الفكرة» أو «الرأي» أو «الشعور»، أو ما شئتَ من هذه المضامين، والآخَر هو القول الذي جاء ليُصوره؛ وأمَّا انطباقُ هذا القول على الموقف الخارجي أو عدمُ انطباقه فأمران داخلان في باب الصواب والخطأ الذي يُمكن فيه ردُّ الخطأ إلى صواب، دون أن يكون في الأمر ما يمَس أخلاقَ الكاتب أو الفنان، أعني: دون أن يكون فيه ما يخدش ضميرَه.

وأقول ذلك تمهيدًا لإثبات خواطري التي خطرَت بمناسبةِ ما طرحَتْه مجلة «الاشتراكي» في عددِها الحادي والعشرين، الصادر يوم السبت ١٣ من نوفمبر ١٩٦٥م، أمام المثقفين جميعًا ليكون موضوعًا للمناقشة، وهو أن يكون لهم دستورٌ قِوامه جملةُ مبادئ اقترحَتها إحدى اللجان المتخصصة في أمانة الدعوة والفكر الاشتراكي.

وينقسم المعروضُ قِسمَين رئيسيين؛ أحدهما للمبادئ العامة، والآخر لمشكلات التطبيق، وسأكتفي هنا بذِكر ما قد عنَّ لي من ملاحظات عن «المبادئ» الأحدَ عشَر، تاركًا ما قيل عن مشكلات التطبيق إلى فرصة أخرى.

كانت الإشارة دائمًا إلى الفن والأدب، ولم تَرِدْ إشارةٌ واحدة إلى «الفكر» الذي يتناول القضايا بالتحليل والنقدِ والعرض والشرح، والذي يُقدم الرأي الجديد فيما ينبغي تغييرُه من أوضاع الحياة، أو ما تنبغي إضافتُه أو حذفُه، وكيف يكون ذلك ومتى؟ وميثاقنا الوطني مثلٌ لهذا النوع من «الفكر» وهذا البيان نفسه المعروض للمناقشة ضربٌ من ضروب «الفكر»، فليس هو بالقصة ولا بالمسرحية ولا بقصيدةِ شعر، والنقد الأدبي والفني «فكر»، والفلسفة «فكر»، والاقتصاد والاجتماع «فكر»، فهل يُراد بالدستور ألَّا يشملَ الكتابة التي تدخل في هذه الأبواب؟! أغلبُ ظني أنَّ الحذف هنا غيرُ مقصود؛ لأنَّ الغاية — كما جاء في العُنوان الكبير الذي صُدِّر به البيان المنشور — هي «وَحْدة فكرية للمثقَّفين»، وأصحاب «الفكر» هم بغير شكٍّ من هؤلاء المثقفين، الذين تُراد لهم الوحدة؛ وإذن فلنفترضْ أنَّ البيان حين أخذ يُكرر الإشارةَ إلى «الأدب والفن»، كان مرادُه أن يتضمَّن معهما بقيةَ ضروب النشاط الفكري، التي قد تجعل وسيلتها المقالة أو الكتاب أو الحديث أو الندوة، أو ما يجري مجراها من وسائل الاتصال بين صاحب الفكرة وقرَّائه أو المستمِعين إليه، وربما جاز لنا أن نستثنيَ العلماء المتخصصين في علومهم؛ لأنَّ العلم الأكاديميَّ المتخصص — وإن يكن فكرًا — إلا أنه لا يدخل في مفهوم «المثقفين» الذين نقصد إليهم بالدستور المقترح؛ إذ لا محلَّ لإضافة الباحث في الجيولوجيا أو في الكيمياء أو في التشريح إلى جماعة «المثقفين» بالمعنى الذي نريده ليشملَ رجال الأدب والفن والفكر، الذي ينصبُّ على صور المجتمَع وما يتصل بها من روابطَ وعلاقات، وما تُقاس به من قيم، وما ترمي إليه من غاياتٍ وأهداف.

ألاحظ أنَّ المبدأَين (١) و(٢) هما أقربُ إلى «النداء» الموجَّه إلى أُولي الأمر منهما إلى «المبادئ» يتعاهدُ عليها المثقفون في نشاطهم؛ فالمبدأ الأول يُقرر أنَّ الأدب والفن ضروريان للثورة؛ ولذلك لا ينبغي إهمالهما، والمبدأ الثاني يُطالب بأن ينظر إلى «الثقافة» على أنَّها «خدمة» لا على أنَّها «سلعة» يُطلب من ورائها الرِّبح.

إلا أنَّ أصحاب البيان — كأنَّما أرادوا أن يُطمئِنوا القائمين على خِزانة الدولة على أموالهم — أضافوا إلى المبدأ الثاني إضافةً يُقررون بها شيئًا هو أبعد شيء عن اتفاق المثقفين، وذلك أنَّهم قرروا أنَّ الفن والأدب الجيدَين الرفيعَين من شأنهما حتمًا أن يجتذبا انتباه الجماهير وإقبالهم، ومن ثَم يزداد الشراء، فتزداد الحصيلة النقدية، فلا تضيع على الدول أموالها «هذه النتيجة الأخيرة من عندي، وليست مذكورةً بنصِّها في البيان»، فها هنا لا يكون اتفاقٌ بيننا جميعًا على الرأي، ما لم نُحدِّد المعنى المقصود بكلمة «الجماهير»؛ ذلك لأنَّه مما لا جدال فيه أنَّ «جمهور» القراء — وأتعمَّد ذكر الكلمة على هذه الصورة بدل كلمة «الجماهير» — أقول إنَّ «جمهور» القراء على درجاتٍ متفاوتة من التحصيل ومن الاهتمامات الثقافية؛ فهنالك قاعدة واسعة عريضة من المواطنين بينها قدرٌ مشترَك من الثقافة الأولية، كما أنَّ هنالك قمةً ضيِّقةَ الدائرة، لها حظٌّ موفور من الثقافة العليا، وحتمٌ على من يُخططون للثقافة في بلادنا ألَّا يغفلوا عن «الجمهور» بكلِّ درجاته الثقافية، وبكل اهتماماته، ومن هذه الاهتمامات ما يشترك فيها عددٌ ضخم من المواطنين، ومنها ما ينحصر في قلةٍ قليلة؛ وإذن فلا مَناصَ من أن تتفاوتَ دخولُ المنتجات الثقافية؛ فمنها ما هو كفيلٌ بسدِّ نفقاته، ومنها ما لا بُدَّ فيه من التضحية المالية من قِبل الدولة.

وإذا كان لي أن أقترحَ تعديلًا على العبارة الواردة في المبدأ الثاني، وأعني العبارة القائلة:

«وفنٌّ رفيع بلا جمهور ليس فنًّا على الإطلاق؛ لأنَّه في الغالب فنٌّ زائف يتعالى على الناس …» فإنني أرى أن يُزال التناقضُ اللفظيُّ الكائن في المقابلة بين «على الإطلاق» و«في الغالب»؛ لأنَّه إذا كان الفن الذي لا جمهور له لا يُعد فنًّا «على الإطلاق»، فهو كذلك «على الإطلاق» فنٌّ زائف، ولا يقتصر زيفُه على «أغلب» الحالات دون «أقلها»؛ ولذلك أقترحُ أن تكون العبارة هكذا:

«وفنٌّ بغير جمهور — قَلَّ ذلك الجمهورُ أو كَثُر — هو فنٌّ لا رجاءَ فيه»؛ فبهذه الصورة تتحقَّق لي معانٍ كثيرة: (١) التخلص من تناقض القول «بأنَّ فنًّا رفيعًا … ليس فنًّا»، (٢) والتخلص من تناقض القول بين «على الإطلاق» و«في الغالب»، (٣) والإشارة الضمنية بأنَّ جمهور المستفيدين من النتاج الثقافي قد يكون كثيرًا حينًا وقليلًا حينًا آخر؛ بحسَب الدرجة الثقافية أولًا، وبحسَب تنوُّع الاهتمامات ثانيًا، (٤) عدم التورط في تعريفٍ بعينه من بينِ التعريفات الكثيرة للفن؛ فسواءٌ كان الفن هو ما يجد جمهورًا أو لم يكن، فإننا «لا نريد» إلا ذلك الفن الذي ينتفع به فريقٌ من المواطنين، مهما يكن عددهم.

يشترط المبدأ الثالث أن تكون «حياة الناس في بلادنا» هي مَنابعَ الفن؛ ولهذا يَلزم «الكُتَّابَ والفنَّانين الذين يبحثون عن جوهر بلادنا، وروح شعبنا الحقَّة أن يعيشوا بين الجماهير …»

  • فأولًا: لستُ أدري لماذا نَقصُر منابعَ الفن على حياة الناس «في بلادنا»، وكان يكفي أن نقول «حياة الناس» على إطلاقها؛ لأنَّ الكاتب أو الفنان كثيرًا جدًّا ما يحتاج في عمله إلى مقارنةِ «بلادنا» بغيرها ليتضحَ «جوهر بلادنا» بهذه المقارنة نفسِها، وفي ظني أنَّه كلما قصَر الكاتبُ أو الفنان نفسَه على حدود بلاده؛ ضاقت أمامه فرصةُ معرفةِ بلاده ضيقًا شديدًا، وهاكم رجالَ الأدب والفنِّ عندنا منذ أول القرن العشرين، حتى الآن، منذ محمد عبده، إلى أي كاتبٍ أو فنان ممَّن يعيشون معنا اليوم، فلن تجدَ بينهم واحدًا كان له أثرٌ دون أن يمتدَّ أفُقه ليشمل حياةَ الناس في بلاده وحياةَ الناس في بلادٍ أخرى؛ ليخرج من المقارنة بشيءٍ يُفيده ويفيدنا عن حقيقة بلادنا، وحَسْبي في هذا المقام أن أقول إنَّه لولا متابعتُنا لتيارات القصة والمسرحية — مثلًا — في غيرِ بلادنا؛ لما ظفرنا بكلِّ ما قد ظفرنا به من قصصٍ ومسرحيات على أيدي أدبائنا من حيث النضجُ في الشكل والمضمون معًا، ودَعْ عنك ما نستضيءُ به في فَهْم بلادنا نفسِها، من أفكارٍ ومن فلسفات ومن مناهجِ بحث مما يستفيده الباحثون والدراسون لما يجري في غير بلادنا.
  • وثانيًا: أخشى أن يكونَ ما يدور في أخلاد الكُتَّاب والفنانين حين يلتزمون بهذا المبدأ، هو أنَّ المقصود ﺑ «حياة الناس في بلادنا» هو الجانب المرئيُّ الظاهر من مُواضَعات العيش؛ لأنَّ التوصية الواردةَ في المبدأ بوجوبِ أن يعيش رجالُ الفن والأدب «في الريف والحضَر والمناطق الصحراوية وعلى شواطئ البحر وفي منطقة البحيرات الشمالية وفي الصعيد … إلخ»، أقول إنَّ هذه التوصية قد تُوهم بأنَّ المقصود هو شيء أشبهُ بالمسح الاجتماعي لأبناء البلادِ في شتى بقاع سُكْناهم وأعمالهم؛ فالمادة المحصَّلة من مثلِ هذا المسح الاجتماعي — على ضرورتها — يقوم بها مختصُّون من غيرِ رجال الأدب والفن عادةً (وبالطبع لا يعني هذا ألَّا يطَّلع الأدباءُ والفنانون على وجوه الحياة في شتى أرجاء البلاد)، لكن الأديب والفنان يأخذ هذه المادة الاجتماعية — سواءٌ أكانت من تحصيله هو أم كانت مِن تحصيل علماء الاجتماع — ثم ينفذ خلالها ليتصيَّدَ ما وراء السطحِ الظاهر من أصولٍ وبواعثَ وقيم ومعايير، هي التي منها تتكوَّن روح الشعب.

وإذن، فبينما نُوجب على الفنان والكاتب أن يبحث عن روح الشعب وجوهره، لا يقتضي ذلك منَّا أن نوجبَ عليه التنقُّل بجسده هنا وهناك؛ وهل تنقَّل على هذا النحو توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ليُتاح لهما أن يستخلِصا كثيرًا من العناصر الأساسية في روح الشعب على الصورة التي وُفِّقا فيها إلى تحقيق هذا الهدف؟!

يُقرر المبدأ الرابع أنَّ «الفن في جوهره دعوةٌ لشيءٍ ما»، ثم يترك للفنان كاملَ الحرية فيما يدعو إليه بفنِّه، لأنَّ ذلك متوقفٌ على وجهة نظره فيما يحبُّ وما يكره .. وإلى هنا أجدُ المبدأ يُقاتل في غيرِ معركة؛ لأنني أُقلِّب نظري في كلِّ ما أنتجه رجالُ الفن والأدب، لأرى أين يكون الأثرُ الفني أو الأدبي الواحد الذي نُحاربه بناءً على هذا المبدأ؟ فلا أجد شيئًا.

لكنَّ عبارةً وردَت في غضون العبارة التي صِيغ المبدأ بها، أراها قلقةً في موضعها، ومتناقضةً مع جيرتها، وتلك هي العبارة التي قيل فيها إنَّ القائلين بأنَّ الفن ليس ذي رسالةٍ يؤديها، قد يكونون من المغْرِضين الرجعيِّين الذين يُنادون بالفنِّ الفارغ الخالي من الهدف «لصرف الجماهير عن أهدافها»؛ أنفهمُ من هذه العبارة الأخيرة أنَّ الكاتب أو الفنان محتومٌ عليه أن يخدم «أهداف الجماهير»؟ إذا كان الأمر كذلك فهناك إذن تناقضٌ بين هذا القول وقولٍ آخرَ واردٍ في المبدأ ذاته من جهةٍ أخرى، وهو أنَّ الكاتب أو الفنان حرٌّ في اختيار وجهة النظر التي يدعو إليها؛ ولو كان لي أن أختار أحدَ النقيضَين الواردين في هذا المبدأ، لاخترتُ حرية الإنسان الكاتب الفنان في اختيارِ ما شاء من وجهات النظر إلى الحياة، ما يحبُّ منها وما يكره.

ويوصي المبدأ الخامس رجلَ الفن أن يكون عَطوفًا على الشعب، وألَّا يُقوِّم أخطاءه — التي هي نتيجةٌ مباشرة للظلم والقهر مدى قرونٍ طويلة — ألَّا يُقوِّم تلك الأخطاءَ وأوجُهَ النقص بالتشهير، ولكن بالعطف والهداية.

إنَّه إذا جاز توجيهُ مثل هذه التوصية إلى مَن هم غرباء عن الشعب؛ فلا يجوز أن يوجَّه لابن الشعب ورَبيبه، إنَّ الكاتب أو الفنان لم يهبط على قومه من المريخ، وليس هو بالذي يجلس متفرجًا من خارج، يشهد أفرادَ شعبه وهم يتحركون على المسرح، بل هو واحدٌ منهم، وعلى مسرح واحد معهم؛ إنَّ أحدًا منَّا لا يتفرج على أحد، بل إنَّ جميعنا بحَّارةٌ على مركب واحد، تتنوَّع بيننا الواجبات، لكنَّ المرفأ المقصود واحد؛ ولهذا فإني أحسُّ من عبارةِ هذا المبدأ ظلًّا من الرِّيبة يُلقيها بعضُنا على بعضنا بغير جدوى.

في المبدأ السادس تَكرار لما ورد في المبدأ الثاني، لكنَّه تكرار يَزيد الخطأَ وضوحًا؛ فهو مبدأ يُقرر الارتباط القويَّ بين الفنان وبيئته — وجمهور الناس جزءٌ جوهري من هذه البيئة — وإذن فلا بُدَّ أن يُخاطب الأديب أو الفنان هؤلاء الناس. إلى هنا لا خلاف.

لكن عبارة المبدأ السادس تستطرد لتضع أمامنا مقدمةً ونتيجة تنتجُ عنها في ظن أصحاب المبدأ، ولكنَّها لا تنتج عنها أبدًا في ظننا؛ وفضلًا عن عدم لزومها عن مقدمتها، فهي كذلك نتيجةٌ تحمل رأيًا لا نراه صائبًا؛ أمَّا المقدمة فهي ما أسلفناه من ضرورة أن يكون العمل الفنيُّ عملًا اجتماعيًّا، بالإضافة إلى كونه في الوقت نفسِه تعبيرًا عن صاحبه؛ وأمَّا النتيجة فهي قولهم: «ولهذا فإنَّ الأعمال الفنية التي تُخاطب أعدادًا كُبرى من الناس، وتحظى برِضاهم أو اهتمامهم، هي بالضرورة أفضلُ من أعمالٍ أخرى أقل منها جمهورًا»، وهذا حكمٌ يتضمن أنَّ العمل الفنيَّ الواحد يُخاطب «الجمهور» كله على اختلافِ درجاته الثقافية، فكأنَّما توفيق الحكيم — مثلًا — يُخاطب بمسرحية «أهل الكهف»، فلَّاحَ الحقل، وعاملَ المصنع، كما يُخاطب بها جمهورَ الثقافة الرفيعة، فإذا وجدنا مسرحيةً أخرى له أو لكاتبٍ آخر قد لقيَت إقبالًا أكثرَ من الجمهور بكل درجاته الثقافية؛ تحتَّم أن تكون مسرحيةً أفضل! نعم، إنَّ المبدأ السادس يشترط في العمل الفنيِّ ذي الجمهور الكبير جودةً فنية، لكنَّنا برغم هذا الشرط المفيد، نقول إنَّه إذا كان ثمة عمَلان فنِّيان، كلاهما جيدٌ من الوجهة الفنية، أحدهما يخاطب فئةً عاليةَ الثقافة، والآخر يُخاطب فئة أقلَّ ثقافة وأوسع رقعة؛ فكلاهما يكون عندنا على درجة واحدة من الفضل؛ لأنَّ كِليهما حقَّق الغرضَ الذي من أجله أُنشئ؛ ولو لم يكن الأمر كذلك، لانتفَت الحكمة في أن نُخصص في الإذاعة بَرنامَجًا خاصًّا، وفي التلفزيون قناةً خاصة، وفي المسرح مسرحًا خاصًّا، وفي المجلات والمؤلفات مطبوعاتٍ خاصة، نريد بها جميعًا فئةً قد لا تكون كثيرة العدد، لكنَّها بالغةُ التأثير.

لهذا أقترح في المبدأ السادس أن نُبقيَ على المقدمة، وأن نحذف ما زعمناه نتيجةً ضرورية لها، وهو في حقيقته ليس كذلك.

لستُ أظن أنَّ ثمة خلافًا في الرأي حول المبدأ السابع الذي يُوصي بصيانة التراث الفني والأدبي الذي استطاع أصحابُه أن يُجاوزوا به حدودَ مصالحهم الشخصية أو الطبقية، إلى الجانب الإنسانيِّ المشترك بين البشر أجمعين.

وكذلك لا خلاف في الرأي حول المبدأ الثامن الذي يدعو إلى ضرورةِ الإجادة الفنية، فلا يكون الكمُّ هو مَدارَ إنتاجنا، بل لا بُدَّ أن يجيء الكيفُ في المرتبة الأولى، حتى إذا ما اتَّسع نطاقُ الإقبال عليه بين الجمهور، كان إقبالًا على ثمراتٍ ممتازة تَسْمو بالإنسان روحًا وعقلًا؛ ولكنني أُلاحظ هلهلةً في صياغة هذا المبدأ، قد تضيع علينا دقةُ المعنى المقصود، كما أنني أخشى أن يكون ثمة تَناقضٌ بين مضمونِ هذه المادة ومضمون المادة رقم ٢؛ لأنَّ الضغط هنا واضحٌ على أنَّ العمل الجيد لا يعود بالرِّبح، وأنَّ هدفنا ليس هو الكسبَ المادي، بل هو كسب العقول والأرواح، وهو الاتجاه الصحيح؛ على حين أنَّ المادة رقم ٢ قد يُفهَم منها أنَّ العمل الفني يُحكَم على جودته بسَعة الإقبال عليه من قِبل الجمهور، وإذن تكون كثرةُ الإقبال هي الأصل، والحكم بالجودة فرعٌ عنه، أي إنَّ الحكم بجودة الكَيف نتيجةٌ متفرعة عن زيادة الكم، وليست تلك الجودةُ الكيفية حقيقةً قائمة بذاتها، يُمكن الحكمُ عليها بمعايير النقد الفني التي لا تُركِّز على كثرة التوزيع أو قِلَّته، فموضوع الكمِّ والكيف في حاجةٍ إلى مزيد من الإيضاح والتحديد.

وأمَّا المبدأ التاسع الذي يُقرر أنَّ الفن أصدقُ من الطبيعة؛ فأرى أنَّه أقربُ إلى الملاحظات العابرة التي تُقال عند الموازنة بين خلق الطبيعة والخلق الفني، منه إلى «المبدأ» الذي يضعُه المثقَّفون في دستور لهم لِيَلتزموه في إنتاجهم الفني والأدبي.

يضع المبدأ العاشر مواصفاتٍ للعمل الفني إذا أُريدَ له أن يكون عالميًّا غيرَ منحصر في حدود إقليمه المحلية، ومن تلك المواصفات أنَّ الذي يُقرر عالميةَ العمل هو مضمونه «وليس اللغة أو الوسيلة التي نُفِّذ بها»، ونحن لا نتردَّد في قَبول ذلك من حيث «اللغة»، لكنَّنا نتردد في قَبوله من حيث «وسيلةُ التنفيذ»؛ إذ ماذا تكون «وسيلة التنفيذ» سوى «الشكل» الفنيِّ الذي صُبَّ فيه المضمون؟ .. لقد سبق أنْ قرَّرنا في المبدأ الرابع أنَّ «على الاشتراكيين أن يؤكِّدوا في وضوحٍ ضرورةَ الالتحام العضوي بين الشكل والمضمون في العمل الفني الواحد»، فكيف يجوز الآن أن نقولَ إنَّ أحد هذين الجانبَين فقط — وهو المضمون — هو الذي يؤدي إلى عالميةِ العمل، كأنَّما نريد أن نقول إنَّ الفصل ممكنٌ بين الجانبَين، بعد أنْ قرَّرنا التحامَهما التحامًا عضويًّا؟ هل يُمكن مثلًا أن يحتفظ شكسبير بكلِّ مكانته في الأدب المسرحي، إذا نحن نقلنا «معانيَه» مجردةً عن القالَب المسرحي الذي انصبَّت فيه تلك المعاني؟ هل يكون دانتي هو دانتي إذا غضَضْنا النظر عن هيكلِ بنائه الفنيِّ واكتفَينا بمضمون المعاني التي يُريد نقلها؟ لا، إن العمل الفني وَحدةٌ عضوية كما قرَّر البيان في مواضعَ مختلفة، وإذن فهو عالمي — أو محلي — من حيث هو كيانٌ موحَّد، والذي يجعل العمل الفنيَّ عالميًّا، هو السبب نفسُه الذي ذُكر في المبدأ السابع، الخاص بضرورة احتفاظِنا بالتراث، حين قرَّرنا أننا نصونَ تراثَ الماضين إذا وجدناه يتناول الإنسان من حيث هو كذلك، ولا يَقصُر نفسَه على إقليمه المحدود، فكذلك نحن اليوم، إذا أردنا لسوانا أن يُقدِّر إنتاجنا، فعلينا ألَّا نَقصُره على إقليمنا المحدود، بل لا بُدَّ أن نَعلوَ به إلى حيث يتناول الإنسانيةَ جمعاء، متمثلةً ومتجسدة فيما نبثُّه في أعمالنا من مثلِ الحق والخير والجمال.

وأمَّا المادة الحادية عشرة — وهي الأخيرة — فأظنها لا تُضيف شيئًا إلى ما سبقَ ذِكره في موادَّ أخرى، حين تقول إنَّ للعمل الفنيِّ جانبَين؛ أحدهما سياسي والآخر تقني، والمقصود بالسياسيِّ خدمته لمصالح الشعب، والمقصود بالجانب التقني مراعاةُ الجودة الفنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤