نموذجان من ثورة الفكر

ليست ثورة الفكرة كثورة السياسة، فيها قعقعة المصفَّحات وهزيم الطائرات، وهتاف يثير غبار الطريق، وصياحٌ يهز أمواج الصوت والصورة في أجهزة الإذاعة؛ لكن ثورة الفكر يغلب أن تجيءَ كقطرات الماء تنصبُّ على الجُلمود الأصمِّ فتحسبها واهنةً بلا أثر، وإذا بالأيام تمضي فإذا الجلمود الأصمُّ قد تفسَّخ وأرهفَ السمع ليلتقيَ الرسالة، والعجبُ هو أنَّ ثورات الفكر بصوتها الخافت الهادئ، هي التي تُحرك النفوس — على مَدى الزمن القصير أو الطويل — لتثور بذلك الهتافِ والقعقعة والهزيم في دنيا السياسة والاجتماع.

وفي تراثنا ثوراتٌ فكرية مكتومة، نخشى أن يطولَ بها الصمت، فإذا هي كالعدمِ الذي لم يكن ولا هو كائنٌ أو يكون، فما علينا نحن الكاتبين في هذا العصر إلا أن ننفضَ الغبار عن صفحاتها لعلها تفعلُ في الناس فِعلها .. قال شكسبير — في مسرحية «العين بالعين» — على لسان أميرٍ أراد أن يَخبُرَ حال إمارته متنكرًا، فجاء بمَن ينوب عنه في أثناء غَيبةٍ زعم أنَّها سفرٌ إلى بلد آخر، وما هو في الحقيقة بسفر، بل تبديلُ ثوبٍ بثوب ليُخالط الناس وكأنَّه أحدهم، فيذوقَ بنفسه حُلوَ الحياة ومُرَّها، فأوصى نائبه ذاك بقوله: «… ألا إنَّ السماء لَتفعل بنا ما نفعله نحن بالشموع، فنحن لا نُضيء الشموع لذاتها، وكذلك حسناتنا إذا هي لم تنشر ضوءها في الناس فهي عدمٌ من العدم، إنَّ النفوس السامية إنَّما اكتسبَت سُموَّها من سموِّ غاياتها، وإذا أقرضَت الطبيعةُ أحدنا مثقالَ ذرة من كنوزها، فإنَّما تكون في إقراضها ذاك مثل ربةٍ شحيحة، تُعطي ما تعطيه مزهوَّةً بنفسها، كما يفعل دائنُ القروض، له على المدين أن يشكر له الصنيع، وأن يدفع له رِيعَ قرضه»، ولقد دسَّ لنا الأسبقون في ثنايا ما أورَثونا إياه كنوزًا، هي كالشموع التي ذكرها شيكسبير، إذا لم تكن هادية بضوئها فهي كالعدم، أو هي كالقروض أقرَضونا إياها، ويتوقعون منَّا أن نردَّ لهم قرضهم، مضافًا إليه زيادةُ الرِّيع وعِرفانًا بالجميل.

لستُ أدري كم أحَسَّ القارئ في حياته العمَلية ما أحسَستُه في حياتي، لا أقول مرة، ولا عشر مرات، ولا مائة؛ لأنَّها مواقفُ تُعدُّ بالألوف، تلك التي أحسَستُ فيها أنَّ قدَري عند الناس — ودَعْ عنك الدولة — لم يوزَن قطُّ إلا بمقدار ما كان لي من سلطانٍ نافذِ الكلمة فعَّالِ الإرادة، ولمَّا كانت حياتي قد خلَت من كل سلطان، كنتُ كلما أردتُ قضاءً لأمر؛ أجِدُني واحدًا في زحام، لأرى بعيني كيف يكون الويل في بلادنا لمن ليس له نصيرٌ من أصحاب الإرادة النافذة؛ فالفرق بعيدٌ بعيد في حياتنا العمَلية بين إنسانٍ وإنسان، وليكتبْ أولو الأمر ما شاءوا في دساتيرهم المعلنة من مساواةٍ بين المواطنين في الحقوق وفي الواجبات.

فالثورة الفكرية هنا هي أن تبدأ مع الناس من مرحلة الصفر، فتصدمَهم بما لا يتوقَّعونه، قائلًا: إنَّ الإنسان وصنوف الحيوان سواسية، حتى إذا ما بُهتوا لقولك، ثم زالت عنهم آثارُ الدهشة بعد حين، كان هينًا عليك بعدَئذٍ أن تُقنعهم بما أردتَه، وهو أنَّ أيَّ إنسان كأيِّ إنسان، أمام الله، وفي ساحات القضاء، وفي الطرقات والمطارات، ومكاتب البريد، ومخافر الشرطة، ومعاهد العلم، ودواوين الدولة، وأمام ضباط الجمارك والضرائب.

لنبدأ — إذن — من مرحلة الصفر، فنزعم بأنَّ الإنسان وصنوف الحيوان سواسيةٌ .. قال ذلك «إخوان الصفا» في رسائلهم، تُرى هل قالوه من أجل ثورة فكرية كالتي نريدها؟! .. ولكن كيف قالوه؟

ففي صفحاتٍ طِوالٍ من الجزء الثاني من «الرسائل» أجرى «إخوان الصفا» محاكمةً بين بني الإنسان وأنواع الحيوان؛ إذ ترفع هذه الأنواعُ الحيوانية شَكَاتَها إلى وليِّ الأمر، مما تُعانيه من عنَتِ الإنسان، رافضةً أن يكون للإنسان فضلٌ عليها، من حيث إنَّها — هي وهو معًا — صَنعة الله، فيسأل وليُّ الأمر بني الإنسان ماذا يقولون دفاعًا عن أنفسهم؟ ويُجيبون بما يظنونه مؤيدًا لموقفهم من آيات القرآن الكريم، لكن الحيوان سُرعان ما يُقدِّم تأويلًا لهذه الآيات، يُبين أنَّ الإنسان قد جاوز حدودَ الحقِّ حين فَهِمها على الوجه الذي فهمها به.

وأمَّا وليُّ الأمر هنا، فلا هو إنسانٌ ولا حيوان؛ ليكون محايدًا في نظرته وحُكمه بين المتخاصمين، إذ هو ملكٌ من الجان، يُدعى «بيراست الحكيم»، وتبدأ الصورة الأدبية الرائعة التي رسَمها المؤلفون، بأن جعَلوا مقر «بيراست الحكيم» جزيرةً في وسط البحر الأخضر، مما يلي خطَّ الاستواء، وهي جزيرةٌ طيِّبة الهواء والتربة، فيها أنهارٌ عذبة وعيونٌ جارية وأشجار مختلفة ألوانُها وثمارها، وحدث ذات يوم أن طرَحَت الرياح العاصفة مَركبًا من سفن البحر إلى تلك الجزيرة، وكان على المركب قومٌ من التجَّار والصُّناع وأهل العلم، فخرَجوا من مَراكبهم إلى أرض الجزيرة وطافوا بها، فرأَوا فيها من ضروب النبات ومن صنوف الحيوان من بهائمَ وأنعام وطيورٍ وسباع ووحوش وهَوام وحشرات، وكان الكلُّ يألفُ الكل ويأنس له، فاستطاب القومُ الجزيرةَ وما عليها، واتخَذوها لهم موطنًا، وأخذوا يَبْنون ويعمرون وينشطون بحياتهم على نحوِ ما اعتادوا في بلادهم أن يفعلوا، ولم تأخذهم عندئذٍ رِيبةٌ من أنفسهم، حين أرادوا استخدامَ ما شاءوا أن يستخدموه من صنوف الحيوان، لكن هذا الحيوان الذي لم يألف شيئًا كهذا من قبل، هو الذي أفزعَته هذه المصيبةُ التي نُكِب بها من حيث لا يدري، وأراد التمرُّد، ولكن هيهاتَ أن يترك الإنسان له زمامًا بعد أن أمسكه بكِلتا يديه.

فما هي إلا أن جمَعَت البهائمُ والأنعام زعماءها وخطباءها، وذهبَت إلى «بيراست الحكيم» — وكان ملك الجن — وشكَت إليه ما لقيَت من جَور بني آدم واعتقادِهم فيها بأنَّها عبيدٌ لهم، فبعث ملكُ الجنِّ رسولًا إلى أولئك القوم ودعاهم إلى حضرته، فذهبَت منهم طائفةٌ تُمثلهم، قال لهم ملكُ الجن على لسان ترجمانه: ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟

قال قائلٌ منهم: دعانا ما سمعنا من فضائل الملك وعدله، وها نحن أولاء بين يديكم لتحكمَ بيننا وبين عبيدنا الآبقين من صنوف البهائم والأنعام.

قال الملك: بَيِّنوا ما تريدون.

قال زعيمُ الإنس: نقول إنَّ هذه البهائمَ والأنعام عبيدٌ لنا، ونحن أربابها، لكنَّنا نراها إمَّا هاربةً عاصية، وإمَّا مطيعة وهي كارهةٌ منكِرة لحقوقنا فيها.

قال الملك: وما حُجتكم، يا معشر الإنس، فيما زعمتُم لأنفسكم على الحيوان من سلطان؟

قال زعيم الإنس: لنا على ذلك دلائلُ شرعية سمعية، وأخرى عقلية منطقية؟ .. وطفق الإنسيُّ يُقيم الحجَّةَ تِلو الحجة، ويذكر من آيات الله ما يؤيِّد دعواه؛ كقوله تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وقولِه: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وقولِه: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً.

فتوجَّه الملكُ بالسؤال إلى جماعة الحيوان قائلًا: قد سمعتم، يا معشر البهائم والأنعام، ما قال الإنسيُّ من آيات القرآن مستدلًّا بها على صِدق دعواه، فماذا تقولون في ذلك؟

فأناب الحيوانُ عنه البغلَ ليتكلم بلسانه، فقال: ليس في شيءٍ مما قرأ هذا الإنسيُّ من آيات القرآن دليلٌ على زعمِهم بأنَّهم أربابٌ لنا، وبأنَّنا عبيدٌ لهم، إنَّما هي آيات تُذكِّرهم بما أنعم الله عليهم به؛ قال لهم القرآن الكريم: سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ، كما جاء فيه في آياتٍ متفرقة أنَّ الله سخر لهم الشمسَ والقمر والسحاب والرياح، أفترى أيها الملكُ أنَّها قد أصبحَت بذلك عبيدًا للإنسان، وأنَّ الناس قد أصبحوا أربابها؟! ألَا إنَّ الله تعالى خلق كلَّ ما في السموات والأرض وجعلَها مُسخَّرةً بعضها لبعض؛ جلبًا للمنفعة ودفعًا للخطر.

واستطردَ البغل زعيمُ البهائم ليقول: أيُّها الملك، كنَّا وكان آباؤنا سكَّان الأرض قبل خلقِ آدمَ أبي البشر، قاطنين في أرجائها، تذهب وتجيء كلُّ طائفة منَّا في بلاد الله طلبًا للعيش، كلٌّ منَّا مقبلٌ على شأنه في مكانٍ يوافق مآربَه من برِّية أو أَجَمة أو جبل أو ساحل أو تِلال أو غِياض أو رمال، آمِنين في أوطاننا، مُعافَين في أبداننا، ومضَت على ذلك الدهورُ والأزمان، حتى جاء بنو آدم، وانتشروا في الأرض، بَرًّا وبحرًا وسهلًا وجبلًا، وضيَّقوا علينا الأماكنَ والأوطان، وأخذوا منا مَن أخذوا أسيرًا، من الغنم والبقر والخيل والبغال والحمير، وسخَّروها واستخدموها وأتعَبوها بالكدِّ والعناء في الأعمال الشاقة؛ من الحمل والركوب والشدِّ في الدواليب والطواحين، بالقهر والضرب والهوانِ وألوان العذاب، فهرَب منَّا مَن هرب في البراري والقِفار، فشدُّوه بالغُلِّ والقيد، والقنص والذبح والسلخ، وشقِّ الأجواف وقطع المفاصل، ونتف الريش وجزِّ الشعر والوبَر، ثم نار الوقد والطبخ والتشويه، وأنواع من العذاب لا يبلغ الوصفُ كُنهَها.

فسأل الملكُ زعماء الإنس (بعد أن حصَّن نفسه بأعوانه وجُنده من قبائل الجن): ماذا أنتم قائلون فيما تحكي هذه البهائمُ والأنعام من جَور وعدوان؟

قال زعيم الإنس: إنَّ لنا حججًا عقليةً تؤيد حقَّنا على هذه البهائم في أن تكون عبيدًا لنا، نتحكم فيها تحكُّمَ الأرباب، من ذلك ما أنعم الله به علينا من صورةٍ حسنة، وهيكل قويم، وحواسَّ مُدرِكة، ونفسٍ ذكية، وعقل راجح.

فسأل الملك زعيمَ البهائم ماذا يقول في ذلك، فأجاب: إنَّ الله جل ثناؤه ما خلقَهم على تلك الصورة لتدلَّ على أنَّهم أرباب، ولا خلَقَنا على هذه الصورة لتدلَّ على أنَّنا عبيد، لكنَّه تعالى فعَل ذلك لعِلمه أنَّ تلك البِنْية أصلحُ لهم، وهذه أصلحُ لنا، وبيان ذلك أنَّ بني آدم عُراة، بلا ريش على أبدانهم، ولا وبرٍ ولا صوف على جلودهم، يقيهم الحرَّ والبرد، ولمَّا كانت أرزاقُهم من ثمر الأشجار، ودِثَارُهم من أوراقها، وكانت الأشجار منتصبةً في جوِّ الهواء؛ خُلِقَت قاماتهم منتصبةً ليسهل عليهم تناولُ الثمر والورق منها، وأمَّا نحن، فلأنَّ أرزاقنا من حشيش الأرض؛ فقد جُعلت أبدانُنا منحنيةً ليسهل علينا تناولُها، وإذن فلا أحسنَ ولا أردأ في هذا الاختلاف بيننا وبينهم، بل هي طبيعةُ العيش في كلتا الحالتين وما تقتضيه.

فقال ملكُ الجن لزعيم البهائم: لكن ماذا تقول في قول الله عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ؟

فقال الزعيم: الآية تعني أنَّه تعالى خلَقه في تناسبٍ تام مع ظروفه، فلم يجعله طويلًا دقيقًا، ولا قصيرًا لزيقًا، بل جعله ما بين ذلك، وكذلك الأمر معنا، فنحن من هذه الناحية سواء.

قال زعيم الإنس لزعيم البهائم: من أين لكم اعتدالُ القامة واستواء البِنية وتناسُب الصورة، وقد نرى الجمل عظيمَ الجثة، طويلَ الرقبة، صغير الأذنين، قصيرَ الذنَب، ونرى الفيل عظيمَ الخِلقة، طويلَ النابَين، واسع الأذنين، صغير العينين؟

فأجاب زعيم البهائم: ذهبَ عليك أيها الإنسيُّ أحسَنُها، وخفيَ عليك أحكَمُها! أمَا علمتَ أنَّك لمَّا عِبت المصنوعَ فقد عبتَ الصانع؟

إنَّه إذا كان ما زعمتَ لبني جنسك من حُسن الصورة شيئًا مرغوبًا فيه لتنجذبَ ذكوركم إلى إناثكم، وإناثُكم إلى ذكوركم؛ فلنا كذلك ما يُنتِج هذا التجاذبَ من ذكورنا وإناثنا، وأمَّا عن جودة حواسِّكم ودقة تمييزكم، فليس ذلك بما تنفردون به من دون الحيوان؛ ففي الحيوان ما هو أدقُّ منكم حاسةً وتمييزًا؛ فالجمل يرى موضع قدمَيه في أوعر الطرقات برغم ظُلمة الليل، والجوَاد يسمع وطْءَ السائر من بُعدٍ في سواد الليل، حتى لقد يوقظُ صاحبَه من نومه بركضةِ رِجله حذرًا عليه من عدوٍّ هاجم، وأمَّا الذي ذكرتَه من رُجحان العقل؛ فلسنا نرى لذلك أثرًا بأشياءَ ليست من صُنعكم، فالعقلاء إنَّما يفتخرون بأشياءَ هم صانعوها.

ولقد طلب البغل من طوائف الحيوان أن تتكلم كلُّ طائفة عن نفسها، فتكلم الحمار، والثور، والكبش، والجمل، والخنزير.

وهكذا لبث الحوارُ قائمًا وممتعًا، حتى إذا ما فرَغ الفريقان من هجوم ودفاع، وبذل كلٌّ منهما في الأمر جهدَ طاقته، استشار ملكُ الجن أعوانَه، فكاد الرأيُ بينهم جميعًا يلتقي عند فكرةٍ رأَوها عادلة، وهي أنَّ الحيوان صاحبُ حق، وأنَّ بني آدم جائرون بما بين أيديهم من بهائم وأنعام؛ ولذلك أصدَروا نصحهم لصنوف الحيوان الأسيرة أن تهرب كلُّها من قبضة الإنسان دفعةً واحدة، وفي ليلة واحدة، وتبعد عن ديارِ بني آدم لتتحرَّر من ظُلمهم، كما فعلَت حُمر الوحش والغِزلان والسباع، لكن شيخ حكماءِ الجن أسرَّ في أذن الرئيس أنَّ ذلك الفرار قد يكون أمرًا مُحالًا؛ لأنَّ الآدَميِّين يُقيِّدون ما في حوزتهم أثناءَ الليل، ويُغلقون دونه الأبواب، فاقترح أحدُ الأعضاء على الرئيس أن يبعث بقبائلَ من الجن لتفتحَ الأبواب المغلقة، وتفكَّ القيود عن البهائم، وتُخبِّل الحُرَّاس حتى تُبعد البهائم عن منطقة الخطر وتنجو بحياتها.

هذه خلاصةٌ ما أورده إخوانُ الصفا في رسائلهم، ولمن شاء التفصيلَ المستفيض أن يرجعَ إلى الجزء الثاني من تلك الرسائل.

ولستُ أعلم ماذا يطوف برأس القارئ بعد قراءة هذا الحوار! أمَّا أنا فقد أبى عليَّ خيالي إلَّا أن أُترجم صنوفَ الحيوان إلى طوائفَ من البشر أنفسِهم، حاق بهم الظلمُ على أيدي قلةٍ من ذَويهم آلت إليهم قوةٌ وجاهٌ عريض وحكم نافذ، فكان لهم ما أرادوا ولم يتركوا لسِواهم الأملَ في إرادة، ولقد استرعى انتباهي في أثناء قراءتي للنصِّ الأصلي عبارةٌ رجَّحتُ بها أن يكون لهذا الحوار مَغزاه البعيدُ في الحياة السياسية التي أحاطت بإخوان الصفا في عصرهم — وعصرُهم هو القرن العاشر الميلادي — وذلك أنَّ الكاتب حين أقام خطيبًا من الإنس ليُدافع عن حقوق بني جنسه، أفلتَت منه هذه الإشارةُ الدالة: «فقام الخطيبُ من الإنس، من أولاد العباس، ورَقِي المنبرَ وخطبَ الخطبة، وقال …» إذن فالأمر هو ما بين الحاكمين من أولاد العباس والمحكومين ممن كانت لهم ظُلامة، وبَقِي على المؤرِّخين أن يُبينوا لنا إلى أي الطوائف من سواد الناس رمَزَ المؤلفُ — أو المؤلفون — بالبغل والحِمار والثور والجمل والخنزير؛ فلكلٍّ منها شَكَاته الخاصة، فوق الشكوى العامة، وإذا صدَق هذا الفهمُ لقول إخوان الصفا؛ إذن فقد كان ما قالوه نموذجًا جميلًا من ثورة الفكر التي نريدها.

أمَّا النموذج الثاني الذي اخترتُه لثورة الفكر، فهو من صِنفٍ يختلف عن الأول اختلافًا بعيدًا، وقد اخترتُه من أوروبا في عصر جاء بعد إخوان الصفا بأربعةِ قرون، وإذا كان موضعُ الثورة الأولى تفاوُتَ الناس في الأقدار، فموضع الثورة الثانية هو أفكارٌ ينسجها الناسُ بأوهامهم ثم لا يلبثون أن يُقحِموها على الواقع كأنَّها جزءٌ منه، فتزيغ أبصارهم وتضلُّ خُطَاهم على طريق الحياة، وأمَّا قُطب هذه الثورة الثانية فهو وليم الأوكامي.

نحن في أوروبا إبَّان القرن الرابعَ عشر، على مَبعدةِ قرن أو قرنَين من حركة النهوض التي استيقظَت بها أوروبا، ثم تبعها في اليقظة سائرُ أقطار الأرض على فتراتٍ متعاقبات ربما طالت هنا وقَصُرَت هناك؟ كان البناء الفكريُّ الثقافي كلُّه قد تزعزعَت أركانه وخارت قُواه؛ انعكاسًا لتدهور الحياة بشتى مقوماتها إذ ذاك، وكأنَّما إذا أراد الله لنظام فاسدٍ أن يزول؛ أحاطه بما ينخر في عظامه، فلقد تكاثرَت على أوروبا عندئذٍ عواملُ الضعف: رجال الدين لم يعودوا يُحافظون على الدين إلا في قشوره دون اللُّباب، وفي شعائره دون المحتوى، وما يُسمَّى في التاريخ بحرب مائة العام، ثم وباء الطاعون الذي يَرِد ذكرُه في الكتب باسم «الموت الأسود»، فماذا يتخلَّف عن جوٍّ كهذا سوى اضطرابِ القيم وفوضى الأخلاق، وجَدْب الفاعلية العقلية، ونكسةٍ تُصيب الإنسان في ثقتِه بعقله، وتقذفُ به إلى دنيا الخرافة؟!

وفي هذا الجوِّ نشأ وليم الأوكامي William Of occam — نسبةً إلى قرية إنجليزية تُسمى أوكام — ولقد تعلَّم وليم في كيمبردج وأكسفورد معًا، وقام بالتدريس في هذه الأخيرة، وأي تدريس! كان هنالك كتابٌ تقليدي صنَّفه بطرس لمبارد في أوائل القرن الثاني عشَر، يقع في أربعة أجزاء، وعُنوانه «مأثورات»، ويحتوي على مجموعةٍ مختارة مما قاله آباءُ الكنيسة الأولون.

وكان العُرف قد جرى في الجامعات الأوروبية أن يبدأ المدرسُ الناشئ في الجامعة، بأن تدورَ مُحاضراته حول مادة هذا الكتاب، ويكفينا لكي نعلمَ أهميةَ هذا الكتاب أن نذكر ما قاله عنه «روجر بيكون»، إذ قال: إنَّ الجامعة في باريس تُدرِّس هذا الكتابَ أكثر مما تُدرِّس الكتاب المقدَّس.

بدأ الأوكامي محاضراته بهذا الكتاب جريًا مع العُرف، لكنَّه لم يلبث أن انحرف، فيما يُلقيه على طلَّابه، عن مألوف الطريق انحرافًا خطيرًا، من ذلك أنَّه أخذ يُغلف محاضراتِه بمبادئ المذهب التجريبي، وهو مذهبٌ يجعل هذه الدنيا مصدرًا للعلم؛ ولذلك فهو مثير للفزع عند رجال اللاهوت الذين لا يرضَون بديلًا عن الكتاب المقدَّس مصدرًا لكلِّ علم حقيقي جدير بعناية الإنسان. وشاع في الأوساط الدينية ما انحرف به الأوكامي عن الخط المألوف، فاستدعاه البابا في مقره عندئذٍ بمدينة أفنيون بفرنسا، ليُحاكمه على زندقتِه تلك، ولكنَّ مُحاكميه أرجَئوا إصدار الحكم عليه، وسجَنوه في دير لطائفة الفرنسسكان بأفنيون، حيث لبث بِضعَ سنين، لكنَّه هرب آخِرَ الأمر من سجنه، ولاذ بالإمبراطور لويس في بافاريا — وكان مُعاديًا للسلطة الدينية القائمة ويسعى إلى تبديلها — فكان ذلك من الأوكامي بمنزلة الخروج على البابا وعصيانه.

وشاءت له الأيامُ أن يخذله الإمبراطور، بمعنى أنَّ هذا الإمبراطور قد عاد واستسلم في خشوعٍ ذليل للبابا ليستعيدَ رضاه، وأمَّا المفكِّر الثائر — وليم الأوكامي — فقد مضى قُدمًا في ثورته، يُخرج الرسالةَ تِلو الرسالة، دفاعًا عن «الفرد» وحقِّه في أن يستقلَّ برأيه، وضرورة أن يصبح «الفرد» — لا الجماعة التي تحتويه — هو محورَ الاهتمام، أليس «الفرد» مسئولًا أمام نفسه وأمام خالقه وأمام الناس عمَّا يفعل؟ إذن فالحكم على الدولة نفسِها إنَّما ينبثق من حصيلة المواقف الخلقية التي يقفُها المواطنون أفرادًا قبل أن يَكونوا جماعات.

غير أنَّ هذا وسِواه من الأفكار التي أذاعها الأوكامي عندئذٍ في نشراته التي أمطر بها القارئين، إنَّما جاءت كلُّها تفريعاتٍ عن موقفٍ له أساسي في فلسفة المعرفة، هو الذي اشتهر به في تاريخ الفلسفة، وهو الذي بقيَت منه بقيةٌ لها المكانة البارزة في فلسفة بعض معاصرينا اليوم، ومن هؤلاء برتراند رسل، وهي ما يُسمونه «نصل أوكام» Occams Razor، الذي سنتولَّاه بالشرح فيما بعد.

جاء الأوكامي في مناخ فكري عجيب؛ فالبابا يأمر أسقفَّ باريس — مثلًا — أن يُراجع كلَّ ما يُدرَس في جامعة باريس، ليستخرج منها ما هو مخالفٌ للدين في رأيه، فأخرج له الأسقفُّ أكثرَ من مائتي رسالةٍ عِلمية يتداولها الدارسون، وكان بين ما صادرَه: كل رسالة يردُ فيها — من قريبٍ أو من بعيد — أنَّ البدن (أي الحواسَّ من بصرٍ وسمعٍ … إلخ) يُشارك في تحصيل العلم، ويتدخَّل في العمَليات العقلية بأي وجهٍ من الوجوه، من أين — إذن — يعرف الإنسانُ ما يعرفه عن العالم الذي حوله؟! إنَّه يعرفه بإدراكاته الباطنية التي تهتدي بالنور الإلهي؛ فلا شأن للإنسان بالأشياء نفسِها ليعرفها، بل عليه أن ينتظر الإلهام الربانيَّ يلمع بالنور في دَخيلة نفسه فيعرفها. وأكثر الناس اعتدالًا في ذلك الحينِ هم الذين قالوا: لنُقسِّم المعرفة قسمين؛ قسم منها يأتي من تجرِبة الحواسِّ للأشياء، وهي معرفة لا قيمة لها، وقسم آخَر يأتي عن طريق الإلهام أو ما يُشبهه، وهذا هو الجدير باهتمام الإنسان.

في هذا المناخ الفكري نشأ الأوكامي، فكانت ثورته التي أردنا عرْضَها في هذا المقال، ومحور فِكرته الثائرة هو هذا المبدأ الذي اصطنعه وسَمَّاه ﺑ «النصل» أو «المُوسَى» الذي أراد أن يجزَّ به كلَّ فكرة يثبت ألَّا ضرورة لافتراضها في تفسيرنا للعالم وظواهره، ومِن ثَمَّ نشأتْ قاعدة «الاقتصاد في الفروض» التي يأخذ بها القائمون بالبحوث العلمية أساسًا منهجيًّا معترَفًا به، وكان لها تطبيقٌ خاص عند برتراند رسل كما أسلفنا.

لستُ أدري كم يعلم القارئ من نظرية «المُثُل» الأفلاطونية؛ إذ لا بُدَّ من الإلمام بطرَفٍ منها لنفهمَ موقف الأوكامي و«نَصْله» ذاك؛ لأنَّ الأوكامي قد ظهر والنظريةُ الأفلاطونية هذه معقودٌ لها السيادة بين رجال الفكر، وخلاصتها أنَّ أفراد النوع الواحد، كأفراد الناس وأفراد الشجر وأفراد الطير … إلخ، إنَّما خُلقَت على غِرار نموذج عقلي سابقٍ على الوجود الماديِّ كله؛ أي إنَّنا لو تصوَّرنا أنَّ هذا الوجود الماديَّ كله قد انمحى، أو أنَّه لم يُخلَق أصلًا، فتلك النماذج العقلية تظلُّ هناك قائمةً كما تقوم الكائناتُ الروحية كلُّها، فإذا أردنا الحكمَ على شيء ما بالجودة أو الرداءة، نظرنا: إلى أيِّ حد يقترب ذلك الشيءُ من النموذج الأزلي الأبدي الروحاني القائم قبل الوجود الماديِّ وخلالَه وبَعده، إذا كان لهذا الوجود الماديِّ قَبلٌ وبَعد.

فها هنا يحتجُّ الأوكامي مستخدمًا «نصله البتَّار»، فكأنَّه يسأل: أإذا أردتُ معرفة هذه الشجرة أو هذا الطائر، فأخذتُ في تحليل خصائصه وطريقة تكوينه وما إلى ذلك، حتى لا يبقى من تلك الخصائص والطبائع شيء، فهل أزدادُ علمًا بالشجرة التي أحلِّلها أو بالطائر الذي أفحصه إذا أنا أضفتُ زعمًا يقول إنَّ هنالك فيما وراء السماء نموذجًا لا ماديًّا للشجرة أو للطائر؟! إذا كانت الإجابةُ بالنفي، إذن فلا مَناصَ من «بَتْر» هذه الزائدة من عمَلية العلم بالشجرة أو بالطائر.

والنصُّ الحرفي لمبدأ «النصل» الأوكامي هو: «لمضيعة للوقت أن نستخدم أُسسًا كثيرة للتعليل والعلم بشيء معيَّن إذا كانت تَكْفينا الأُسس القليلة»، «ولا يجوز أن نفترض وجودَ عدة عناصر (في الكائن الذي نريد الإلمام بحقيقته) إلا إذا لم يكن لنا بُدٌّ من افتراض وجودها.»

انظر كيف يتعلم الطفلُ ما يتعلمه منذ شهوره الأولى، إنَّه يرى مقعدًا، فنلفظ له نحن بكلمة «كرسي» وتتكرَّر هذه العملية، فيرتبط الشيء عنده باسمه، ويكون بذلك قد «عرَف» هذا الجزءَ من عالَمِه المحيط به، ولْنلحظ هنا جيدًا أنَّه ليس هنالك في هذه الحالة إلا طرَفان: المقعد في دنيا الأشياء، ولفظ الكرسي في دنيا اللغة، ومعنى ذلك أنَّ المعرفة كلها ترتدُّ إلى ألفاظٍ وطريقة استخدامها وتركيبها لتجيءَ دالَّةً على دنيا الأشياء، وأمَّا ما عدا ذلك فليس له عند الأوكامي إلَّا «النصل» أو «المُوسَى» يبتره به بترًا؛ لأنَّه زوائدُ لا تَزيدنا من العلم بالأشياء، أو قُل إنَّه وهمٌ خلَقَه الإنسان لنفسه فأحدثَ لها الربكة بغير داعٍ، ومن هذا القبيل نفسِه ما كان يفرضه الفلاسفةُ دائمًا، وهو أنَّ لكل شيء «جوهرًا» مطويًّا خلف ظواهره، وأنَّ معرفة أيِّ شيء معرفةً صحيحة إنَّما تكون بمعرفة ذلك الجوهر الخبيء، لا بالوقوف عند الظواهر البادية، فيجيء النصل الأوكامي ليبتر هذا «الجوهر» إذا وجدنا أنَّ معرفتنا بظاهر الشيء قد أتاحت لنا العلمَ به.

وخلاصة الموقف الجديد هي أنَّ الحواسَّ وحدها — السمع والبصر واللمس وغيرها — هي وسيلتُنا الوحيدة للعلم بالعالم، فإذا رأيتَنا نأخذ بالقَبول بعضَ القضايا العامة المجرَّدة، التي قد لا تظهر العلاقةُ بينها وبين دنيا المحسوسات علاقةً مباشرة، فاعلم أنَّنا نستطيع بالتحليل أن نردَّها خطوةً خطوة حتى نرتدَّ إلى أصولها بين الأشياء المحسوسة، وإلَّا لحكمنا عليها بالبطلان.

وذلك هو لُباب الثورة الفكرية التي أثارها وليم الأوكامي في أواسط القرن الرابعَ عشر، فجاءت من البشائر التي آذنَت بقيام نهضةٍ عقلية عِلمية في أوروبا، هي التي ننعمُ اليوم بآثارها.

أمَّا بعد؛ فلقد اخترتُ للقارئ هذين النموذجين لثورة الفكر عامدًا، فانظر إلى العربيِّ المعاصر واسأل: ماذا أصابه من جوانب الضعف حتى صار إلى ما صار إليه من سلبيةٍ واسترخاء، برغم ما قد يدَّعيه لنفسه فيما يقول وما يكتب؛ لأنَّك تعرف حقيقة الإنسان من سلوكه وطرائق سعيِه، لا مما يخطب به فوق المنابر أو ما تجري به الأقلامُ في أنهر الصحف من مقالاتٍ وقصائد! لا أعلم بماذا يجيء جوابك، لكنني أجيب فأقول: إنَّ علل الضعف كثيرة؛ من بينها اثنتان بارزتان، إحداهما ما بين أفراد الناس من تفاوُتٍ في ممارسة الحقوق والواجبات، والأخرى مُجاوزة الواقع إلى ما يخلقه الناسُ عن ذلك الواقع من أوهام، فكان من شأنِ الضعف الأول أن أُهدِرَت كرامة البشر، وبالتالي غِيض في أنفسهم مَعينُ الابتكار والخلق، وكان من شأن الضعف الثاني أن اهتزَّت صورة العالم الطبيعي في أعينِنا، وبالتالي سُدَّت المصادر الحقيقية التي تنشأ عنها العلوم، فاستعرنا من تاريخ الفكر الإنساني ثورتين: أُولاهما من إخوان الصفا، نُعالج بها العلة الأولى، وثانيَتهما من وليم الأوكامي، نعالج بها العلة الثانية، وقُصَارى الكاتب أن يكتب، وليس في وُسعِه أن تنفتحَ له الأبصار والأسماع والقلوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤