الحضارة وقضية التقدم والتخلف

١

لطالما تعرض هذا الكاتبُ لهجمات الناقدين، طوال الخمسة والعشرين عامًا الماضية (وأعني بها الخمسينيات والستينيات ونصف السبعينيات)، لماذا؟ لأنَّه ما فتئ خلال تلك الفترة يُنادي بكل ما في إرادته من إصرار، وبكل ما لقلمه من صرير، ما فتئ يُنادي بأن نُلجم شهوة الحديث فينا بشكائم الدقة والتحديد؛ لعله يُتاح للمتكلم والسامع، أو الكاتب والقارئ، أن ينتهيَ بهما الحديثُ أو الكتابة إلى اتفاقٍ على رأي واحد، فيَسلكوه في تيار الحياة الجارية عملًا وسلوكًا؛ ذلك لأنَّه مما يُلاحظ، حتى للعين العابرة، أنَّ أحاديثنا وكتاباتِنا كثيرًا ما تتخبَّط في أبحُر ظلمات المعاني الغامضة، كأننا جماعةٌ من الصم، يتحدث بعضنا إلى بعض دون أن يستمع أحدٌ إلى أحد.

نعم، ما فتئ هذا الكاتبُ طوال هذه الأعوام يتعرض لهجمات الناقدين؛ لأنَّه رفع الصوت، وما يزال يرفعه في عصبيةِ المخلِص لدعوته، بأن تُراعَى — عند الحديث والكتابة — دقةُ التحديد في ضبط المعاني التي نُجريها على الألسنة والأقلام، ما دام الموضوع المطروح يتَّسم بجدِّية العلم، ويمسُّ حياتنا في أسُسها وأركانها؛ إذن ففِيمَ كانت هجمات النقد إذا كان هذا هو هدفَ الدعوة ولُبَّها؟ والجواب هو أنَّ علَّتَها تكمُن في رغبتنا الجامحة نحو أن تنسابَ من أفواهنا وأقلامنا خيوطُ اللفظ، لا نكاد نطلب منها إلا حلاوةَ جَرْسِها في الأسماع، أمَّا من أراد أن يقف بنا عند هذه اللفظة، أو عند تلك العبارة، سائلًا ومدققًا في المعنى المقصود، فجزاؤه عندنا هو الإهمال، وإنَّه لمجدودٌ لو اكتفى منَّا بإهماله، دون أن نَكيل له مع الإهمال صاعًا من الشتائم أو صاعين.

فإذا كانت الدعوة إلى الدقة في تحديد المعاني هي أهمَّ الهموم التي يحملها هذا الكاتبُ طوال ربع قرنٍ مضى؛ أفلا يكون من أوجبِ واجباته على نفسه أن يتوخَّى هو مثلَ هذه الدقة التي يدعو الناسَ إليها؟! وموضوع حديثنا هذا هو عن «الحضارة» لنرى بعد ذلك موقفنا من حضارةِ عصرنا، أين نكون على درجات السلَّم، صعودًا أو هبوطًا، فحَتْمٌ علينا — إذن — أن نُحدِّد معنى الحضارة بصفةٍ عامة وشاملة؛ لنستطيعَ بعدَئذٍ أن نُضيق دائرةَ الحديث لتنحصر في حضارة العصر وما يُميزها دون سائر الحضارات التي شهدَتها العصور السالفة، فإذا استطعنا ذلك في دقةٍ ووضوح، كان الحكم على موقف الأمة العربية في مرحلتها الراهنة أمرًا مُيسَّرًا لا عسر فيه.

ولكنَّنا ما إن نهم بمِثل هذا التحديد لمعنى «الحضارة» حتى نغوصَ في بحرٍ متلاطم الموج؛ لكثرة ما يعترضُنا من آراء تختلف إلى حدِّ التناقض بين رأيٍ ورأي، ذلك فضلًا عمَّا في تحديد أمثال هذه المعاني العامة من صعوبةٍ شديدة حتى لو لم يكن اختلافُ الرأي فيها بعيدَ المدى؛ فقد تكون الكلمة واضحةً حين تَجري في سياقها، لكنَّك إذا عزَلتها وحدها، ووضعتَها في مِخبَار التحليل والفحص، ألفَيتَها تُقاوم وتَروغ حتى ليستعصي عليك أن تُمسك بأطرافها، فكأنَّما اللفظةُ من هذه الألفاظ العامة كائن حيٌّ بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، تنصاع لِفَهمك إذا جعلتَها جزءًا من عبارة، لكن اجعلها وحيدةً وحاول أن تُمسِكَها من جَناحَيها؛ تتمرَّد عليك وتنتقم، كانت وهي مَسُوقةٌ في عبارة، وسيلةً تتعاون مع غيرها على أداء معنًى، أما وقد جعلتَها غايةً في ذاتها، تريد اختبارها هي، فما أسرعَ أن تنقلب بين يدَيك لغزًا غامضًا، وأن تتخذَ لنفسها أعماقًا وأبعادًا، لم تتكن تتوقَّعها في بداية الطريق! وهذا هو الشاعر الفرنسي بول فاليري يُحدثنا في ذلك، فيُشبه اللفظةَ وهي تؤدي معناها داخل عبارةٍ تضمُّها مع غيرها، بلوحٍ من الخشب الرقيق، وُضِع على خندق ليعبُر عليه العابرون، فلا بأس هناك إذا جرى عليه العابرُ خفيفًا سريعًا، أمَّا إذا وقف العابر عليه ليختبرَ قوته، وراح يقفز بكلِّ ثقله؛ فإنَّ اللوح الخشبي لا يلبث أن ينكسرَ تحت قدميه.

لكنَّنا، برغم هذا النصح من بول فاليري، لن نمرَّ على كلمة «حضارة» خِفافًا سراعًا، وسنقفزُ عليها ونقفز حتى تتهشَّم؛ لنرى أجزاءها جليةً أمام أبصارنا.

٢

نريد تعريفًا للحضارة يُحدِّد لنا الخصيصة الواحدة، أو مجموعةَ الخصائص التي لا بُدَّ من ظهورها في كلِّ حالة حضارية، كما لا بُدَّ من اختفائها في كل حالةٍ بدائية؛ لأنَّه إذا كانت الصفة أو الصفات التي نقع عليها ماثلةً في المُتحضِّر وغير المُتحضِّر على سواء، إذن فهي ليست من التعريف الذي نَنشُده، مثلًا إذا عَنَّ لنا أن نذكر الفنَّ أو الأدب ليكونا تعريفًا للحضارة، وقعنا في الخطأ الذي أحذر منه؛ لأنَّه ما دام الفنُّ والأدب — كائنًا ما كان نوعهما — موجودَين في كل جماعةٍ بشرية، أيًّا ما كان حظُّها من الحضارة؛ إذن فهما عنصران ضروريَّان، لكنَّهما وحدهما لا يكفيان للتعريف؛ فالشرط الأساسيُّ الذي لا بُدَّ من توافره في أيِّ تعريف كامل، هو أن نذكر الصفات الضرورية والكافية معًا، فالبصر ضروري للإنسان، ولكنَّه لا يكفي لتعريفه، وإذن فلا يجوز أن نُعرِّف الإنسانَ بأنَّه الكائنُ المبصر، وهكذا الحضارة لا يجوز تعريفها بأنَّها الحياة التي تحتوي على فنٍّ وأدب، برغم أنَّ الفن والأدب عنصران ضروريان لا تخلو منهما حضارة.

فما هي الصفة — إذن — التي تجمع إلى كونها ضروريةً للحضارة أن تكون كذلك كافيةً لتعريفها؟ وهي إنَّما تكون كافيةً إذا امتنع ظهورُها من كل حياةٍ أخرى مما يتَّفق الناس على أنَّها ليست في عِدَاد الحضارات.

ولقد قلت: «مما يتَّفق عليه الناس» عن وَعيٍ وعن عمد؛ لأنَّه لا سبيل أمامنا في تعريف الحضارة، إلا أن نبدأ بأمثلةٍ من عصور، أجمع العُرف على أنَّها فتراتٌ ذات حضارة رفيعة؛ لكي نستخلصَ من هذه الأمثلة الواقعية التي شهدها التاريخ، والتي أقرَّها الخبراء في ميادين الثقافة، صفتها المشتركة التي تظهر فيها جميعًا، ثم نستوثق من أنَّها صفةٌ لا تظهر في غيرها، وسوف أغضُّ النظر هنا عن سؤالٍ يُثيره الباحثون، وهو: هل الحضارة صفةٌ تصف عصورًا وجماعات، أو هي صفة تصف الأفرادَ أولًا ومن مجموعة الأفراد المتحضِّرين تتكوَّن حضارةٌ معينة في عصر معيَّن؟ سأغضُّ النظر عن هذا السؤال لسببٍ بسيط؛ هو أنَّ خبراء الرأي أقربُ إلى الاتفاق عندما ينصبُّ الحكم على جماعةٍ بأسرها، أو على عصرٍ بأكمله، منهم إلى الاتفاق عندما ينصبُّ الحكمُ على هذا الفرد أو ذاك.

فأي الجماعات، أو أي العصور يُمكن إجماعُ الرأي عليها بأنَّها نماذجُ للحياة المتحضِّرة حضارةً رفيعة؟ نستطيع الاكتفاء بأربعة أمثلة لا أظن أحدًا يُجادل في رِفعة حضارتها، وهي: أثينا في عهد بركليز، في القرن الخامس قبل الميلاد، بغداد في عهد المأمون، في القرن التاسع، فلورنسة في القرن الخامسَ عشر، باريس في عصر التنوير، إبَّان القرن الثامن عشر.

فما هو القاسمُ المشترك بين هذه الحضارات الأربع؟ إنَّه يقينًا ليس الأجهزة الآلية؛ لأنَّ هذه الحضارات جميعًا قد خلَت منها؛ إذ إنَّ أوانَها لم يكن قد آنَ بعد؛ ما يدل على أنَّ الحضارة — من حيث هي حضارة وكفى غيرَ مقيدةٍ بعصر معيَّن — تستطيع أن تقوم بغير الآلة كما تُفهَم في عصرنا، كلا، ولا كان القاسم المشترك بين الأمثلة الأربعة التي اخترناها نماذجَ للحضارة في اكتمالها، هو الفنَّ أو الأدبَ أو غيرَهما من وسائل الحياة الوجدانية؛ لأنَّ ما تجده من هذه العناصر في واحدةٍ من تلك الحضارات قد لا تجده في الأخرى، فضلًا عن أنَّ هذه العناصرَ جميعًا قد تتوافر في شعوب وفي عصور لم نتَّفق على أنَّها موسومةٌ بحضارةٍ تُذكر؛ ففي قلب الأدغال البدائية ربما رأيت من العقائد ومن الفنون نحتًا وتصويرًا وغناءً ما يستحقُّ التقدير في ذاته، لكنَّه وحده لم يستطع أن يُقيم حضارة يُسجلها لها التاريخ، لا، ولا القاسم المشترك هو القدرة العسكرية، وإلَّا وضَعْنا جنكيزخان وهولاكو في طليعة المتحضرين، وعدَدْنا قبائلَ التتار أكثرَ حضارةً من الشعوب التي اجتاحتها تلك القبائل، ولا النظم السياسية هي ذلك القاسم المشترك الذي نبحث عنه؛ فقد كانت أثينا بركليز أولجاركية الحكم، وكانت بغداد المأمون يحكمها خليفة، وكانت السيطرة في فلورنسة لأسرة مديتشي، وكانت تحكم باريسَ التنوير ملَكيةٌ مطلقة.

ولكن القاسم المشترَك الذي تراه في تلك النماذج الأربعة جميعًا، كما نراه في كلِّ نموذج حضاري تختاره بعد ذلك، ولا نراه في أي شعب أو عصر منعوت بالبدائية والتخلُّف، هو الاحتكام إلى العقل في قَبول ما يقبله الناس، وفي رفض ما يرفضونه، هذا الاحتكام إلى مقاييس العقل وحده قد يتبدَّى في صورٍ تختلف باختلاف العصور، فربما ظهَر في مجال السياسة، أو في مجال الحرب، أو في مجال التشريع، أو في مجال العلوم الطبيعية، لكن هذه المجالات المختلفة إنْ هي إلَّا تطبيقاتٌ مختلفة لمبدأ واحد، هو أن يكون الحكمُ للمنطق العقلي وحده دون سواه، فهذه العقلانية في وجهة النظر هي التي تراها ماثلةً في كلِّ حضارة مهما اختلف لونها، ولا تراها في أي جماعة بدائية مهما تعدَّدَت بعد ذلك صفاتها، وليس هذا الذي نُسميه علمًا إلَّا عقلانيةً اتخذَت لها مَنحًى معينًا من مَناحيها الكثيرة؛ فلربما اتجهَت النظرة العقلية تلك نحو الأفكار المجرَّدة تنظمها وتنسقها في ترتيبٍ هرمي يضع الأعمَّ منها فوق الأخصِّ، كما حدث لليونان الأقدمين، أو ربما اتجهَت نحو تحليل ما نزل به الوحيُ من تشريع، كما حدث للعرب الأوَّلين، أو اتجهَت نحو ظواهر الطبيعة تستخرج قوانينَها النظرية، كما حدث لأوروبا في عصورها الحديثة، أو اتجهَت نحو تجسيد تلك القوانين العلمية النظرية في أجهزةٍ يُديرها الإنسان، أو تُدير نفسَها بنفسها، كما يحدث لعصرنا القائم.

٣

عند هذا المنحنى من سياق الحديث، ينبغي الوقوفُ لحظةً قصيرة نتساءل فيها عن المعنى المحدَّد الواضحِ لكلمة «عقل»، ما دمنا قد جعَلنا الاحتكامَ إلى العقل أساسًا تُقام عليه الحضارات حيثما قامت، وبغيابه تنعدم الحضارة كلَّما انعدمَت، فما هذا الذي نُسميه «عقلًا»؟ هو ببساطةٍ شديدة ذلك النمطُ من أنماط السلوك الذي يتبدَّى عندما نُحاول رسم الطريق المؤدية إلى هدفٍ أردنا بلوغه؛ فليس الهدف المختار في ذاته «عقلًا»؛ لأنَّه وليدُ الرغبة وحدَها، وليست النقطةُ التي أبدأ منها السيرَ على الطريق «عقلًا»؛ لأنَّها مبدأٌ مفروض، أمَّا «العقل» بمعناه الدقيق فهو ببساطةٍ شديدة — كما قلتُ — رسمُ الخطوات الواصلة بين هذا المبدأ المفروض من جهة، وذلك الهدفِ المطلوب من جهة أخرى. فافرض مثلًا أنَّ أمةً أرادت الحريةَ لأبنائها؛ إذن فهذه الحرية المنشودة هي الهدف المقصود، والفاعلية العقلية في هذه الحالة هي في دقة التصوير لما ينبغي أن يُتَّخَذ من وسائلَ لتحقيق ذلك الهدف، وبمقدار ما يكون لتصور الوسيلة من دقةٍ تُمكِّن الناسَ من السَّير على هُدَاها فلا ينحرفُ بهم الطريق؛ يكون لدينا من قدرةٍ عقلية في هذا المجال.

وننظر الآن إلى أثينا بركليز، وبغداد المأمون، وفلورنسة آل مديتشي، وباريس فولتير، فلا نخطئ فيها جميعًا هذه الصفةَ البارزة؛ هي أنَّ قَبول الأشياء ورفضها لم يكن قائمًا على عواطف الحبِّ والكراهية، والرضى والسخط، ولا كان قائمًا على التقاليد الموروثة قيامًا أعمى، بل كان القَبول والرفض قائمَين — على وجه التعميم الذي قد يَشِذُّ هنا أو هناك — كانا قائمَين على حُكم العقل ومنطقه، فكأنَّما الناس يسألون عند كل وقفة يقفونها من موضوعٍ مطروح: هل الخطوة الفلانية إذا خطَوْناها أبلَغَتنا إلى الأهداف؟

وإنَّ عقلانيةً كهذه في النظر إلى أمور الحياة والثقافة معًا، لَتستتبع صفاتٍ فرعيةً كثيرة، تنتج عنها كما تنتج الثمراتُ من شجراتها، ومِن أوَّل هذه النتائج النابعة من ذلك المبدأِ العقلاني، أن تتخذ الأشياء نِسَبَها الصحيحة بعضَها من بعض، فيبدوَ الكبيرُ كبيرًا كما هو، والتافهُ تافهًا كما هو؛ فقد تهتمُّ الدولة المتحضرة بمسألة علميةٍ تريد لها أن تستقرَّ في الناس، ولكنَّها تُغْضي عن توافه السلوك التي ربما اختارها هذا الرجلُ أو ذاك طريقةً لحياته الخاصة، مع أنَّك إذا نظرتَ إلى جماعةٍ غاب عنها العقلُ واستبدَّت بها النزوةُ في أحكامها؛ فقد تراها وهي تُقيم الدنيا ثم لا تُقعدها، تجاهَ سلوكٍ خاص اصطنَعه خالدٌ أو زيدٌ في حياته الخاصة، بينما تَعْشى عينُها عن رؤية تيارٍ بأَسْره في دنيا العلوم أو الفنون.

ومن النتائج التي تترتَّب على الوقفة العاقلة كذلك، إيثارُ الآجل على العاجل، إذا كان في العاجل خيرٌ قليل قد يعقبه شرٌّ كثير، أو كان في الآجل خيرٌ كثير قد يسبقه شيءٌ من ألم التضحية.

ومن أبرز جوانبِ النظرة العقلانية أن تُردَّ الظواهر إلى أسبابها الطبيعية؛ فلا يُفسَّر المرض — مثلًا — إلَّا بالجراثيم التي أحدَثَته، ولا يُعلَّل سقوط المطر إلَّا بظروف المناخ … وهكذا، ويترتَّب على هذا الربط السببيِّ الصحيح أن نلتمسَ للأشياء أسبابَها الطبيعيةَ كذلك، فإذا أردنا غِلالًا زرَعْنا لنحصدَها، وإذا أردنا قتالًا حملنا له السلاح بِمرانٍ واقتدار.

النظرة العقلانيَّة تنظر إلى الواقع كما هو واقع، لِتُحوِّره إلى واقع جديد إذا أرادت، دون أن تُقيم بينها وبين الواقع حائلًا تنسجه الأوهام، ثم سرعان ما ننسى أنَّه أوهام، فإذا كان البدائيُّ يخلق لنفسه الخرافةَ لينظر بمِنظارها إلى وقائع الدنيا، فإنَّ المتحضِّر هو الذي يُواجه تلك الوقائعَ كما تبدو لبصره وسمعه، وبغيرِ هذه الرؤية العارية المباشرة، كان يتعذَّر عليه أن يُلجم الطبيعية ليُسيِّر وقائعَها حيث أراد لها أن تسير.

على أنَّ أبرز ما تتميزُ به النظرة العقلية إلى الكون؛ هو حبُّ الإنسان للمعرفة، حيث يُلِمُّ بأسرار البيت الذي هو ساكنُه؛ فالعقلانيُّ في نظرته ذو نهَمٍ نحو معرفة الحقائق والطبائع والعلل، لا يصدُّه عن ذلك شيءٌ من التحريم الذي يفرضه البدائيون على أنفسهم، مَن منَّا لا يذكر الحكايات التي كانت تُحكى لنا ونحن صغار، عن القصر ذي الغرف الكثيرة، الذي يُستباح الدخول في غرفه كلِّها إلَّا غرفةً واحدة محرَّمة؟ ذلك هو الإنسان إذا تُرك لفطرته: يتهيَّب نزْعَ الستائر عن حقائق الأشياء، وحتى إذا جاز لنفسه أن ينزعَ بعضها، أوجَب على نفسه أن يترك بعضَها الآخر مسدولًا على كَوامنه، إلَّا مَن جعل السيادة لعقله، فذلك هو بروميثيوس — في أساطير اليونان — الذي نزع الشعلة من أيدي الآلهة ليُضيء بها أركانَ الأرض فلا يترك منها ركنًا خافيًا في عتمة الظلام؛ هكذا كانت أثينا حين أمسكَت بقبَسِ النور لتتفحَّص الدنيا على ضيائه، وهكذا كانت بغداد المأمون حين أخذت تَعُبُّ معارفَ الأولين عَبًّا لم يكد يُفرِّق بين شرابٍ وشراب؛ فكلُّ شراب من مورد العلم عندها سائغ، وهكذا كان عصرُ النهضة وعصر التنوير في أوروبا.

٤

سلطان العقل — إذن — هو مَدار القياس لدرجات الحضارة؛ فقُل لي كم عقلت أمةٌ في تدبيرها لأمورها؛ أقُل لك كم صعدَت في مَدارج التحضر، وأقول سلطان العقل ولا أقول مَضَاء الإرادة؛ فالأولويَّة في البناء الحضاري للعقل وفكره، قبل أن تكون للإرادة وفعلها، نعم، إنَّه لا بُدَّ من التفكير العقلي من إرادة التنفيذ، لكنَّها عندئذٍ تكون إرادةً مُلجَمة بتخطيط العقل، وأمَّا إذا بدأنا الشوطَ بإرادةٍ تفعل؛ فمن ذا الذي يضمن لنا ألَّا يجيء فعلُها تخبطًا أهوج، يتَّجه بنا نحو اليسار إذا كان الاتجاه إلى يمينٍ هو الموصِّلَ إلى الهدف، أو يتجه بنا نحو اليمين عندما تقتضي حِكمةُ العقل أن نسير إلى يسار؟

العقل هو وحدَه الفيصل بين الحقِّ والباطل، وبه وحده يُصبح الإنسان سيدَ مصيره، رغباتُ الإنسان قد تدفعه إلى سنِّ القوانين وإقامة التقاليد، ثم قد تعود فتُغريه بأن يتحلَّل مما قد سنَّ أو أقام، وأمَّا ما بُني على العقل فهو ثابتٌ على الدهر، لا يزول؛ ولذلك كان مُحالًا علينا أن نحكيَ تاريخَنا للحضارة متسلسلَ الحلقات، صاعدَ الخطوات، إلَّا إذا تعقَّبنا ما أنتجَه العقل؛ لأنَّ نتاجَه — دون أي نتاجٍ آخَر — هو الذي يظلُّ يُكمل نفسه عصرًا بعد عصر، يصلح من أخطاء نفسه، ويكشف الجديدَ ويوسع الرقعةَ قليلًا قليلًا، حتى يبسطَ سُلطانه على الأرض والسماء، وأمَّا الفن وأمَّا الأدب وغيرُهما من كائنات العالم الوجداني في الإنسان؛ فلا يأتي الجديدُ ليعلوَ درجةً على القديم، بل ربما حدث أنْ تفوَّق القديم على الجديد، فليس من التناقض أن يكون هومر أعظمَ من شعراء القرن العشرين جميعًا، أو أن يكون فنَّانو النهضة الأوروبية أروعَ فنًّا من رجال الفن في عصرنا، فكيف إذن يتسلسلُ التاريخ في حركةٍ صاعدة إذا لم يكن اللاحقُ أعلى درجةً من السابق؟ إنَّ هذا التتابع الضروريَّ لا يتحقَّق إلَّا في ميدان العلوم، التي هي رمزٌ للعقل ونتاجه، وبالتالي يكون الجانب العلميُّ هو وحده مدارَ القياس لدرجات التقدم والتخلف بين الأفراد أو الشعوب.

إنَّني لأرجو هنا ألَّا يختلطَ الأمرُ على أحد؛ فنحن لا نقول إنَّ أي حضارة يُمكنها الاستغناءُ عن عالم الشعور بكل ما يُفرزه لنا من فنونٍ وآداب وغيرهما، ولكننا نقول — بكل قوةٍ نستطيعها — إنَّ عالم الشعور وما ينتجه ضروريٌّ لكل حضارة، لكنَّه وحدَه لا يكفي، والعقل دون سواه هو الجانب الضروريُّ والكافي معًا لتعريف الحضارة وقياس درجاتها.

يقول ألبرت شفايتزر عن الحضارة إنَّها بذل الجهد من أجل التقدم، وكلمة «التقدم» هنا هي التي تُهمُّنا في سياق حديثنا؛ لأنَّه إذا كان التقدم إلى أعلى وإلى أمام، شرطًا أساسيًّا للحضارة، كان الجانب العقلي وحدَه من الإنسان، بما ينتجه من العلوم، هو الذي يتقدم، بمعنى أن تجيء الخطوة التالية من خُطوات الطريق تقدمًا نحو الهدف الأخير، بالنسبة للخطوة السابقة؛ فالفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا، أو علوم النفس والاقتصاد والاجتماع، أو غيرها من فروع العلم؛ ليست اليومَ كما كانت بالأمس، واختلاف يومها عن أمسها هو الاختلافُ الذي يتحتَّم فيه أن تكون حصيلةُ الأمس أفقرَ من حصيلة اليوم، وأكثرَ منها تعرضًا للخطأ، وأمَّا الآداب والفنون فكلمة «التقدم» بالنسبة إليها ليست بذاتِ معنًى؛ فقد لا يستطيع شاعرٌ من شعرائنا اليوم أن يُجاري امْرَأ القيس، وقد لا يستطيع أحدٌ من رواة الحكايات في يومنا أن يقترب من الذروة الأدبية التي بلَغَتها ألف ليلة وليلة، لا، إنَّ التقدم لا يكون إلَّا في معرفتنا العلمية، وأمَّا ما هو خاص بالوجدان، فلا أظن أنَّ الأم العصرية الثَّكْلى تبكي فقيدَها على نحوٍ أكملَ من بكاء الأمهات بالأمس، ولا أن يَفنى عاشقٌ في عشق حبيبته بأكثرَ مما فَني قيسٌ في عِشق ليلاه.

ومن فكرة التقدم هذه تنبثقُ لنا فروع، لا بُدَّ لنا أن نعيَها حق الوعي؛ حتى لا يُفلت منَّا جوهرُ الحضارة ولُبُّها، التقدم الحضاري يقتضي حتمًا ألَّا نجعل الماضيَ مقياسًا للحاضر، وكيف نجعله المقياسَ إذا كان هذا الحاضرُ أفضلَ منه بحُكم فكرة التقدُّم نفسها؟ النظر إلى الماضي هو نظر إلى الوراء، على حين أنَّ التقدم يقتضي أن نوجه النظر إلى الأمام، والانحصار في الماضي هو انحصارٌ في نمطٍ واحدٍ من أنماط الحضارة، مع أنَّ التقدم يُحَتِّم علينا الخروجَ من نمطٍ أضيق نطاقًا إلى نمطٍ أوسعَ أفقًا وأرحبَ إطارًا، إن فكرة التقدم من حيث هي علامةٌ نُميز بها المسيرةَ الحضارية، تُوجِب علينا أن نُجاوز واقعَنا المحدود إلى واقع آخرَ أكبر عِظَمًا وأعلى ارتفاعًا، على أن نفهم «واقعنا» هذا بأنَّه يشتملُ على الماضي والحاضر معًا، فكلاهما واقعٌ تم، فلا بُدَّ أن ننظر النظرةَ التي نرجو أن يجيء المستقبلُ أكثرَ تحضرًا — بمعنى أغزرَ علمًا — من الحاضر والماضي على السواء.

٥

على ضوء هذا الذي أسلَفْناه، نستدير إلى عصرنا وحضارته، إنَّه ليس بِدْعًا يَشِذُّ عن القاعدة التي سارت عليها سائرُ العصور، فالحضارة فيه ما زالت قائمةً على نفس الأساس الذي قامت عليه حضاراتُ السالفين، والأساس هو العقل، غير أنَّ العقل — كما أسلفنا — يُوجِّه فاعليتَه إلى ميادينَ تختلف كيفًا من عصرٍ إلى عصر، وميدانه اليوم هو العلوم الطبيعية التي تتمثَّل في أجهزة، ولا تقف عند كونها صياغاتٍ رياضيةً نظرية، كما كانت الحال حتى عهدٍ قريب، فلو كان الخليل بن أحمد بعقله الجبَّار الذي خلَق ترتيبًا معجميًّا من عدم، واستخلص عَرُوضَ الشعر استخلاصًا بلغ حدًّا مذهلًا من كمال العقل الرياضي ودقته، وقَنَّن لِنحو اللغة بعضَ قوانينه؛ أقول لو كان الخليل هذا وُلِد في عصرنا؛ لجاز أن يكون من أضخم علماء الفيزياء النووية حجمًا وأوسَعِهم شُهرة؛ فالفكر العقلي عنده، ويبقى الميدان الذي يوجِّهه إليه، وكذلك لو كان بلانك أو بور أو هيزنبرج رجلًا من أهل البصرة في القرن الثامن لأخرج للناس مُعجمًا للُّغة، وعَروضًا للشعر، مدار التقدم الحضاري — أعود فأكرر — هو الفاعليةُ العقلية دون سِواها، والذي يختلف في مراحل التاريخ هو ميدان النظر الذي تُحدِّده ظروفُ العصر المعيَّن.

ولقد حدَّدتُ ظروفَ عصرنا هذا أن يكون الميدانُ هو الواقعَ الطبيعي، وأن يكون الهدف هو إيجادَ الجهاز الذي يُجسد الفكرة العلمية كائنةً ما كانت، الأجهزة هي لغة العلم في عصرنا، ولا عجب أنَّه عصر الصناعة في ثورتها الثالثة؛ كانت الثورة الأولى حين حلَّت الآلة محلَّ الأبدان، سواءٌ أكانت أبدانَ البشر أم أبدانَ الحيوان، والثورة الثانية حين أصبحَت الآلة تُسيِّر آلةً سواها، دون تدخُّل الإنسان فيما يُسيِّر وما يُسيَّر، والثورة الثالثة حين اتَّسع نطاق الآلة فلم يَعُد يقتصر على ما كانت الأبدانُ تفعله، بل امتدَّ حتى شمل فاعلياتِ العقول، ذلك هو عصر التكنولوجيا كما يُسمونه، لا فرق في هذا المجال بين مجتمع في الشرق، أو مجتمع في الغرب، فما دام المجتمع متقدمًا بمقياس العصر، كان حتمًا أن يُلقي زِمَامَه إلى عقله أولًا، وأن يُوجِّه فعل العقل نحو العلوم الطبيعية وأجهزتها ثانيًا، فإن فوَّتَت عليه قدراته الاقتصادية أن يُسهِم في هذا الميدان بنصيب؛ كان لِزامًا أن يجعل مِنهاجَ تلك العلوم مِنهاجًا له في أي مَيدانٍ يُتاح له النظرُ فيه؛ فقد تعددت ميادين النظر: فهنالك ميادينُ العلوم الاجتماعية؛ علم النفس وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، وهنالك مجالات الارتفاع بمستوى العيش؛ من حيث التغذيةُ والسكنُ والتعليم والعلاج الطبِّي ووسائلُ الراحة وتأمين الأفراد ضد كوارث الزمن، هنالك كلُّ هذه الميادين التي تتفاوتُ فيها الأمم في عصرنا ارتفاعًا وانخفاضًا؛ ممَّا قد يوحي بأنَّ أيًّا منها يصلح أن يكون أداةً لقياس التقدم والتخلف، إلَّا أنَّها جميعًا تلتقي في نقطةٍ واحدة؛ هي النظرة العقلية بمنهاج العلم إلى كل أوجه الحياة.

ونسأل بعد هذا كله: أين تقف الأمةُ العربية اليوم من المسيرة الحضارية؟ وأجيب بجوابٍ يختلطُ فيه قليلٌ من الأسى وكثيرٌ من الأمل، الأسى للهُوَّة اللاعقلية العميقة العميقة التي لا نزال نتخبَّط في ظلامها، والأمل في جيلٍ جديد أراه على الطريق إلى العقلانية العلمية وضيائها.

قد أكون على غيرِ هدًى فيما أقول، ولكنني — على الأقل — أَصدُق القول مع نفسي، حين أقرر ما أراه أمامي واضحًا، وهو: إمَّا أن نعيش عصرنا بكلِّ ما يقتضيه من أخلاق، وإمَّا أن نكون قادرين على تحويره، بحيث نُعيد صياغته على مِثالنا، أمَّا أن نتمرَّد عليه، ثم نعجزَ عن تحوير أيِّ شيء فيه؛ فذلك حكمٌ على أنفسنا بموتٍ حضاري، لا يعلم إلَّا علامُ الغيوب متى تكون قيامتُه.

قُل ما شئتَ عن عصرنا، ولكنَّك مضطرٌّ إلى أن تصفَه بصفات ثلاث: فهو عصر علمي، وهو عصرٌ تقني، وهو عصرٌ مَدارُ الأخلاق فيه على المنفعة، ولقد جمع مؤلفٌ إنجليزي معاصر هذه الصفاتِ الثلاثَ في صيغة مركَّزة، إذ قال إنَّه عصر «تقني بنتامي»، أمَّا التقنية فهي تتضمَّن ذلك الضرب من العلوم، الذي يستهدف اختراعَ الأجهزة التي تُجسد قوانينها، ولا يترك هذه القوانين في صورتها المجردة، وأمَّا أنَّه عصر بنتامي؛ فالإشارة هنا إلى بنتام، فيلسوف المذهب المنفعيِّ إبَّان القرن الماضي.

معنى ذلك أنَّ جواز المرور الذي يُبيح لنا الدخول في عصرنا، هو أن نُطوِّر من قيمتنا السائدة لكي تُصبح قيمًا قائمةً على عَلْمَنة، وعلى تقنية، وعلى منفعية في أُسس التعامل السياسي والاقتصادي على أقلِّ تقدير، فإذا لم تُعجبنا هذه الصفاتُ لكونها غريبةً على ثقافتنا الموروثة، كان علينا أحدُ أمرين: إمَّا أن نَلْويَ عنق العصر حتى يرى الدنيا بأعيننا، وإمَّا أن ننسحبَ من العصر إلى حيث شئنا أن يكون الاختفاءُ في ستر الظلام، لكن المفارَقة العجيبة، هي أنَّنا لا نخلق للدنيا المعاصرةِ فكرًا يَثْنيها عن طُرقها، وفي الوقت نفسِه ترانًا نقفُ من ثقافة العصر موقفًا يقبل أسماءها المجردة ويرفض مضموناتها، بمعنى أنَّنا على استعدادٍ لقَبول الاتجاه العلمي والتقني بل الاتجاه المنفعي في التعامل، على شرطِ أن يقف هذا القَبول عند حدود هذه الأسماء، وأمَّا ما يندرج تحت هذه الأسماء من مضمونات؛ فليست لدينا المعدَّاتُ التي أُعدَّت لهضمها، مما أحدث فينا ضربًا عجيبًا من الازدواجية الحضارية؛ فعلى سطح الأمور الظاهرة، نبدو وكأنَّنا نُعايش العصر في تصوراته، فإذا نفَذْنا إلى ما تحت السطح وجدنا أنفسنا ما نزال نطوي في صدورنا قيمَ حضارةٍ ذهبَت مع تيار الزمن.

سَلْ من شئت: هل تُحب أن تُتابع العصرَ في عقلانيته وتقنياته؟ يجبك في استعلاء بأنَّ العقلانية وما يترتبُ عليها هي جزءٌ من ميراثنا الأصيل، لكن قُل له إنَّها في عصرنا تستتبع عدة أمور: منها ألَّا تُلقيَ بزمامك إلى العاطفة أيًّا كان نوعها، ومنها أن يتولَّى العملَ مَن يُحسن أداءه، لا مَن ينتمي إلى أصحاب الجاه بأواصر القُربى، ومنها أن يكون الارتكازُ كلُّه على الواقع الماديِّ الصارم، ومنها أن نصطنعَ في حياتنا نظرةً علمانية تجعل محورها هنا على هذه الأرض، قبل أن يكون هناك في عالم آخر .. قُل له هذا، يأخُذْه الفزع؛ لأنَّه عندما أعلن أنَّه مِن أنصار النظرة العقلية، لم يكن قد تُخُيِّل لنفسه أنَّها نظرة تلدُ كلَّ هذا النسل العجيب؛ فهو عقلانيٌّ بالاسم، لا بالمضمون والنتائج، إنَّه يقبل من العصر تقنياته؛ لأنَّه يريد — كسائر عباد الله — أن ينعمَ بالسيارة والطيارة، وأجهزة التدفئة والتبريد، لكنَّه إذا علم بأنَّ إدخال هذه الآلات في حياتنا معناه إدخالُ عادات جديدةٍ في تلك الحياة، ومعناه إحلال قيمٍ جديدة محلَّ قيم قديمة، أخذَه الهلع؛ لأنَّه في عمق نفسِه لا يريد عن قيمه الموروثة بديلًا.

وهكذا نقعُ في أزمةٍ حضارية من طِراز نادر؛ لأنَّنا في الحقيقة بمنزلةِ مَن يحيا ثقافتَين متعارضتَين في وقتٍ واحد: إحداهما خارج النفس، والأخرى مدسوسةٌ في حَناياها لا تَرِيم، فتَرى حضارةَ العصر في البيوت والشوارع والأسواق، بينما تحسُّ حضارة الماضي رابضةً خلف الضلوع.

٦

ونعود فنسأل: أين تقف الأمة العربية اليوم، من حيث التقدمُ أو التخلف على طريق الحضارة؟

إنَّ معايير القياس كثيرة، أشرنا إلى بعضها؛ فهنالك المعيار الاقتصادي الذي يَقيس التقدم بمتوسطِ الدخل، وهنالك المعيار الثقافي الذي يَقيسه بدرجة انتشار التعليم، وهنالك المعيار الذي هو أشيَعُها قَبولًا، وهو معيارٌ يقيس تقدم الأمة أو تخلفها بدرجة العلمنة والتصنيع؛ أي بدرجة تحوُّلها إلى الحياة الصناعية المستنِدة إلى الأجهزة الآلية، وأيًّا ما كان المعيارُ الذي تختاره، فالشرط الضروريُّ دائمًا هو أن تتغير طرائق العيش والتفكير، بحيث تُساير روح التقدم العصري.

لكن هذا التقدم لا يعني شيئًا إلَّا إذا عرَفنا إلى أيِّ هدفٍ نتقدم، حتى يُمكِنَ قياسُ المسافة الفاصلة بين موقفنا الراهن وذلك الهدفِ الذي نتقدمُ نحوه، بعبارةٍ أخرى: ما هو النموذج الكامل الذي نضَعُه نُصْبَ أعيننا في أثناء سيرنا، لنكونَ على يقين بحقيقة موقفنا: هل هو اقترابٌ أو ابتعاد عن ذلك النموذج؟ وإنَّه لعزيزٌ على نفسي أن أقولها صريحة، وإنَّه كذلك لعزيزٌ على نفوس القراء أن يسمعوها، لكنَّه حقٌّ لا مَنْجاة لنا عن مواجهته، وهو أنَّ نموذج القياس إنَّما هو الحياة العصرية كما تُعاش اليوم في بعض أجزاءِ أوروبا وأمريكا، فقد شاء الله أن يكونَ هناك اليوم يَنْبوع الحضارة، كما كان ينبوعها في أرضنا ذات يوم.

وقد نوجز أهمَّ معالم تلك الحياة الأوروبية الأمريكية التي هي حضارةُ العصر في بضع نقاط، تُساعدنا على قياس موقعِنا بالنسبة إلى الهدف: فمن تلك المعالم المميزة سرعةُ التغير، وسرعة قَبول الجديد، فحياة الناس هناك تُوشك أن تتغيرَ يومًا بعد يوم، وعليهم أن يُلاحقوها، والملاحقة معناها ألَّا يُبهرنا ما قد فات ومات، حتى لا نقف طويلًا عند أطلال، بل نُوجِّه البصرَ دائمًا نحو غدٍ وبعدِ غد؛ فالقوم هناك يؤمنون إيمانًا لا تحدُّه حدودٌ بالعلم وقدرته على النموِّ المطَّرِد، وبأنَّه كلما اطَّرَد نموُّه قلَبَ حياة الإنسان كمًّا وكيفًا.

فإذا أردنا قياسَ التقدم أو التخلف، فما علينا إلَّا أن نَقيس المسافةَ بين حياة الفرد العاديِّ في مجتمعاتنا بحياة الفرد العادي في مجتمعاتهم: في حصيلة العلوم، في دقة التخطيط، في غزارة الإنتاج، في مدى الحرية السياسية والاجتماعية، وغير ذلك مما يتفرَّع عن أصلٍ واحد، يتلخَّصُ في قولنا عن حضارة العصر إنَّها: عِلمية تقنية منفعية.

إنَّني لعلى وعي بوجه الاعتراض هنا، وهو: لماذا نُفني ثقافتَنا في ثقافةِ غيرنا بحيث نجعل منهم نموذجًا لنا نَحتذيه؟ وأظن أنَّ خير جواب يُزيل عن أنفسنا القلق، هو أن ينحصرَ تفرُّدُنا الثقافي في تلك الجوانب التي تُميز الشعوب، والتي هي في الوقت نفسِه ليست مقياسَ التقدم الحضاري كما حدَّدناه، وأعني بها جوانبَ العقيدة والفن وبعضَ تقاليد الحياة التي لا تتنافى مع الحركة العلمية بكل فروعها، وبهذا نُتيح لأنفسنا أن نتحَضَّر بحضارة العصر في أخصِّ خصائصها، كما نُتيح لها في الوقت نفسِه أن نحتفظ بما يُميزها عمَّا سواها، وبهذا نتركها تُساير العصر في نظراته العلمية، وتنطوي على ذاتها في ميادين الوجدان وطرائق التعبير عنه في العقائد والأدب والفن.

إنَّ الحديث عن الحضارة وقضية التقدم والتخلُّف للأمة العربية، ما كان ليستثيرَ نشاطَنا الفكري، لو أنَّ بنا مَواتًا نزل بنا إلى حفرة الحضيض، وكذلك ما كان ليستثير نشاطنا لو أنَّنا قد علَوْنا في حضارة العصر إلى ذروة الأَوْج؛ ففي الحالة الأولى ينعدمُ الوعي، فلا فِكر ولا نشاط، وفي الحالة الثانية تتحقَّق الطمأنينة والرِّضى، فلا قلق ولا تساؤل، لكنَّنا من مَدارج الصعود في منزلةٍ بين المنزلتين؛ ولذلك كان لا بُدَّ لنا من مثل هذا النشاط الفكري، نتحسس به الطريق، حتى لا نَضلَّ عن الجادة المستقيمة لنبلغَ ما نريد ونبتغي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤