حياتنا بين الأمس واليوم

١

وُلدتُ في أوائل هذا القرن، قبل أن تُفجَع البلاد في دنشواي بعام واحد، ولَمَّا اكتمل لي الوعيُ بالدنيا وأحداثها كان قد انقضى من القرن ثلاثة عُقود، كنتُ قبلها أسمع عن أقطار الأرض البعيدة، وكأنني أسمعُ عن عالمٍ من ضباب، وأسمع عن جِسام الحوادث في وطني، فأفهم الجُملَ مفكَّكة ومتناثرة، ولكني لا أُكوِّن لنفسي منها قصةً مفهومة.

أمَّا دنياي القريبة مني، التي ألِفْتُها حولي؛ فقد كانت بسيطةً إلى حدِّ السذاجة، أعقَدُ ما فيها هي الكتب التي صادفَتني فطالعتُها، والتي حدثَ أن كانت في مجموعها أميلَ إلى «الأفكار» المجرَّدة التي تعرَّت عن دم الحياة ولحمها؛ ومن هنا كانت الفجوةُ سحيقةً بين ساعاتٍ أقضيها داخل الكتاب، وساعاتٍ أقضيها خارجَه؛ وليس بي حاجةٌ هنا إلى القول بأنني عشتُ أربعين سنةً في بيتٍ لم يعرف جهازًا واحدًا من أجهزة الحضارة الحديثة؛ إمَّا لأنَّها لم تكن قد وُجدَت بعد، وإمَّا لأنَّني كنتُ لا أملك ثمنَ اقتنائها، فلا راديو، ولا تلفزيون، ولا ثلاجة، بل ولا النور الكهربائي استخدمتُه خلال سنواتٍ طويلة من حياتي، وكان أول فيلم سينمائي شهدتُه هو فيلم «سفينة العرض» — في أوائل الثلاثينيات — وإني لَأذكرُ الآن كيف خرجتُ من شهوده ذاهلًا لهذا العالم العجيب الذي لم أفتَح أبوابَه قبل ذاك؛ حتى التلفون لم يدخل بيتي إلَّا بعد أن انقضى من القرن نصفُه، وبدأ نصفُه الثاني.

لم يكن غريبًا عليَّ عندئذٍ أن ألتقيَ مع ألوف الناس من رجالٍ ونساء، فلا أجدَ بينهم إلَّا قِلةً قليلة جدًّا أصابت شيئًا من التعليم، وخصوصًا في عالم النساء؛ ولذلك كان أولُ فرض يَرِدُ على الخواطر بالنسبة إلى أيِّ امرأة تربطُك معها روابطُ الحديث أو المعاملة؛ أنَّها تجهلُ القراءة والكتابة، فإذا كان الأمر بينكما يقتضي توقيعًا، توقَّعت منها أن تُخرج خَتْمها لتختم، أو أن تُعِدَّ إبهامها لتبصم؛ حتى لقد كان من المفارَقات التي تلفتُ النظر أن ترى سيدةً وفي يدها جريدةٌ أو كتاب، ودَعْ عنك أن ترى سيدةً على وجهها منظار، وكنتَ تُحس عن الفئة القليلة المتعلمة، أنَّها كنقطة الزيت في قدح الماء، لا تندمجُ فيه مهما تحركَت في أرجائه، كأنَّما تلك الفئةُ في أمَّتها عنصرٌ أجنبي دخيل.

ولم يكن غريبًا عليَّ أن أجدَ ألوف الناس من رجالٍ ونساء، يُولَدون ويعيشون ويموتون في مكان واحد، كأنَّهم نباتٌ ينمو ويذبل وهو في موضعه! كانت الأكثريةُ العُظمى من أهل القرية تسمع عن العواصم القريبة منهم، وكأنَّهم يسمعون حكاياتٍ من ألف ليلة وليلة تُروى لهم عن الهند والسِّند؛ ولا يدخل القريةَ رجلٌ من المدينة — وهم يعرفونه من ثيابه — حتى يتجمَّع الغِلمان يرقُبونه من بعيدٍ بنظراتٍ متطلِّعة، ويُطلَّ النساءُ من نوافذ الدور وأبوابها، مُسْدِلاتٍ على الوجوه أغطيةً تحجبُ منها شيئًا وتترك شيئًا للرؤية؛ وإذا لم يكن في متناوَلِ إحداهن غطاءٌ رفعَت إحدى ذراعَيها على وجهها لتؤديَ لها ما يؤديه الغطاء.

كنتُ إذا ذهبتُ إلى القرية خلال أشهُر الصيف، لا ألبث أن أدخلَ مع الناس هناك في ضروبٍ من الحديث، لم أفهمها كلَّ الفهم، ولم أجهلها كلَّ الجهل؛ هي ضروبٌ من الحديث تكثر فيها كلماتُ «الحجز» و«البروتستو» و«المحضر» و«البورصة» و«البنك» و«الخواجة»؛ ولم يكن للناس من حديثٍ في أواخر الصيف إلا عن أسعار القطن، ترتفع وتنخفض لأسباب مجهولة، فتسري موجةٌ من الفرح أو موجةٌ من الحزن، وكان الشعور العامُّ هو أنَّ تلك الأسعار الصاعدةَ الهابطة هي ضرباتُ القدَر، تأتي من حيث لا تدري كيف جاءت؛ وحدث ذاتَ مساء، وجمْعٌ من الرجال يَسْمُرون وهم جلوس على «دكتين» متقابلتين أمام دكان البقَّال؛ أنْ سأل سائلٌ وهو جادٌّ: مَن ذا الذي يرفع هذه الأسعارَ يومًا ويخفضها يومًا؟ وأجاب مجيبٌ وهو جادٌّ أيضًا، فقال: لقد سمعتُ أنَّ هاتفًا من السماء يهبط ساعةَ الفجر، يُعلن في همس غير مسموع بما يُقرِّر أسعار اليوم. ولم يعترض أحدٌ على الجواب.

وكان مألوفًا غايةَ الأَلْفِ أن تسمع عن أحد الموسرين أنَّه أفلس بين يوم وليلة، كأنَّ الأمور تتحرك بأصابع العفاريت الخافية على الأبصار؛ فترى آثارَها المفاجئة ولا ترى مُحركاتها، وكان من أعقدِ الألغاز التي حيَّرتْني فترةً طويلة من مرحلة الشباب، تلك الحالاتُ الكثيرة التي كان يقترن فيها موتُ ربِّ الأسرة بخراب أسرته ودَمارها، من بيع وتبديدٍ وإفلاس، ولم يكن من باب اللَّغْو في الحديث أن تجريَ ألسنةُ الناس بهذه العبارة التي تقول إنَّه «موت وخرابٌ للديار»؛ لكثرة ما اقترنَ الحادثان وكأنَّهما علةٌ ومعلول. وكذلك كان مما له مغزًى حقيقي من واقع الحياة، أن يطلب الرجلُ «الستر» في حياته، كأنَّما هو على يقينٍ أنَّ هذا السِّتْر سينكشفُ يومًا عن خَواء، وإذن فالدعاء لله هو أن يجيء ذلك اليومُ بعد وفاته.

لم أكن واسعَ المعرفة بالزراعة وحياة المزارعين — من مُلَّاك الأرض أو مستأجريها — لكنَّ المعرفة القليلة التي حصَّلتُها من تتبُّع الحياة وأطوارها في بعض مَن عرَفتُهم، كانت كافيةً لرسم صورةٍ تقريبية لتلك الحياة، كيف يجري تيَّارها وكيف تتعاقبُ أطوارها؛ فقد كان الشيخ .. (وهذا مَثلٌ حقيقي بقيَت لي منه ذكريات) يملك نحوَ عشَرة أفدنة مِلكًا خاصًّا (وتلك هي أحسنُ الحالات، فلا هو بمستأجر عليه أن يدفع الإيجار من محصوله، ولا هو مَدين — أول الأمر — مُطالَب بدفع فوائد الدَّين من محصوله)، وكانت حياته أولَ أمرها تجري بين يديه عسلًا ولبنًا؛ لكن الأعوام لم تُمهله إلَّا قليلًا، حتى فاجأتْه بعيالٍ من زوجتَيه، بلغَت عدَّتُهم عشَرةً بين بنينَ وبنات؛ وأقول «فاجأته» لأنَّه كان يبدو على كرِّ الأعوام، كأنَّه على غير وعي بتكاثر نسلِه؛ ثم أراد له الله عند المفاجأة بهذا العبء الثقيل أن تزداد فداحةُ العبء بمرضٍ أصابه، تطلَّبَ منه السفرَ المتصل إلى المنصورة حينًا، وإلى القاهرة حينًا؛ فأخذَت حصيلةُ أرضه تعجز عن الوفاء بعيشِ عياله ونفقات علاجه؛ فكان لا مَناصَ من اقتراضٍ على المحصول قبل مَجيئه، والقرض لا يكون إلَّا بفائدةٍ مرتفعة، ويجيء وقت المحصول، ويجيء معه صاحبُ القرض، فالأرجح أن يُقدَّم له محصولٌ عينيٌّ لقاءَ ماله، وهنا تكون الخطوة الثانية من الغَبْن الفادح؛ إذ يغلب أن يأخذ الدائنُ ما يأخذه من ناتج الأرض بثمنٍ قليل؛ بحيث لا يبقى لصاحب الأرض إلا نَزرٌ يسير من ناتج أرضه، ونزرٌ أيسرُ منه من مالٍ سائل؛ ويجيء العامُ التالي، فتزداد الحاجةُ إلى القروض، لا من أجل عياله وعلاجه فقط، بل فوق ذلك من أجل الإنفاق على الأرض لفِلاحتها، لكن صاحب المال هذه المرةَ لا يكفيه أن يُقرض مالَه على محصول الأرض، لأنَّ ذلك قد لا يكفي؛ وإذن فلا بُدَّ من رهن جزءٍ من الأرض ضمانًا للدَّين؛ ويحدث بالفعل أن يعجز الرجلُ عن سَداد دَينه، فتذهب القطعة المرهونة من أرضه، وهكذا دواليك، على مرِّ عددٍ من السنين، ثم تزداد العِلَّة بالرجل ويموت، فيقترن موتُه باجتماع الدائنين لتصفيةِ ما ترَكه لأولاده، فإذا الباقي لأولاده صفرٌ من الأرض، وبقيةُ الديون، ومع ذلك كلِّه فقد عاش الرجل «مستورًا» — في عُرف الناس — لم ينكشف عنه السِّتْر إلَّا بعدَ موته، فكان العُرْي والجوع نصيبَ أبنائه من بعده.

تلك كانت حياةَ الزارع، في حالاتٍ ليست هي أسوأَ الحالات، فلا عجب — حين ضاقت الضائقةُ في الثلاثينيات الأولى — أنْ كان المعلمُ في المدرسة الإلزامية — وكان على الأغلب من أهل القرية — ذا مكانةٍ عالية لا تُدانيها إلا مكانةُ مَن يملكون رقعةً كبيرة من الأرض؛ فهذا المعلم بأربعةِ جنيهاته كلَّ شهر — فذلك هو راتبه عندئذٍ — كان أقدرَ على الشراء من مالكِ العشرين فدانًا، أو ربما كان أقدرَ من مالك الثلاثين؛ ولذلك فسرعان ما كانت الأرض تنفرط من أيدي مُلاكها، لتهبطَ في أيدي هؤلاء.

ومع ذلك فقد كانت الزراعة هي المبدأَ والمنتهى، وكل ما عداها من أوجُه النشاط والعمل، كان يبدو وكأنَّه من لوازمها ومُلحَقاتها؛ ولهذا كانت الأصالةُ والعراقة لمن ملَك الأرض — ولَأَن يملكها مالكُها عن إرثٍ خيرٌ من أن يملكها عن كسبٍ بمجهود — أمَّا من لا يملك أرضًا فهو في المجتمع من نوافله وهَوامشه، مهما بلَغ من شأنٍ في أوجُه أخرى من أوجه الحياة، فكانت مِلكية الأرض هدفًا يسعى إليه كلُّ مَن اجتمع له شيءٌ من مال؛ لقد عرَفتُ طبيبًا جمَع مالًا من مهنته، ولم يكن له شأنٌ بالأرض وزارِعيها، لكنَّه اشترى بماله قطعةً واسعة من أرضٍ جرداءَ لا تُنتج إلَّا القليل، فلمَّا أبديتُ له عجبي قال: إنَّ جزائي الأوفى هو أن يُقال بين الناس إنَّ الدكتور ذهَب إلى العزبة، وإنَّ الدكتور عاد من العزبة؛ ففي ذلك وحدَه ما يكفل لي أن تنفتحَ أبوابُ الجاه والمكانة.

كان العمل الزراعيُّ يومئذ يدويًّا في معظمه؛ فلم يكن أحدٌ ليتوقَّعَ أن تُحرث الأرض بغير المحراث التقليدي، أو أن تُدرس «الغلَّة» بغير النورج، أو أن تُروى الأرض بغير الساقية والشادوف، ولم يكن أحدٌ ليتوقعَ أن يُحصَد الحصاد بغير الأيدي، وأن تُحشَّ الجذوع بغير المنجل؛ فكنتَ تسير في الأرض الزراعية أميالًا بعد أميال، قبل أن تُصادف مكنة تُدار ببخار أو كهرباء؛ العمل يدويٌّ كله، والانتقال أسرعُه على ظهر الدواب؛ ومن ثَم انطبع الجوُّ كله بالبطء والمَهل؛ وعُدَّت السرعة من عمل الشيطان، ومما يبعث آخِرَ الأمر على الندم، وفِيمَ الإسراع والزرع ينمو على مَهل، والمحصول يجيء في أوانه من العام؟! لقد ضرَب لي صديقٌ في القرية موعدًا أن نلتقيَ في صبيحة الغد، فزللتُ بالخطأ وسألته: في أي ساعة من ساعات الصبح تريدنا أن نلتقي؟ فما وجدتُ منه ومن الصحبة كلها إلَّا مُرَّ السخرية؛ فقد كدتُ أبدو في أعينهم «خواجة» لأنَّني أردتُ تحديد ساعة اللقاء؛ ففي كلمة «الصبح» تحديدٌ لهم بما يكفي للحياة في الريف. وكان مما زاد في بُطء الحركة رسوخًا في النفوس أنْ صاحَبَها — نتيجةً طبيعية لها — بطءٌ شديد في تغير الأوضاع؛ أوضاعِ الفرد وأوضاع المجتمع، حتى تكاد بالنسبة لأيِّ فرد — إذا عرَفتَ كيف بدأ حياتَه — أن تجزم فيما يُشبه اليقينَ كيف تنتهي. وكان من دواعي البُطء الذي استحكمَت في النفوس أسبابُه؛ صعوبةُ اتصال الناس بعضِهم ببعض إذا ما فرَّقَت بينهم مسافةٌ من الأرض؛ فالخطاب البريديُّ يحتاج إلى وقت طويل، والسفرُ يحتاج إلى وقت أطول، والأخبار تنتشر في أرجاء القُطر الواحد — ولا أقول في أرجاء العالم — على فترةٍ مديدة، قد تصل إلى بضعة أشهر؛ لم يكن في قريتنا مكتبٌ للبريد، وكان لا بُدَّ لإرسال الخطاب أو لتسلُّم خطابٍ من الذَّهاب إلى القرية المجاورة حيث المكتب، وكان مَن ينوي السفر يُعدُّ له، مهما يكن من قِصَر المسافة، وقُل في ذلك ما شئتَ بالنسبة إلى من يعتزمون السفرَ إلى أرض الحجاز لأداء فريضة الحج؛ فها هنا يكون الإعداد بما نظنُّه اليوم لا يتناسبُ إلَّا مع رحلةٍ إلى المريخ!

٢

لكن المفارقة العجيبة حقًّا هي ما كان بين هذه الصورة المعيشيَّة من جهة، والصورة الفكريةِ والثقافية من جهةٍ أخرى (وما زلتُ أتحدث عن الثلاثة العقودِ الأولى من هذا القرن)، فإذا كانت البساطةُ قد صحبَت الأولى، فإنَّ الحيوية قد صحبت الثانية؛ ففي الأولى سَذاجة، وفي الثانية عمق؛ في الأولى نطاقٌ محدود، وفي الثانية أفقٌ واسع، حتى لأستطيع المجازفة بالقول فأزعم أنَّ حياتنا — كما عرَفتُها إلى أن بلغتُ الثلاثين بل بعد أن جاوَزتُها — كانت مُصابةً بفصام خطير؛ فهنا بدنٌ يعيش — أو يكاد — في امتداد العصر التركي، وهناك عقل يتابع ثقافة العصر في آخر تطوراتها؛ هنا المحراث والنورج والساقية والشادوف والمنجل — تراها حيثما توجَّهتَ على الأرض المزروعة بما يسودها من بساطة عيش وبطءِ حركة — وهناك لطفي السيد والعقَّاد وطه حسين وهيكل وسلامة موسى، تُصادفهم في كل صحيفة ومجلة وكتاب.

لقد تجاورَت في مجتمعنا أضدادٌ نستطيع على وجه التعميم والإجمال أن نقول إنَّها أضداد استقطبَتها حياةُ الريف في ناحية، وحياةُ المدن — أو قُل حياة القاهرة — في ناحية أخرى؛ ففي الريف بلَغ من الناس استسلامُهم للخرافة حدًّا أقصى، وفي القاهرة بلغَت النزعةُ العقلانية بأئمة الفكر شوطًا بعيدًا؛ في الريف كان الإنتاج، برغم حياة الشَّظَف والفقر، وفي القاهرة كان الإنفاقُ في بذخ؛ في الريف امتدادٌ للعصور الوسطى في وسائل العيش، وفي القاهرة القصور والمسارح وأماكنُ السهرات اللاهية؛ أضدادٌ تجاورَت حتى شطَرَت مجتمعنا مجتمعين لا يكادان يلتقيان، وقد انعكس هذا الانشطارُ في نوعين من التعليم: مدني هنا وديني هناك، وفي نوعين من المحاكم: مدَنية هنا وشرعية هناك، وفي نوعين من أحياء السُّكنى وطرائق العيش: «إفرنجي» هنا و«بلدي» هناك، وفي نوعين من ضوابط السلوك؛ فالسلوك الجائز عند فريق «تفرنج» قليلًا أو كثيرًا، مجلبة للعار عند فريقٍ آخر يرعى التقاليد.

على أنَّ ما يعنيني الآن من هذه الأضداد ذلك التباينُ الحادُّ بين الحياة المعاشية في رُكودها وبُطئها وتخلفها، والحياة العقلية في نشاطها وحيويتها وسرعتها؛ وكان لا بُدَّ ليومٍ أن يجيء، يشتدُّ فيه الجذبُ بين حياة الواقع المادي البطيئة وحركة العقل السريعة، بحيث لا يكون ثَمة مَناصٌ من التصدُّع، وبحيث يتحتَّم على الحياة المادية البطيئة المتخلفة أن تُعيد بناءها لتلحق بالفكر في طيرانه ووُثوبه؛ وذلك هو ما حدث — بدرجةٍ متواضعة أولَ الأمر — في الحركة الاقتصادية والصناعية التي بدأها روَّادٌ أوائل مثلُ طلعت حرب، ثم حدث بدرجةٍ قوية طموحٌ بالثورة الاقتصادية والاجتماعية الجذرية الشاملة، ثورة ٢٣ من يوليو سنة ١٩٥٢م، التي جاءت لتُغير الصورة المعيشية تغييرًا كاملًا؛ فإذا كانت العين لم تألَفْ — في السنوات التي رسمَت صورتها سنوات العقود الثلاثة الأولى — أن ترى على الأرض الزراعية مكنةً تُدار ببخار أو كهرباء، فأحسبها اليوم واقعةً على الآلات الزراعية المتقدمة، في الأرض المنزرعة وفي الأرض المستصلَحة، بنسبةٍ لا بأس بمقدارها، وإذا كانت العين خلال تلك الفترة لم تألف أن ترى في سماء المدن إلَّا المآذنَ فوق المساجد؛ فهي اليوم تألفُ أن ترى مداخنَ المصانع إلى جانب مآذن المساجد، فيكون ذلك عندها أجملَ رمز وأصدقَه، على أنَّ حياتنا قد اتَّحد فيها دينٌ ودنيا، كما أراد لهما الإسلامُ أن يتَّحدا.

تصدَّعَت الحياة الاقتصادية البطيئة الراكدة بفعل الجذب الشديد الذي وقع عليها من ناحية الحياة الفكرية التي تقدمَت حتى انقطعَت كلُّ صلةٍ بينها وبين الركود الاقتصادي، كما يتبدَّى هذا الركودُ في حياة الفلاح المتوسط، وهل نخطئ إذا قلنا إنَّ ثورة ١٩٥٢م إنْ هي في صميمِها إلا ثورةٌ أُريدَ بها أن تُغير من أوضاع الحياة المادية تغييرًا من شأنه أن يَزيد من سرعة نشاطها لتلحقَ بالحياة الفكرية، حتى إذا ما توازَيا، سار المجتمعُ بعدئذٍ في تكامله سيرًا فيه اتزانٌ بين الرأس والبدن؟!

انتقلَت الحركة من الأسرع إلى الأبطأ، على نحوٍ شبيه بما يحدث حين تنتقل الحرارة دائمًا من الجسم الأسخن إلى الجسم الأبرد إذا تلامَسا؛ ضع قطعةً من الحديد الساخن ملامِسةً لقطعةٍ أخرى من الحديد البارد، تجدْ أنَّ الحرارة تنساب من الأولى إلى الثانية حتى تتعادلَ بينهما درجةُ الحرارة، وليس في ذلك شيءٌ من ضرورة التَّحتيم؛ فقد كان يُمكن للعكس أن يكون هو الأمرَ الواقع، بحيث تزيد حرارةُ الحار، كما تزيد برودة البارد، على أن يظلَّ مجموعُ الحرارتين ثابتًا؛ كان يُمكن لاتجاهِ السير أن يكون على هذا النحو العكسي، لكنْ هكذا وقع ما وقع، فرصدناه في قانون، يُسمونه القانون الثانيَ للديناميكا الحرارية، وكذلك قُل في الجانب الاقتصادي من الحياة، وفي جانبها العقلي، فإنَّ الحركة تنتقل من أكثر الجانبين نشاطًا إلى أقلِّهما، وقد حدث في مصر، كما عهدتُها في العقود الأولى من هذا القرن، أنْ كان النشاط الأوفر في حياة الفكر، والنشاط الأقلُّ في حياة الزراعة والصناعة، فانتقلَت الحركة من الأولى إلى الثانية، لكنَّه انتقالٌ تطلَّب ثورةً كُبرى لتُحدِثَه، كما يتطلبُ المريض بالعُصَاب هزَّة كهربائية تصدمه ليُفيق؛ على أنِّي لا أريد أن أتركَ هذا الموضوعَ من الحديث، قبل أن أثبتَ ظنًّا يدور الآن في خاطري، وهو أنَّ هذا الترتيب بين الحياتين قد يُعكَس في بلد آخر، بحيث يكون السبقُ للحياة الاقتصادية المادية على حياة الفكر، فعندئذٍ — فيما أظن — تجيء الثورة عقلية؛ ليزيدَ الفكرُ من حركته حتى يلحقَ بازدهار الحياة الاقتصادية، وربما كان ذلك هو ما حدث في القرن التاسعَ عشر في أوروبا، حين أحدثَت الثورةُ الصناعية زيادةً في الإنتاج، تلَكَّأ دونها الفكر، فثار الفكرُ في منتصف القرن ليُحدث في نفسه انقلابًا يُمكِّنه من سرعة السير.

وأعود إلى صورة بلدي كما رأيتُها في النصف الأول من حياتي؛ لأرى كيف تبدَّلَت، أمَا يزال الفرق شاسعًا بين خطِّ العرض الذي يعيش فيه مفكرُ القاهرة، وخط العرض الذي يعيش فيه زارعُ الأرض في الريف؟ هل ما تزال مسافةُ الخُلْف بين فلَّاح القرية اليوم وبين كاتبٍ في القاهرة مثل الدكتور حسين فوزي، هي نفسها المسافة التي كانت بالأمس بين فلاح القرية وكاتبٍ في القاهرة عندئذٍ كالعقَّاد؟ أو لأضَع السؤالَ في صيغة أكثرَ توضيحًا للنقطة المطروحة، فأقول: هل الصلة بين توفيق الحكيم حين أصدرَ مسرحية أهل الكهف في أوائل الثلاثينيَّات، وبين فلاح القرية حينئذٍ، شبيهةٌ بالصلة بين توفيق الحكيم حين أصدر مسرحية الصفقة أو الأيدي الناعمة وبين فلاح القرية اليوم؟ لا أظن ذلك؛ فالمسافة قد قربت إلى درجة كبيرة بين الطرفين.

لم تكن مشكلاتُ المفكرين بالأمس لتعنيَ شيئًا عند ساكن الريف؛ فماذا يهم زارعَ الأرض في الريف، بكل ما كان يحمله في حياته من أعباءٍ ثِقال، لا تترك له من نتيجة جهده طوالَ العام ما يملأ جوفَه ويكسو عُرْيَه، ماذا يهمه إذا كانت ثقافةُ السكسون أفضلَ من ثقافة اللاتين أو كانت هذه أفضلَ من تلك؟! وقد كانت هذه مشكلةً فكرية عندنا ذات يوم، ماذا يهمه إذا كان الشعر الجاهلي قد جنى على الشعر العربيِّ المعاصر أو كان ذلك الشعر الجاهليُّ مصدرًا لقوةِ هذا الشعر المعاصر؟! وقد كانت هذه مشكلةً ثانية، بل ماذا يهمُّه إذا كتبنا بأحرفٍ عربية أو كتبنا بأحرفٍ لاتينية؟! وقد كانت هذه مشكلةً ثالثة، لا، لم يكن يهمه شيءٌ من هذا؛ ولذلك بُتِرَت العلاقة بترًا بين سكَّان القرية وكاتب القاهرة؛ لِتَخلُّف الأول بالنسبة إلى الثاني من جهة، ولأنَّ الثانيَ مهتمٌّ بأمور لا شأنَ للأول بها من جهة أخرى.

أمَّا صورة اليوم فقد اختلفَت اختلافًا بعيدًا؛ فالمشكلات التي يُثيرها كُتَّاب المسرحية والقصة الطويلة أو القصيرة، هي نفسها المشكلاتُ التي تعتمل في نفسِ الريفي: علاقة الناس بعضِهم ببعض، وعلاقتهم بالثروة ومصادرها وبالسلطانِ ومراكزه، وغير هذا وذلك مما يضرب في صَميم الحياة، ثم جاء الراديو وجاء التلفزيون، فأثَّرا في نوع الكتابة بقدرِ ما أثَّرَت الكتابةُ فيهما؛ فأصبح كاتبُ المسرحية مثلًا لا يَخُطُّ حرفًا إلَّا والشاشةُ ماثلةٌ أمام بصره، فماذا يصلح لها وماذا لا يصلح، وبالتالي: ماذا سيُشاهد الريفيُّ وماذا سيسمع بحيث يتأثر أو لا يتأثر؟

فبُطء الحياة بالأمس، وبطء الحركة، وبطء الانتقال والاتصال؛ قد انقلَب اليوم سرعةً سريعة، مما أدَّى إلى أن سارت القريةُ أشواطًا في سبيل وصولها إلى القاهرة؛ حلَّاق الصحة في القرية قد حلَّ محله طبيبٌ أو أكثرُ من طبيب، ومُقْرِض المال للفلاح قد حلَّ محلَّه جمعياتٌ تعاونية وبنوك ائتمان؛ فلا أظن أنَّ الشيخ الذي قصصتُ قصته، لو كان يعيش اليوم، كان يُفاجأ بما فوجئ به من إفلاس.

قُلت إنَّه كان من المفارَقات التي تلفتُ النظر أن ترى سيدةً وفي يدها جريدةٌ أو كتاب، وأنا أترك للقارئ أن يُحدِّثنا هو عن المفارقة التي تَلفت أنظارَنا اليوم؛ إنَّها اليوم لَمفارقة أن نرى فتاةً قعيدة البيت لم تختلف إلى معهد أو جامعة، ولم تَشغل نفسَها بعمل بعد ذلك، إنَّك اليوم إذا طالبتَ امرأةً بالتوقيع؛ فلا تتوقَّع منها ما كنتَ تتوقعه بالأمس، من أنَّها ستُخرج ختمها لتختم أو ستمدُّ إبهامها لتبصم، بل تتوقَّع منها أن تُخْرِج قلم الحبر من حقيبتها لتوقِّع بعد أن تُجادلك في مبررات التوقيع.

تُرى إذا عاد الزمنُ بصديقي الطبيب، الذي وضَع ماله في أرض لا يُحسن زراعتها، ليقولَ الناسُ عنه إنَّه ذهب إلى العزبة وعاد من العزبة؛ كسبًا للجاه وبُعْد الصيت، فهل يظلُّ على رأيه بأن يغتصب الأرض من زارعيها بماله بُغْيةَ الجاه؟ أو إنَّه سيجد ذلك — اليوم — ما يأباه الإدراكُ السليم؛ فالأرض للزرع لا لاكتساب السطوة والسلطان! لكنَّها كانت بقايا إقطاع تمكَّنَت من النفوس، وذهبَت اليوم وذهب ريحُها.

تغيرَت صورةُ الحياة بين أمسِها ويومها، ومن ذا يعلمُ ماذا تكون غدًا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤