إنسانية العلم

المذهب الإنسانيُّ في الفلسفة — أو «الإنسية» كما أرادنا المرحوم إسماعيل مظهر أن نُسميَه — هو في صميمه صرخةُ احتجاج على كل ضربٍ من ضروب الفكر أو الحياة، يؤدي إلى التضحية بالإنسان من حيث هو كائنٌ حي متكامل بعاطفتِه وعقله، التضحية به من أجل أيِّ شيء آخر سواه، كأن يُضحيَ بهذه الدنيا من أجل الآخرة، أو أن يُضحيَ بالعاطفة من أجل العقل، أو أن يُضحي بالروح من أجل المادة، أو بالمادة من أجل الروح، أو بالحياة الفكرية من أجل الحياة العمَلية، أو بهذه من أجل تلك؛ فلئن كانت العصورُ الوسطى — في أوروبا — قد سادتها روحٌ تُطالب الإنسان بأن يئِدَ رغباته الجسدية وغرائزه الفطرية الحيوية، فإنَّ ثورةً كان لا بُدَّ لها عندئذٍ أن تجيءَ لتُعيد الإنسان إلى إنسانيته بكل ما فُطِرَت عليه؛ فليس الإنسانُ بإله، كلا، ولا هو بحيوان، إنَّما هو كائن أُريدَ به أن يقف حلقة وُسطى بين السماء والأرض، يأخذ من الأولى رُوحانيتَها ومن الثانية ماديتها، ثم يجاور في شخصه بين الجانبين، والعكس صحيح كذلك؛ أي إنَّه إذا كانت الثورةُ الصناعية في القرن الماضي قد أرادت — في أوروبا أيضًا — أن تقتلعَ الإنسان من جذوره الروحانية كلِّها لتضعَه في المصانع آلةً من آلاتها؛ فإنَّ ثورةً على الثورة كان لا بُدَّ لها أن تظهرَ لتُعيد للإنسان إنسانيته — في الاتجاه المضاد هذه المرة — وهكذا كلما اقتضَت ظروفُ الحضارة في عصرٍ من العصور أن ينطمسَ من طبيعة الإنسان جانب لحسابِ جانب؛ تحتم أن يخرج للناس فيلسوف «إنساني» يُصحح الخطأ ويعيد للإنسان توازنَه المفقود.

وإنَّه لَمن حسنات الثقافة الإسلامية — فيما له صلةٌ بموضوع حديثنا — أنَّها في جوهرها ثقافةٌ لا تُضحي من الإنسان بجانبٍ من أجل جانب؛ فهو مخلوقٌ للدنيا وللآخرة معًا، للجسد وللرُّوح معًا، للنشاط العملي في هذه الحياة وللسَّبَحات الروحية في سبيلِ حياةٍ آخِرة؛ ولهذا لم تكن هذه الثقافة الإسلامية بحاجةٍ ماسة إلى أنصارٍ للمذهب الإنساني يصرخون احتجاجًا على ذلك أو على هذا، كما كانت الثقافة الأوروبية بحاجة؛ لكننا لم ندَعْ ثقافتنا الأصلية تسير في مجراها، فأدخلنا عليها عناصرَ اقتضَتها ظروفٌ حضارية حديثة، ومن ثَم هبَّت علينا الأنواءُ التي تميل بشراع السفينة إلى اليمين أكثرَ مما ينبغي تارة، وإلى اليسار أكثر مما ينبغي تارةً أخرى، إلى الإيغال في العقل ولوازمه مرة، وإلى الإيغال في العاطفة وملحَقاتها مرة، فأصبَحْنا بحاجةٍ إلى «مذهب إنساني» يظهر حينًا بعد حين ليُصحح الخطأ ويُعيد تعادُلَ الميزان.

وليس في هذا كله علينا من بأسٍ نخشاه، لكن البأس هو في أن تقعَ الثقافة الأوروبية في خطأ فنقَع فيه مثلها، حتى لو لم تكن حياتنا تستلزم الوقوعَ فيه! ذلك أنَّ المصادفة البحتة قد أدَّت بأصحاب المذهب الإنساني في أوروبا إبَّان نهضتها، أن يرتدُّوا إلى تراثهم اليونانيِّ واللاتيني؛ ليلتمسوا فيه صورةَ الإنسان المتكامل بعاطفته وعقله، وأن يُغفلوا العلومَ الطبيعية من الصورة التي أرادوا تصويرها، لحداثةِ تلك العلوم الطبيعية عندئذٍ؛ فجاءت الأجيال التالية، ليظنَّ أبناؤها أنَّ الصورة الإنسانية المُثْلى، التي تتوافر فيها القيمُ الرفيعة وتتحقَّق بها الغايات القصوى، هي في ثقافةٍ إنسانية من النوع الذي رسمَه أنصار المذهب الإنساني في أوروبا النهضة، بلا زيادة ولا نقصان؛ فإذا كان هؤلاء قد ارتدُّوا إلى التراث اليوناني واللاتيني، فلا مَناص لنا — نحن أنصارَ المذهب الإنساني الحديث — من أن نرتدَّ إلى هذا التراث نفسِه بغير تحريف، وإذا كان هؤلاء الروادُ قد أغفَلوا ذكر العلوم الطبيعية في الصورة الإنسانية كما رسموها لمُعاصريهم، فلا مناص لنا كذلك — نحن أنصارَ المذهب الإنساني الحديث — من إغفال تلك العلوم؛ وبهذا نقعُ في خطأٍ مزدوج، فلا التراث اليوناني واللاتيني بضرورةٍ ليس عنها من مَحِيص لمن يريد أن يُهيِّئ للإنسان حياةً ثقافية إنسانية متَّزنة العناصر، ولا إغفال العلوم الطبيعية بشرطٍ محتوم لكي تتوافر للقيم الإنسانية ظروفُها المواتية.

ومن هذا الخطأ المزدوج ترتَّبَت عندنا — في ثقافتنا العربية الحديثة — نتائج، منها أنَّ قادة التعليم الجامعي في بلادنا، اشترطوا دراسةَ اليونانية واللاتينية، كأنَّما هما لازمتان لا غنى عنهما لمن أراد أن تتكاملَ ثقافته، وكأنَّهما لم تكونا إبَّان النهضةِ الأوروبية لَصيقتين بطبيعة الثقافة الأوروبية عندئذٍ، في خروجها من ضيق العصور الوسطى إلى رَحابة العصور الحديثة؛ ومن تلك النتائج أيضًا أنْ قرَّ في أذهاننا أنَّ القيم الإنسانية العليا لا تُصاحب العلومَ الطبيعية، ما دام قادةُ المذهب الإنساني في أوروبا إبَّان نهضتها قد أغفَلوا تلك العلومَ من الصورة المُثْلى، وكأنما إغفالُهم هذا لم يكن صُدفة محضة، بل كان ضرورة حتمية تدوم مع العصور جميعًا؛ ولهذا أصبح مألوفًا على ألْسِنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، أن نسمع وأن نقرأ بأنَّ المغالاة في العلوم الطبيعية على حساب الدراسات الإنسانية قد يكون مَفسدةً لكِياننا الإنساني! ونريد بهذا الحديث بيانَ الخطأ في هذين الموضعين.

أما عن دراسة اليونانية واللاتينية؛ فأُحبُّ أن أجعلها واضحةً منذ البداية. إنَّ موضوع الحديث هنا ليس هو ضرورةَ هذه الدراسة من حيث إنَّ هاتين اللغتين أصلٌ ثقافي، لا بُدَّ من دراسته إذا أردنا أن ندرس فروعًا كثيرة أخرى، كالفلسفة والقانون الروماني، بل إذا أردنا أن نكون على علم من الداخل بالمصطلح العِلمي في فروع العلوم الطبيعية جميعًا؛ فدراسة هاتين اللغتين ضرورةٌ ليس لنا حِيالَها اختيار؛ لكنَّ موضوع الحديث هنا هو السؤال عمَّا إذا كانت دراسةُ هاتين اللغتين، وما كُتب بهما من تراثٍ يوناني وروماني، ضرورةً تقتضيها النظرةُ «الإنسانية»، كما كانت الحال في نظر النهضة الأوروبية. والرأي عندي هو أنَّ ما قد عُدَّ ضرورةً إنسانية في أوروبا النهضة — وفي إيطاليا بصفة خاصة — إنَّما عُدَّ كذلك للصلةِ الشديدة التي كانت تربط الثقافةَ الأوروبية بسالفتَيها من يونانيةٍ ولاتينية، فإذا أرادت تلك الثقافةُ أن تتنفَّس الهواء الطَّلْق، بعد أن فكَّت عن خِناقها قبضةَ اللاهوتيين إبَّان العصور الوسطى؛ فأين كانت لتجدَ ذلك الهواء الطَّلْق تتنفسُه إلا في تراثها، ولا سيما أن ذلك التراث يحملُ في حصائله كلَّ ما كان ينقص الإنسانَ الثائر على القيود، من قيم الحركة الفكرية، وحبِّ الحياة؟!

فإذا أردنا نحن اليوم أن نصنع الصنيعَ نفسَه، بأن نُتيح للإنسان ثقافةً تُمكِّنه من اكتسابِ القيم الإنسانية التي يَنشُدها، فإنَّما يتحقق لنا ذلك، لا بضرورة التوسُّع في دراسة اليونانية واللاتينية، بل بضرورة الاستعانة بتراثنا نحن، كما استعانت أوروبا النهضة بتراثها؛ وبذلك تتحقق الموازاةُ بين الموقفين.

أقول ذلك عابرًا، بعد أن لم تَعُد مسألةُ اليونانية واللاتينية قضيةً تَشغل الأذهان، كما كانت تَشغلها في الثلاثينيات؛ فقد راجعت ما قاله أستاذنا الدكتور طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» (١٩٣٨م)، وقد خصَّص للحديث في هذا الموضوع فصلًا كاملًا (من صفحة ٢٧٥ إلى صفحة ٢٩٩، في الجزء الثاني من الكتاب)، يَعرض فيه رأيَه في ضرورة اليونانية واللاتينية لا في تعليمنا الجامعيِّ وحدَه، بل في التعليم الثانوي كذلك، ما دام هذا التعليم الثانوي مرحلةً مؤدِّية إلى المرحلة الجامعية؛ وقد خُيِّل إليَّ أنَّ أستاذنا في دفاعه الحار، لم يَقصُر أهمية تلك اللغتين على كونهما مادتَين دراسيتين بين الموادِّ الدراسية الواجبِ قيامُها في المدارس والجامعات، بل جاوز ذلك ليجعل لهما مكانةً أخرى ممتازة، تُشبه المكانةَ التي كانت لهما عند أنصار الدعوة «الإنسانية» في تاريخ أوروبا الحديث، يقول: «وأنا مؤمنٌ أشدَّ الإيمان وأعمقَه وأقواه، بأنَّ مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن تُفلح في تدبير بعض مرافقها الثقافية المهمة، إلَّا إذا عُنِيَت بهاتين اللغتين، لا في الجامعة وحدَها، بل في التعليم العامِّ قبل كل شيء»، ويقول أيضًا: «إنَّ التخصص في أيِّ فرع من فروع الدراسات الأدبية، التخصصَ الصحيح، لا سبيل إليه إلَّا إذا استعدَّ الطلابُ له بمعرفة اللاتينية دائمًا، واليونانية أحيانًا، فلا بُدَّ أن يُهَيَّأ الطلاب في المدارس العامة لهذا التخصص» (يقصد في المدارس الثانوية).

وإنِّي لأقرن هذا الاهتمامَ كلَّه من أستاذنا — وربما كان لذلك الاهتمام مبرراتُه في حينِه — أقول إنِّي لأَقرن اهتمامَ أستاذنا بما ليس له صلةٌ وثيقة مباشرة بحياتنا الثقافية، أقرنه برأيٍ للفيلسوف الأمريكي «رالف بارتون بري» — وقد كان أستاذًا للفلسفة في هارفارد معظمَ حياته العاملة، بل وبعد أن بلغ سنَّ التقاعد سنة ١٩٤٦م، إلى أن تُوفي منذ قريب — إذ يقول في كتابه «إنسانية الإنسان» ما ترجمَتُه: «لقد كان حدثًا تاريخيًّا عارضًا هنا أنَّ الماضيَ الذي شعر نحوه أصحابُ المذهب الإنساني الإيطاليُّون في القرنَين الرابع عشر والخامسَ عشر، بذلك الإجلال العظيم، هو عصر الحضارة اليونانية الرومانية؛ كان هذا تاريخهم هم بالمعنى المزدوج، فقد كان بالنسبة إليهم ماضيَهم المباشرَ الذي ارتبَطوا به بالاستمرار الثقافي، بينما كان الأدب اللاتينيُّ أدبَهم القومي، وكانت اللغةُ اللاتينية لسانَ أجدادهم، إلى جانب كونها اللغةَ المتواضَعَ عليها للعالم المثقَّف؛ أمَّا الثقافة اليونانية فإنَّها كانت قد غزَت الثقافة الرومانية، ولم يتطلَّب إحياءُ اللغة والأدب اليونانِيَّين إلَّا متابعةَ النهر إلى منبعه، غير أن المعنى الذي كانت تحمله اليونانية واللاتينية لأصحاب المذهب الإنساني الإيطاليين، لم يَعُد يحمل المعنى نفسه لأيِّ مكانٍ آخر أو زمان».

وأكرِّر القول بأن الاعتراض هنا ليس موجَّهًا إلى دراسة اليونانية واللاتينية من حيث هما، وباعتبارهما جزءًا من التراث الإنسانيِّ الذي لا بُدَّ من دراسته، بل هو موجَّهٌ إلى أيِّ اتجاه يريد أن يجعل منهما النبعَ الأساسي الذي نستمدُّ منه قيمَنا الإنسانية، إذا ما أردنا أن نُنشئ للإنسان العربي الحديث شخصيةً متكاملة؛ إذ النبع الأساسيُّ لهذا الإنسان العربي، هو المقابل العربي للتراث اليوناني اللاتيني بالنسبة لأوروبا، أعني أنه هو التراث العربي بما يحمله من قيم.

٣

ذلك هو أحدُ الخطأَين اللذَين تورَّطنا فيهما مع مَن تورط، ممَّن جعلوا نموذج المذهبِ الإنساني الذي يُنشَد للإنسان أن يكون هدفًا مقصودًا لذاته، حرًّا في تفكيره، متحررًا من قيوده، مستمتعًا بحياته الدنيا؛ أقول ممَّن جعلوا نموذجَ هذا المذهب الإنساني هو ما أعلنه أنصارُ ذلك المذهب في أوروبا إبَّان نهضتها، فنقلوا عنهم حرفًا بحرف، فإذا كان هؤلاء الأنصارُ قد عادوا إلى التراث الكلاسيِّ ليُحرروا الإنسانَ من نِير العصور الوسطى؛ فلا بُدَّ لنا كذلك أن نعود إلى هذا التراث الكلاسيِّ نفسِه؛ على حينِ أن العبرة هي في «التراث» — ولكلٍّ تراثُه — لا في ضرورة أن يكون ذلك التراثُ هو اليونانيَّ الروماني دون سواه.

أقول إنَّ ذلك هو أحد الخطأَين، وأما الخطأ الثاني فهو أن نتورَّط مرةً أخرى فيما فعله رجالُ النهضة الأوروبية، عند عودتهم إلى المذهب الإنساني بعد ظلام العصور الوسطى، وهو أن يُغفلوا العلومَ الطبيعية من حيث هي مصدرٌ للقيم الإنسانية التي تجعل من الإنسان إنسانًا؛ فكلما توسَّعنا في العلوم الطبيعية بُغيةَ إقامة حياةٍ جديدة تُساير العصرَ الحاضر في عِلمه وصناعته؛ أشفق المثقفون، خشية أن يكون ذلك التوسُّع مؤديًا إلى جدبٍ في القيم الإنسانية، على اعتبارِ أن هذه القيم تنشأ — أكثرَ ما تنشأ — من «العلوم الإنسانية» كالتاريخ والفلسفة ودراسة اللغة والأدب.

ونريد هنا أن نؤكِّد ما يصحِّح هذا الخطأ، بأنْ لا تَعارُضَ بين العلم الطبيعي والمذهب الإنساني؛ بل إنَّ رجال النهضة الأوروبية أنفُسَهم — الذين نتَّخذهم نموذجَنا في الدعوة الإنسانية — لم يُعارضوا بين العلم الطبيعي والقيم الإنسانية، لم يقولوا إنَّ هذه القيمَ لا تنشأ عن ذلك العلم، وهم إذا كانوا في دعوتهم الإنسانية قد أغفَلوا العلم الطبيعي؛ فذلك لأن هذا العلمَ كان قد وُلِد لتَوِّه في الحضارة الأوروبية قويًّا مَكينًا على أيدي جاليليو وكوبرنيق ونيوتن وغيرهم، فلم يكن بحاجةٍ إلى مَن يؤكد ضرورته، وهو الوليد القويُّ الذي وُلِد من الثورة على القرون الوسطى؛ ليكون فجرَ العالم الجديد.

أنه مهما اختلفَت الزوايا التي يُنظَر منها إلى المذهب الإنساني، ومهما اختلفَت خصائصُ هذا المذهب باختلاف المتكلِّمين في فلسفته؛ فالرأي مُجمَعٌ على أن الأساس الأول والهدف الأخير هما أن نكفل للإنسان حياةً نعترف له فيها بحقوقه الإنسانية في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض، وإذا كان ذلك كذلك؛ فبأيِّ شيء نكفل له هذه الحقوقَ الإنسانية أكثرَ مما نكفلها له بالعلوم الطبيعية، وبخاصةٍ في عصرِ تطبيقها على الحياة العلمية؟ أنكفُلها له بأبراجٍ عاجيَّة — كما يقولون — يعتزل فيها المثقَّفون بثقافات «إنسانية» من النوع الذي لا يبني البيوتَ ولا يُقيم الجسور ولا يُنبت الطعام ولا ينسج الثياب؟! إنَّ تلك الأبراج العاجية نفسَها بحاجةٍ إلى من يُقِيمها بالعلم وتطبيقاته؛ والحقُّ أن الحَلْقة في هذا حلْقةٌ مُفرَغة؛ فالعلم وتطبيقاته على الحياة شرطٌ أساسي لازدهار الحياة، ثم يجيء هذا الازدهار بدوره شرطًا أساسيًّا لتقدُّم العلم وتطبيقاته؛ ولك أن تستعرضَ عصور التاريخ الحضاري، وستجدُ عندئذٍ أنَّ تقدُّم العلم وارتفاعَ المستوى المعيشيِّ يكادان يكونان متلازمَين حيثما وقعا، فلم يتقدَّم العلم بدرجةٍ ملحوظة إلَّا في عصرٍ ازدهرت فيه ظروفُ العيش، ولم تزدهر هذه الظروف في عصرٍ أو في بلد إلَّا ومعها تقدُّمٌ في العلم؛ ممَّا يؤكد العلاقة الوثيقة بين العلم الطبيعي وحياة الإنسان في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض، وهي الحياة التي يدعو إليها المذهب الإنساني.

يخاف الخائفون من طُغيان العلم وتقنياته، ومَصانعه ومَعامله وآلاته، أن يؤديَ ذلك إلى جفاف العاطفة الإنسانية ويُبوسِها وذبولها، على اعتبار أن العاطفةَ لا مكان لها في حياةٍ يسودها العلمُ ومُلحَقاته! وإني لأنتهز هذه الفرصةَ لأُشير إلى هذه المقابلة الزائفة التي كثيرًا ما يُقابل بها الناسُ بين العقل والعاطفة، حاسبين أنَّ الأمر إمَّا عقلٌ أو عاطفة؛ وحقيقة الموقف هي أنَّ لكلٍّ من العقل والعاطفة مهمةً مختلفة، والمهمتان متكاملتان في كل عملية من مَجرى النشاط اليومي؛ وذلك أن الإنسان يختار أهدافَه بالعاطفة، ثم يُخطِّط الخطط بالعقل لتحقيقِ تلك الأهداف.

إن كلمة «العقل» لا تُطلَق إلَّا على الحركة الانتقالية من المقدمات إلى نتائجها، ومن المراحل إلى غاياتها؛ وأمَّا الإدراك لشيءٍ بذاته، كأن أنظرَ — مثلًا — إلى هذه البقعة اللونية الصفراء التي أمامي، أو كأن أركزَ الذهنَ في فكرةٍ من الأفكار أو في مبدأٍ من المبادئ مجردَ تركيز، دون انتقالٍ منه إلى نتائجه التي تتفرعُ عنه، فذلك لا يندرجُ في مفهوم العقل، وله أسماءٌ أخرى؛ فهو إدراك حِسيٌّ في حالة البقعة اللونية، وهو إدراكٌ حَدْسي في حالة التركيز الذهني على فكرةٍ أو على مبدأ معيَّن، لا تتزحزحُ عنه إلى ما يترتَّب عليه من أفكارٍ وأعمال؛ ولذلك كان التخطيطُ لمراحل السَّير المحققة لهدف معين، فاعليةً عقلية، كالسير في خطوات الحل لمسألةٍ رياضية، أو في خُطواتٍ لبلوغ شاطئ البحر أو قمة الجبل، أو كالسَّير في خطوات تُحقق مضاعفةَ الدخل القوميِّ كذا مرة، وتوسيع الرقعة المزروعة كذا فدانًا من الأرض، وهكذا وهكذا … «العقل» سيرٌ منظَّم نحو هدفٍ مقصود، وحيث لا «سير» فلا عقل، ثم لا يكون هنالك سيرٌ منظم إلَّا إذا كان هنالك هدفٌ معلوم يجيء السيرُ سيرًا نحوه ليُحققه.

وأمَّا اختيار الهدف فعمليةٌ «إرادية» تتم بالرغبة — أي بالجانب العاطفي من الإنسان؛ إذ إن كل «ميل» عاطفة — والإرادة والرغبة والعاطفة والميل كلُّها أسماءٌ تُطلَق على ما ليس بعقلٍ في تيار النشاط الإنساني؛ افرض أنني اخترتُ لنفسي «هدفًا» قريبًا من أهداف حياتي اليومية، هو أن أكتب مقالةً في المذهب الإنساني وعلاقته بالعلوم الطبيعية، فليس هذا الاختيارُ في حد ذاته عمليةً «عقلية»، لكنَّه اختيارٌ كان يُمكن ألَّا يكون، كان يُمكن مثلًا أن أختار موضوعًا آخَر للكتابة، أو أن أختار عدم الكتابة إطلاقًا؛ الاختيار إرادةٌ ورغبة ومَيل؛ لكنَّه إذا ما تم؛ أصبح الهدفُ المختار أمرًا يُريد أن يتحقق، فكيف يكون ذلك؟ ها هنا تبدأ العمليةُ «العقلية»، ترسم المراحلَ والخطوات، حتى يتحولَ الهدف المختار من مجرد رغبةٍ وميل إلى واقع ماثل محسوس.

وأعود إلى ما بدأتُ الحديث فيه، وهو خشية أنصار العاطفة أن يؤديَ طغيان العلوم الطبيعية إلى وَأْدِ العاطفة، فنقول إنها على عكسِ ذلك تمامًا، ستضع في أيدينا وسائلَ كثيرةً لتحقيق أهدافنا — ولا تنسَ أنَّ الهدف قد اختارته العاطفةُ ولا دخل للعقل فيه — فبالعاطفة أردتُ مثلًا أن أرقى بمستوى العيش في أسرتي، وبوسائل العلوم الطبيعية (أي بالعقل) استطعتُ تحقيقَ ما قد رغبتُ في تحقيقه، ولا تقُل إنَّ وسائل العلوم الطبيعية وتطبيقاتها منصرفةٌ إلى راحة الجسد، ولا شأنَ لها بالجوانب الروحانية من الإنسان، لا تقُل ذلك لأنَّه بغير الجسد لا ركوعَ ولا سجود ولا قراءة ولا بصَر ولا سمع، فالجانبان إذن وجهان لكائنٍ موحَّد واحد.

٤

اختلاجةٌ مذعورة نشهدها كلما سارت حضارةُ عصرنا خطوةً نحو مزيدٍ من العلم ومن التقنيات ومن المعامل ومن المصانع؛ خشيةَ أن تضيع على الإنسان بساطةُ العيش أيام الرعي أو الزراعة اليدوية، والبديل الذي يقترحُه المشفق المذعور، هو العلوم الإنسانية؛ لأنها هي التي تغرس القيمَ في النفوس، وحتى لو اضطرَّتنا الحضارةُ العِلمية أن نَزيد من اشتغالنا بالعلم الطبيعي، فلا بُدَّ عندئذٍ — هكذا يقول المشفق المذعور — من إدخال شيءٍ من العلوم الإنسانية تخفيفًا من وَقْع الحياة العِلمية الصناعية على حياة الإنسان.

وهنا أيضًا يحتاجُ الأمر إلى شرحٍ وتوضيح؛ فمتى تؤدي الدراسةُ ومتى لا تؤدي إلى تكوينِ الإنسان على النحو الذي نريده، سواءٌ كانت تلك الدراسةُ من العلوم الطبيعية أو كانت من العلوم الإنسانية؟ لماذا يُظنُّ أنَّ دراسة التاريخ والجغرافيا والفلسفة تُقيم الإنسان متكاملًا معتقدًا في القيم الإنسانية العُليا، وأنَّ دراسة البيولوجيا والكيمياء والطبيعة تُفتِّت بِناء الإنسان وتُفْقِده المُثُل السامية؟!

إنَّ الأمر مرهونٌ بالهدف المقصود، وبطريقة الوصول إليه؛ فكل دراسة تُشعر الإنسانَ بإنسانيته، من حيث هو كائنٌ حرُّ الفكر، حر الإرادة، يختار الأهدافَ كما يشاء، ويُفكر لتحقيقها بغير معوقات وحوائل، لا بُدَّ مؤديةٌ آخِرَ الأمر إلى الإنسان الذي يريده المذهب الإنساني؛ فليس الخوف من العلوم الطبيعية في ذاتها، ولا من العلوم الإنسانية في ذاتها، بل الخوف هو من أن يدخل الدارسُ إلى رحاب هذه العلوم أو تلك، محدودَ النظر، فيفقدَ بهذا التحديدِ أولَ شروط الحركة الإنسانية، وأعني بهذه الشروط الأساسية أن يكون مطروحًا أمامه في الأفق من المبادئ والأفكار ما يُمكِّنه من الاختيار تحقيقًا لأهدافه؛ وهذا هو بعينه ما يُقال إنه موجودٌ في الدراسات الإنسانية، ومعدومٌ في العلوم الطبيعية؛ إذ يُقال إنَّ هذه العلومَ الطبيعية من شأنها التخصُّص الذي يضيق الأفق، ويسدُّ طريق الاختيار الحرِّ بين ممكناتٍ كثيرة، لكنَّ تحليلًا أدقَّ وأوفى للعلوم الطبيعية ومناهج البحث فيها، يُبين أنها لو قُدمَت على الوجه الصحيح؛ لأتاحت الفرصةَ نفسَها، من حيث اتساعُ الأفق، وإمكانُ المقارنة، وحرية الاختيار، التي تُقدمها أيُّ دراسةٍ منهجية في ميدان العلوم الإنسانية.

ويُقال فيما يُقال إن العلوم الطبيعية من شأنها أن تحصر الانتباه والاهتمامَ في جانب المنفعة وحدَه دون سائر الجوانب التي يُجاوز بها الإنسانُ في حياته حدودَ المنفعة، وبذلك النظر الجزئيِّ إلى طبيعة الإنسان يفقد الإنسانُ تكامله، على حينِ أن العلوم الإنسانية عادةً تنظر إلى الإنسان في فاعليته من حيث هو كائنٌ متكامل، يُحبُّ المنفعة، ويُحب الطموح، ويُحب الخيال، ويُحب التأمُّل، ويُحب أشياءَ كثيرةً جدًّا مما يُجاوز به قيودَ اللحظة الراهنة؛ لكنَّنا نقول إنَّ العلوم الطبيعية إذا دُرسَت من حيث هي دراسةٌ للبيئة التي يعيش فيها الإنسان، فعندئذٍ سيدخل الإنسان بكلِّه ومجموعه في الصورة، ولا تكون البحوث العلميةُ بحوثًا مجردةً في الهواء، معزولةً عن حياة الإنسان الفعلية، وأحسب أنَّ الصيحة التي تدعو العلماءَ بقوةٍ إلى أن يجعلوا عِلمهم في خدمة الإنسان، هي صيحة تَردُّ للعلوم إنسانيتَها التي أشفق المشفقون من ضياعها.

وإنَّنا لندخل في مبحثٍ طويل، إذا طَفِقنا نُعدِّد الجوانبَ الإنسانية التي يُمكن لعلماء الطبيعة أن يُحققوها، فضلًا عن أنَّهم يُهيئون «للإنسان» بيئةً أصلح لعيشه، فهم في كل جهدٍ يبذلونه إنَّما يستهدفون قيمةً من القيم الإنسانية العليا، ألَا وهي قيمة «الحق»؛ إذ يكشفون عن حقيقة العالم وأسراره.

العلوم الإنسانية علوم، والعلوم الطبيعية علوم؛ هذه تدرس البيئة، وتلك تدرس موضعَ الإنسان من تلك البيئة مكانًا وزمانًا؛ فهل نعيش لنرى يومًا يُفيق الإنسانُ إلى وحدته مع بيئته فتتدخَّل المجموعتان من العلوم في جهدٍ بشري واحد، لا يكون فيه عالمٌ للطبيعة جاهلًا بتاريخ الإنسانية وأهدافها، ولا يكون فيه دارسٌ للإنسان جاهلًا بالبيئة الطبيعية التي يسكنها الإنسان؟!

الإعلاء من شأن الإنسان غايةٌ متفَق عليها، لكنَّنا قد أخطأنا في سبيل تحقيقها خطأَين؛ وقع أحدُهما في ثلاثينيات هذا القرن حين ظنَنَّا أنَّ ذلك لا يكون إلَّا إذا سلكنا السبيلَ نفسها التي سلكَتها أوروبا في قرونِ نهضتها من عودةٍ إلى تراث اليونان والرومان ففاتنا أنَّ المهمَّ هو رجوع الأمة المعينة إلى تراثها لتصلَ حاضِرَها بماضيها، ولكل أمة تراث. وأمَّا الخطأ الثاني فنحن اليوم في سبيل الوقوع فيه، وهو التفرِقة غيرُ المشروعة بين علوم وعلوم، بحيث تفوتنا الوحدةُ التي يجب أن تتَّسق بها جوانبُ الإنسان كائنًا واحدًا، فيه العاطفة التي تميل نحو أهداف، وفيه العقل الذي يرسم مراحلَ السير مُسدَّدة نحوَ أهدافه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤