سارتر في حياتنا الثقافية

١

عندما كتبتُ منذ بضع سنوات عن الفكر الفلسفي في بلادنا، ورَدَدتُ نشاطنا في هذا الميدان إلى محورين، هما «العقل والحرية»، وقُلت إنه إذا كان أسلافنا من فلاسفة العرب قد أداروا أعمالهم الفلسفيةَ حول محاولة التوفيق بين «العقل» و«النقل»، فنحن أبناء اليوم — في محاولةٍ شبيهة بتلك — نسعى إلى الجمع في خطٍّ واحد بين «التعقيل» و«التحرر»: التعقيل الذي نتخلص به من أوهام الخرافة وأخلاط الجهل وغيبوبة الدراويش، والتحرر الذي ننطلقُ به من أغلال المستعمِر الأجنبي واستبداد الحاكم الداخلي؛ أقول أنني عندما كتبتُ هذا منذ بِضع سنوات، لم أكن قد التفتُّ إلى العلاقة الوثيقة بين هذا الموقفِ الفكري من جهة، وما جاء جان بول سارتر ليدعوَ إليه، دعوة تحمل التعبيرَ القوي العميق الصادق عن روح العصر كلِّه من بعضِ نواحيه.

فلما أن توجَّهتُ بفكري إلى هذا الضيف الكبير؛ إذ هو في زيارتنا هذه الأيامَ (مارس ١٩٦٧م) بدعوةٍ من جريدة الأهرام، تبيَّنَ لي في جِلاءٍ هذه العلاقةُ القوية بين ما نحن جاهدون في سبيله، وما يدعو إليه الفيلسوف الفَرنسي؛ ما لم يدَعْ أمامي موضعًا لتساؤلٍ عن سر الجاذبية العقلية الشديدة التي قرَّبَت سارتر من جماعة المثقفين على اختلاف درجاتهم في هذه البلاد، وليس يعني هذا أنَّ فكرنا نسخةٌ من فكره؛ إذ يكفي أن نقول إنَّ وجهتنا الفكرية قد بدأتْ أوائلها منذ منتصف القرن الماضي، وأخذت تتجمَّع قُواها على مر السنين وعلى أيدي قادةِ الفكر منَّا، رائدًا بعد رائد؛ يُضاف إلى ذلك أن جانبًا أساسيًّا من نظرة سارتر — وهو الجانب الخاصُّ بفكرته عن الله — لم يكن — ولن يكون — جزءًا من بِنائنا الفكري؛ لكن الذي أعنيه هو أننا إذ نُفكر في ظروفنا وفي عصرنا، نجد روح الفكرة عندنا متَّسقةً في نواحٍ رئيسية منها مع روح الدعوة التي يدعو إليها سارتر.

وإنك لتجدُ في حياتنا الفكرية ضُروبًا من النشاط، قد يُخيَّل إليك أنَّها أشتاتٌ متناثرة لا وحدة بينها ولا رِباط، لكنَّك ما إن تنظر إليها على ضوء مبدأٍ شامل ومحور جامع، حتى تجدَها قد تجمَّعَت وكأنَّما هي خطواتُ سائرٍ واحد على طريق واحد، يسير نحو هدفٍ محدد مقصود؛ فها هم أولاء أفرادٌ بارزون من جماعة المثقفين في بلادنا، قد عُنُوا عنايةً خاصة بالوجودية بصفةٍ عامة، وبوجوديةِ جان بول سارتر بصفة خاصة، ينقلون عنها النصوصَ ويُعلقون عليها بالبحوث، فنظن للوهلة الأولى أنَّها اهتماماتٌ فردية خاصة لا تندمجُ ولا تتلاحم مع تيارنا الفكريِّ العام، على حينِ أنها جهودٌ تقع في صميم الصميم من ذلك التيار، ما دامت الروح السائدة فيه هي — كما كنتُ قد أوضحت في المناسبة التي أشرتُ إليها في أول هذا الحديث — نفسَها الروحَ التي تسود العصر كلَّه، والتي كان الفلاسفة الوجوديون بغير شكٍّ من أفصح الألسِنة التي نطقَت بالتعبير عنها.

وفي طليعة الطليعة ممن توجَّهوا بجهودهم في هذا الاتجاه الدكتور عبد الرحمن بدوي، الذي أثْرى حياتنا الفكرية بنِتاجه الخِصْب الغزير، فلم يكفِه أن يُخْرِج لنا في الأربعينيات الأولى فلسفةً وجودية تدعو إلى الحرية العقلية وحرية الفعل دعوةً قوية صريحة، بل طفق منذ ذلك الحين يَلفِت أنظارَنا إلى المعالم الرئيسية في وجودية الفلاسفة الآخَرين من رجال الغرب الحديث، ومن العرب الأقدَمين، على السواء؛ ونخصُّ بالذِّكر من جهوده العظيمة هذه آخِرَ أعماله في هذا السبيل، وهو عملٌ ضخم كان وحدَه يكفي أن يكون ثمرةَ حياةٍ نشيطة، وأعني به ترجمتَه لكتاب سارتر «الوجود والعدم»، وكأنما أراد الدكتور بدوي أن يقول لنا — بهذا العمل المضني — إذا أردتم أن تربطوا تيَّاركم الفكريَّ بتيار العصر كلِّه؛ فلا يكون ذلك بالثرثرة الخفيفة المخطوفة الخاطفة، التي تجمع حَبةً من هنا وحبةً من هناك، وإنَّما يكون بالرجوع إلى الأسس والأصول، وهاكم مني هذا الأصل والأساس.

ومن أهم النُّقول السارترية قبل ذاك، كانت الترجمةَ العربية التي أدَّاها خيرَ أداء الدكتور محمد غنيمي هلال لكتاب سارتر «ما الأدب؟» أو إن شئتَ دقةً فهو — وإن يكن قد حمَل هذا العنوان نفسَه في أصله الفرنسي — ليس في أصله كتابًا قائمًا بذاته، إنما هو الجزء الأكبر من المجلد الثاني من كتاب سارتر الذي عُنوانه «مواقف»، والذي ظهر في عدة مجلدات. وأهمية هذا الكتاب في حياتنا الفكرية عظيمة، وحسْبُك أن تعلم أنَّه أدقُّ وأوفى عرضٍ لفكرة الأدب الملتزم؛ فما أكثرَ ما نتبادل الحديث عن التزام الأديب في مرحلتنا الاجتماعية والسياسية الراهنة! ولكن ما أقلَّ ما يتَّسمُ حديثنا عنه بالدقة التي تحدده، مما عساه أن يؤدِّيَ إلى خلطٍ واضطراب.

والذي يُهمنا في هذا الصدد، ليس هو أنَّ هذين الباحثَين الجليلين قد نقَلا إلينا نصَّين من أهم النصوص السارترية وكفى، بل هو أنَّ في حياتنا الفكرية من العناصر ما يستلزم أن ندعمَه بأمثالِ هذه النصوص؛ لما بيننا وبينها من رِباط وثيق، وأخيرًا أصدر سارتر كتابَ «الكلمات» ليكون سيرةَ حياة، فنقَله إلى العربية الدكتور خليل صابات، وبذلك اكتملَت لنا صورةٌ بوجهَيها: الذات وما تدعو إليه.

لكنَّنا نعلم أن سارتر قد جسَّد فلسفتَه النظرية في شخوص أدبية ومواقفَ روائية ومسرحية، ولقد قام أدباؤنا بنقلِ طائفة من روايات سارتر ومسرحياته — إمَّا ترجمةً كاملة أو تلخيصًا لمادتها — أخصُّ بالذِّكر منها مسرحية الذباب التي ترجمها الدكتور محمد القصاص .. وإنني ها هنا لَألتمس المعذرة عند قارئي؛ لأنني قليلُ العلم بما تُرجم عن سارتر في سائر الأقطار العربية الشقيقة؛ فقد قيل لي إنَّ «المواقف» قد تُرجمت كلُّها بجميع أجزائها كما تُرجِمَت رواية الغثَيان ومعظم المسرحيات.

على أنَّ الترجمة لم تكن هي كلَّ ما صنعناه بفلسفة سارتر، بل أضفنا إليها تأليفًا عنه فيما لا يكاد يُحصى من الكتب والمقالات، ولو كان لي أن أَلفِتَ النظر إلى مؤلِّف واحدٍ قبل سواه، لَذكرتُ الدكتور زكريا إبراهيم.

وقد بلَغَت عنايةُ أدبائنا بسارتر أنْ تعقَّبوا كثيرًا مما كُتب عنه في أوروبا وأمريكا، وكان من أهم ما صدَر تجميعًا وتنسيقًا لما قيل، كتاب مجاهد عبد المنعم مجاهد، وعنوانه «سارتر .. عاصفة على العصر».

وبديهيٌّ أننا لم نُترجم ولم نُلخص ولم نؤلف لنقفَ من هذا كلِّه في صمم، بل كان لا بُدَّ أن تَسريَ العُصارة في مِداد الأقلام عند طائفةٍ من كُتَّابنا؛ وإني لَأسوق من هؤلاء مثلًا واحدًا بارزًا، هو كاتبنا، النابضةُ كتابته بكلِّ ما في حياتنا المتوثِّبة المتطورة من نبضٍ سريع، الأستاذ أنيس منصور، وإني لأفتح كتابه «يسقط الحائط الرابع» لأقرأ في رأس أولى مقالاته قولَه: «إن كل فلسفة لا تُقاوِم الجوعَ في العالم لا تُساوي وزنَها ورقًا .. إن كل كاتبٍ لا يتعذب عند رؤيته لِطفل جائع هو كائنٌ قد صفَّى حسابه مع ضميره، ومع مسئوليته، كاتبًا وإنسانًا …» أقرأ له هذه البداية، فأهتف لنفسي: هذا كاتبٌ قد تدفَّقَت السارترية في دمائه.

٢

لقد صبرت على قلقٍ خلال الأسطر السابقة، وإني لَموقنٌ أنَّها لم تشتمل من جهود الجاهدين إلَّا لمحاتٍ موجزة سريعة، هي أشدُّ ما تكون تقصيرًا وقصورًا، وموقنٌ كذلك أنَّ مئات القراء سيَهمسون لأنفسهم وهم يقرءون: لماذا يذكر فلانًا وفلانًا ممَّن بذَلوا جهدًا في الفلسفة السارترية ترجمةً أو تعليقًا؛ ولكنني — فضلًا عن قلة إلمامي بكثيرٍ جدًّا مما كُتب في هذا السبيل — قد كنتُ على قلق يدفعُني إلى الإسراع، حتى أوضِّحَ ما أردتُه حين قلتُ إنَّ اتجاهنا نحو «العقل» و«الحرية» فيه مشاركةٌ واضحة للدعوة السارترية — عن قصدٍ أو عن غيرِ قصد — ذلك لأنَّني أرجِّح أن يسأل سائل: أتُعَدُّ الوجودية بكل أشكالها نزوعًا نحو «العقل»؟ أليست مندرجةً في النَّزعات «اللاعقلية» حتى لَيوصف العصرُ كله أحيانًا بأنه عصر «اللامعقول»؟ إنَّ دارسي الفلسفة لَيعلمون أنَّ الفلاسفة ضربان متميزان — وإن يكن أحدُهما مكملًا للآخر — ففريقٌ منهم يتَّجه باهتمامه نحو «الحياة» الإنسانية المتعيِّنة المتجسِّدة في أفراد الناس، على حينِ يتجهُ الفريق الآخر باهتمامه نحو «الفكر» في تجريده الذي لا لحمَ له ولا دم، ولا قلبَ ولا تنفُّس؛ أمَّا الأولون فيجعلون مَجرى التجرِبة الداخلية مدارَ بحثهم أساسًا، وأمَّا الآخرون فمدارهم التصورات العقلية؛ الأولون منهجهم حَدْسي والآخرون منهجهم بِناء النَّسَق الاستنباطي، الذي يهبط فيه الاستدلالُ من المبدأ إلى نتائجه … إلى آخِر هذه الفوارق التي تُميز فلاسفة الحياة من فلاسفة الفكر النظري. وإذا كان سارتر — بحكم فلسفته الوجودية — من الفريق الأول؛ ففِيمَ القول بأنَّ نزعتنا «العقلية» تُقربه منا، وتُقربنا منه؟

نعم، لقد خشيتُ أن يَلحظ قارئٌ عند قراءته للأسطر الأولى من هذا الحديث شيئًا من المفارقة، فأردتُ أن أسرع إلى بيانِ ما أعنيه؛ وهو تلك العودة التي عاد بها سارتر — مع غيره من فلاسفة العصر — إلى ربطِ الوجود الإنساني ﺑ «الوعي» أو «اللاشعور» بعد أن كانت الموجة الفرويدية قد ربطَته باللاوعي أو اللاشعور. والحق أنَّ الموروث الفلسفي كلَّه تقريبًا لم يخرج على هذا التقليد، حتى جاءت مدرسة فرويد فشذَّت عن جادة الطريق؛ فلم يكن الإنسانُ عند أرسطو وسائر القدماء إلَّا الكائنَ «الناطق»؛ أي «المفكر» — والفكرُ والوعيُ مترادفان — ثم جاءت العصور الحديثة بادئةً بأبي الفلسفة ديكارت، الذي أقام فلسفتَه على الكوجيتو المعروف: «أنا أُفكر فأنا موجود»؛ أي إنَّ الفكر الواعيَ هو شرط الوجود الإنساني؛ وكذلك قُل في مسار الفلسفة التجريبية، حين جعلَت قِوامَ المعرفة الإنسانية انطباعات الحس، فهي إذن «واعية». وتناول «كانت» المعرفة العِلمية بتحليله الفذِّ، فردَّها إلى حُدوسٍ حسية ومقولاتٍ عقلية، وكلاهما يُكوِّن الحياةَ الواعية. وظهرَت مدارسُ علم النفس التجريبي بشتى صورها، لكنَّها أجمعَت على أن تجعل «الوعي» قِوامَ الحياة النفسية عند الإنسان؛ إلَّا صاحِبَنا فرويد وأنصارَه وتابعيه، فقد ضرب ضربته التي دَوَّت في دنيا الثقافة بجميع أرجائها، وما تزال تُدوِّي، وإن تكن صائرةً إلى خُفوت، وهي أنَّ الإنسان حقيقته تكمُن في اللاوعي؛ نعم، إنَّه يُقيم النفس الإنسانية من ثلاثة طوابق؛ يجعل الوعيَ أحدَها، يأتي دونه شِبه الوعي، الذي يكمُن فيه من ماضينا ما نستطيع أن نتذكَّره، وهناك دون هذا وذاك يقبع اللاوعي، الذي هو الأساس الخبيءُ في تحريك الإنسان، فيما يرى فرويد.

ويجيء «علم الظواهر» على يد هوسرل — أو «الظواهرية» أو «الظاهراتية»، كما قد تسمَّى عند مختلِف الكُتَّاب عندنا — فيَلفِتنا نحو «الوعي» مرةً أخرى؛ أنه يعود بنا إلى ديكارت من جديد، ولكن بعد إضافةٍ مهمة جدًّا؛ فلئن كان الوعي مجردُ الوعي عند ديكارت شرطًا للوجود الإنساني (أنا أفكر إذن أنا موجود)، بغضِّ النظر عن علاقة ذلك الوعي بما يُشير إليه من أشياءَ هي التي تكون موضعَ الوعي منَّا؛ فقد أكَّد هوسرل أنَّ الوعيَ لا يكون إلَّا وعيًا بشيء، فإذا قلنا إن ثَمة وعيًا بكرًا خالصة نَحْدُسه في ذَواتنا من داخل، فقد قلنا حتمًا وبالضرورة إنَّ ثمة أشياءَ وحالاتٍ هي التي نَعيها بذلك الوعي، ومن ثَم يتحتَّم وجودُ «الآخَر» مع وجودنا الواعي.

وليس هوسرل و«علمُ ظواهرِه» هو موضوعَ حديثنا، لكنَّه سارتر الذي تبع هوسرل فيما ذهب إليه من أنَّ الجذور الأولية في حياتنا النفسية إنَّما هي «الوعي» — ولا ذكر للَّاوعي الذي تعلق به فرويد ومدرستُه — وعلى سبيل المقارنة نقول إن ديكارت كان يُعلق الوجودَ على الفكر — أي الوعي — فجاء سارتر ليُعلق الفكر — أي الوعي — على الوجود، فديكارت بمنزلةِ مَن يسألك: هل أنت ذو فكر؟ إذن فأنت موجودٌ ولا شك في وجودك؛ وأمَّا سارتر فبمنزلة مَن يسألك: هل أنت موجود؟ إذن فأنت ذو فكر ووعي.

وأعود إلى علاقتنا الفكرية بسارتر، فأقول إنَّ أهمَّ عواملِ نهوضنا الفكري منذ الأفغاني ومحمد عبده، وإلى يومنا هذا، هو إخراج الناس من حياةٍ لا واعية أو شبه واعية، إلى حياة واعية، قِوامها الاحتكامُ إلى العقل وأحكامِه، وانظر إلى حياتنا الفكرية اليوم، تجدْ كلمة «التوعية» مترددةً في كل مجال؛ إدراكًا منَّا لضرورة الارتكاز على «الوعي» الصاحي المفكر المتنبِّه اليقظان؛ وهذا الاهتمام بالوعي دون اللاوعي، هو ما قصدتُ إليه حين ربطتُ بين حياتنا الفكرية ودعوة سارتر.

وأمَّا الدعوة إلى الحرية فأوضحُ مِن أن نلجأ في أمرها إلى تحليل، لكنَّنا نلاحظ أنَّ دعوتنا إلى الحرية كانت سطحًا بغير قاع، ومن هنا كان اهتمامنا بفلسفةِ الحرية الإنسانية عند سارتر؛ لأنها فلسفةٌ تعطينا القاعَ الذي نرتكز عليه؛ فلِمَن شاء أن يقلب ما شاء فيما أنتَجْناه منذ الأفغانيِّ إلى اليوم، ولن يجدَ إلَّا دعواتٍ متلاحقات إلى التحرر من هذا وهذا وذاك، والحرية في هذا وهذا وذاك، حتى لَأكاد أقول إنَّ أدباءنا ومفكِّرينا لم يكن لهم شاغلٌ أساسي إلَّا موضوع الحرية من شتى وجوهها وفي مختلِف تطبيقاتها. وحتى الدعوة إلى العقلانية كانت فرعًا من الدعوة إلى الحرية؛ لأنَّ الاحتكام إلى العقل هو ضربٌ من التحرر من قيود الجهل ومعوقاته .. دعَوْنا إلى الحرية السياسية، وإلى حرية المرأة، وإلى حرية التعليم، وإلى حرية الأديب، وإلى حرية الباحث، وإلى الحرية الاقتصادية أخيرًا، بمعنى ألَّا يكون العائقُ الاقتصادي حائلًا دون الإنسان في طريقِ سيره وطموحه؛ ما أمكنَ ذلك.

وإني في هذه المناسبة لَأذكر ما قاله سارتر في كتابه «ما الأدب؟» إذ يقول إنَّ للكاتب موضوعًا واحدًا هو موضوع الحرية؛ يقول: «… فليكن المؤلفُ كاتبَ رسائلَ أو مقالاتٍ أو هَجَّاءً أو قصصيًّا، وليقتصر في حديثه على عواطفَ فردية، أو ليُهاجم نظام المجتمع؛ فهو في كلِّ أحواله الرجلُ الحر، يتوجَّهُ إلى الأحرار من الناس، وليس له سوى موضوعٍ واحد، هو الحرية.» (ص٧٦ من الترجمة العربية) أقول إني لَأذكر هذا القول من سارتر، وأَقرنُه بما فعلناه خلال قرنٍ كامل، فأعلم أنَّ قوله يصفُ فعلنا.

وهل أترك هذه المناسبة دون أن أذكر شيئًا عن هذه الأحكام القاسية التي قضى بها الأستاذ فتحي رضوان في كتابه «عصر ورجال» على مفكرينا وأدبائنا فيما بين الحربَين، والسياسة أو الحياة؟ يقول عنهم: «كان الأمر عندهم تنقلًا بين الشخصيات والأفكار والكتب، وكان ما يصدر عنهم انطباعات سريعة، من قراءاتٍ لا تستولي عليهم، ولا تملأ حياتهم ولا وِجدانَهم؛ وإنَّما أقصى ما تستطيعه هذه القراءاتُ أن تُدْخِل إلى نفوسهم نشوةَ الإعجاب بفكرةٍ أو بشخص، ولكنَّها لا تلبث أن تنطفئ ليحلَّ محلَّها إعجابٌ بفكرة أخرى وشخصية تالية .. ولذلك إذا فرَغتَ من قراءة كلِّ ما كتبه العقَّاد والمازني وهيكل؛ لا تعرف بالضبط ما الذي يريده أيٌّ منهم، ثم لا تعرف الفارقَ بين الواحد منهم والآخَر …» (ص٢٤).

وإنِّي لأجد هذا الحكم ظالمًا، فأنا أظن أني «أعرف بالضبط ما الذي يريده أيٌّ منهم»، وأعرف كذلك أنْ لا فرق بين أحدِهم والآخَر؛ ذلك لأنَّهم جميعًا يُديرون القول — أساسًا — حول التحرُّر والحرية؛ تحررٌ من قديم، وحريةٌ في بناءٍ جديد؛ ولذلك كانوا في هذا الوجه متشابهِين جميعًا، لا ترى فارقًا بين أحدهم والآخَر إلَّا في الزاوية التي اختارها والطريقةِ التي سلَكها في بلوغ الهدف؛ نعم، كتَب هيكل عن روسو، وكتب العقَّاد والمازني معًا «الديوان» في النقد، وكتب المازني حَصاد الهشيم، وكتب علي عبد الرازق في الإسلام وأصول الحُكم، وكتب طه حسين في الأدب الجاهلي؛ كل أولئك في سنواتٍ متقاربة من العشرينيَّات، وكلهم يستقلُّ في كتابته بمجال، لكنَّهم جميعًا يدعون بما كتبوا إلى الحرية الأدبية والسياسية والعِلمية والاجتماعية، وإلَّا فهل تستطيع أن تقرأ كتابًا من هذه الكتب، ثم تتركه بغير أن تنزعَ إلى التحرُّر من هذا أو من ذاك، قليلًا أو كثيرًا؟

لا، إنَّ موضوع الكتابة الأدبية عندنا كان هو «الحرية» من شتى وجوهها، لكن الذي نُوافق عليه حقًّا، هو أنَّه لم تكن في أذهاننا عن الحرية فلسفةٌ واضحة المعالم؛ قد يُقال: أن تعشق الحرية فطرةٌ لا تحتاج إلى فلسفة، لكن الفطرة نفسها تُصبح أقوى تحريكًا حين تنتقلُ إلى سطح الوعي اليقظان، وهذا هو ما تصنعُه لنا فلسفتها؛ وكان مما حبَّب إلينا سارتر فلسفتُه في الحرية؛ إذ رأيناها ضروريةً لسدِّ الثغرة الموجودة في كياننا الثقافي، وقد تكون هناك فلسفاتٌ للحرية معاصرةٌ غير فلسفة سارتر، وربما نقَلْنا بعضَها إلى العربية كما نقلنا فلسفةَ سارتر، وربما تأثَّرنا بها جميعًا، لكن ذلك لا ينفي — بل يؤيد — أننا أقبلنا على هذه الفلسفة بنفوسٍ متفتِّحة وصدور رَحْبة. ولستُ أريد هنا أن أفصِّل القول في فكرة الحرية الإنسانية عند سارتر؛ لأن مَراجعها أمام القارئ كثيرة، وحَسْبنا أن نذكر مُسرعين أنَّ سارتر يُرادف بين الحرية والحقيقة الإنسانية؛ إذ الوجود عنده وجودان: وجود لذاته «وذلك هو الإنسان»، ووجودٌ في ذاته «وتلك هي الطبيعة»، والوجود الأول حريةٌ صِرْف، والوجود الثاني متقبلٌ لما تفعله تلك الحريةُ فيه؛ وإنَّك لَتمسخ الإنسان مسخًا إذ أنت جعلتَه «شيئًا» يتقبَّل حريةَ سواه، إلى آخِر ما ذهب إليه سارتر في وجوديته.

ولستُ أرى نقطةَ التقاءٍ بين حياتنا الفكرية في يومها الراهنِ وبين سارتر، أقوى من القول بالأدب الملتزم؛ فماذا يقول سارتر في التزام الأديب؟ إنَّه بادئَ ذي بدءٍ يُخرج الشِّعر من الالتزام الذي يَعنيه، ويَقصُر الالتزامَ على النثر وحدَه، ولكي يوضح ذلك سأل سؤالَين، أجاب عن كلٍّ منهما إجابة مستفيضة؛ سأل: لماذا نكتب؟ ثم سأل: لمن نكتب؟

فأمَّا عن السؤال الأول؛ فقد أجاب بأنَّ الكاتب يكتب ليكشفَ عن حقيقة واقعة يعرضُها أمام القارئ على صورةٍ توحي له بأن يفعل إزاءها شيئًا؛ فإذا وصف حالةً من حالات الظلم مثلًا، فهو لا يصفُها ليزدادَ بها القارئُ علمًا فحسب، ولا ليزدادَ بفنِّ الكتابة فيها متعةً فنية فحسب؛ بل يصفُها لينشط القارئ بعدَئذٍ للقضاء عليها، «فإذا تناولت هذا العالم، بما يحتوي عليه من مظالم، فليس ذلك لكي أتأمَّل في هذه المظالم في بُرودة طبع، بل لكي أردَّها حيةً بسخطي، وأكشف عنها وأبعثها مَظالم على طبيعتها؛ أي مساوئ يجب أن تُمحى، وبذا لا يكشف القارئ عن العالم في عمقه الذي صوَّره فيه الكاتب إلَّا بفضل بحثِ القارئ فيه وسخطه» (ص٧٥ من الترجمة العربية). إننا لا نتصورُ بحالٍ أن يكون الكاتبُ كاتبًا حقًّا، إذا هو أجاز الظلمَ بما يكتبه؛ إذ لا نتصور أن يستمتع قارئٌ بما يقرأ إذا ما وجد فيه استعبادَ إنسانٍ لإنسان «فالكتابة طريقٌ من طرق إرادة الحرية، فمتى شرَعت فيها — إنْ طوعًا وإن كَرهًا — فأنت ملتزم» (ص٧٨).

خذ كاتبًا من السود في أمريكا، هو رتشارد رايت، ومن أشهر مؤلفاته قصة «ابن الأقاليم» (١٩٤٠م)، و«غلام أسود» (١٩٤٥م)، وهذا الأخير سيرة ذاتية للكاتب؛ خذ هذا الكاتب الأمريكيَّ الأسود، فماذا يُنتظَر منه أن يكتب فيه إلَّا قضية السُّود في أمريكا؛ يقول عنه سارتر: «أَوَيستطيع امرُؤٌ أن يفترض لحظةً، قَبولَه إنفاقَ حياته في التأمُّل في الحق والجمال والخير الخالد؟ في حينِ تسعون في المائة من سُود جنوب الولايات المتحدة محرومون فعلًا من حق التصويت في الانتخاب؟! .. إنه إذا اكتشف أَسْوَدُ من سُود الولايات المتحدة في نفسه أنه من المُلْهَمين في الكتابة، فقد اكتشف في الوقت نفسِه الموضوعَ الذي يكتب فيه» فلا مناصَ له من الكتابة في مشكلة السُّود، كتابة يوجهها إلى فئة السُّود المثقفين أولًا، وإلى البِيضِ المتعاطفين ثانيًا؛ ولذلك تراه يوجِّه الكتابة وجهةً تؤدي غرضَها في تحريك هاتين الفئتين. إنه بَداهةً لا يكتب للبِيض الذين يُناصرون التفرِقة العنصرية، لأنَّهم لن يَقرَءوه، ولا للسُّود الأُمِّيِّين، لأنَّهم لن يقرَءوه، بل هو لا يكتب أساسًا لمن هم خارج الولايات المتحدة. وهكذا، ترى أنَّ الموقف قد حدَّد أمام الكاتب لا موضوعَ الكتابة فحَسْب، بل حدَّد له أيضًا نوعَ القُرَّاء الذين يوجِّه إليهم الحديث، بالأسلوب الذي يَقدُر له أعمقَ التأثير في نفوسهم، وفي هذا إجابةٌ عن السؤال الثاني.

إلَّا أنَّنا إذ نرحبُ بالفيلسوف الفرنسي الكبير في بلادنا، فإنما نرحب برجلٍ قد التقينا معه في كثيرٍ من الأهداف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤