من برتي إلى برتراند

منذ أن كان الفتى «برتي» في سن المراهقة الباكرة — وبهذا العمر «برتي» كان يُدلِّله ذَووه — شَغل نفسه بالفلسفة وقضاياها، ولم ينقطع عنها حتى بلَغ برتراند رسل من عمره ما بلغ، فماذا تتوقعُ من عقل فلسفي لم ينفكَّ طَوال ثمانين عامًا نشيطًا منتجًا سوى أن يجيءَ فكره كالنهر الغزير في فيضانه، يهدم هنا، ولكنَّه يخصب الأرض هناك، ويظلُّ ينعرج في دفعِه يَمْنةً ويَسْرة، لا تُوقفه الصخور العاتية على طول الطريق؛ لأنَّ له — برغم انعراجاته ودورانه — قصدًا واحدًا، يجري إليه، يحكم طبيعة المجرى الذي يتدفَّق فيه، أجل، ماذا تتوقَّع من فيلسوف لبث يُعاني الفلسفة من الخامسةَ عشرة حتى جاوزَ الخامسة والتسعين إلَّا أنْ يُغير من رأيه في مَواضع ويَثبُت عليه في مواضع؟ ولكَم شَهدتُ بعيني، وسمعتُ بأذني، نفرًا من دارسي الفلسفة — لا أقول من طلابها الناشئين، بل ممَّن بلَغوا من دراستها شوطًا بعيدًا — شهدتُهم وسمعتهم يُهاجمون الرجلَ لأنَّه ناقَض نفسَه في هذا الموضع أو ذاك؛ ألم يذكر في كتابه «مشكلات فلسفية» (صدر ١٩١٢م) أنَّ للمعاني الكليةِ — مثلًا — وجودًا أوليًّا لا يقبل التحليل مما يُدْرِجه في زُمرة المثاليِّين، ثم عاد ليقول عنها في كتابه «المعرفة البشرية» (صدر ١٩٤٨م) ما ينفي ذلك؟ هكذا كنتُ أسمع وأرى هجمات الهاجمين، فأدرك الظلم في تلك الهجمات؛ لأنَّها تنسى عشرات السنين التي تفصل عند الرجل كتابًا عن كتاب، وتنسى أنَّ الرجل إنسانٌ يتطور وينمو ويُفكر، ثم يُعيد التفكيرَ مدى ثمانين عامًا نشيطةً منتِجة، هي التي تخلَّلَت في عمره ما بين الخامسةَ عشرة والخامسةِ والتسعين. ولستُ أعرف في تاريخ الفلسفة، من أوله إلى آخره، فيلسوفًا عُمِّر بقدر ما عُمِّر برتراند رسل، كلَّا، ولا أعرف مَن صرَف في التفكير الفلسفي ثمانين عامًا كاملة كما حدَث لفيلسوفنا برتراند، مات سقراط في السبعين، وأفلاطون في الثمانين، وأرسطو في الثالثة والستين، وديكارت في الرابعة والخمسين، وبيكون في الخامسة والستين، وإسبينوزا في الثالثة والأربعين، وليبنتز في السبعين، ولوك في الثالثة والسبعين، وباركلي في الثامنة والستين، وهيوم في الخامسة والستين، وكانْت في الثمانين، وهيجل في الحادية والستين، ومن فلاسفة المسلمين مات الكِنْدي في نحوِ السبعين، والفارابي في نحوِ الثمانين، وابن سينا في السابعة والخمسين، وابن رُشْد في الثانية والسبعين، وكان جون ديوي من أطولِ الفلاسفة عمرًا؛ إذ مات وهو في الثالثة والتسعين، على أنَّ طول العمر في ذاته ليس بذِي مغزًى كبير، بالنسبة إلى طول الفترة التي قضاها الفيلسوفُ مشتغلًا بالفلسفة. فإذا عرَفْنا أن برتراند رسل لم ينقطع عن اشتغالِه بها مدةَ ثمانين عامًا كاملة، أدرَكْنا على الفور أن قد كان أمامه من فرصة المراجعة والتبديل ما لم يكن أمام غيره.

كتَب برتراند رسل عن «محاولاته الأولى» يقول: بدأتُ أفكر في المسائل الفلسفية في الخامسة عشرة من عمري، ومنذ ذلك الحينِ إلى أن التحقتُ بكيمبردج بعد ذلك بثلاثة أعوام، كنتُ أفكر بمفردي، ومن قَبيل الهواية؛ فلم أكن قد اطَّلعتُ بعدُ على أي كتاب فلسفي، حتى قرأتُ «منطق» جون استيوارت مل في الشهور الأخيرة قُبيل التحاقي بالجامعة .. ولم يكن «برتي» قد أتمَّ عامه السادسَ عشرَ حين كتب مذكراتِه الفلسفيةَ الأولى، وكانت — في معظمها — تدور حول ما ساورَه عندئذٍ من شكوك في مسائل العقيدة وفي خلود الروح، لكنَّه كان يخشى الردع والسخرية من ذَويه، وذَووه متديِّنون على الأغلب، لا يريدون لوليدهم كثرةَ التفكير في موضوعاتٍ كهذه، يَحسُن أخذُها مأخَذَ التسليم لينصرفَ الإنسان إلى سواها مما يتصل بالحياة العِلمية وشواغلها، كان يخشى الردع والسخرية، لو وقع ذَووه هؤلاء على مذكراته، فكتبها كلَّها بالرموز، ولم يُفصح عن مدلولات رموزه تلك إلَّا بعد أن جاوَز الثمانين، وتقرأ هذه المذكرات الأولى، فترى عَلائم النضج المبكر واضحةً قوية؛ فاقرأ — مثلًا — ما يقوله في تلك المذكرات بتاريخ ٢٩ من أبريل سنة ١٨٨٨م، (أي حين كان عمره ستة عشر عامًا):

«قطعتُ على نفسي عهدًا أن أجعل العقلَ رائدي في كل الأمور، وألَّا أُلقيَ بالًا للميول التي ورثتُها — في جانبٍ منها — عن أجدادي، والتي اكتسبتُها تدريجًا بفعل الانتخاب الطبيعي، والتي ترجع — في جانبٍ آخَر منها — إلى ما تلقَّيتُه من تربية؛ فما أشَدَّه من عبثٍ لو أننا احتكمنا إلى هذه الميول في مسائل الصواب والخطأ! فالجانب الذي ورثتُه من تلك الميول إنَّما هو بمثابةِ المبادئ التي تهدي في طريق المحافظة على النوع، أو قُل إلى المحافظة على ذلك الجزء الذي أنتمي إليه من النوع؛ وأمَّا الجانب الذي يرجع إلى التربية، فهو يجعل الصوابَ والخطأ مرهونَين بما قد رُبيت عليه؛ ومن الجانبَين معًا يتكوَّن لدى الفرد ما يُسمى ﺑ «الضمير» ومع ذلك تراهم يوهموننا بأنَّ هذا الضمير هو هبةٌ من الله، هذا الضمير الذي دفع مارية السفَّاحة إلى حرقِ مَن حرقتهم من البروتستانت؛ نعم، إنهم مع ذلك يقولون لنا إنَّ الواجب يقتضي من الإنسان أن يتبعَ «ضميره». وعندي أنَّ ذلك ضربٌ من الجنون؛ أمَّا أنا فسأحاول أن أذهب مع «العقل» إلى أقصى مَداه، وسيكون مَثَلي الأعلى هو ما يؤدي آخِرَ الأمر إلى أكبرِ قدر من السعادة لأكبرِ قدر من الناس وبالعقل وحدَه أستطيع أن أُحقِّق هذه الغاية من أيسر الطرق.»

واعجَبْ لهذا الفتى الناشئِ يتناول في مذكراته تلك، ما قد ساورَه من قلق شديدٍ إزاء المُسَلَّمات الرياضية في عِلمَي الهندسة والحساب؛ يقول في ختام يوميَّته المؤرَّخة ٣ من يونيو من نفس العام: «إن بعض براهين إقليدس — وخاصة ما كان منها متصلًا بالتطابق — قد أثار قلقي إلى حدٍّ بعيد، حتى لقد أنبأني معلمُ الهندسة أنَّ هندسةً لا إقليدية قد نشأَت، فأمتعَني هذا النبأ، برغم أني لم أعلم عن تلك الهندسة يومئذٍ إلَّا مجردَ اسمها، ولم يكن الذين يُعلمونني حساب اللامتناهي على علمٍ بالبراهين الصحيحة التي تُقام على نظرياته الأساسية، وكانوا يحاولون إقناعي بأن أسلِّم بالمغالَطات السائدة، فآخذها مأخَذ الإيمان، وكذلك أدركتُ أنَّ الحساب يصلح في التطبيق العمَلي، لكنني لم أفهم قطُّ لماذا كان ذلك …»

بهذه الشكوك الفلسفية في دنيا اللاهوت، وفي دنيا الرياضة، بدأ الفتى «برتي»، وظلَّ يكتم شكوكه وراء رموزه، حتى دخل جامعة كيمبردج، وهناك أفصحَ عمَّا كان يُضمِره.

ذهب الفتى إلى كيمبردج، فانفتح أمامه عالمٌ جديد، «لقد وجدتُ للمرة الأولى» هكذا يَروي عن نفسه في ترجمةٍ قصيرة كتبَها عن حياته «أنَّني إذا ما صرَّحتُ بفكري، صادف عند السامعين قَبولًا، أو كان عندهم — على الأقلِّ — جديرًا بالنظر: كان وايتهد هو الذي اختبَرني في امتحان الدخول، وقد ذكَرني لكثيرين ممن يَكبرونني بعامٍ أو بعامَين، فكان من نتيجة ذلك أنَّه لم يمضِ أسبوعُ واحد، حتى التقيتُ بمَن أصبحوا بعد ذلك أصدقاءَ العمر كلِّه .. وكانوا يتميَّزون بقدرتهم العقلية وتحمُّسِهم وأخذِهم الأمورَ مأخذَ الجِد؛ كانوا يتناولون باهتمامهم أمورًا كثيرة خارج نِطاق عمَلهم الجامعي، فيُولَعون بالشعر والفلسفة، ويناقشون السياسة والأخلاق، وشتى نواحي العالم الفكري …»

كان ماكتاجارت بين هؤلاء الأصدقاء في كيمبردج، وهو الفيلسوف الهيجلي، فسرعان ما حمَل جماعةَ الأصدقاء على دراسة هيجل؛ وفي ذلك يقول رسل في ترجمته القصيرة لحياته: «وقد علَّمَني ماكتاجارت كيف أنظر إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية نظرةً ترى فيها فجاجةً وسذاجة؛ وأخذتُ أميل إلى العقيدة بأنَّ هيجل — وكذلك «كانْت» بدرجةٍ أقل — يتَّصف بعمقٍ هيهات أن تجد له مثيلًا في أئمة الفلسفة الإنجليزية: لوك، وباركلي، وهيوم»، على أنَّ الطالب الشابَّ لم يدخل كيمبردج ليدرسَ الفلسفة، وإنَّما دخلها ليدرس الرياضة؛ وهكذا فعَل لثلاثة أعوام، وبعدئذٍ لم يستطع لنفسه دفعًا عن الدخول في دنيا الفلسفة بكل ما تستطيعه تلك النفسُ من جهدٍ واهتمام؛ حتى لقد عُنِي وهو يُعِدُّ رسالته التي أراد بها أن يظفر بدرجةِ الزمالة من الجامعة — وكان موضوع الرسالة «أسُس الهندسة» — أقول إنه قد عُنِي في تلك الرسالة أن يُقِيمها على مبادئ الفلسفة الكانتية، وقد عقَّب عليها ببحثٍ عن العدد والكمِّية، أقامه على مبادئ الفلسفة الهيجلية؛ لا، بل ذهب به إعجابُه عندئذٍ بهيجل إلى حدِّ الرغبة في محاكاته، فأراد أن يبنيَ لنفسه بِناءً جدَليًّا كاملًا للعلوم كلِّها، على غِرار ما فعل هيجل؛ واستمِع إليه يروي عن نفسه: «إني لَأذكر ذاتَ صباحٍ، إذ كنتُ سائرًا في متنزَّه «تير جارتن» في برلين، كيف وضعتُ لنفسي خطة مؤدَّاها أن أكتب سلسلةً من الكتب في فلسفة العلوم، صاعدًا بها صعودًا متدرجًا نحوَ ما هو أكثرُ تَعَيُّنًا، فأبدأ بتجريد الرياضة، ثم أنتقل خطوةً خطوة إلى نهاية التعيين في علم الحياة (البيولوجيا). وكذلك رجَوتُ عندئذٍ أن أكتب سلسلةً أخرى من الكتب، أعالج بها المشكلات الاجتماعية والسياسة، بادئًا هذه المرة بالعلوم المتعيِّنة، ومنتهيًا بما هو مجرد، ثم أُقيم آخِرَ الأمر بِناءً — على غِرار ما قد صنع هيجل — فأكتب موسوعةً أجمع فيها بين النظر والتطبيق؛ تلك خطةٌ أوحى إليَّ بها هيجل …»

لكن هذه الوقفة الكانتية الهيجلية لم يَطُل أمَدُها مع الفيلسوف الشاب؛ إذ ما جاء عام ١٨٩٨م — وكان عندئذٍ قد بلغ من عمره ستةً وعشرين — إلَّا وقد أعلن تمرُّدَه على هذين الإمامَين، وشاركه في التمرُّد جورج مور؛ وكان مدار الثورة عندهما هو اعتقادَهما — على نقيضِ ما ذهب إليه كانْت وهيجل — أنَّ الأشياء موجودة في دنيا الواقع، وليست هي مِن خلقِ الذهن؛ فحتى لو لم يكن في العالم ذاتٌ واحدة واعية، لَظلَّ العالم معمورًا بأشيائه تلك التي نُصادفها فنُدركها فتصبح بعد إدراكها أجزاءً من تيار الخبرة في طوايانا؛ وكأنَّما قسَّم الثائران ثورتهما قسمَين لِيضْطَلع كلٌّ منهما بنصيب، أمَّا مور فنصيبه هو أن يدحض المذهب المثالي في جملته، وأمَّا رسل فكان عليه أن يدحض أهمَّ أركان ذلك المذهب المثالي، وهو فكرة «الواحدية» التي تضمُّ شمل الكون كله في بِناءٍ واحد متماسك الأطراف متكافل الأجزاء؛ ولمَّا كان الرِّباط الذي يصل المذهب المثاليَّ في جملته بفكرة الواحدية الذهنية، هو مبدأ العلاقات الباطنية أو المحايثة في مصطلح الفلاسفة، كان من أهم ما اهتمَّ به رسل عندئذٍ هو إثباتُ أنَّ العلاقات «خارجية» لا «باطنية»، ولكن ما هذه؟ وما تلك؟

أمَّا القول بالعلاقات «الباطنية» بين الأشياء؛ فمُؤدَّاه أنَّ أي فكرتين مرتبطتين إحداهما بالأخرى بأية علاقة، كقولنا — مثلًا — إنَّ العدد أربعة «ضِعف» العدد اثنين، فإنَّ هذه العلاقة يمكن رؤيتها في كلٍّ من الطرفَين على حدة، فلو حلَّلتَ العدد أربعة تحليلًا كافيًا وجدتَ بين عناصر معناه أنه «ضِعف» العدد اثنين، فإذا جاء قائلٌ بعد ذلك ليقول صراحةً إنَّ العدد أربعة هو ضعف العدد اثنين، لم يكن في قوله جديد؛ إذ كل ما فيه هو التصريح بما كان متضمَّنًا في كلٍّ من الطرفَين المتعلقين أحدهما بالآخر بالعلاقة المذكورة، وهي علاقة «ضعف» أو علاقة «نصف» إذا عكَسْنا اتجاهَ الجملة، وقلنا إنَّ العدد اثنين هو نصف العدد أربعة؛ على هذا النحو تستطيع أن تتصوَّر فكراتنا جميعًا، فتجدها متضمَّنةً بعضها في بعضها، حتى ليُمكنك استنباط بعضها من بعضها؛ إلى أن تبنيَ منها نَسَقًا واحدًا مترابطًا، كلُّ جزء منه كافٍ وحدَه — إذا حلَّلتَه تحليلًا كافيًا — أن يدُلَّك على بقية الأجزاء، ومن ثَم كان صدق الفكرة — أيِّ فكرة — معتمدًا على أنَّها مستنبَطة من بقية فكرات النَّسَق، ومن ثَم كذلك كان النَّسَق الفكري كلُّه واحدًا لا تعدَّد فيه، كأي كائن عضوي حيٍّ بالنسبة لأجزائه.

وأمَّا القول بالعلاقات «الخارجية» الذي أعلنه رسل في ثورته على هيجل بصفة خاصة؛ فمؤدَّاه أنَّ هنالك من العلاقات التي تربط الأشياء بعضَها ببعض ما لا يُمكن استخراجه من مجرد تحليلنا للأطراف المرتبطة بتلك العلاقات؛ مثال ذلك أن يرتبط حادثان بعلاقة «قبل»، فإذا قلنا إنَّ الحادثة «س» وقعَت «قبل» الحادثة «ص»، كان هذا التتابع الزمنيُّ مما لا نجده في عناصر «س» ولا في عناصر «ص»، وإنَّما المرجع فيه إلى مقياس الزمن الذي يدلُّنا على ذلك، وليس مقياس الزمن هذا جزءًا من «س» ولا جزءًا من «ص». وأهمية أن تكون العلاقات «خارجية»، أو أن يكون بعضُها على الأقل خارجيًّا؛ هي أنَّك إذا أخذتَ بهذا المبدأ، انتهيتَ إلى نتيجةٍ، هي أنَّ العالم مكوَّن من حقائقَ متعددةٍ متكثِّرة، يرتبط بعضها ببعض على أنحاءٍ مختلفة، نحتاج في إدراكها — إدراكِ تلك الصور المختلفة للعلاقات بين الأشياء — إلى بحوثٍ ومشاهَدات، خارج بِنية الأشياء نفسها؛ وإذا كان ذلك كذلك، فليس العالم في حقيقته «واحدًا» كما ذهب المثاليُّون، ولكنَّه عالم «متعدد» يحتاج في معرفته إلى مشاهدات وتجارِب، ولم يعُد يكفي فيه أن يقبع الفيلسوف في عُقر داره ليستنبطَ أفكارًا من أفكار، حتى يستويَ أمامه الِبناء كاملًا متكاملًا.

ذلك هو لُبُّ الثورة الفلسفية التي خرَج بها رسل من تبَعيَّته لهيجل، وهو لم يزَل شابًّا في السادسة والعشرين من عمره. وكان ما أثار انتباهَه إلى تلك الثورة، دراسته لفلسفة ليبنتز حينئذٍ تمهيدًا للقيام بتدريسها؛ إذ شاءت المصادفة لماكتاجارت، الذي كان مفروضًا له أن يُحاضر عن ليبنتز في كيمبردج سنة ١٨٩٨م، أن تَضطرَّه ظروفه إلى السفر إلى نيوزيلنده، فطلب من تلميذه وصديقه برتراند رسل، أن يؤدِّيَ هذا الواجبَ بدلًا منه، فكان أن عكَف على دراسة ليبنتز، وهي الدراسة التي أخرجها كتابًا بعُنوان: «عرض نقدي لفلسفة ليبنتز»، فوجَده يبني ميتافيزيقاه على أساسٍ من منطق تحليلي قِوامه «العلاقات الباطنية»؛ فمهما تكن القضية التي يُقدمها القائل، لتكن — مثلًا — أنَّ الزجاج قابلٌ للكسر، أو أنَّ الأرض كروية الشكل، فمحمولها كامنٌ في موضوعها، بحيث إذا حلَّلتَ ذلك الموضوع تحليلًا كافيًا وجدتَ فيه المحمول، حلِّل فكرة «الزجاج» تجِدْ كامنًا فيها فكرةَ قابليته للكسر، أو حلِّلْ فكرة «الأرض» تجدْ كامنًا فيها فكرةَ أنَّها كروية الشكل، وهكذا؛ وعلى هذا الأساس المنطقيِّ أقام ليبنتز فلسفتَه عن «المونادات» (أو الذرات الروحية)، ليقول إنَّ جميع الأحداث التي تصدر عن كائنٍ ما، قد انبثقَت من طبيعته، إلى آخر ما قال … ومن هنا ثارت الثورة في نفس رسل، وفكَّ عن عقله قيود «العلاقات الباطنية»، وانطلق — على حدِّ تعبيره — «كما لو كنتُ نبتةً أُخرِجَت من بيتٍ زجاجي دفيء؛ لتَنبتَ على صخرة في البحر يلطمها الموج.»

ونستطيع القول، ونحن في مأمَن من الخطأ، إنَّ فيلسوفنا الشابَّ عندئذٍ، قد تمخَّضَت له ثورته الفكرية عن بِضعة مبادئ فلسفية، لم يُغير رأيه فيها منذ ذلك الحينِ وإلى يومنا هذا؛ منها: مبدأ العلاقات الخارجية، ومبدأ التعدُّد في الكون، وهو مبدأ ينتج بالضرورة عن المبدأ الأول، ومبدأ أنَّ صِدق كلِّ حقيقة جزئية مكفولٌ لها بغضِّ النظر عن بقية الحقائق الجزئية الأخرى، ومبدأ أنَّ منهج التحليل الذي يُحلل الفكرةَ إلى عناصرها ليُعيد تركيبها عن فهم؛ هو مبدأ قديم، ومبدأ أنَّ صدق القضايا التجريبية مرهونٌ بمطابقتها للواقع التي جاءت تلك القضايا لتُصورها، ومبدأ أنَّ وقائع العالم الخارجي قائمةٌ فيه، سواء وُجدت الذات الواعية التي تَعيها أو لم تُوجد.

٣

على أنَّ الحد الفاصل الذي قسَم حياة برتراند رسل الفلسفية مرحلتين، تختلف أُولاهما عن ثانيتهما، هو عام ١٩٠٠م، والمؤتمر الفلسفي الذي أُقيم في باريس عامَئذٍ، وبصفة خاصة لقاؤه مع الرياضي الإيطالي بيانو؛ فها هنا قُل إن شئتَ إنَّ «برتي» قد أسلم زِمامه ﻟ «برتراند». قل إن مرحلة التحسس قد ذهبَت؛ لتحلَّ محلَّها مرحلةُ الرسوخ، أو قُل إنَّ الفيلسوف الرياضي قد ظهر من الرجل عندئذٍ، لتودِّع الفلسفة على يديه صفحةً وتبدأ صفحة أخرى، وأعجبُ العجب أنَّ هذا الذي ظهر من الرجل لَيجعل منه فيلسوفًا لعصره غيرَ مُنازَع، هو نفسه الذي لا يعرفه عنه إلَّا الدارسون المتخصصون، وأمَّا المثقفون بالمعنى العريض فيعلمون عنه أشياءَ أخرى، كان يُمكن أن تجتمع كلُّها، بل أن تجتمع أضعافُ أضعافها في رجل، ثم لا تجعلَ منه فيلسوفًا لا صغيرًا ولا كبيرًا.

فما الذي سمعه رسل من بيانو، ليحدث الانقلاب؟ هما شيئان قبل سواهما: الأول أنَّ ثَمة فارقًا بين قولنا «سقراط فانٍ»، وقولنا «كلُّ الإغريق فانُون»، ولم يتنبَّه أرسطو في منطقه على هذا الفارق، وحَسِب أنَّ الصورتين متشابهتان منطقيًّا، وأنَّ كلًّا منهما قضيةٌ حملية، تنسب محمولًا إلى موضوع، مع أنَّ تقدُّم المنطق الحديث والرياضة الحديثة كليهما موقوفٌ على إدراك هذه التفرقة. ومن أهمِّ ما نُلاحظه مسرعين عن الفرق بين هاتين الصيغتين: أنَّ قضية «سقراط فانٍ» تتحدث عن فردٍ معين، ومن ثَم يتحتَّم أن تكون ذاتَ مقابل فعليٍّ في دنيا الواقع، على حينِ أنَّ قضية «كل الإغريق فانُون» تتحدث عن الرابطة التي تربط فكرتين عامَّتين مجردتين إحداهما بالأخرى؛ فكرة أن يكون الإنسانُ إغريقيًّا وفكرة أن يكون فانيًا؛ وهنا لا يُشترط لِصدق هذه الرابطة وجودٌ واقعيٌّ على الإطلاق، فحتى لو لم يكن هنالك على أرض الواقع إغريق، فسيظل في مُستطاعنا أن نقيم هذه الرابطةَ بين الفكرتين، على اعتبار أنَّ الصيغة التي تربطهما يدخلها معنى الشرط، كأنَّك تقول: إذا حدث أن وُجِدَ في الدنيا إنسانٌ إغريقي فهو معرَّض للفناء؛ وكأي جملة شرطية أخرى، يكون قِوام الجملة ارتباطًا افتراضيًّا لا شأن للواقع الفعليِّ في تكوينه؛ وهكذا قُل في كل قضية كُلِّية، بالمقارنة إلى أي قضية جُزئية.

وأمَّا الشيء الثاني الذي وجده رسل عند بيانو في ذلك المؤتمر الفلسفي، فهو أنَّ الفئة ذاتَ العضو الواحد ليست هي بذاتها ذلك العضوَ الواحد؛ فإذا قلنا عبارةً كهذه: «جِرْم سماويٌّ يدور حول الأرض»، كان ذلك بمثابة وصفٍ يُحدد نوعًا بأسره، حتى يثبت أنَّ ما ينطبق عليه هذا الوصف هو كوكبٌ واحد، وهو «القمر»، والفرق بين التسميتين هو أنَّ التسمية الأولى تنطبق على القمر وعلى غيره مما قد نكتشف أنَّه يدور حول الأرض، على حينِ أنَّ التسمية الثانية هي «اسمُ عَلَم»؛ أعني اسم فرد واحد لا ينطبق إلَّا على مُسمَّاه الواحدِ المعيَّن … وقد تقول: وما أهمية ذلك؟ فنُجيب إنَّ الخلط بين الحالتين يؤدي إلى خلطٍ في منطق المجموعات، أعني أنَّه يؤدِّي إلى خلطٍ في منطق الأعداد الرياضية، وفي ذلك ما فيه من تعويقٍ لتطور العلم الرياضي.

وهذا ينقلنا فورًا إلى فكرةٍ من أهمِّ ما ورَد في فلسفة رسل الرياضية — وفي فلسفة غيره من الفلاسفة الرياضيِّين كذلك، مثل فريجه الألماني — وأعني بها تعريفَ العدد بالفئة، أعني تعريف مفهوم رياضي أساسي بمفهومٍ منطقي أساسي، ومن ثَم ينفتح الطريق أمام وصل الرياضة بالمنطق وصلًا يؤدي إلى جعلهما عِلْمًا واحدًا لا سبيل إلى شقَّة شِقَّين إلَّا جزافًا واعتباطًا؛ فما هو العدد؟ كان الجواب عند الفلاسفة الحَدْسيِّين، أنَّه كائنات ميتافيزيقية يراها الإنسان بحَدْسِه رؤيةً مباشرة، فيُدركها؛ أي إنَّ الرائيَ بحَدْسه يعلم معنى «الواحد» ومعنى «الاثنين» ومعنى «الثلاثة» — إلى آخر صفِّ الأعداد الطويل — بمجرد رؤيته لصورة الفكرة في ذهنه؛ حتى جاء هؤلاء الفلاسفةُ الرياضيون — وعلى رأسهم رسل — فحلَّلوا العدد إلى ما هو أبسطُ منه؛ إذ جعلوه دالًّا على مجموعة الفئات الصغيرة التي تكوِن كل مجموعة منها ممثلةً له؛ فلو أُتيح لك أن تجمع — في تصورك — جميعَ الثالوثات التي في العالم بأسره، ثم تحزمها كلَّها في حُزمة واحدة، لكان لك بذلك مجموعة كبيرة تضم مجموعاتٍ صغيرةً متشابهة من حيث تكوينها؛ وهذه المجموعة الكبيرة هي التي تكوِّن معنى العدد ثلاثة؛ هذا هو المقصود حين يُقال إنَّ العدد عبارة عن فئة من فئات — فئة كبيرة تضم فئاتٍ صغيرةً متشابهة البِنية — كلٌّ منها يدلُّ بمجرد تكوين بِنيته على العدد المرادِ تعريفُه. وبهذا التحليل ترتدُّ الرياضة كلُّها إلى منطقٍ صِرف، ما دمتَ قد استطعت ردَّ مصطلحها الأساسي إلى مصطلح منطقي، فبدلَ قولك — مثلًا — ثلاثة، أصبحتَ تقول فئة كبيرة تضمُّ فئات ثلاثية كثيرة؛ وبذلك تكون قد استغنيتَ عن مجوعة كبيرة من الكائنات كان يُظن أنَّها موجودة وجودًا فعليًّا كما تُوجد سائر الكائنات، وأعني بها الأعداد، وتكون أيضًا قد ألغيتَ ركنًا من البناء الميتافيزيقي لم يَعُد له داعٍ، ما دامت الأعداد الرياضية — وسائر الحقائق الرياضية — قد تحوَّلَت إلى تيسيرات لفظية لا أكثر ولا أقل.

وعاد رسل من مؤتمر باريس؛ لِيَشرَع توًّا في تأليف كتابه «أصول الرياضة»، وانكبَّ عليه انكبابًا، حتى فرَغ من مُسوَّداته ليلة رأس السنة: ٣١ من ديسمبر سنة ١٩٠٠م، لكنَّه صدر من المطبعة سنة ١٩٠٣م، بعد مراجعات وتعديلات أجراها فيه قبل طبعه.

وفي الوقت نفسِه تقريبًا، اتفق مع وايتهد على أن يشتركا معًا في كتاب «مبادئ الرياضة»، الذي استنفد منهما عشر سنوات (١٩٠٠–١٩١٠م)، أضيفت إليها ثلاثُ سنوات أخرى قبل أن تُخرجه المطبعة كاملًا في مجلداته الثلاثة، يقول رسل في طريقة التأليف المشترك لهذا الكتاب — الذي يُعَدُّ فاصلًا بين عهدَين في تاريخ الفلسفة المعاصرة جميعًا — ما يأتي:

لقد كرَّسْنا — وايتهد وأنا — كل وقتنا طيلة الأعوام الممتدَّة من ١٩٠٠م إلى ١٩١٠ للعمل الذي صار فيما بعدُ كتاب «مبادئ الرياضة» (برنكبيا ماثماتيكا)، وبالرغم من أنَّ المجلد الثالث من هذا الكتاب لم يُنشر إلَّا سنة ١٩١٣م، فإنَّ دورنا في تأليفه (باستثناء قراءة تَجارِب طبعِه) قد انتهى سنة ١٩١٠م، عندما حمَلنا أصول الكتاب بأكملها إلى مطبعة جامعة كيمبردج … وكانت المشكلات التي عالجناها من نوعين: مشكلات فلسفية، وأخرى رياضية؛ ويُمكن القول إجمالًا إن وايتهد قد ترك لي المشكلات الفلسفية؛ وأمَّا المشكلات الرياضية فإنه هو الذي ابتكر لها الجانبَ الأكبر من الرموز — إلًا ما كان مأخوذًا من «بيانو» — وقمتُ أنا بالجانب الأكبر من العمل الخاصِّ بالمسلسلات، وقام وايتهد بالباقي؛ غير أنَّ هذا كلَّه لا ينطبق إلَّا على المسوَّدات الأولى؛ لأنَّنا أعَدْنا كتابة كلِّ جزء من الأجزاء ثلاثَ مرات، وكنَّا كلما فرَغ أحدُنا من مسوَّدةٍ أُولى، أرسلها إلى الآخَر، فكان هذا يُجري فيها تعديلات قد تكون كبيرة أحيانًا، وبعدئذٍ يقوم صاحبُ المسوَّدة الأولى بصياغتها في صورتها الأخيرة؛ لذلك لا يكاد يوجد في المجلدات الثلاثة سطرٌ واحد لم يكن إنتاجًا مشتركًا بيننا.»

قلنا إنَّ رسل قام بالجانب الفلسفي — بصفة عامة — من هذا المؤلَّف الجسيم، بينما قام وايتهد بجانبه الرياضي — بصفةٍ عامة أيضًا — وبقي أن نذكر بعضَ تفصيلات عن الجانب الفلسفي الذي اضطلَع به رسل؛ فنقول — ابتداءً — إن الهدف الرئيسي من الكتاب كله هو — كما يقول رسل — «إثبات أنَّ الرياضة البحتة بأكملها تترتَّب على مقدماتٍ منطقية خالصة، وأنَّها (أي الرياضة البحتة) تستخدم مدرَكات عقلية لا يُمكن تعريفها إلَّا على أساسٍ من المنطق.» وواضحٌ من ذلك — عند دارسي الفلسفة والرياضة — أنَّ الكتاب بهدفه هذا قد جاء لينقضَ الفلسفة الكانتية، التي أسَّسَت المدركات الرياضية على مبادئَ خاصةٍ بها، لا على المدركات المنطقية من حيث هي كذلك؛ ومن أجل هذا يقول رسل: إنني عدَدتُ الكتاب في أول الأمر بمثابة جملةٍ اعتراضية جاءت في سياقِ تفنيدنا لذلك المتعجرف السوفسطائي، كما وصفه جورج كانتور، وهو وصفٌ أضفتُ إليه ابتغاءَ مزيدٍ من التحديد قولي: «ذلك المتعجرف السوفسطائي الذي لم يكن يعرف من الرياضة إلَّا قليلًا.»

وكان من أهم الجوانب الفلسفية التي تعرَّض لها كتاب «مبادئ الرياضة» هذا، تحليله للفئات (أي الأنواع) المنطقية تحليلًا تبدَّت بعده في صورةِ دالَّات القضايا؛ فقولك مثلًا «إنسان» أو «قِط» أو ما شئتَ من هذه الأسماء الدالة على مجموعات يُمكن تحليله بحيث يتحوَّل كلُّ اسم من هذه الأسماء إلى عبارة فيها مجهول، مثل «س يتصف بكذا وكذا»، ومن هنا فهي عبارة ليست بذي معنًى وحدَها، ولا يكون لها معنًى إلَّا إذا مُلِئت «س» بمعلوم معيَّن، فإذا ملأنا الفجوةَ بهذا المعلوم، تحوَّلت «دالة القضية» إلى قضيةٍ كاملة يُمكن التحقُّق من صدقها أو عدم صدقها.

وهنالك تفرقةٌ مهمة بين قضيةٍ تُشير إلى مجموعة قضايا، وقضية أخرى تُشير إلى واقعةٍ معيَّنة؛ وهي تفرقة لو أفلتَت منا وقعنا في متناقضات لا سبيل إلى الخروج منها، اعتَرضَت الفكر الإنسانيَّ منذ اليونان الأقدمين، ولم يعرفوا كيف يكون الخلاص. ومن الأمثلة التاريخية لهذه المتناقضات مَثَل — وكثيرًا ما يجعلون هذا المَثَل رمزًا يُشير إلى مجموعة كبيرة منها — يُروى عن إبمنديز الأقريطي، حين قال عن أهل بلده أقريطش إنَّهم جميعًا كذَّابون، فها هنا تنشأ المفارقة الشهيرة: إذا كان أهل أقريطش جميعًا كذَّابين، وإذا كان إبمنديز من أهل أقريطش؛ إذن فهو كذاب، ويترتَّب على تلك الصفة فيه أن يكون قولُه هذا الذي قاله عن أهل أقريطش كاذبًا، وإذن فنقيضُه هو الصدق، أعني أنَّ أهل أقريطش جميعًا صادقون، وإبمنديز واحدٌ منهم، إذن فهو صادق؛ هكذا ترى أنَّ إبمنديز لا يكون صادقًا في قوله هذا إلَّا إذا كان كاذبًا، ولا يكون كاذبًا في قوله هذا إلَّا إذا كان صادقًا.

أصبح هذا المَثَلُ التاريخي عُنوانًا على موقفٍ يتكرر في الفكر الإنساني أشكالًا وألوانًا، حتى حدَثَت التفرِقة على يَدَي رسل، بنظريته المُسمَّاة «نظرية الأنماط»، ومؤدَّاها أنه لا يجوز أن تُعدَّ القضية المشيرة إلى قضايا من نفس المستوى مع القضية التي تُشير إلى وقائع؛ فافرض أنَّك قُلتَ عن فلانٍ من أهل أقريطش إنَّه كاذب، وعن فلان الثاني إنَّه كاذب، وعن فلان الثالث إنه كاذب، وهلمَّ جرًّا؛ فهذه كلُّها قضايا تُشير إلى وقائع، أمَّا إذا لخَّصتَ هذه القضايا وعمَّمتَها في قضية تقول: «أهل أقريطش كلهم كذابون» فهذه قضية تُشير إلى قضايا؛ ولذلك فهي من مستوًى أعلى ويكون لها حكمٌ غير الحكم الذي يكون للقضايا التي هي من المستوى الأدنى. وأراني هنا أضعفُ من أن أقاوم الإغراءَ بأن أذكر للقراء مثلًا كثيرًا ما تعرَّضت له عند نقد الناقدين للوضعية المنطقية؛ إذ هم كثيرًا ما يقولون: ما دام الوَضعيُّون المنطقيُّون يقولون إنَّ القضايا العلمية هي إمَّا قضايا رياضية وإمَّا قضايا في العلوم الطبيعية، وما عدا هذين الفرعين هو من قبيل الكلام الخالي من المعنى، فنحن إذا طبَّقنا هذا المعيار نفسَه على قول الوَضعيِّين المنطقيِّين، وجدنا أنه قولٌ لا هو من قبيل القضايا الرياضية ولا هو من قبيل قضايا العلم الطبيعي، وإذن فهو قول فارغٌ من المعنى؛ وهنا يكون الردُّ بنظرية الأنماط التي قدَّمَها رسل في كتاب «مبادئ الرياضة»؛ لأنَّ قول الوَضعيِّين المنطقيِّين ينصرف إلى أقوال، وإذن فهو من نمطٍ منطقي أعلى، ولا يجوز أن نطبق عليه ما نُطبقه على المستوى الأدنى؛ ولتوضيح ذلك أفرض أنني كتبتُ على رأس هذه الصفحة جملة تقول: إنَّ جميع الأقوال الواردة في هذه الصفحة مكتوبةٌ باللغة العربية؛ فإذا وجدتَ بعد ذلك أنَّ مِن بين الأقوال الواردة في هذه الصفحة ما هو صوابٌ وما هو خطأ، فلا ينصرف ذلك على الجملة العليا؛ لأنَّ لها صِدقَها وحدَها أو عدمَ صدقها.

على أنَّ نظرية الأنماط المنطقية إنَّما أوردَها رسل ليُقابل بها مشكلةً رياضية هامة، كان قد أثارها كانتور الرياضي، وهي مشكلةٌ خاصة بالعدد الذي يكون هو أكبرَ الأعداد، ولا يكون هناك عددٌ أكبر منه في السلسلة العددية؛ يقول كانتور في هذا الصدد إنَّه ليس هناك مِثلُ هذا العدد، ويجيء رسل شارحًا لذلك؛ لأنَّه ربما قيل إننا لو عدَدْنا الأشياء كلَّها الموجودة في العالم؛ فقد يكون آخِرُ عدد نصل إليه هو أكبرَ عدد يُمكن الوصول إليه، لكن رسل يُنبه على أنَّنا نستطيع أن نُكوِّن من الأشياء فئاتٍ فئات؛ أي أن نجمَعها مجموعات مجموعات، وعندئذٍ نجد أنَّ مجموع الفئات أكبرُ من مجموع الأشياء الداخلة في تكوينها، وعلى سبيل المثال افرض أنَّ كل ما في العالم ثلاثة أشياء؛ هي: أ، ب، ﺟ؛ فمِن هذه الأشياء الثلاثة تستطيع أن تُكوِّن مجموعات عددها ٣٢؛ أي ثمانية مجموعات، ومن هنا يتعذَّر أن نصل إلى مرحلةٍ نقول عندها: هذه أكبرُ مجموعة، أو أكبر عدد يُمكن تصوُّره؛ ومن هذا المدخل تناولَ رسل مشكلة الفئة التي لا تكون عضوًا في نفسها، ﻓ «الإنسان» اسمٌ لفئة الأناسيِّ، لكن «الإنسان» ليس واحدًا منهم، كما تحزم الملاعق كلَّها — وهذا هو المَثل الذي يسوقه رسل — فلا تكون حُزمةُ الملاعق ملعقةً مضافة إليها، وكذلك ما يُقال عن فئة الأعداد كلها، لا يكون عددًا من بينها؛ وعلى وجه الجملة ليس لأي اسم كُليٍّ معنًى على نفس المستوى الذي يكون فيه لاسم العَلَم (بفتح اللام) معنًى.

ومن هذه النقطة ينتقل رسل إلى التفرقة المنطقية بين نوعين من التسمية: التسمية بواسطة عبارةٍ وصفية، والتسمية باسم عَلَم (بفتح اللام)، ومن قَبيل التسمية الأولى أن تقول «مؤلف الأيام»، ومن قبيل التسمية الثانية أن تقول «طه حسين»؛ وليس هنا مكانُ الإسهاب في أهمية هذه التفرقة، وحَسبُنا أن نقول إنَّ العبارة الوصفية لا يكون لها معنًى إلَّا وهي في جملة، أمَّا وهي وحدَها فلا معنى لها، على خلاف اسم العَلَم، فمُحالٌ من الوجهة المنطقية أن يكون بغير مُسمًّى يُشير إليه، ويكون هذا المُسمَّى هو معناه، ولو وُجد اسم علَم بغير مُسمَّاه كان اسمًا زائفًا، لا يجوز قَبوله اسمًا من الأسماء؛ وأظنك إذا عرَفتَ أنَّ نظرية العبارات الوصفية هذه قد تُعدُّ من أهم ما أسهَم به رسل في المنطق، عرَفتَ بالتالي أنَّها جديرةٌ بالدراسة الجادة، وقد جاءت لتُصحح موقفًا غريبًا كان قائمًا، وهو أنَّه ما دام هناك عبارةٌ وصفية مفهومة فلا بُدَّ أن يكون لها مُسمَّاها في عالم الواقع؛ مما أدى بالإنسان إلى افتراض وجودِ كائنات بعددِ ما خلقه خيالُه من عبارات وصفية.

٤

ويخرج فيلسوفنا من موجة المنطق الرياضيِّ التي غمَرتْه ثلاثةَ عشر عامًا، لِيَلفت بصره فورًا نحو الطبيعة الخارجية كيف رُكِّبَت؟ ويُصدر سنة ١٩١٤م كتابه «علمنا بالعالم الخارجي» فيبدؤه بتحليلٍ للإدراك الحِسِّي؛ لأنَّه في رأيه الوسيلةُ التي نعرف بها ذلك العالم، وأول ما يَلفت إليه أنظارنا هو الفارقُ الفسيح بين الصورة كما تقع في إدراكنا، والصورة كما هي في لغة علماء الطبيعة المحدَثين، أو قُل الفارق الفسيح بين العقل والمادة؛ فأنت تعلم بالطبع ما إدراكُك للمنضدة التي أمامك، فقارِنْ هذه الصورة المدرَكة بدُنيا الإلكترونات والبروتونات وسائر هذه الكائنات الدقيقة التي يقول لنا علمُ الطبيعة الذرِّية إنَّ المنضدة هي مجموعةٌ منها.

ويأخذ رسل في التحليل المتقصِّي لعله يبلغ من الأمر شيئًا، فينتهي إلى نظريته في أنَّ العالم كلَّه «أحداث»؛ سواءٌ في ذلك المادةُ أو العقل، ومِن ثَم يلتقي عنده العقل والمادة في أنهما معًا من هيُولَى محايدة، لا هي مادةٌ ولا هي عقل، إنَّما هي مجموعات من أحداث، تُرتَّب على هذا النحو فتُكوِّن ما يُسمى بمادة، أو تُرتَّب على ذلك النحو فتكوِّن ما يُسمى بعقل؛ ولشرح ذلك نقول في إيجاز شديد: افرض أنَّك وضعتَ أي عدد شئتَ من اللوحات الحساسة في نقاطٍ متفرقة من المكان، وأنَّها جميعًا معرَّضة لأشعة الشمس، فعندئذٍ ترتسم صورة الشمس على اللوحات الحساسة جميعًا، مهما كان موضعها، ما دام الطريق بينها وبين الشمس خاليًا من الحوائل؛ فما معنى ذلك؟ معناه أنَّ ثَمة نوعًا غريبًا من «الأحداث» هو حالٌّ في نقاط الفضاء، بسبب الشمس، وأنَّ هذه الأحداث إذا ما وقعت على لوحة حساسة تُبين وجودها؛ فإذا سألتَني بعد هذا: أين مكان الشمس؟ أجبتُك بأنَّ لها ثلاثةَ ضروب من المكان؛ أولها هو المكان الذي تحلُّ فيه الشمس ذاتُها، وثانيها هو أيُّ نقطة شئتَ من نقاط الفضاء لا يحجبها حائلٌ عن الشمس؛ لأنَّ أيَّ نقطة في الفضاء فيها أحداثٌ لها بِنْية الشمس وصورتها، إذا لم تكن ظاهرةً للوهلة الأولى، فهي تظهر لو وضعتَ في تلك النقطة لوحةً حساسة، وثالث الأمكنة هو الذي يحلُّ على اللوحة الحساسة حين ترتسمُ عليها الشمس؛ وإذا سألتَني بعد ذلك: وما حقيقةُ الشمس بين هذه الظواهر كلِّها؟ أجبتُك بأنَّ حقيقتها هي هذه الظواهر كلها، فاجمع هذه الظواهر كلَّها وهذه الأحداث كلها؛ تكن لك الشمس كما هي واقعة.

وننتقل بعد ذلك خطوةً أخرى فنقول: إنَّ اللوحة الحساسة حين تضعُها في أي نقطة شئتَ من نقاط الفضاء، وحين تلتقطُ لك من تلك النقطة ما كان حالًّا فيها من «أحداث» تحمل صورةَ الشمس، أقول إنَّ تلك اللوحة الحساسة عندئذٍ لا تعكسُ صورة الشمس وحدَها، بل إنَّها تعكس كذلك كلَّ ما هو متجمعٌ في مكانها من أحداث، بحيث نرى على سطح اللوحة شمسًا وجسومًا أخرى ارتسمَت صورتها عليها.

فلو تصوَّرنا أنَّ اللوحة الحساسة كائنٌ عضوي حيٌّ، لجاز القول — إذن — إنَّ هذا الكائن «يدرك» مختلف الأشياء التي تكون أحداثها متجمعةً في النقطة المكانية التي يحلُّ فيها ذلك الكائن؛ وبهذا نصل إلى التفرقة بين ما يُسمى ﺑ «مادة» وما يُسمى ﺑ «عقل»؛ فمادةُ الشمس هي حاصلُ جمع أحداثها الساقطة على أي جهاز حساس — والجهاز العصبي جهازٌ حساس — مهما يكُن مكان تلك الأجهزة وزمانها؛ وأمَّا «العقل» فهو ما يتجمَّع على جهاز حساس واحدٍ في لحظة بعينِها من مختلِف الانعكاسات الآتية إليه من هنا وهناك؛ وهكذا ترى أنَّ «الأحداث» هي المادة الخامة التي يتكوَّن منها المادةُ والعقل معًا، وأنَّ الفرق هو في طريقة التجميع والترتيب؛ ومِن ثَم كان في فلسفة رسل ما يُسمى ﺑ «الهيُولَى المحايدة» التي منها يتكوَّن العقل وتتكوَّن المادة في آنٍ واحد؛ فبعد أن كان الفلاسفة إمَّا ماديِّين يُحولون كل شيء إلى مادة، وإمَّا عقليِّين يحولون كل شيء إلى فكر، جاء رسل وسبقه على الطريق نفسِه وليم جيمس، فأخذ بالهيُولَى المحايدة التي لا هي مادةٌ بالمفهوم القديم، ولا هي عقلٌ بالمفهوم القديم، لكنَّها أصلٌ للمادة والعقل معًا.

٥

وتقع الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٤م، فينصرف فيلسوفُنا إلى مناهضتها بكتابات أدَّت به إلى السجن؛ لمجرد أنَّها تدعو إلى السلام في عالم مجنون. وما كادت الحرب تدنو من ختامها حتى يأخذه اليأس، فيعود من جديد إلى دنيا الفلسفة يلوذ بها — مع نزهةٍ حينًا بعد حين يقضيها مع شئون البشرية في أحكامها العامة وفي علاقات أفرادها — فلئن كان قبل الحرب قد شغَلته التحليلاتُ المنطقية الرياضية، ثم شغله تحليلُ العالم الطبيعي، فإنَّه هذه المرةَ قد غاص في دَخيلة الإنسان لتحليل العقل، وما يتصل بهذا التحليل من بحوثٍ في المنطق وفي المعرفة، فله محاضرات عن «الذَّرية المنطقية» (١٩١٨م) جُمِعَت في كتاب (١٩٢٤م)، وله محاضرات عن «تحليل العقل» جُمِعَت كذلك في كتاب (١٩٢١م)، ومحاضرات عن «المعنى والصدق» جُمِعَت هي الأخرى في كتاب (١٩٤٠م)، وله كتاب في «المعرفة الإنسانية» (١٩٤٨م)، إلى جانب عشَرات من الكُتب الأخرى.

ولو شئنا موجزًا في سطور يُلخص برتراند رسل كما هو في دنيا الفلسفة، قلنا: إنَّه ينتمي إلى مدرسة «الواقعية الجديدة»، التي تعترف بأنَّ للأشياء الخارجية وجودَها المستقلَّ عن عقل الإنسان المدرِك لها. فسواءٌ وُجد على وجه الأرض ناسٌ أو لم يوجدوا، وسواءٌ كانت في الكون كله ذاتٌ واعية مدركة أو لم يكن؛ فهنالك العالم الخارجيُّ بأشيائه قائم. ثم هو فيلسوفٌ يتخذ «التحليل» منهجًا له، بمعنى أنَّه يتناول الأفكارَ مهما يكن ميدانها، ليُحاول تفتيتها وفكَّها إلى عناصرها الأولية، حتى يتبينَ له آخِرَ الأمر إن كانت أفكارًا أصيلة أوَّليَّة، أو كانت مما يُمكن ردُّها إلى سواها، فإذا كانت الأخيرة كان معنى ذلك أنَّه يستغني عنها، مكتفيًا بالأصل الذي تُرَد إليه، وقد لبث طول عمره الفلسفي الطويل يبتر ويجذ ويقص، هادفًا إلى أن يصل إلى أقلِّ عدد ممكنٍ من الأفكار تكون هي الأفكارَ البسيطة الأولية التي لا بُدَّ من قَبولها بغير تعريف، لنعرف بها سِواها الذي ينبثق عنها، وتُسمَّى هذه العملية في عالم الفلسفة بنصل أوكام (أوكام فيلسوف من العصور الوسطى، كان يدعو المفكِّرين إلى القصد في عدد الكائنات، بحيث لا نُضيف من عندنا ما لا تقتضيه ضرورة افتراض وجوده)، فحتى الفكرتان «مادة» و«عقل» استطاع أن يستغنيَ عنهما بفكرة واحدة هي «الهيولى المحايدة» التي قِوامها «أحداث». ويأخذ رسل بما قد وصل إليه علم الطبيعة النووية في تحليله للعالم، بل إنَّ فلسفة «الأحداث» التي يردُّ إليها كل شيء، هي انعكاسٌ لعلم الطبيعة الحديث بما قد ردَّ المادة إليه من كهارب، حتى لقد انعدمت الشُّقة التي كانت تُباعد بين المادة والعقل، وأصبحت المادة طاقة، والطاقة مادة، ولا فرق بين الاثنتين. وهو في علم النفس يُساير الاتجاه التحليليَّ نفسَه، فيأخذ بالمذهب السلوكي الذي يُفتت السلوك إلى وحداتٍ بسيطة هي الأفعال المنعكسة الفطرية والشرطية، لكنَّه يجد أنَّ السلوكية لا تُفسر كلَّ ضروب السلوك وكل جوانب الخبرة، فيُكملها بما يُغطي هذه الزوائدَ الفائضة؛ ويتنبَّه رسل على العلاقة الكائنة بين عالم اللغة وعالم الأشياء، فمتى تُصوِّر اللغةُ هذا العالمَ ومتى لا تصوِّره؟ ولذلك ينصرف بعنايته إلى الدراسات اللُّغوية من جانبها المنطقي ويربط الصلة بين اللغة والوقائع الخارجية ربطًا وثيقًا.

تلك لمحةٌ عن رسل الفيلسوف، لعلها تُضيء صورةً في أذهان عامة القراء، وهي الصورة المشرفة في حدِّ ذاتها، والتي تُصوِّره رجلًا يُسهِم في رسالة السعادة والعدالة والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤