تعادلية الحكيم

وقفة الأديب ووقفة الناقد مختلفتان، اختلافَ المرحلتين اللتين تُكمل إحداهما الأخرى، لا اختلافَ الضدَّين اللذَين ينفي أحدهما ما يثبته الآخر، فالأديب يُصوِّر الإنسانَ تجسيدًا في أفرادٍ ومواقف، وأمَّا الناقد فيتناول بالتحليل هذه الأفرادَ والمواقف؛ لعله أن يقَع على مبدأٍ كامن وراءها، يكون هو عندَئذٍ مبدأ الأديب قد أضمره في طويَّته ليُخرجه للناس متجلِّيًا فيما خلَقه لهم من تلك الأفراد والمواقف، فوقفةُ الناقد من أدب الأديب ومخلوقاته، أشبه ما تكون بوقفة العالم من الطبيعة وكائناتها، كلٌّ منهما يجد نفسَه إزاء كثرةٍ من وقائعَ وحقائق، فيحاول استقطابها في أمٍّ واحدة تربطها جميعًا بصلة الرحم.

وكثيرًا ما يكون الأديبُ والناقد رجلَين، يفحص أحدُهما عملَ الآخر، وقليلًا ما يجتمع الأديب والناقد في رجلٍ واحد، يكون اليوم أديبًا ثم يُصبح في غدٍ ناقدًا لأدبه، مستخرجًا منه أصولَه ومبادئه، وقد كان توفيق الحكيم بكتابه «التعادلية» واحدًا من هؤلاء القِلة، التي التقى فيها خلق الأديب وتحليل الناقد، فقد جاءته — فيما يُروى لنا — رسالةٌ من قارئ جاد، يسأله فيها عن مذهبه في الحياة والفن، مستخلصًا من كتبه، ليرى صاحبُ هذه الرسالة إن كان قد أصاب أو أخطأ في استخلاص ذلك المذهب لنفسه؛ ذلك أنَّ ذلك السائلَ قد انتهى بعد قراءته لكتب الحكيم إلى رأي، هو أن تلك الكتب في مجموعها تُحاول تفسير «الإنسان» في وضعه العامِّ من الكون بزمانه ومكانه، وفي وضعه الخاصِّ من المجتمع بأجياله وبيئاته، فانتهز أديبنا الحكيم فرصةَ سؤال السائل، وهمَّ بالإجابة ليعدَّها للنشر؛ لأنها ربما جاءت على صورةٍ محددة يُمكن وصفها بأنها مذهبه في الحياة والفن، فكان هذا الكتاب الذي بين أيدينا: «التعادلية».

قرأت الكتاب، فخُيِّل إليَّ وأنا ماضٍ بين صفحاته، أنني إنَّما أستمع إلى فيلسوف من فلاسفة اليونان الأقدمين، يتكلم العربيةَ ويرتدي ثيابَ أوروبا العصرية، لكن الفكر واللغة والثياب لم يكن بينها — مع ذلك — تنافُر، بل جاءت كلُّها في وحدة مُتَّسقة تُنسيك اختلاف وجوهها، فأديبنا الحكيم في «تعادليته»، ينظر إلى الكون وإلى الإنسان، النظرةَ نفسها التي نظر بها فلاسفةُ اليونان، وهي نظرة تُحاول جمع الأضداد في وَحدة، وهل تستطيع أن تقرأ نظرات الحكيم في هذه المحاولة، فلا يَرِدَ على خاطرك قولُ هرقليطس — مثلًا — بأنَّ حقيقة الكون أضداد تتعادل: النهار والليل، والشتاء والصيف، والحرب والسلم، والشِّبَع والجوع، والبارد والحار، والرَّطْب واليابس، واليقظة والنوم، والحياة والموت؟ أو هل تستطيع أن تقرأ تعادلية الحكيم، ثم لا تذكرَ قول أنبادقليس في المحبة والكراهية، في التجاذب والتنافر، اللذَين يُعلل بهما هذه الحركةَ الدائبة في الكون من اتصالٍ وانفصال يُسببان كونَ الأشياء وفسادها؟ أو هل تستطيع أن تقرأ تعادلية الحكيم دون أن يَمثُل أمام بصرك مبدأ «الوسط الذهبي» الذي يتوسَّط المتطرفات فيكون هو الفضيلةَ والحكمة؟ وهكذا أخذَت أصداءُ الفلاسفة اليونان الأقدمين تتردَّد في سمعي كلما مضيتُ بين صفحات التعادلية.

فالتعادلية بصفحاتها التي لا تكاد تَزيد على مائةٍ وثلاثين صفحة من القطع الصغير، سياحة تطوف بك على ميادين الفكر، لتقف بك عند كل ميدان منها لحظة، تعطيك فيها الجرعة المركَّزة الموجَزة، التي ربما تفجَّرَت في نفسك بعدئذٍ تساؤلاتٍ وتأملات؟ إنَّها سياحة تطوف بك على الميتافيزيقا والأخلاق والجمال والاقتصاد والاجتماع والسياسة والبيولوجيا، وغيرها من فروع العلم والمعرفة، ليدلَّك المؤلف عند كلِّ واحد منها على موقفه إزاءه، وكيف يراه بالعين التي تجمع الضدَّين في فعل واحدٍ موحَّد، بديهيٌّ أن هذه السياحة السريعة لا تمكن الدليل من الوقوف الطويل عند كل منظر وكل أثر ليُطْنِب القولَ ويُسهِب، فهو مضطرٌّ أن يخطف الحجة خطفًا، وإذا لم يكن هذا يكفيك في إقناع العقل، فالمُعَوَّل عندئذٍ إنَّما يكون على القلب، الذي قد تُرضِيه نغمة الإيمان في إيجازها، ما دامت تفوح بالصدق وبالعمق في آنٍ معًا.

أمَّا المسألة الميتافيزيقية فيطرحها المؤلف في سؤالين؛ يسأل أحدُهما عن الإنسان، إن كان في هذا الكون وحيدًا؟ ويسأل الآخر عن حرية الإنسان في هذا الكون؟ وقبل أن يُدليَ الحكيم بجوابه عن السؤالين، يُقدم الرأيَ الذي يسود عصرنا، ثم يُعلله، وبعدئذٍ ينقضُه برأيه هو، الذي يُقيمه على «التعادل».

فلقد أجاب العصر الحديث فعلًا عن هذين السؤالين، فيما يقول أديبنا الحكيم «بأنَّ الإنسان وحدَه لا شريك له في هذا الكون، وأنَّه إله هذا الوجود، وأنَّه حرٌّ تمامَ الحرية، وبهذا الجواب الذي قضى على تعاليم الأديان، ختم العصر الحديث على نفسه بطابَع المادية» .. ذلك هو جواب العصر، وأمَّا تعليله — كما يراه الحكيم — فهو «أنَّ التعادل الذي كان قائمًا حتى مطلع القرن التاسعَ عشر بين التفكير ونشاط الإيمان، قد اختلَّ منذ ذلك الوقت، بتوالي انتصارات العلم العقلي، واستمرار جمود الجانب الديني»، ويَلحظ الحكيم أنَّ هذا الاختلالَ في التعادل بين العقل والقلب، قد «كانت له نتيجتُه الطبيعية التي لا بُدَّ أن تُلازم كلَّ اختلال في التوازن .. وهو القلق.»

هكذا شخَّص الحكيم اعتلالَ عصرنا، وهكذا ردَّ الاعتلالَ إلى علته، ثم استنتج منه نتيجتَه الطبيعية، وأردف موضحًا كيف كانت العلاقة بين العقل والقلب — تعادلًا أو اختلالًا للتعادل — هي موضوع مسرحيته «أهل الكهف»، وذلك عندما وُضعت تلك العلاقة في إطار مشكلة الزمن، كما كانت هي موضوع مسرحيته «شهرزاد»، وذلك عندما وُضعت تلك العلاقة في إطار مشكلةِ المكان، وينتهي الحكيم من ذلك كلِّه إلى تحديد موقفه من السؤالين السابقَين؛ فليس الإنسان في هذا الكون وحيدًا ومسيطرًا سيطرةً مطلقة، بل هنالك إلى جانبه قُوًى غيرُ منظورة، من شأنها أن تحدَّ من حريته، وأن تكن حافزةً له على الكفاح نحو الأرقى، أمَّا القُوى غير المنظورة فإدراكها عنده يكون بإيمان القلب، وأمَّا فكرة الأرقى التي تتطلَّب الكفاح، فإدراكها يكون بالعقل، ولا بُدَّ من إيمانٍ وعقل يعملان معًا في تعادل.

وعلى هذه القاعدة الأساسية — قاعدة التعادل بين الإيمان والعقل — يستأنف الحكيم حديثه عن الحرية الإنسانية، فيقول إنَّ الجانب العقلي من الإدراك كفيلٌ وحده بأن يشهد بالحرية للإنسان دون الحيوان، وما العقل إلَّا مشاهَداتٌ واستدلال من المشاهدات، أمَّا المشاهدات في هذا الصدد فتقوم على أنَّ الحيوان كلَّه يُولد مُكبلًا بمعرفةٍ محدَّدة معينة — هي الغرائز — يتصرف على أساسها فيما يُصادفه من مواقف، بغيرِ حاجةٍ منه إلى تعلُّم وتدريب، على خلاف الإنسان الذي يُولد عاجزًا، حتى عن المشي والكلام، ولا يختزن في جوفه حضارته، كما يفعل النحلُ والنمل، ولذلك كان علمه اكتسابًا، وكانت حضارته من صُنعه وبإرادته، تلك هي المشاهدات، وأمَّا النتيجة التي تستدلُّ منها فهي أنَّ الحيوان مجبر والإنسان حر، وعندئذٍ يتولَّد سؤالٌ جديد عن هذه الحرية الإنسانية، أمُطلقة هي أم مشروطة ومقيَّدة بحدود؟ هي حريةٌ — عند الحكيم — مقيَّدة بقُوًى خارجية «أسمِّيها أحيانًا القُوى الإلهية .. حرية الإرادة في الإنسان عندي إذن مقيدة، شأنها في ذلك شأن حرية الحركة في المادة.»

تلك هي النتيجة التي ينتهي إليها إذا نظر إلى الأمر بأداة العقل، فإذا ما استدار إلى الأداة الإدراكية الأخرى — القلب — ليرى ماذا تقول في ذلك، وجد عندها النتيجة نفسَها، وهي أنَّ الإنسان حرُّ الإرادة حريةً قد تتدخل فيها القُوى الكونيةُ المجهولة، وإذن فهي نتيجةٌ لا اختلاف عليها بين عقلٍ وإيمان، ومن ثَم كانت هي إحدى الأفكار الرئيسية التي بُنيت عليها مسرحياته، أعني أنَّها هي «مأساة الحياة كما تتكشَّف عن عجز الحرية الإنسانية»، فتستطيع أن تقول هنا إنَّ «إرادة الإنسان في كفَّتها تُعادلها الإرادة الإلهية في كفةٍ أخرى، والعقل البشري في كفة يُعادله الإيمان في كفة»، وبهذا التعادل بين القُوى يعيش الإنسان. ويسوق المؤلف لمثلِ هذا التعادل أمثلةً من «أهل الكهف» و«شهرزاد» و«سليمان الحكيم»، وغيرها.

تلك هي وقفة الحكيم الميتافيزيقية في حقيقة الإنسان بالنسبة إلى الكون، وإلى حريته بإزاء هذا الكون، وهو موقفٌ يترتَّب عليه موقفُه الأخلاقي، فما دام الإنسان حرَّ الإرادة — ولو إلى حدٍّ محدود — فهو إذن مسئولٌ عمَّا يفعل، وما دمتُ قد ذكرت المسئولية الخُلُقية فقد أثَرْت مشكلةَ الخير والشر، «والخير والشر في رأيي لا شأنَ لهما بالإنسان الفرد، ولا وجود لهما إلَّا بالمجتمع»، وهو رأي نُثبِته هنا كما أراده صاحبُه، ولكنَّه رأي يدعو إلى شيء من التأمل قبل قَبوله، فهل يا ترى يجوز للمنعزل وحدَه في جزيرةٍ أن ينتحر مثلًا؟ فإذا قلنا إنَّ ذلك لا يجوز، لأنَّ فيه افتئاتًا على الحياة، التي ليس هو وحدَه صاحبها، فقد قُلنا بذلك إنَّ الانتحار شر، حتى ولو لم يكن المنتحر فردًا في مجتمع، لكنَّني أترك أمثال هذه الوقفات الجانبية لأنصرف إلى رأي الحكيم، كما أراده في تعادليته؛ فالخير — عنده — لا يكون إلَّا فعلًا إراديًّا يؤدي إلى نفع الغير، والشر هو الفعل الإرادي الذي يؤدي إلى ضرر الغير؛ أي إنَّ أديبنا الحكيم — إذا نسَبْناه إلى إحدى مدارس الأخلاق — انتمى إلى مدرسة المنفعة، التي تقيس الفعل بنتائجه لا بشيءٍ في طبيعة الفعل نفسِه، ولستُ أريد أن أستطردَ هنا مرةً أخرى لأقول إنَّ القائلين بهذا المذهب هم عادةً الفلاسفةُ الذين يَركَنون في عملية الإدراك إلى الحسِّ والعقل وحدهما، لا الفلاسفة الذين يعترفون بإدراك القلب؛ إذ لهؤلاء قولٌ آخَرُ يجعل الخير والشرَّ صفتين في الأفعال نفسِها، بغضِّ النظر عن نفعها وضررها، وبغضِّ النظر عن انعزال الإنسان أو اشتراكه مع غيره في مجتمع.

ومهما يكن من أمر، فالحكيم في تعادليته يرى أنَّ الخير والشرَّ كِلَيهما ضروري ليُعادل أحدُهما الآخر، ويضرب أمثلةً من مسرحياته كيف جمع الطرَفَين في كلِّ شخصية من شخصياته، وينتقل المؤلف إلى فكرة العقاب، ليرى فيه رأيًا طريفًا، هو أنَّ فعل الضرر بالناس لا ينبغي أن يُقابله سجن يحرم صاحبه من حريته؛ إذ التعادل لا يكون بين الشر والحرية، وإنَّما يكون بين الشر والخير، ومؤدَّى ذلك هو أن أجعل الشرير الذي فعل فعلًا ضارًّا يؤدي فعلًا نافعًا، ليتعادل نفعُه للناس مع ضرره.

وفكرة الخير والشر تنتج عنها فكرةُ الضمير، وهنا يُحاول الحكيم أن يُحدد معنى «الضمير» بقوله «إنَّه شعور الذات بشرٍّ لحق الغيرَ لم يُقَدَّم عنه حساب»، فالمذنب الذي يُعاقَب على ذنبه لا يؤنبه ضميره على شيء، كأنَّما الضمير لا يتحرك إلَّا إذا كان صاحبه مدينًا إزاء المجتمع بضرر ألحقه به، ولم يدفع مقابلَه من النفع ما يتعادل معه، وهذا التعادل بين الضرر والنفع، أي بين الشر والخير، هو ما يُسميه المجتمع بالعدل، وإذن «فالعدل هو المظهر الأخلاقي للتعادل، والضمير إذن هو الشعور بالعدل»، وكما يقال إنَّ للفرد الواحد ضميرًا، كذلك يُقال إنَّ للمجتمع بأسره ضميرًا، يؤدي المهمة نفسَها، أعني أنَّه يؤرِّق المجتمع إذا ما أحسَّ أنَّه أوقع الضُّرَّ بغيره، أو أحسَّ بأنَّ طائفةً منه أضَرَّت بطائفة أخرى من أبنائه، ومن هنا تقوم الثورات الاجتماعية لتردَّ إلى المظلوم حقه.

ويعتقد الحكيم أنَّ مسألة الضمير هذه مقصورةٌ على الأفراد داخل الجماعة الواحدة، أمَّا إذا انتقلت إلى السياسة وإلى الاقتصاد، فإنَّك ها هنا تجد التعادلَ قائمًا بين الأطراف المتضادَّة، قيامه في دنيا الحيوان والنبات؛ ففي السياسة لا بدَّ أن تتعادل القُوى، ومُحالٌ أن يقوم في العالم قوةٌ واحدة بغير قُوًى أخرى تُعادلها. ويضرب المؤلف لنا أمثلةً من التاريخ، تدلُّ على أنَّه حتى إذا قامت قوةٌ واحدة، نراها من الفور قد انقسمت على نفسها شطرين يتعادلان؛ كما حدث للإمبراطورية الرومانية مثلًا.

والأمر في السياسة الداخلية شأنُه شأن الأمر في السياسة الخارجية؛ لأنَّه في السياسة الداخلية لا بد من تعادلٍ بين الحاكم والمحكوم، ولمَّا استطاع الشعب في العصور الحديثة أن يحكم نفسه بنفسه، نشأت الأحزابُ التي يُعادل بعضُها بعضًا، «فإذا تغلبَت طائفةٌ في النهاية وابتلعت كلَّ ما عداها من الطوائف والطبقات، واتَّحدَت في قوةٍ واحدة، تشمل الدولة كلَّها، فإنَّ هذه القوةَ أيضًا لا تلبث أن تُولِّد قوةً أخرى خفية تُعارضها وتجاهد في الظهور، وقد تُخنق وتُكبت وتُهزم وتَخفق، ولكنَّها لا بد يومًا أن توجد؛ لأنَّ قانون التعادل الذي نرى مظهره في الشهيق والزفير هو الذي يعمل هنا أيضًا، ونرى مظهرَه في وجود حركة توازن حركة؛ لأنَّ هذا هو شرط الحياة.»

ذلك هو شأن السياسة — خارجيِّها وداخليِّها على السواء — أمَّا في الاقتصاد فإنَّ قانون التعادل يفعل كذلك فعله بصورةٍ واضحة، فلا بد أن يكون هناك توازنٌ بين العرض والطلب، كالتوازن بين الشهيق والزفير، وكذلك الأمر في ضرورة التعادل بين الصادرات والواردات، وبين الإيرادات والمصروفات، وهكذا.

وإنَّ فكرة التعادل هذه لَتراها في الطبيعة نفسِها على صورة الفعل وردِّ الفعل، فكلُّ فعل له الفعلُ الذي يردُّ عليه ليحدث التعادل، مهما يكن المجال الذي يحدث فيه ذلك الفعل، وإذن فالتعادل هو قانون الطبيعة وقانون الإنسان معًا.

وهكذا ينقلنا إلى الميدان البيولوجي لنرى أنَّ عملية الحياة نفسها وتطورها قائمةٌ على التعادل؛ ففضلًا عن التعويض الذي تلجأ إليه طبيعةُ الكائنات الحية لتوازن بجوانب القوة جوانب الضعف، ولتعوض النقص هنا بالزيادة هناك، فإذا كانت النحلة رقيقةَ الجناح، فهي حادةُ الإبرة، أقول إنَّه فضلًا عن عملية التعويض هذه، فإنَّ الطبيعة في تطورها تستخدم أداةَ الفعل وردِّ الفعل في سَيرها قُدمًا وإلى أعلى وأقوى، فإذا رأيت الشجرة تنتقل من خُضرة يانعة في الربيع إلى صُفرة ذابلةٍ في الخريف، ثم إلى خضرة يانعة في الربيع التالي، وهلم جرًّا، فقد تظن أنَّ سيرها يتمُّ في خط مستقيم، أو أنَّها تسير في خط يدور على نفسه، فلا يتقدم خطوةً إلى الأمام، وبذلك لا يكون ثَمة «تطور»، لكن حقيقة الأمر هي أنَّ هذه الدورة تُلازمها دَفْعةٌ إلى الأمام يظهر أثرُها في الأجيال القادمة من الكائن الحيِّ، وحتى أجرام السماء في سَيرها تتحرك في هذين الاتجاهين معًا: تدور حول نفسها وحول الشمس، لكنَّها في الوقت نفسِه «تسير في الفضاء إلى الأمام في إطار المجموعة الشمسية بأكملها»، وقُل شيئًا كهذا في الإنسان وحضارته، فقد يتعاورُه الظلام والنور في حركةٍ كحركة الليل والنهار، ولكنَّه مع ذلك يسير إلى الأمام في خلال دوراتٍ من الفعل وردِّ الفعل، وإنَّك لَتجد هذه الفكرة عن التطور في مسرحية شهرزاد.

ويُطبق الحكيم فكرةَ التعادلية في ميدان علم الاجتماع، كما طبَّقها في ميادين الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة والاقتصاد والبيولوجيا، فيجيء التطبيقُ هنا على صورة التضادِّ بين الفكر والعمل تضادًّا لا بد أن ينتهيَ إلى التعادل بينهما، لولا أني أُوثِر ألَّا أعرقل سَير الفكرة التعادلية باعتراضاتٍ جزئية تردُ على خاطري كلما مضيتُ في صفحات هذا الكتاب، لوقفت هنا وقفةً أناقش فيها هذه القسمة إلى فكر بلا عمل، وعمل بلا فكر — هذا إذا أخذنا الفكرَ بمعناه الذي يأبى أن يدخل في أحلام اليقظة وشطحات الوهم — لكن الحكيم على كل حال يُضاد بينهما، إلى الحد الذي قد ينتصر أحدُهما على الآخَر فيُخضِعه لسلطانه، وهنا تجد إمَّا أنَّ رجل الفكر خاضعٌ لرجل العمل، وإمَّا أن تجد رجلَ العمل خاضعًا لصاحب الفكر، ولكن هذا التضادَّ قد يقفُ عند حدِّ التعادل بين الضدَّين، فلا خضوع لجانبٍ منهما للجانب الآخر، وعندئذٍ يتم التعادل وتصلح الحياة.

وإنَّ التعارض بين العمل والفكر، لَهو الذي تراه — فيما يقول أديبُنا الحكيم — فيما نشأ من صراعٍ على طول التاريخ بين الملوك من جهة، ورجال الدين من جهةٍ أخرى، ولئن استطاع الفكرُ في صورته الروحية هذه أن يصمد لأصحاب السلطان، فقد عجزَت صور الفكر الأخرى كالفلسفة والأدب والفن، عن هذا الصمود؛ ولذلك نرى أصحابها قد ذلُّوا لأصحاب السلطان، وهنا يقترح الحكيم اقتراحًا جميلًا، وهو أنَّ سر ضعف رجال الفكر أمام أصحاب الحُكم، هو تفكُّكهم، ولو تكاتفوا وتآزروا لتكوَّنَت منهم قوةٌ تُعادل قوة الحكام، ولْنُلاحظ أنَّ رجال الحكم في عصرنا هذا، برغم أنَّهم جاءوا إلى مراكز الحكم بانتخاب الشعب، فإنَّ شعور الجفوة ما زال قائمًا بين رجل التنفيذ من جهة، ورجل الفكر من جهةٍ أخرى؛ لما يخشى أن يوجهه رجل الفكر من نقد وتوجيه.

ويستطرد الحكيمُ هنا، فيقول إنَّ عصرنا الراهن قد ابتكر طريقةً يستطيع بها رجلُ السلطان أن يُسكِت رجل الفكر، فهو اليوم لا يُعذبه ولا يسجنه، كما كان يفعل الحكام السابقون، لكنَّه يستدرجه إلى حظيرة السياسة العمَلية، فيُلغي بذلك وجوده؛ لأنَّك إذا أدمجتَ الفكر في العمل، لم يَعُد فكرًا، «فواجب رجل الفكر إذن أن يُحافظ على كيان الفكر، وأن يصون وجوده الذاتي حُرًّا مستقلًّا.»

ولكن ذلك لا يعني أن «ينعزل» الفكر، فاستقلالُ الفكر شيء، وانعزاله شيء آخر؛ إذ المنعزل لا يؤثر في غيره، ولا يتأثَّر به، فكأنَّه معدومٌ بالنسبة إلى الآخَرين، ولا فرق بين فكرٍ ينعزل عن العمل، وفكرٍ يبتلعه العملُ ويُذيبه؛ لأنَّه في كلتا الحالتين مفقود معدوم، أمَّا استقلال الفكر عن العمل — بغير انعزال — «فهو أن يكون له كيان خاص وإرادة خاصة في مواجهة العمل، حتى يستطيع أن يتأثرَ به ويؤثر فيه.»

وأخيرًا يجيء ميدان الأدب والفن، فها هنا يكون التعادل بين التعبير والتفسير، بين الأسلوب والموضوع؛ «فالأثر الأدبي أو الفني لا يكتمل خَلْقه ولا ينهض بمهمته إلَّا إذا تم فيه التوازين بين القوة المعبِّرة والقوة المفسرة»، لكن هذا قولٌ يريد شرحًا، فيشرحه المؤلف شرحًا أسهبَ فيه، أمَّا التعبير فيقصد به شيئًا غير «الشكل»؛ لأنَّه الشكل مضافًا إليه شيءٌ آخر، هو الموضوع نفسُه الذي سِيق فيه، التعبير هو الشكل، والشيء الذي يتشكَّل فيه هو الأسلوب والموضوع معًا، فإذا تعادل الأسلوب والموضوع، إذا تعادل الشكل والمضمون، كان لنا بذلك «تعبير» قوي، أمَّا إذا طغى أحدُ الطرفين، كأن نُزخرف الأسلوبَ ولا موضوع، أو أن نضعَ الموضوع العظيم في شكلٍ سقيم، ففي كلتا الحالين لا نظفر بتعبيرٍ له شأن في دنيا الأدب والفن.

ولئن كان التعبير بالمعنى الذي يتعادل فيه الشكلُ والموضوع هو — كما يقول الحكيم «كل شيء في نظر الفن» — فهو ليس كلَّ شيء في نظر التعادلية، «فقوة التعبير عند التعادلية يجب أن تقترن في الأدب والفنِّ بقوة التفسير»، والمراد بالتفسير ذلك الضوءُ الذي يُلقيه الأديب أو الفنان على موضع الإنسان في الكونِ ومكانه في المجتمع، أو بعبارةٍ أخرى، فإنَّ التعادلية تتطلبُ من الأدب والفن أن يُضيف إلى عالمَي المتعة والجمال ضوءًا كاشفًا يهدي الإنسانَ في طريقه إلى الكمال، أعني أن يكون للأدب والفن «رسالة»، فإذا اكتفينا بالتعبير وحدَه، كان لنا بذلك فنٌّ للفن، وإذا اكتفينا بالتفسير وحده، كان لنا بذلك فنٌّ ملتزم برسالته وكفى، لكن المطلوب تعادلٌ بين خصائص الشكل الأدبي والفني ومضمون الرسالة المراد نشرها في آنٍ معًا.

وهنا يجد الكاتب نفسَه أمام موضوع الالتزام وجهًا لوجه، ويرى لِزامًا عليه أن يرى كيف يكون التعادل بين حرية الأديب والتزامه، وفي رأيه أنَّ الالتزام واجب، شريطةَ ألَّا يكون مصدرُه غيرَ ذات الفنان؛ لأنَّه لو جاء من خارج الفنان، كان إلزامًا، وفقدَ الأديب حريته، وفقد الأديبُ كِيانه، لا، بل التزام الأديب برسالته هو، لا ينبغي أن يطول به الأمر؛ إذ لا بُدَّ من مراجعة الرسالة المرادِ تبليغها آنًا بعد آنٍ، وإلَّا أصبح الأديب عبدًا لشيء مضى أوانه وتغيرَت عليه الظروف.

ألَا إن فلسفة الأمة هي مجموعُ فلسفات أبنائها الذين استطاعوا أن يتَّخذوا موقفًا فكريًّا، واستطاعوا أن يَصوغوا ذلك الموقف في عبارةٍ يتبادلها الناس، ويحملها الزمنُ إلى الأجيال الآتية، وإذا كان هذا هكذا، فإنَّنا لن نذكر الفلسفةَ العربية بعد اليوم، إلَّا وفي أذهاننا فكرةُ التعادلية التي بسَطها أديبنا الحكيم في كتابٍ له بهذا العنوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤